الترابي والخميني .. جدل الفكر والسياسة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 00:45 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-28-2013, 12:18 PM

احمد سيد احمد
<aاحمد سيد احمد
تاريخ التسجيل: 01-23-2013
مجموع المشاركات: 1257

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الترابي والخميني .. جدل الفكر والسياسة



    الترابي والخميني .. جدل الفكر والسياسة
    محمد بن حامد الأحمري

    تحدث مرة ياسين عمر الإمام عن خصوصية السودانيين ، وكان وقتها نائب الترابي في قيادة الجبهة الإسلامية القومية فكان مما ذكره : أن السودان له وضْع وشخصية خاصة, لا يُشْبه العرب ولا الأفارقة ، وأن العرب يرون السودانيين أفارقة ، والأفارقة يرون السودانيين عرباً . فوقعنا بين ثقافتين ، وبحكم أن السامعين عرب ، فبدأ يقص الفرق بين العرب والسودانيين ، ممثلاً بحادثة خاصة به ، وهو أنه كان مسجوناً ثم أُفرج عنه وذهب للحج ، فصادف أن كان وزير الداخلية - الذي سجنه - حاجاً ، قال : فأخبرت إخواناً لي - من دول عربية أخرى - أنني سأزور الوزير في مقره في مِنًى ، فاستغربوا واستنكروا أن يزور ساجنه ، قال : ولكني ذهبت واستمتعت معه بجلسة لطيفة وعاد ليحدثهم عن زيارته لأخ سوداني آخر ، كأن يكون ابن قريته وصديقه . أما العرب الآخرون فلا يعرفون دفء هذه العلاقات .
    ولما تعجب الحاضرون زادهم ما أثار استغرابهم ، ليقبلوا بنظرية أن السودانيين مختلفون عن إخوانهم العرب ؛ فحدّث عن قبائل في غرب السودان تتقاتل نهارها ، ثم إذا حان وقت الغداء اجتمع العدوان المتقاتلان ليتغدوا معاً ، حتى إذا فرغوا من طعامهم عاد كل منهم لجبهته يقاتل الآخر ! . وفي ممارسة السودانيين الاجتماعية والسياسية ما يشهد لرأي الإمام .
    قابل مصطفى السباعي الترابي في لندن والأخير يدرس هناك ، فوجد أن بعض أصدقاء الترابي المقربين له - الذين استقبلوا معه السباعي - كانوا من الشيوعيين السودانيين ، فكان هذا مما عجب منه السباعي . وخرج الترابي من السجن ؛ ليتولى أرفع المناصب الحكومية بعد منصب خصمه الذي سجنه - النميري - ولينظّر له وللمرحلة الإسلامية الجديدة . فيتحول النميري - بين عشية وضحاها - إلى كاتب ومنظِّر للعدل والشورى والنظام الإسلامي ! . وقد اشتدت الخلافات من قبل ومن بعد بين الأنصار والإخوان ولم يمنع ذلك من زواج الترابي من أخت الصادق المهدي ، الصديق اللدود والنسيب للترابي . وتتحول الزوجة المهدية إلى جبهوية ترابية تجيِّش الرجال والنساء ضد أخيها وجدها ، فلكل مجتمع خصوصيته ، التي لا يُفهم المجتمع دون وضعها في الاعتبار .
    وفي موقف آخر يملأ الإخوان المسلمون أيديهم من انتظام إخوان السودان معهم ، ويرون أنهم امتداد وفرع للحركة ، فإذا بالسودانيين يقولون : عرفنا الدعوة والتنظيم في كلية جوردون قبل أن نعرف الإخوان !(1) . وفي أحد اجتماعات المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين - وقد حضره الترابي - أرادوا أن يقرروا منع مشاركة الإخوان في الانتخابات "الشكلية" ، التي تقوم في الدول العربية, بناءً على التجارِب المتكررة, ومنها محاولة إخوان سورية عام 1961 ، ثم فشل التجربة . فردَّ عليهم الترابي متحمساً للانتخابات ، وفكرة المشاركة : "والله - يا إخوانَّا - إحنا لو صح لينا نُص وزير أو ربع وزير ، حتى مش حنرفض"(2) . فقد كان الترابي يصدم المحافظين والبيروقراطيين بقناعاته وتحولاته . قال أحد الذين تعاملوا معه حركياً : عندما قابلته في أوائل السبعينات صدمتني شخصيته آنذاك فقد "كان له عقل غير عقولنا المسكّرة" ، كان مختلفاً في رأيه , حراً ، بل متحرراً في رأيه ، وأحياناً ينطلق بلا زمام ولا قيد .
    لماذا المقارنة ؟ :
    لأن بين الشخصيتين تشابهاً كبيراً ، فكلاهما - على الرغم من اختلافنا معهما - يتمتع بمميزات الزعامة والثقافة والعلم والاستقلال ، وهذه صفات تكفل لمن يتمتع بها مكاناً وأثراً في قومه ، وكلاهما شذّ عن السِّرْب بعمل أو فكر . وكلاهما انتصر لفكرته أو لنفسه بدولة ، وكلاهما رفع شعار الإسلام للتغيير . وكلاهما أثار قلقاً كبيراً في مجتمعه ، بحق أو بغيره ، وكلاهما كان مفيداً ، ثم أصبح عبئاً . وسيبقى أثر كل منهما بعد موته وبخاصة الخميني . ويبقى أن الترابي - مهما قِيلَ عن أخطائه - لا يمكن أن يوضع في صف الإمامية ، وإن أملتْ عليه رغبته الإصلاحية أو السياسية بعض المواقف المشابهة فما كان يقصد ذلك عقدياً ، ولا قصدناه هنا . وفرق آخر مهم بينهما ، وهو أن الترابي -دائماً - كان حاكماً غير معلن ، أو قاب قوسين أو أدنى من الحكم ، لزمن طويل ، أما الخميني ففي الطائرة التي أقلته - لم يكن متأكداً من نهاية الشاة ، ولا أنه سيحكم إيران ، أو على الأقل هذا قول رفاقه ودارسي حياته(3) .
    و هذه مساهمة سريعة في تفهُّم الخصائص والأشخاص ، ولا نقصد بها الحكم على النيات ، ولا نقاش المذاهب والتوجهات ؛ فهي أمور غير مطروقة للبحث هنا ، ولضيق حيز مقال عن أن يتعرض لمهمات أُخر . ثم إنه قد سبق لهذه الأمور العقدية والمنهجية جهابذة ، أغنونا عن تكرار القول .
    الترابي :
    وُلِدَ الترابي عام 1932 في بيت علم ودين وكان والده شيخاً, وللعائلة قبر يُزَار . وما أكثر القبور في بلاد المسلمين ؛ إذ إن الفقر والجهل أهم عوامل وجودها . حفظ القرآن بعدة قراءات ، وهو صغير ، وتعلَّم من علوم الشرع مبكراً ، ثم درس القانون في السودان ولندن وباريس ، حيث حصل على الدكتوراه . يجيد الإنكليزية والفرنسية ، ويقرأ الألمانية . متحدث بارع ، سريع العارضة فَكِه ساخر جذاب ، يخف على الجليس حيناً ، ويثقل أحياناً . قوي الحجة واسع الثقافة ، متقلب المزاج ، يسقط ، فييأس ويقنط, كان في السجن يبعث روح اليأس في زملائه ، وينفق الوقت في القراءة . ثم يخرج فيرتفع به لهيب همته ، ويصعد من جديد ، وهو قادر على التلوُّن باللون الذي يوصله لمراده ، ولا يطيق الاستمرار ، والصبر معه إلا قلة قليلة ، ممن يتبنى رأيه ، ويسلّم له . وهذا رأي أشياخ بلده فيه من قديم ، من السلفيين والإخوان القدماء ، أو الخط العام أو المستقلين من زملاء المرحلة السابقة ، من أمثال الشيخ الهدية ، والداعية الصادق عبد الله عبد الماجد والشيخ جعفر إدريس ، ولا يسلم القرناء الأفاضل من اختلاف وجهات نظر ، ولكن تديُّنهم وتَقواهم تقيهم من السوء ، إن شاء الله . وربما زادت مشكلات ما بعد الثورة تباعد العلاقة ، وبعض الأخطاء التي لا يسلم منها عمل . والله حسيب الجميع .
    لقد كان الترابي متفرّداً بصفات فذة ، يندر تلاقيها في شخص واحد ، وهي تثير الأسئلة المتعارضة ؛ فهو متغرب الثقافة ، شيخ في العلوم الشرعية ، حزبي حركي ، ديموقراطي اللسان استبدادي الممارسة . يولي عنه القريب هارباً ، ويخطف بريقه البعيد معجباً . ولعله لم يَرَ بين المسلمين السُّنَّة مثل نفسه ، ولم أَرَ أنه أُعجب برجل معاصر إلا الخميني ؛ فله - في نفسه - موقع خاص ، وكان ممن زاروا الخميني ، وقد لخص الكثير من آرائه عن الثورة في عدد من المقابلات ، والكتب المنشورة .
    وللترابي عدد من الكتب مثل الصلاة عماد الدين ، والإيمان وأثره في الحياة ، وتجديد الفكر الإسلامي . ومقالات عديدة ، والحق أن الترابي متحدث مؤثر يخلب بحديثه السامعين ، ولا ترتقي كتابته إلى مستوى حديثه . وهذا عنصر في المفكرين ، الذين يسحرون الألباب ، فيحرمون الأتباع من الوعي ، ويسلبونهم بهذا القدرة على التفكير . وهذا النوع من القياديين الجماهيريين ، يرهق الطبقة الواعية ، فلا تملك معه إلا الخصومة ، وهو يأخذ الجماهير ، ويجذبها من بين أيدي الحزبيين الواعين . حتى إذا أرهق نفسه وجمهوره في مغامرات كبيرة - صبوا عليه اللوم أصنافاً . وقد كانت مغامرة الخميني وحربه أشد الأمثلة للقيادة الفردية المتعبة . تجرَّع بعدها - كما قال - سُمّ الهزيمة ، وكلفت الحرب إيران ما يزيد على مائة وأربعين مليار دولار ، كما قال أبو الحسن بني صدر في كتابه "عودتي للكلام"(4) .
    الخميني :
    وُلِدَ الخميني عام 1900م ، وعمل أعمالاً مختلفة ، كمُراجع لغوي في مطابع ، واشتغل ببيْع السيارات ، ولم يرتبط بعمل حكومي منتظم ، وقد دخل سلك التدريس ، وعمره خمسون عاماً ، أستاذاً للفلسفة والفقه ، بعد كتاب "كشف الأسرار" . ولم يُعترف له بالعالِمية إلا بعد سجنه عام 1963, بعد المعارضة التي قادها في المدرسة الفيضية في "قُم" ، وبلغ ضحاياها نحو خمسة عشر ألفاً(5) , وحينها تدخل الآيات الكبار - مثل شريعتمداري - ومنحوه لقب "آية الله العظمى" على كتابه : "تحرير الوسيلة" - في الفقه الإمامي - ليستخرجوه من السجن ؛ إذ إن الدستور الذي كان للعلماء دور في كتابته عام 1906 - يحظر سجن الآيات العظمى(6) . وقد كان الخميني مثار جدل من وقت مبكر ؛ فكثير من العلماء الشيعة لا يرى له مكاناً في دائرة كبار علمائهم ، لأنه قليل البِضَاعة من العلم الشرعي . أما الخميني فيروي أحد تلاميذه - الذين حضروا له منذ أيام النجف "أحمد الكاتب" - أن بعض علماء الشيعة من خصومه كانوا يشكّون في موقفه من التكاليف الشرعية ، وأنه يرى رأي غلاة الصوفية ، ويدللون على ذلك أنه كان أستاذاً للأخلاق والفلسفة ، وتأثر بابن عربي , وترجم كتبه للفارسية . وفي أيامه الأخيرة اهتم أنصاره أن يُثْبتوا بالصور المتكررة أنه كان يتوضأ ويصلي حتى في مرضه ؛ لينفوا - بذلك - عنه الشبهة . ولا نعرف دقة هذا القول ؛ لأن تلك الصور قد تكون - فقط - من أجل الإخبار عن صحته . ولكننا نجد له في "رسالة للعلماء" - التي كتبها قُبيل موته - قوله بعد أن ذكر موقف علمائهم من الفلسفة ، الذين يعتبرون "تعلُّم الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً" : "وعندما شرب ابني الصغير المرحوم مصطفى الماء من شربة في المدرسة الفيضية أخذوا تلك الشربة وطهروها بالماء ؛ لأنني كنت أدرِّس الفلسفة" (7) ! ، فلم يجيزوا الشرب بعد الابن فكيف بالأب؟!
    صعد نجم الخميني في السياسة عام 1962 بعد أن جاوز الثانية والستين من عمره . محتجاً على قتل طالب مظلوم ، واتفق أيضاً أن الترابي بدأ محتجاً على قتْل العسكر لأحد الطلاب في الجامعة ، ولكن المعارضة المشهورة هي معارضته للدستور الذي سَنَّهُ الشاه ، فواجه ما رآه انحرافاً بحزم عام 1963. وبخاصة ما تضمنه الدستور من فقرات ثلاث ، إحداها تتعلق بموضوع حقوق المرأة ، والأخرى تتعلق بحق غير المسلمين أن يقْسموا على غير القرآن ، وصعد نجم الترابي بعده بعام (1964) ، وصعد يخطب على سيارة الجيب ضد العسكر الذين استهانوا بالشعب ، كما صعد يلتسين على الدبابة ضدهم في موسكو . وهيَّج الترابي الناس ، فتراجع العساكر ، وتنازلوا للعصيان المدني, وكان تأسيس جبهة الميثاق - التي قال الترابي وقتها إنه لا يمكن للعسكر أن يحكموا السودان من بعد - ولكن العساكر عادوا مرات عديدة ، وآخرهم هو الذي جاء بهم للإنقاذ من الديموقراطية .
    ويُجهد برنارد لويس نفسه ليفهم عقلية الخميني وثورته ، فكتب عدة مقالات ، منها مقال بعنوان : "كيف صنعها الخميني ؟"(8) , وهذا المقال مراجعة لكتاب بخاش ، الذي أرخ فيه للثورة الإيرانية ؛ فيرى لويس أن ميزة الخميني عن غيره بارزة في تصميمه وعدم تراجعه ، وكلمة "لا" التي لا تقبل تنازلاً ولا مهادنة . فقد احتج علماء إيران على دستور عام 1963, عندما عُرض على الشعب ؛ لما تضمنه من مواجهة الشرع في القوانين التي تمس المرأة ، وتساوي غير المسلمين في البلاد بالمسلمين . وثارت ثائرة العلماء ، فواجه الشاه والحداثيون الموقف بالاتصالات الخاصة بالعلماء ، وإرسال برقيات تطمين ووعد بتأجيل أو إلغاء القوانين . فاستطاعت الحكومة السيطرة على الموقف واحتواء جمهور المحتجين من المشايخ بالوعد والوعيد . ولكن الخميني - ومَن تأثر بموقفه - رفضوا أن يقرر الباطل للجميع علناً ؛ وأن يكون التراجع عنه سراً ، فلا بد من إعلان الرجوع للحق على الملأ ، إن كانوا قد تراجعوا حقاً ، وزاد فقال : "إن الدستور قد صِيغَ بواسطة جواسيس أو يهود صهاينة ، وأن الإسلام والقرآن في إيران في خطر . وإن استقلال البلاد واقتصادها مهدد بسيطرة الصهاينة المستشري بواسطة البهائيين",(9) ولم يستجيبوا له ؛ لأنه ليس من الآيات الكبار . ثم جاء قانون الإصلاح الزراعي وألهب الخميني المجتمع تحذيراً من الأيدي الأمريكية الإسرائيلية المتستِّرة وراء رموز التحديث الشاهنشاهي . فهددوه بالسجن ، فقال : "فقط لمصلحة إسرائيل وأمريكا لا بد أن نُسجن وأن نُقتل ونكون ضحايا للنيات الشيطانية الأجنبية" ، ثم اعتُقل بحجة إثارة الشغب والطعن في ذات الشاه وفي مصالح إيران ودستورها ، وهدئ الموقف بمواجهات مع أنصاره . وفي السجن أرسل له الشاه مَن لا يقل عن رئيس السافاك ؛ ليقنعه بالتراجع وعدم التدخل في السياسة ، وقال للخميني : "إن السياسة كذب وخداع وعيب ودناءة ، فاترك السياسة لنا !" ، قال له الخميني : "الإسلام كله سياسة"(10) ، وبعد عشرة أشهر أُطلق ، ونفى ما أُشيع أن يكون قد تعهد بترك السياسة أو بالتراجع عن رأيه .
    وبعد فترة يسيرة - وفي عام 1964 - أصدر الشاه قانوناً ينص على الوضع الخاص للأمريكيين في إيران ، فعارضه الخميني ، وقال : "هذه وثيقة عبودية إيران" ، وهنا اتسع أنصار الخميني ، فوافقه الوطنيون والمتحررون والفقراء والتجار والعلماء ، فأُخرج من بلده ، كما أُخرج الأفغاني من قبل ، ولتتأكد القطيعة ، وأصبح رمزاً للشعب المستضعَف ، الذي يواجه الاستبداد الشاهنشاهي ، والاستعمار المستكبر . كما صاغ هذه المصطلحات من بعد(11) , ثم لم يُعرف عنه أنه قَبِلَ بأنصاف الحلول . ولما زاد سخط الشعب على الشاه - ثم نائبه بختيار - وبعثوا "سنجابي" المعارض المعتدل للوساطة ، وفوجئ الوسيط بعزم الخميني وتصميمه وثقته وعدم مناورته في استقلال بلاده ، فانقلب سنجابي ، وأصبح واحداً من حاشية الخميني .
    أما الترابي فإن مِزَاج المناوِر السياسي أضعفَ مكانته داخلياً وخارجياً ، وغلب على الزعيم في شخصيته ، ثم إن تقلب رأيه السريع وفرديته تُفقده الكبار من قومه ، ولا يبقى حوله إلا مَن يصغره كثيراً ؛ أولئك الذين رأوا البريق ، ولم يستبصروا بعد . فيجد نفسه بين الصغار زعيماً بلا ند ، ورأياً واحداً لا قبيل له ، وهو لا يدرك أنه بهذا قد فقد الرجال ذوي الرأي والقدرة ، ولم يكونوا معه ، ولن يكونوا ؛ لأن آراءهم غالية عليهم ، فلا يهملونها ، وغالية عليه أن يتنازل ويقبل . ولها تبعات لا يطيقها ، فيدفع ثمن تفريطه ، فيما بعد خسارة فكرية وسياسية واستراتيجية في بلده . لقد تلقى عدة إشارات - بل ومواجهات صريحة - من داخل الصف عدة مرات ، ولكنه - ويا لَلأسف - لم يتنبه لتلك الإشارات ، وبخاصة مذكرة العشرة الذين انقلبوا عليه ، وهم تلاميذه . واستهان بها . لقد كان بحاجة لأن يفهم ما لا يحب وقديماً قيل : "إن بني عمك فيهم رماح" . وهذا فصل مكرور من قصة الحركة الإسلامية في البلاد العربية ، تُسقط الأهداف الكبيرة والأعمال الريادية تحت فردية قاتلة . تبدأ برجال صادقين جادين أفذاذ ، ثم ينتهون ، أو ينهون عملهم أتباعاً بلا رأي . أو يتخلون هروباً من القيادات المراوغة ، أو الصالحة التي تصطدم بجدار الحقيقة ، أو بضعف القدرة ، وصغر الغايات ، وقصر النظر . وتصر كلها على استبعاد ذوي القدرة والرأي ؛ لأنهم غير منسجمين ، ومتى كان الأفذاذ ينسجمون بسهولة ؟ ، وتلك حقيقة أنهم غير منسجمين ، ولا يطيقون ثقافة القطيع ، والطاعة تشترط المستحيل من طباع النابهين . ولم تستطع أي من الحركات السنّية - فيما نعرف - أن تطور نظاماً ، تستطيع فيه أن تحافظ على قدراتها الفكرية والسياسية ، مفيدة لجمهورها ، ومنسجمة مع قيادتها . وتضطر القيادة إلى تخييرهم بين الطاعة في المجهول أو التهميش ! .
    إن مشكلة الإسلاميين - مع مقدراتهم - تكاد أن تكون هي بالضبط عدوَى أو مشكلة الحكومات مع شعوبها . والنقد على الطرفين واحد(12) .
    :
    الخميني من شعب أنهكته الباطنية ، وعقيدة التقية الذليلة ، لقرون متوالية طويلة ، من قبل إسلامهم ومن بعده ، وأصبح يتوق لموقف صريح ، يرفع عنه ذل النفاق للشياه المتتابعين فوق رؤوسهم ، فجاء مَن يعلن على الملأ ما يهمسون به ، وأخرجهم من وهْم الإمام المنتظَر في السرداب إلى نائب له حي على الأرض . وجاء بطائرته لمطار طهران بين احتمالات ضربها وإسقاطها من الجو ، دون رهبة ولا تقيَّة ولا خشية من اللحظة القادمة الرهيبة ، التي تحتمل القتل أو النجاح . فغيَّر مسيرة الحياة إلى توجه جديد ، أبقى لهم من الخرافات بعضاً وأعاد تفسير الأخرى .
    أما الترابي فقد سلك عكس الخميني ، ففي بلد السودان ، لا سر ولا خفاء ولا تقية ، فمارس معهم التقية بطريقة يأباها السوداني الواضح ، فلما انتصر الترابي أدخل نفسه السجن ، ولما أراد أن يأخذ الحكم من البشير التف عليه بطريقة لم يعتدها الشعب ، ولا يعرفها ، فإن كان صاحب رغبة في عزل البشير فليبادر إن كان قادراً ، ولا يشغل السودان بحيلة طويلة ، فصولها مملة لأكثر من عامين . ولكن مسلكه يعكس سلوك السياسي ، الذي يسلِّم بقدرة التجربة والمناورة والحيلة ليبلغ مراده . ويُعْرض عن جدد الصراط ، فعاجله خصمه - تلميذه السابق - بالطريقة السودانية ، وليس غيرها ، طريقة الانقلاب الغريب ، يبقى المنقلَب عليه بكامل حريته ، يجمع المعارضين ، ومَن يمكن أن يسانده لاسترداد موقعه ، مما يشهد لتميُّز مواقف السودان عن غيره . ويذكِّر بقصة بدأنا بها عن القبائل التي تحترب ، ثم تجتمع ؛ لتتناول الطعام معاً ، ثم تعود لمواقعها في القتال !
    وهكذا تجد سر جاذبية الخميني لقومه ، والقناعة الشيعية به ، بعكس الأخير ! .
    ولاية الفقيه :
    من المتشابهات بين الرجلين ، فالخميني اتبعها ، وقد سبق إليها ، ورأى فيها خلاصاً من الاستبداد و"الاحتلال المقنّع" , أما في السودان ، فهم لا يعرفون هذه المصطلحات الباطنية أو المحتالة على الباطنية ، ولكن الترابي مارس أو كاد أن يمارس "ولاية الفقيه" عملياً من خلف العسكر ، ولزمن غير قليل ، ثم لم يعد لها عملياً مكان . ونظرية ولاية الفقيه في إيران في مأزق ما بعده مأزق . كيف وقد بدأ يطعن فيها سماسرتها ، مثل "منتظري" ، الذي فاتته وخصومها ممن لا أمل لهم بها.
    الحرب :
    مما تشابه فيه حال البلدين والشخصين الحرب مع الغرب ، بواسطة قوة محلية أو مجاورة ، فالحرب الخارجية للثوار الجدد سُنة ماضية, ومكون رئيس من مكونات أي ثورة ، فلم تتم ثورة في تاريخ البشرية دون أن تجد نفسها في حرب ، مع جيرانها أو انفصاليين مدعومين من خارجها . وهذا النوع من الحروب يقوم به الثوار ؛ لأنهم أولاً : يعتقدون بأهمية تحرير غيرهم من البشر الخاضعين . ثم ثانياً : بسبب الطاقة الكبيرة التي تتفجر في دماء الثوار المنتصرين . وثالثاً : بسبب انتقام القوى الخاسرة ، وجيوبها الباقية وبقية مالها وجاهها . ثم رابعاً : بسبب خوف الجيران من الثورة ، وحرصهم على محاصرة حمّاها المعدية ، التي يراها بعض فلاسفة التاريخ مرضاً لا يُعرف سببه . ولكن هناك - أيضاً - من العوامل ما لا يعرف الثوار التصرف معه .
    وليست حروب ما بعد الثورات بسبب شخص الخميني أو الترابي أو نابليون أو لينين ، أو هتلر ، أو ماو ، أو كاسترو ، أو واشنطن ، أو مَن سبق أو لحق من ثوار ، من مسلمين أو كفار ، فقد نذكر تخبُّط الخميني ورغبته في أخذ العراق ، أو تصرفات الترابي مع جيرانه ، أو تطور مشكلة جنوب السودان ، ولا نلغي هنا دور الفرد ، ونجعل الأمر جبرياً مطلقاً ، ولا تغيب عنا الظروف المحيطة ، والواقع الصعب في السودان ، وكلٌّ يحارب بقدره .
    هذه من دروس التاريخ العامة في كل أرض ، فإذا أضفنا لذلك أن هذا عمل وتحرك إسلامي في قارة يخشى النصارى - المسيطرون على القوى الكبرى - أن تقع تحت نفوذ المسلمين ، وقد يثيرون في العالم الإسلامي حركة تحرُّر واسعة من الهيمنة والاحتلال المقنع . وما يمكن أن يسبِّبه هذا - من بعد - في الساحات المجاورة ، التي فيها قوة إسلامية مؤثرة ، فلا يملك النصارى إلا بذْل كل جهد ، مهما عظم لإجهاض مشروع كهذا ؛ لذا لم يتحقق الكثير ، وقد لا يتم قريباً .
    ماذا أنجزا للسودان وإيران ؟ :
    لقد حسمت الكثير من الأمور في توجهات إيران والسودان, وقد شعر سكان هذه البلدان -مع الخسارات التي تحققت أيضاً - أنهم حققوا انسجاماً مع هوياتهم ودينهم ، وأنهم أقاموا حكومات إسلامية وطنية ، لم تُفرض عليهم من خارجهم ، وليست لديهم شكوك في هذا الجانب . وعلى الرغم من أن السودان ازداد فقراً ، ولكن لم يكن هناك من مؤشر على خلاف ذلك من قبل وصول الإسلاميين ؛ فقد أودى بهم الصادق والديموقراطية لدرك الهزيمة العسكرية أمام تمرد الجنوب ، وخربت العلاقة مع الجيران . ولا يعفي هذا - بحال - الحكومة الحالية من مسؤوليتها عن الوضع الاقتصادي المتردِّي . وإيران تَحقَّق لها - ويتحقق - من السيادة والاستقلال وقوة مناصرة مذهبها ما لم يتحقق منذ عصور متطاولة ، في بلدهم وخارجه وعلى حساب السُّنَّة أحياناً كثيرة ، وليس هذا مكاناً لبحث الأمر . غير أن أمر "الهوية العقَدية" قد حافظ عليه الطرفان - على الأقل - على الرغم من صعوبة المواجهة .
    ثم إن التغييرات الكبرى لا يصاحبها الثراء المباشر ، بل هي رفيقة الحاجة ، والمواجهة والخوف ، ولا تُؤتي التغييرات الكبيرة ثمارها إلا لأجيال متأخرة ، فالصف الأول صف البناء والأعمال والتضحيات الكبيرة . وهو غالباً لا يذوق جوائز الدنيا ، بل يكتفي بلذة الانتصار الغالي ، إن ذلك هو ما نرجوه للإسلام في السودان ، أن يعز الله دينه ، ويبارك جهود الصادقين ، ومطالب المستقبل الفاعل يلزم لها الاعتقاد الصحيح ، والفكرة الواضحة ، واستخدام الأرض ومواردها في عمل جاد و مثمر . وهنا أمر مهم ، لعله مما لا يحتاج لبيان ، وهو أن الخميني في إيران ، وأن الترابي في السودان ؛ ففارق القوة ، والاقتصاد والعدد والمكانة الدولية لها أثرها .
    الريف والمدينة :
    إن الترابي - على الرغم من الأصل الريفي - ولكنه ابن المدينة المسيَّس ، وكلمة "مدينة" في اللغة العربية تعني أيضاً "عبدة" ؛ فأهل المدينة - غالباً - يرقّون ويخضعون ويستجيبون للعسف أن يقاوموه بالحيلة ، ويجيدون صناعة المبررات والهروب عن المواجهات . والسودان - الشمال - بلد ريفي الثقافة ، ليست فيه الطبقية ولا التفاوت الاقتصادي ، ولا سياسة الحيل ، فقد وحَّد الفقر الجميع ، ولولا الخطاب الإسلامي - الذي ينادي به - لما طال إقلاق الترابي لهذه الجموع ، ولما قبلوا التنقل عبر هذه الأطوار ؛ فعامة المسلمين يؤمنون بواجب نُصرة الرسالة الإسلامية ، ويؤمنون بخيرها في الدنيا والآخرة ، وقد يتسامحون مع أخطاء وممارسات الإسلاميين ؛ لأنها الأصح والأقرب ليقينهم ولقلوبهم ، ورصيدها لا يقارَن بأي مجموعة أو فكرة دخيلة .
    ومع تميُّز مواهب الترابي واتساع ثقافته - عن نظرائه من زعماء العالم وقادته ومهاراته المتعددة - ولكنها أكسبته غروره الكبير ، ######ريته من أشياء كثيرة ، علمية وعملية ؛ فرفع نفسه فوق الجميع ، وامتهن التمثيل ، الذي يحتاجه السياسي أحياناً ، ولكن ليس دائماً ، والتاريخ يقلب لهذا النوع ظهر المجن ، ويذيقهم مرارة الوحدة ، وفقدان المعين ، والرد على السخرية والتمثيل بأمر منها .
    أما الخميني - الريفي من "قُم" ، وقد عاش خمسة عشر عاماً في "النَّجف" - فلم يعتَدْ ثقافة المدن السياسية المرنة ، وله من صرامة الشخصية ووضوح الهدف ما جنَّبه بعض هذه المشكلات . فلم يكن يطمح للمشاركة في حكومة الشاه بنصف وزير ، بل ولا بنصف حكومة ، وقد عرض عليه مندوبو الشاه ومندوبو بختيار فلم يقبل ! ، ولم يأخذ بثقافة طالب الصيد ، فكسب بهذه القطيعة تقدير المعارضة الكبيرة المتضررة من الشاه والمنافقين له ، وهؤلاء هم سواد الناس .
    القطيعة المفيدة :
    إن قطيعة الخميني مع نظام الشاه ساعدته - أيما مساعدة - في إعطاء قيم وشكل للحياة والتعامل جديد ، فلم يتلبَّس بتاريخ مشين في الحكم ، على خلاف الترابي الذي كان يقبل بأي شيء ؛ ليكون جزءاً من الحكم ، فحمّله الناقدون بعض أخطاء عهد الميثاق ، ثم عهد النميري ، ثم عهد الصادق المهدي ، والآن يحملونه أعباء وعيوب الثورة الأخيرة (عهده هو والبشير) ، فلم يتمتع بالمفاصلة المحببة للناس ؛ لذا يحمِّله المراقبون أوزار غيره إلى جانب ما هو فيه ، ولم تساعده طريقته هذه على بناء قطيعة مع الفساد المتجذِّر اجتماعياً وعقَدياً ونفسياً من أيام بريطانيا ، وما تبعها ، مما يشابه فيه السودان - أو يخالف - بقية بلاد العرب . وسحر القطيعة له أثر عجيب في نفوس الشعوب ، ذلك الشعور الذي يفرح به الناس ، وبنهاية لزمن عبودية مندحر ، وتمكُّن نمط جديد وحياة ومبادئ جديدة . فهل تمت ثورة في السودان وتمت القطيعة ؟!
    المتغرِّب :
    كان من المشكلات التي أقلقت الثورة الإيرانية مشكلة المتغربين الإسلاميين مع المحافظين المقيمين ، مما حدا بأحد المراقبين الفُطناء - "كليم صدّيقي" على الرغم من تخليطه - أن يخرج بقاعدة أن المتغرب لا يصلح لقيادة المجتمع الإسلامي . إنها نفس العلة التي كتب عنها عدد من المفكرين ، تحت شعار الصراع بين أفكار ميتة (بقايا التخلف) وأفكار مميتة (غربية) ، فتغرب الترابي يُقلق المشائخ والملتزمين السنة ، ممن يراقبون كتاباته وفتاويه وتصرفاته(13) , فيؤيدون مرة ، ويكفّون أخرى . وهي نفس العلة التي لمحها الخميني مرة في تصرُّف للحسن بني صدر ، وقد عقَّب ساخراً من المبالغة الشيعية في شخص فاطمة - رضي الله عنها - فأنكر عليه الآيات ، وكادت أن تكون مشكلة كبيرة ، قال له الخميني : ألا تعلم أنك ترأس بلداً شيعياً ؟! ، ولم يدرك بني صدر أن المخاطبين ليسوا مثقفين فرنسيين ولا متفرنسين ، لقد أراد أن يلبَس عباءة العقل ، فأوضح له الخميني أنه بهذا يخلع عباءة السياسة ، وكان من دهاء هذا العجوز أنه حاول الإبقاء على كل هذه العباءات السياسية والفلسفية تحت سقف الخرافة . وقد مات والحال كذلك ، ولعله لا يرى المشهد منسجماً اليوم .
    لو مات لعاش فكره ! :
    إن العاطفة الكبيرة تجعل البعض يغفل عن الحقيقة ، وهي أن المفكر الثائر قد تكون -أحياناً - تطبيقاته ضد فكرته ، فلا تنجح الفكرة ، ولا تسلم وتسود بسبب وجوده ، ويكاد أن يكون موت المؤسس الثائر شرط نجاحها ، فتنتصر عليه الثورة ، ولا ينتصر شخصه عليها ؛ فالثورة عندما تتم تجد من أصعب الأمور أن تتعامل مع الثوار صانعيها - وخصوصاً المفكرين منهم - فتقتلهم ؛ لأن هذا النمط من المفكرين المؤثرين - إن وصل للقيادة - نمط يثير المجتمع ، ويُقلقه ، يقيم دولاً ، ويسقط أخرى ، ويرتب قيماً جديدة . وإن المجتمعات والجماعات والقبائل تستطيع - غالباً - أن تنتصر على الموهوبين وذوي الآراء السديدة ، فتسحقهم الجموع فيلجأون للانزواء وللتأمل والحكمة والسكوت(14) . ولكن النمط الذي ينتصر ، متى أتم ثورته وقامت الدولة - فهو لا يدرك أن هناك دولة جديدة تنشد الاستقرار ، والعمل وفق منهج مستقر جديد . وحتى ينجح التغيير فلا بد له من نوع من التعود ، ولنقْل بعض البيروقراطية الضرورية لتسيير الحياة ومزج التعود بالنظام ، حتى يصبح الجديد نظاماً . وقد يغفل المفكر الثائر أن بعض العيوب التي يثور عليها في النظام القديم - يحتاج بعضها للنظام الجديد . فماذا يصنع الزعيم أو المفكر المنتصر ؟ ، إنه يُقلق الجميع ، ويطلب منهم التحول الدائم ، والتقلب وعدم القبول بنمط ؛ لأنه ضد النمطية ، وعشرات السنين من عقلية النقد - وثقافة الاحتجاج - لا تسمح له بفترة همود ولا استرخاء ! ، على الرغم من حاجته ، بل أحياناً لا تسمح له بفهم ما يجري ، ويتضخم مرضه الفردي ممزوجاً بلذة انتصاره .
    لقد كان الخميني - في سنوات حياته الأخيرة - عبئاً كبيراً جداً على مجتمعه ، وعلى الثورة ، فلا الدولة تشعر أنها دولة لها نظام مستقر ، ولا العساكر يدركون مهمتهم ، ولا السياسيون يعملون وفق قناعتهم ، على الرغم من الدور الكبير جداً للداهية "رفسنجاني" في تجنيب البلاد مضار الخميني ، لكنه لم يكن ينتصر - دائماً - عليه ، أما اللذان سبقاه - بازركان وبني صدر - فقد كتب الأول شكواه المريرة ، وانطوى على حزنه ، وهرب الآخر لباريس ؛ حيث نشر بعض مذكراته ، ولأن السيطرة على الثائر المقدس ، وتخفيف القلق الذي يصنعه كان تحدياً كبيراً ، أين منه القلق الذي كان يصنعه أيضاً "منتظري" ، فما كان لهم من حل معه إلا الإقامة الجبرية ، يقبع فيها إلى الآن ؟ .
    ولا يدرك - ويا لَلأسف - الترابي أن إصراره على موقع سياسي يُضعف فكرته ، ويحبط مشروعه ، ويخرجه من صاحب قضية إلى طالب منصب ، ولو بقي بعيداً عن الشأن اليومي الإداري والسياسي لأكتسب مكانة أرفع ، وأثراً أبقى ، ونفع بلاده بأكبر مما يرى ، ولكنه - اليوم - أمام أعداد من الصغار الحريصين على تصغير حجمه ، وقتْل الدعاية أو الهالة حوله ، أو صادقين يرون عيوبه ، ورأوا أنه قد قام بما يكفي من الحسنات والإيجابيات ، ولكل عهد دولة ورجال ، وبعض هذا خطر على فكرته ، وأوْلى به موقع الأب الناصح ، يُؤخذ منه حق ، ويرد باطل ، وأما هم ، فبعضهم يقول هذا جزاء سعيه لغير مكانه !
    ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى :
    لا أشك أن إصرار الترابي على طريقة السياسي المناور دائماً هو عنصر إزعاج لمشروعه ، ومحطم لهدفه ، من حيث يدرك أو لا يدرك ، ولكن هذا النوع من الكائنات السياسية لا تستطيع التنازل ، أو التعامل المعتدل مع نفسها ولا مع الناس ، وتبقى ثورة السودان من أقل الثورات تكاليفَ ومآسي .
    وتبقى هناك فروق بينهما ، تجعل كلاً منهما يذهب بعيداً في طريق لا يقابل فيه قرينه ، فليست المقارنة هنا إلا طريقاً للفهم والتفكير في الخصوصية والاختلاف ، فلو قيل لو كان الترابي في إيران لكان كشهبور بختيار السياسي المعارض المتغرب ، يأتي به الشاه ، الذي يأمل منه حلاً ، وهو مشكلة ، يختلف مع الصديق ، ولا يثق به الخصم ، ولو كان الخميني في السودان لكان كمحمد أحمد المهدي ، يقود الأنصار الثوار ، ويقتل جوردون لما بعد الأمر ، والتاريخ لا يتكرر ، والأشخاص لا يتماثلون ، ولا البلدان ، ولكنها العبرة لأُولي الألباب .

    [/blue/][CENTER/]
                  

01-28-2013, 12:20 PM

احمد سيد احمد
<aاحمد سيد احمد
تاريخ التسجيل: 01-23-2013
مجموع المشاركات: 1257

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الترابي والخميني .. جدل الفكر والسياسة (Re: احمد سيد احمد)

    الهوامش :
    1- حسن الترابي : الحركة الإسلامية في السودان , ص28 , دار القارئ العربي , القاهرة , عام 1411هـ- 1991م .
    2- عبد الله بو عزة : مع الجماعات الإسلامية في الدول العربية , ص185, دار القلم , الكويت , ط2.
    3- انظر : أحمد مهابة , إيران بين التاج والعمامة . و الحسن بني صدر , My Turn to Speak, Iran , the Revolution and Secret Deals with U.S. Brassey, New York 1991, P.P. 1-2 .
    4- - " My Turn to Speak, Iran , the Revolution and Secret Deals with U.S." Brassey, New York 1991 .
    5- أحمد مهابة , إيران بين التاج والعمامة , ص235.
    6- السابق , ص224.
    7- رسالة العلماء , من مجموعة مقالات بعنوان : المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية , ص185.
    8- الإسلام في التاريخ , ص389-396.
    9- المصدر السابق .
    10- المصدر نفسه.
    11- اشتهر الخميني بصناعة المصطلحات ونحتها , وكان يهتم بأن تكون المصطلحات قرآنية , أو ذات أثر خالد في الأذهان . ثم يبني عليها موقفاً من بعد ؛ يسهل تجنيد الخاصة والعامة له .
    12- قارن هذا بقائمة الأسماء , التي أسست مجلة "المسلم المعاصر" في مكان آخر من هذا العدد .
    13 - أنظر على سبيل المثال رد الشيخ محمود الطحان: مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد, دار التراث الكويت, 1984. وهو رد على بحث صغير للترابي بعنوان: "تجديد أصول الفقه الإسلامي".
    14- أو يحققون الأنموذج المقابل للمفكرين "المفكر المنصور" .
    __
    الموضوع نشر قبل اكثر من عشر سنوات في موقع مجلة العصر الالكترونية
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de