الأستاذ محمود محمد طه: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب

Quote: الأستاذ محمود محمد طه: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب عندما تعترينا حالة من حالات القبض، نلجأ للتنفيس عنها، في حضرة الأستاذ، بالقصائد ذات الطابع الإستغاثي، مثل قصيدة يا من تحل بذكره، عقد النوائب، والشدائد.... أو يا ربي عناية... أو نحوا من تلك، أو هذه... جئت لجلسة الصباح، بصالون منزل الأستاذ على حالة من تلك الحالات التي ذكرتُ.. والجلسة لا تزال في بدايتها.. أخذتُ موقعي، من الجلسة.. وعندما انتهت القصيدة التي كانت تُنشد، عند دخولي الصالون، أشار إليَّ الأستاذ وهو يقول أشرع يا عبدَ الله.. شرعت بالفعل في قصيدتي التي قصدتُ بها أن تعبر عن حالتي، وهي:ـ هذه الأثواب والخِلَعُ تُكْتَسَى طورًا، وتُخْتَلعُ فاستقم يا من علي خطرٍ، يرتقي حيناً، ويَتَّضِعُ !! والذي تفهمه: فتنٌ !! والذي تعلمه: خِدَعُ !! وقد كنتُ أعني أن أشكي حالي، بهذين البيتين الأخيرين !! ولمَّا انتهيتُ من أداء القصيدة، وهي، للشيخ عبد الغني النابُلْسي، أخذ الأستاذ يردد في هذين البيتين:ـ فاستقم يا من علي خطرٍ، يرتقي حيناً، ويَتَّضِعُ !! والذي تفهمه: فتنٌ !! والذي تعلمه: خِدَعُ !! ثم قال: كل واحد من الأخوان والأخوات، يقوص جُوووَّه مع البيتين ديل... !! ودخلنا في حالة صمت، رهيب، استمرت هذه الحالة، أكثر من دقيقة تقريباً.. قال الأستاذ بعدها: الجلسة مرفوعة !!! وهكذا، رُفِعتْ الجلسة، ولم تنشد فيها غير هذه القصيدة، والقصيدة التي كانت تنشد عند دخولي الصالون !! فقررتُ في تلك اللحظات، ألا أنشد هذه القصيدة، في حضرة الأستاذ مرة أخرى !! ومضت الأيام، والشهور، وربما قاربت السنة، تقريباً.. فدخلت في حالة، من حالات القبض، تشبه لحدٍ كبير تلك الحالة، التي أنشدتُ فيها القصيدة صاحبة الموقف العجيب، غير أن القصيدة لم تكن في بالي هذه المرة، كما كانت في السابقة !! حضرتُ كالعادة لمنزل الأستاذ، لحضور الجلسة الصباحية، قبل أن آخذ طريقي للعمل بعدها.. دخلتُ والأستاذ بالصالون، وأخي مختار مختار يُدير أكواب الشاي علي الأخوان، والأخوات، ولم تبدأ جلسة الإنشاد بعد.. أحضر لي مختار كوبي، وما كِدت أعدي آخر جرعة، من الشاي، حتي قال الأستاذ وهو ينظر إليَّ نسمع يا عبدَ الله.. فانطلق لساني على غير إعداد مسبق كما كنت أفعل في كثيرٍ من الأحيان ـ انطلق ـ يردد القصيدة إياها: هذه الأثواب، والخلع، تكتسي طورا، وتقتلع...!! وقبل أن أكمل البيت، وردتني كل مشاهد الموقف السابق، فارتبكتُ، وترددتُ.. !! ولكن لم يكن هنا فرصة للتوقف، فقد أكملتُ البيت، وبدأ الكورس في ترديده، ولم يكن من المواصلة بدٌ، فواصلت، حتى ختمتٌ القصيدة، وما كِدتُ أتوقف عن الإنشاد حتى أخذ الأستاذ يردد، في البيتين، إياهم: فاستقم يا من علي خطرٍ، يرتقي حيناً، ويَتَّضِعُ !! والذي تفهمه: فتنٌ !! والذي تعلمه: خِدَعُ !! ثم قال تماماً كما قال في المرة السابقة:ـ كل واحد من الأخوان والأخوات، يقوص جُوووَّه مع البيتين ديل... !! ودخلنا في حالة صمت، رهيب، استمرت، كما في المرة الأولى، أكثر من دقيقة تقريباً.. قال الأستاذ بعدها: الجلسة مرفوعة !!! لم أنشد بعدها هذه القصيدة، غير أني قرأتٌ وفي الصفحة الأخيرة، لمفكرة صغيرة، كان الأستاذ يدون عليها داخل المعتقل، الأخير(يونيو1983 ـ ديسمبر1984م)هذين البيتين: فاستقم يا من علي خطرٍ، يرتقي حيناً، ويَتَّضِعُ !! والذي تفهمه: فتنٌ !! والذي تعلمه: خِدَعُ !! وقد حَبَّرَهما الأستاذ بقلم الحبر، تحبيرًا..