|
في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد )
|
سلام للجميع ... وددت أن أعيد هذا النص لمن فاتتهم مطالعته في حينه ، مع تغيير في العنوان ، حيث تم نشره من قبل بعنوان : ( فلما أن جاء البشير .... ) ... وأنا سعيد جداً بنشره الآن مرة أخري لشدة إشتياقي ولوعتي وحنيني ومعزتي لحبوبتي الغالية المرحومة ( حليمة محمد صديق ) ( بت كللولة ) .. والدة أمي ، الحنونة ، الودودة ، العالمة ، الحالمة ، القطانية ، الأمدرمانية .. رحمها الله رحمة واسعة ، وسلام عليها وعلى كل رصيفاتها وقريناتها ، في العالمين .... آملاً إسعادكم ومشاركتكم سعادتي الغامرة بطيفها اللطيف الظليل الرحيم ،، وبطيف تلك الأيام الجميلة الزاهية الغابرة ، على تلك الجنة الوارفة من عمر ذاك الزمان !
لم أك أعلم بماهية تلك الرسالة القيمة ، وماتنطوي عليها من مفآجأة عجيبة مُذهلة ! يحملها إلي ، مرسال من الشوق الرهيب ، على جناحي أخي الأصغر ( صلاح الدين ) . العائد لتوه من السفر ، حيث كان في إجازة قصيرة بالسودان . حقاً إنها لم تك تخطر على الخاطر ولا على البال ولا على تلك المخيلة الخرِبة التي أكل وشرب عليها الدهر ، ثم نام نومته الطويلة ، التي لطالما أضحت تشبه الموت ! ولم يك لدي أى شعور أو أقل إحساس ، ولاحتى مجرد خيط صغير ، أو بصيص من ضؤ لتخيًلها ! حيث أنها لم تك على البال ولا الخاطر ، ولم تك في الحسبان ! ... ولقد فشلت كل محاولاتي لإستدراج أخي صلاح حتى يبوح بمكنون ماكان يخبئه بين يديه المعكوفتين خلف ظهره ! .... ثم انبرى ممازحاً ببسمته تلك العريضة ، قائلاً : ( والله أصلو ما حتقدر تعرف أو تتخيل الجماعة مرسلين ليك شنو من السودان ! ) بعد غياب لأكثر من ثلاثين سنة في هذه الغربة الكئيبة الموحشة ، التي أكلت الأخضر واليابس ، وتلاشت معها كل الصور والمشاهد والحكاوي ، والذكريات الجميلة القديمة التي ما فتئت أن تسربت رويداً رويداً بفعل الزمن والغياب المرير .. وبعوامل التعرية النفسية والروحية القاسية ، التي ضربت الروح والقلب والفؤاد ، وأدمت هذه المخيلة المُعتمة المُتعبة وشوهت معالمها ، وأفسدت رؤاها وجردتها من من كل أطيافها الحالِمة ، وظلال أشيائها وأطلالِها .. فلم تذر منها شيئاً ، حتى تركتها أرضاً صلدة ، جرداء ، قاعاً صفصفا ! وجعلتها خاويةً على عروشها ( وما خلت فيها نفاخ النار ! ) . هذه الغربة العصيبة الصعيبة التي لا يعلم مداها ونهايتها إلا الله ! .. ونحن لا نعلم عنها ، سوى أنها كانت قدراً محتوماً علينا وعلى أهل السودان ، وكانت أمراً محسوماً !!! بيد أنها لا زالت ناراً مستعرة تتلظى في كل ساعة وكل حين ! ليشتد أوارها ويتأجج غليانها ، وتتكشف في كل يوم عن وجه جديد ! .... بعيداً عن تلك الأيام وعن ذاك الماضي البهيج التليد ! وعن تلك الرُبا البعيدة المرتسمة فوق هاتيك النواحي الفريدة الخالدة ، التي كانت ولم تزل تستلقي بين حنايا الفؤاد ومسام الضلوع ! كبستان أخضر وريف ، مورق ويانع ! وهو يتوسد سويداء القلب ، ويتوهط في تلك الجنة الباسقة المنعمة العريضة التي كانت منبسطة على ضفاف أهلنا الطيبين ، وعشيرتنا السمحة ، وسماواتنا الظليلة ، وأرضنا الحنونة الطيبة السمراء ! أدخل أخي صلاح يده في جيبه مبتسماً ، ثم عاد ليخرجها في حركة سريعة تنم على نية الإخفاء ! واضعاً كلتا يديه خلف ظهره ، وهو ممسكاً بذاك الشىء المجهول المبهم ! ثم قال ممازحاً : ( ما قلت ليك دي حاجة أصلو ما ممكن تتخيلها شنو ! ) ثم أردف قائلاً : ( غمِّض عينك ) هكذا قالها مقهقهاً ....... ولكم أن تتخيلوا كيف يُمكن لشخص كبير في مثل سني ، وقد بلغ من العمر عتياً ، أن يغمض عينيه مستسلماً كطفل صغير ينتظر هديته في يوم عيد ! وما أن أغمضت عيني لبرهة صغيرة ، ما برحت أن تحولت إلى حلمٍ عريض وحالِم وجميل ! وسرعان ما امتد إلى أيام طويلة وسنواتٍ عراضٍ طِوال ! عبرت فيها خواطري عبوراً سريعاً لشتى الأحداث والحكايات والمواقف والصور ! وطاف فيها عقلي طوافاً عميقاً ، وهو يُقَّلِّب في تلك الدفاتر والصفحات الثرية القديمة ... لعله يتنسم أنسامها ، ويرشف من معينها الفياض ، ومن معانيها برشفةٍ تروي ظمأ هذا الفؤاد المهدهد بالأسى والسُهاد ، وجوع النوى ، وعطش البُعاد . وجالت خواطري سريعاً ، وهي تبحث عن رأس خيط أو بصيص من ضؤ ،، أو أى شىء يُمكن أن يُشّكِل تلك المفآجأة الرهيبة المنتظرة ! ..... فماذا ياتُرى يمكن أن يكون ؟! لعله دفتراً من تلك الدفاتر القديمة المُكتظة بالأفكار الساذجة الفطيرة ، أو قصاصات من تلكم الأسئلة الوجودية الحائرة ! وكثير من الحكم والأمثال والفلسفات التي لا تخلو من حقائق ومن قيم ومفاهيم كبيرة قيمة ، كانت مركوزة في قرار تلك الروح العتيقة ، وفي ذاك العقل الحكيم القديم ! ،، ولكنها أصبحت مدفونة بأتربةالأوهام والأباطيل ،، وبأوحال تلكم المخاوف الأزلية ! ..... أو لعلها قصيدة من تلك القصائد الفجة الركيكة البدائية ، التي كانت تعج بها أدراج الدواليب العتيقة ! أم لعلها تلك ( الفنيلة ) الكحلية الشهيرة ، أو شبط الشدة الذي طاف كل أرجاء المدينة القديمة وأحيائها العريقة ، من العباسية إلى الموردة ، مروراً بأبكدوك وحي الضباط وبانت وأبعنجة ، وتجوالاً وذهاباً ومجيئاً إلى العرضة وحي البوسطة ، وفريق السوق والمسالمة والمظاهر ، وحي العرب ، ووددرو ، والقلعة ، والدومة ، والهجرة ، وودنوباوي ، وبيت المال ، وأبروف .. وكل أطراف وضواحي أم در من الفتيحاب وحي الصقور وأمبدة والمهدية ! .... أم هو ( حذاء الباتا ) القديم المهترىء من لعب الدافورى ،، والمرمي في قعر الزقاق ! وما أن أوشكت أن أفتح عيني ، حتى أحسست بطقطقة ذاك الشىء ، وخشخشته أما أنفي ،، وبصوت صلاح أخوي وهو يقول : ( كدي بإلله شم الريحة دي ، وحاول شوف بتذكرك شنو ؟!! ) .... ويالها من رائحة ذكية مُبهجة فريدة ! تلك التي أنعشت في ، ذاكرة كل تلك السنين الغابرة العامرة ! حينما ذكمت أنفي بعطرها الفواح العجيب الفريد ! الذي طار بفؤادي وبعصافير روحي ، وحلَّقَ بي فوق سماوات رحبة فسيحة من ذاك الماضي الحافل البهي البهيج ! ... وانطلقت بي حتى سرحت مسافراً عبر تلك الدنيا المخملية ، الهانئة ، الحالِمة الندية ،، على تلك الحقبة الجميلة ، وذاك الزمان البديع المجيد ! ..... فما كان إلا أن إرتعشت حواسي ، وارتعدت فرائص عقلي ، وروحي المكلومة ،، وارتبكت خواطري ، وتلخبط كياني ، و ( جاطت ) كل حواسي ومشاعري وأفكاري من فرط تلك الرائحة العطِرة الذكية الخرافية ، ومن فوحان عبقِها المعتق بروعة ذاك الزمان ! لم أستفق من غمرة نشوتي تلك ، إلا بصوت ( صلاح ) وهو يُفصح عن سر ذاك الشىء المُفاجىء ، وهو يقول : ( دي سبحة حبوبتك حليمة ! ) ........ فيا لها من مفآجأة مُذهِلة ! جعلتني أفتح عيوني متشوقاً متلهفاً ومنبهراً ! ولم أعي بنفسي وأنا احتضن تلك المسبحة المضيئة الفريدة التاريخية ! بفصوصها الأبنوسية اللامعة المتلألئة ، وبألوانها اليانعة المشعة ! وسرَّت بجسدي قشعريرة طاغية ونشوى رهيبة غامرة وعارمة ! فعُدت على إثرها تارةً أخرى ، مُغمض العينين ! وارتديت بصيرا ، لأرى بأم عيني ، وبأنوار قلبي وفؤادي ، فيض عشقها الكبير الخرافي ! هاهي ذاتها ( حبوبتي حليمة ! ) وهي متربعة على عرش ( بنبرها الوثير ) ، حية ، نضرة ، زاهية ، ومفرهدة بحيويتها المبهرة ، ورونقها المُهيب ! وبشحمها ولحمها الغض الندي ، وبطلعتها البهية ! .... ومن ورائها وحواليها ذلك العالم الملائكي العلي .. وتلك الدنيا العامرة المسالمة الثرية ! قالت لي ، وهي تُهبهب النار من على كانون منقدها المتقد : ( أكُب ليك الشاي يا عشاي ؟ ) ... فسمعت ذاك الصوت الرحيم ، وأنا في غمرة حلمي ، وفي أوج سمعي البصير ! وشممتُ رائحةَ ذاك السمن البلدي الأصيل ، التي كانت تفوح من زجاجة كانت بجانبها ، فتختلط بذاك الحليب الساخن ( المقنن ) .. وبضع لقيمات مغمورة بالزيت ، تصطلي على قدح نار موقدها ، وتداعب أنفي برائحتها المنعشة المشبِعة ! ... وثمة ديك أبيض بدين مدلل ، وهو يصيح ، مزهواً بنفسه ، وبصوته الواثق المُترع الرخيم ، معلناً عن جمال ، وعن وروعة تلك الحياة ! ... وثمة دجاجاتٍ مُترفات ، يمرحن وهن مُتباهيات بألوانهن الزاهية المزركشة ، في فرحٍ وهناءٍ وحبور ،، مابين بيضهن المنثور ، وكتاكيتهن الفرِحة الوديعة السعيدة . سكبت حبوبة حليمة الشاي ،، فجلسنا نحتسي خمر عشقها الأزلي ، ونحن نرقب في ركن حوش تلك الدار الرحِبة العامرة الثرية ، معزةً جميلة ، رشيقة ، معافية ، وهي تُناطح أختها في فرح ومرحٍ ووداعة ، وفي سلام !
وحينما جنَّ ليلُ ذاك اليوم ،، أبصرتُ فيما أبصرت تلك المسبحة المُشعة المُضيئة ، وهي تلمع في البعيد ، وتبرق ما بين أنامل أمي الحبيبة حليمة ، كنجماتٍ تكاد تهطل من بحر السماء !
تمت .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 08-30-12, 00:20 AM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 08-30-12, 06:14 AM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 08-30-12, 06:52 PM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 08-31-12, 01:11 PM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 08-31-12, 06:26 PM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | سلمى الشيخ سلامة | 09-01-12, 03:12 AM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 09-01-12, 01:46 PM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 09-01-12, 03:19 PM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | سلمى الشيخ سلامة | 09-01-12, 04:28 PM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 09-02-12, 11:38 AM |
Re: في ذكرى حبوبتي حليمة ، من على بنبرها الوثير ! ( نص معاد ) | مامون أحمد إبراهيم | 09-03-12, 09:27 PM |
|
|
|