|
Re: ايميل اكتر من رائع......خواطر ونقيب بين النشوق والدمر (Re: علي الكرار هاشم)
|
مسك القبلة في كوع الشمال برّاقِك قشّط سدرو في عامر سحابو وساقِك تبّونك قرّنن والسيل دهك شقاقِك الضايق نشوقك حار عليهو فراقِك
فمن يجرب النشوق و حياة البادية عموماً سيظل يحن إليها كلما لاح برق أو " واوا ونقيب" في فيافي البطانة وشمال كردفان فلله درك يا ود الشلهمة وأنت تعبر عن هذا الإحساس بقولك (الضايق نشوقك حار عليهو فراقِك) وكلنا ذلك الرجل نظل نحن إلى تلك الأيام الرائعة التي ظلت منحوتة في الذاكرة على الرغم من البعد وتبدل الظروف والحال. ولعل هذه الكلمات ( النشوق والدمر) قد لا تكون مألوفة لدى كثير ممن لا يعرفون مدلولاتها الأدبية وما تنطوي عليه من إشارة إلى نشاط بشري ظل يحكم حياة أهل البادية في مناطق عدة من السودان خاصة في باديتي البطانة و شمال كردفان حيث كان النشاط الاقتصادي حتى وقت قريب يعتمد على الرعي بالدرجة الأولى. و لا يزاول الناس هذه الحرفة من أجل كسب العيش فحسب بل يفعلون ذلك إشباعاً لرغبات موروثة ترتبط بطبيعة الإنسان العربي البدوي وتركيبته النفسية التي لا تنفك تعشق الترحال عبر الفيافي الواسعة دون قيد، بحثاً عن الماء والكلأ من أجل راحة أنعامه وماشيته. يقول شاعر البادية يوسف البنا في الإبل " جقلة":
يوم عُقداها طربانين فراحه يهويتو ويوم بتسادِر الوعر المكاجره يويتو يوم مقروعه فوق تَباً صافيه نقعت مويتو يوم حازمها كِيراً راش بولو فوق هبويتو
هذه التحركات ليس مجرد نشاط رعاة يجوبون الصحراء بل هي منظومة اجتماعيه تحكمها و تنظمها جملة من التقاليد والأعراف القبلية التي يجب على الجميع التقيد بها واحترامها في كل الظروف والأوقات. وهنالك ما يمكن أن نسميه هرم إداري يتم اختيار أعضائه حسب معايير دقيقة جداً وليدة التجربة والخبرة وحسن التصرف والقيم الأخرى مثل الشجاعة والكرم وسعة الصدر وحسن التدبير والحنكة. ومن ذلك على سبيل المثال أن العرب مع بداية موسم الخريف يعقدون اجتماعاً لاختيار " دليل" وهو الشخص الذي يحكم في الأمور التي قد تنشب بين الأفراد وهو منصب أو لقب لا صلة له بالإدارة الأهلية أو الحكومية، بل تختار كل مجموعة شخص من ذوي الخبرة ليكون مرجعاً لهم في أثناء تحركهم وهو الذي يمثل تلك المجموعة أمام الأطراف الأخرى في حالة حدوث نزاع أو خلاف، وتسند إلى الدليل و بعض كبار السن مهمة وضع خطة سير المجموعة وتوقيت ترحالها وتكون كلمته مسموعة لدى الجميع كما يجب احترام قراره الذي غالباً ما يتخذ بعد التشاور مع الكبار.
الساريه البولول برقها اللمّيع أصبح ماها راقد فى الرمال والقِيع دليل الهبرب السنتينى ما بتطيع أصبح سرجو فوق واحداّ هميم وسريع
فمعنى النشوق هو الرحلة التي يقوم بها رعاة الإبل وربما البقر والأغنام في أول موسم الخريف نحو الأماكن التي تهطل فيها الأمطار مبكراً فينبت العشب وتخضر الأرض ويتوفر الماء ويترك العرب أسرهم في مناطق الدمر ويرتحل الرجال فقط. في شمال كردفان كان رعاة الإبل يتحركون جنوباً مروراً بمنطقة أبو سنون وأم صميمة في دار البديرية، وعيال بخيت والخوي في دار حمر وتستمر رحلتهم قرابة ثلاثة أشهر يصلون خلالها حتى بت أم بحر وهي منطقة تجمع مياه معروفة( أضاة).
ثم يعودون نحو الشمال بإتجاه الظليط والضليل وتنه وجرقل وأبو عسل وسودري وكاجا و كتول والسروج والحمرة وربما يتجهون غرباً إلى وادي الملك و شرق ميدوب و يواصلون الرحلة إلى الصحراء الكبرى لرعي نبات الجزو في فصل الشتاء ثم يعودون إلى مناطق الدمر مع بداية الصيف.
ومن جاتهن هبيب السافل المنقدا
جنىْ ود جوده عايط (للقبيلى) وشدا
بت دعتوره ما بترضى ال###### والردا بتدور تانى بى ود اللبيب الصدا
وفي الوقت الراهن تغيرت هذه الرحلة نحو الشمال نظراً لبعض الظروف الأمنية فصار العرب يتوجهون شمالاً نحو الصافية وأبو عروق وعد المرخ وقِمِر وعيلاي في بادية الكبابيش والهواوير ويواصلون الترحال شمالاً حتى غرب دنقلا. إن فترة النشوق هي الأكثر إثارة إذ يكون فيها فراق الأحبة والأهل مما يشكل مصدر إلهام لكثير من الشعراء والشاعرات. وتحدث أثناء النشوق أنشطة كثيرة منها ما يعرف " بالدور" وهو الركوب على الجمال السريعة في مجموعات في غالب الأحيان بحثاً عن مرعى أو فلاة أفضل وهي أشبه ما تكون بسباق هجن لمسافات طويلة يظل العرب يتحدثون عنها في مجالسهم و يمدحون الجمل الذي فاز أو سبق في تلك المناسبة وهم لذلك يدخرون جمالاً بعينها لتلك المنافسة لما تنطوي عليه من متعة وشهرة؛ ليس هذا فحسب بل إنهم يؤرخون بمثل هذه الأشياء فيقولون مثلاً " سنة كذا أو سبقة جمل فلان" وهذا يدل على أهمية هذا المنشط البدوي ودلالته بالنسبة لسكان البادية. يقول شاعر البطانة الكبير يوسف البنا:
لَوَتْ الناقة فوق القش زمن ما شربت
راتعة مفرقة ومردومة سيجةً خِرْبَت
جمل دورها أنطلق طول مقيم ما كَرْبت
ماصعها ألفح رقّ أب هدرة طِرْبت
|
|
|
|
|
|
|
|
|