العم محمود ، اذكره كما احرفي هذه ، فرقتنا ظروف الزمان بعد جيرة سنوات طوال ، تذكرته البارحة والأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات وصف في ورشة بوزارة العدل المؤسسات الصحفية بالكناتين ولم تصدق صحفنا خبرا (مانشيت) ومحمود صديقي صاحب كنتين في احد الاحياء الام درمانية العريقة ، ورغم الفارق العمري ، كنت ضيفا راتبا على العم محمود في كنتينه لعشرة ونسة ، فقد كان ، ولا ادري اين هو الآن في الزحام ، مثقفا ككل اصحاب الكناتين الشهيرة في مختلف احياء واسواق المدن والقرى السودانية ، فصاحب الكنتين في القرية او حتى المدينة البعيدة عن العاصمة في الزمن الجميل الماضي ، كان مركزا للثقافة والمعرفة لإقتنائه للراديو التقليدي الخشبي ، ودونما اتفاق ، فان كافة اصحاب هذه الكناتين يضعون الراديو
في سطح خزينة المال المبارك بقلته ، ولعل خزائنهم لم تكن لاكتناز المال انما هي (سحارات) سودانية لحفظ كل شيء عدا المال. ?{? وعند صاحب الكنتين يطالع الناس من صحيفة ذكراة استماعه للراديو على مدار اليوم ، الاخبار والمعلومات وما يجري من حولهم ، فضلا عن ذلك فانهم في اوقات فراغهم يتجمعون عند صاحب الكنتين لعشرات الونسة والاستماع لما يحمله الاثير عبر الراديو ، ودراما دكان او كنتين ود البصير بالاذاعة السودانية ، توثق بجلاء لثقافة الكناتين واثرها العظيم في مجتمعنا في الزمن الجميل ، ففي هذه الدراما تتجلي عبقرية أستاذنا الدكتور عبد المطلب الفحل ، وفي كنتين العم محمود وبينما كنت طالبا في المرحلة الثانوية العليا بالمؤتمر الام درمانية العريقة ، تلقيت دروسا مجانية في الثقافة والمعلومات العامة ، وان انسى لا انسى يوما سمعت فيه صوت العم محمود يردد: (سراييفو .. سراييفو) وظننت ان امرا جللا ذهب بعقل صديقي ، ومساري لكنتين العم محمود كان يحتم المرور بجنب حوائط المنازل المجاورة ، فهو لا يتمكن من رؤية زائره ، الا بعد ان يقف امامه ، فكنتينه الصغير مطل على شارع اسفلت ام درماني صغير. ?{? في بعض سنوات تلك الحقبة الجميلة ، عاصرنا وتابعنا ازمة يوغسلافيا (الممكلة) حتى تقطعت اوصالها نتفا وانفصلت لدويلات صغيرة ولم نظن يومها ان ذات المصير في انتظار السودان الكبير ولم تكن هناك جنس التعقيدات الحالية السياسية والامنية والسكانية والاقليمية والعالمية والتحولات الخطيرة في كل شيء ، وكانت (سراييفو) يوغسلافية الاصل والنشأة من الاسماء التي تتردد في الاثير عبر راديوهات الكناتين ، والعم محمود كان من المتابعين لهذه المرحلة الانفصالية التشرذمية وكأن إحساسه يحدثه ان السودان بجنسها موعود بقراءة تحليلية كانت مبكرة تشف عن عقلية صاحب الكنتين ، ولما بلغت (كاونتر) كنتين العم محمود ، لا زال يردد جهرا (سراييفو .. سراييفو) لم يطل تعجبي حتى ابلغني العم محمود انه معجب جدا بإسم سراييفو وموسيقاه لتردده في كل نشرات الاذاعات المحدودة في ذلك الزمن ولكن غير معجب بالنزعات الانفصالية. ?{? وإني لأربأ بالاخ الامين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات ان يستمر في شغل المنصب غير مرة ولعله دون الآخرين طال عهده بهذه المهمة ، والمحصلة النهائية الوصف الذي اطلقه على المؤسسات الصحفية الحالية بانها مجرد كناتين ، وبوصفه هذا فان الاخ الامين العام ظلم تاريخية الكنتين واثرها في الحياة السودانية على النحو الذي اشرت اليه خطفا ، فأصحاب الكناتين ربما حتى اليوم ، ارفع ثقافة ومعرفة من منتسبين لمؤسسات صحفية بسبب تضييق الخناق عليها حتى اصبح الاصل تحريم حتى (الحلال) عليها، فالصحف السودانية الوصف الذي يليق بها وكان حريا بالاخ الامين العام ان يطلقه دون ان يرتد اليه طرف بانها شواطين خرساء عن قول الحق ساكتة ، ليته وصفها بهذا حفاظا على صورة صاحب الكنتين الثقافية بالفطرة السودانية ، اما عشوائية (الكنتين) التقليدي التي قصدها الامين العام بالوصف ، انما كانت لضيق ذات اليد ، وللمفارقة فانها رغم الضيق الراهن ، فانها يد تملك الآن سوبر ماركت التحرير الاقتصادي الذي يغني السارقين والمفسدين ويفقر الشرفاء المتعففين. ?{? كان دفاعا عن ثقافة الكنتين التي ربما لم يقصدها الامين العام للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات ، ولكنه ليس نفيا للوصف ان كان المقصود عشوائية الكنتين المقبولة فى ظروفها واوضاعها الوقتية ولم يكن بالامكان احسن مما كان ، اما المؤسسات الصحفية الحالية منتهى العشوائية ، ووصف الامين العام اعتراف صريح بمشاركته واسهامه والمجلس القومي للصحافة والمطبوعات ، في حالة التردي المريع في العمل الصحفي ، فالكادر البشري حدث ولا حرج ، وكل من اراد يؤسس مؤسسة بل كنتينة صحفية ، فما عليه الا ان (يترسمل) وفقا للقانون لتأسيس كنتين صحفي يفتقد لأهم مكون وهو من امثال العم محمود ووجوده داخل الكنتين وحتى في الكنتين الكبير الذي يؤسس لتطور هذه المهنة ، وعليه فان كانت المؤسسات الصحفية مجرد (كناتين) طبقا لوصف الامين العام ، فان المجلس القومي للصحافة والمطبوعات ، هو الكنتين الكبير ، ففي الوصف اعتراف بفشله في مهمته الاساسية ، وهذه مصيبة عظيمة ، وفي استمراره لكل هذه السنوات غض الطرف عن المحصلة النهائية ، فان المصيبة أعظم. كنتين آخير: الى متى إدمان الفشل الذي نتبادل فيه الادوار؟حواء ولود ولكن متى نتأدب ونتأسى بفقه الفسح في المجلس والكنتين؟.وبالله التوفيق
عمود اجراس فجاج الارض للاستاذ عاصم البلال الطيب مدير اول التحرير بصحيفة اخبار اليوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة