هل تصنع البدل العسكرية والخيوط الذهبية اللون و قطع النحاس التي تصنع منها النجوم والسيوف التي ترمز للرتب العسكرية قائدا فذا؟ هل تصنع ألقاب الرتب قائدا عسكريا؟
دارت في عقلي هذه الأفكار وأنا أشاهد دعاية الممثل ساشا بارون كوهين لفيلمه الكوميدي الجديد الذي يمثل دكتاتور عسكري من منطقة الشرق الأوسط، وقد صنع لنفسه بدلة زينها بكمية من ألأوسمة والنياشين وشارات الرتب العسكرية تنوء بحملها العصبة أولي القوة لينقل للمشاهد فكرة أساسية: أنك عندما تقود شعبا متخلفا أغلبه من الأميين فإنك لا تحتاج لأن تكون ذكيا عبقريا عالما لكي يقتنعوا بك قائدا لهم، كل ما تحتاجه هو بدلة عسكرية يخطف بريق نياشينها الأبصار، ولقب ضخم مثل لقب مشير يؤكد لهم أنك صاحب أكبر قدرات قتالية استراتيجية وتكتيكية وسياسية وعندها سيتبعونك كما يتبع قطيع من المعيز التيس الأكبر!
طبق تلك النظرية سابقا عيدي أمين فأسبغ على نفسه إضافة للقب المشير لقب الحاج والدكتور وأضاف بوكاسا لألقابه لقب الإمبراطور، وسمى صدام حسين نفسه المهيب الركن وهو رجل لا علاقة له بالعسكرية، و كل ذلك لم يجعل منهم قادة عسكريين أفذاذ بل جعلهم يكذبون كذبة ويبرعون في تمثيل الدور الذي تمليه البدلة ذات النياشين براعة تفوق براعة الممثل ساشا لكن مصيبتهم كانت أنهم بمرور الزمن صدقوا الكذبة التي كذبوها واقتنعوا هم أنفسهم بأنهم قادة لم يأت التاريخ بمثلهم، وهكذا جروا أنفسهم لمعارك هائلة وهم تحت ذلك الوهم المسكر، لكن ما انطلقت المعركة ودخلوا طريق اللاعودة حتى اكتشفوا أنهم مجرد أناس عاديين متوسطي الذكاء وأن قدراتهم على قيادة المعارك التي تتطلب قدرات عقلية هائلة في التحليل تزيد كثيرا على ما يتطلبه علم الرياضيات وحتى لعبة الشطرنج لأن لتلك العلوم قوانين محددة في حين أن قوانين المعارك لايحصرها عدد، اكتشفوا أن قدراتهم تلك لاتزيد عن قدرات إنسان عادي متوسط الذكاء، بل أن ذكاءهم نفسه انحسر بفعل التقدم في السن وتلك حقيقة طبية معروفة أن ذكاء الإنسان وذاكرته وكفاءته العقلية تقل كلما تقدم في السن، لكن شهوة التشبث بالحكم والكبرياء جعلتهم يظنون أنهم من صنف فريد من البشر، صنف يزداد عبقرية وقوة وحيوية كلما تقدمت به السن، فكانت النتيجة أن انتهوا جميعا نهايات مأساوية ودخلوا التاريخ من أسوأ أبوابه وأصبحت حكاياتهم تتناقلها وتضحك منها الأجيال وأصبحوا مصدر إلهام دائم لأمثال الممثل ساشا الذين حولوهم إلى كوميديا مضحكة في نظر الشعوب الراقية التي تبلغ فيها نسبة الأمية صفر في المائة ليضحكوا على مآسي الشعوب المتخلفة الجاهلة، ولكن في نظرنا نحن المحكومين بأمثال عمر البشير فإن ذلك يجعل حزنا هائلا يجثم على صدورنا حزن لا يزيله البكاء وسكب الدموع!
في تاريخ العالم عباقرة لم تكن لهم علاقة بالعسكرية لكنهم حين تصدوا للقيادة أتوا بأفكار عبقرية خلاقة قادتهم لتحقيق انتصارات هائلة بإمكانيات لا تتيح ولو جزء صغير من تلك الانتصارات، فلكل قاعدة شواذ، ولكن بكل تأكيد لم يكن بوكاسا أو عيدي أمين أو صدام حسين واحدا من أولئك القادة، وبكل تأكيد عمر البشير ليس واحدا منهم. هل نحتاج نحن معشر الملكية المهمشين في السودان لأن نحمل درجة الدكتوراة في العلوم العسكرية لنكتشف أن عمر البشير قائد فاشل؟ بالتأكيد لا! فالمريض صاحب الحالة المستعصية حين يتردد على عدد من الأطباء ويشخص كل منهم مرضه تشخيصا خاطئا ويعطيه علاجا لا علاقة له بالمرض فتزداد حالته سوءا حتى يشرف على الموت، ثم تقوده العناية الإلهية أخيرا لطبيب حقيقي يشخص حالته تشخيصا صحيحا ويعالجها سريعا، مثل ذلك المريض لا يحتاج لدكتوراه في الطب ليعرف الفرق بين الطبيب الماهر والطبيب الفاشل، ونحن في السودان ظللنا نراقب معارك عمر البشير منذ سنة 1989 حين بشرتنا ثورته المزعومة بالقضاء على التمرد الذي فشلت حكومة الملكية في القضاء عليه فاستدعى الأمر تدخل القادة الحقيقيين من العسكر أصحاب النجوم والنياشين، وها نحن بعد ما يقارب ربع القرن نظل نشاهد نفس مسلسل الهزائم المتلاحقة الذي لم يقسم وطننا لبلدين فحسب، بل هاهو يفتح لنا صفحة معارك جديدة تستمر لعشرات سنين قادمة، معارك بالطبع لا يصلح للقيادة فيها سوى الرجل صاحب القدرات الخارقة والألقاب الفخمة المشير البشير، معارك ستستنزف كل دينار ودرهم من ميزانية بلد فقير. هل نحن خونة موالين للأعداء حين نتذكر أن قائدنا هذا لم يتسلم منصب القيادة بعد أن اجتاز امتحانات ذات مستوى عالمي أثبتت امتلاكه قدرات القيادة بل أنه أتى بانقلاب عسكري وأنه طيلة ما يقارب ربع القرن ظل يقودنا من هزيمة لهزيمة ومن معركة خاسرة لمعركة أشد خسارة؟ هل نحن خونة حين تدور في عقولنا أفكار أن دور هذا الرجل قد انتهى وأنه لاشك أن في السودان قادة عسكريين ومدنيين ذوي ذكاء هائل وقدرات قيادية تتفوق كثيرا على من سرق منصب قيادة بلدنا وأن هناك مثل سوداني يقول “ حواء والدة”؟ صحيح أن خسارة معركة لاتعني خسارة حرب لكن عمر البشير لم يخسر معركة بل خسر حربا حين انفصل الجنوب وهاهو يدخل حربا خاسرة جديدة ونعود لنقطة البداية مرة أخرى!
عمر البشير لا يقود معركة في لعبة فيديو، بل هو يقود معركة حقيقية مات فيها أناس حقيقيون وتقطعت أوصالهم وتعوقوا وتشوهوا وتيتموا! شهوة السلطة والشعور بالذنب الناجم من المعرفة بالجرائم التي ارتكبت في حق الأبرياء تقود عمر البشير في نفس طريق بوكاسا و عيدي أمين وصدام حسين وموسوليني وهتلر، فهل نظل نحن نتبعه حتى المصير المحتوم؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة