حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توثيق..

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 05:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-28-2012, 10:32 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث (Re: الكيك)

    أرق على أرق، نصال على نصال، وما زلنا نبالي (1) حول فاجعة حميد

    رباح الصادق المهدى


    قال أبو الطيب المتنبي رحمه الله: أرق على أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق، وقال:
    رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
    فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ
    وهانَ فَما أُبالي بالرّزايا لأنّي ما انْتَفَعتُ بأنْ أُبالي
    ولكنا لا زلنا نبالي! كم كانت فجيعتنا برحيل فقيد البلاد الأستاذ محمد إبراهيم نقد كبيرة، وقبلها بيومين شاعرنا محمد الحسن سالم حميد، وبنحو شهر فنان أفريقيا والسودان محمد عثمان وردي. نعم تكسرت النصال على نصال وطن تتقطع أوصاله ويجفوه الدعاش وترحل عنه نسمات الشمال بعد أن هجرته خفقات الجنوب. فهل كنا نبكيه أم حميدا أم نقدا؟ كلما رحل وطني صميم وجدنا الحزن أكبر من شخوص مهما كانت عزيزة حبيبة، ألا يا مناحة هذا الوطن وسرادق عزائه المفتوح متى يُرفع هذا الفراش الممتد، لأنه لم ينته العزاء بانتهاء مراسم الدفن!


    في تشييع جثمان حبيبنا حميد تقاطر الآلاف هرعوا مسرعين إلى مقابر (البنداري) بالحاج يوسف بعد إفادات متضاربة حول موضع الدفن، ولكن ما أحد استطاع أن (يداري) ألمه والفجيعة. أسجوه هناك على «عنقريب» أزرق، نعم، أزرق كما لون السماء، وأودعوه لحدا يجاور حقلا مخضرا بالزرع، لو كان حميد حدّثنا يومها لعبقر من عبقرياته، والبركة في صاحبه الشاعر محمد طه القدال الذي كان حاضرا منكسر الخاطر مذهولا كما الآلاف المتقاطرين، وكلماته تحوم في رؤوس وتجد طريقها لكراسات كثيرة نعت حميد بقصيد القدال: يا حميد أقيف شوف الخلوق محنانة/ كفكف دمعتك والعبرة فوت خنقانة/ عسلك سال بحر فوقو النحل ونّـانة.. نعم سال عسل حميد بحرا، نعم كانت الخلائق «محنانة» ولكن كانت دمعتها لا تكفكف.


    تلوا عليه البرّاق من أوراد الطريقة الختمية ورفرفت أعلامها وأعلام السودان القديم الذي صار رمزا للحزب الاتحادي الديمقراطي، وافتقد الناس علم السودان الحالي (الذي يحمل العبء ويحمي أرضنا)، وقد كان حميد سودانيا قحا لا يؤطر في شمال ولا يحشر في حزب مهما انتمى إليه وشارك في مرجعياته وامتدح زعيمه الميرغني بقصيدة (عودة وفودة) بمناسبة عودته للبلاد عام 2008م، وفيها: ياتُو ديموقراطية بتَبْقى/ وين حُرية بدونَك تلقى/ لونا اللَّحَمَر زي الطلقة/ كُونا اللَّخَدر تُوب المَرْقة. ومع أن حميدا قرن الميرغني بلون الحرية الأحمر- وللشاعر قراءاته الباطنية التي لا يمكن مغالطتها- إلا أن اللون الأحمر غاب يومها لأن علم السودان غاب! قلت في حسرة ليس لها إلى الحزبية سبيل، لأني وكثيرون إذ هرعوا يودعون شاعر الوطن والكادحين لم يلتقوه إلا في شارع الوطن العريض، لم يجمعهم به حزب يوما سوى حزب السودان، قلت: حبذا لو دثر حميد بعلم السودان ورفرف إلى جوار أعلام حزبه وطريقته، لا مغالطة في أنه اتحادي وختمي ولكنه غرد بآلام هذا الشعب بأكثر مما غرد لحزب أو قائد، وفي أشعاره هدايا لأحزاب أخرى، وأروع منها هداياه للوطن.


    ومن أبلغ ما كتب حميد عن الوطن وآلامه وآمال المظلومين والكادحين، قصيدته (عم عبد الرحيم) التي تغنى بها الراحل المقيم الفنان مصطفى سيد أحمد فصورت معاناة العامل البسيط من (الحال الحرن) ومأساته يوم دهسته (دورية الكجر). حسرة مودعي حميد يومها كانت مخلوطة بما وصفه في حسرة الأطفال والطيور والبحر من حادث عم عبد الرحيم الـ(كمّين بشر): سال الدم مطر/ طارت دمعتين وإنشايح وتر/ يا طاحن الخبر/ ما بين القضا ومَرْحاكة القدر/ الشِّهدوا الدموم والدمع الهَدَر.. إلى آخر تراجيديا عم عبد الرحيم.
    لقد شكلت أغنيتا (عم عبد الرحيم) لحميد و(عمنا الحاج ود عجبنا) للأستاذ أحمد الفرجوني ملحمتين أساسيتين من أدب المقاومة الذي تقلده الراحل المقيم مصطفى سيد أحمد في أوائل سني «الإنقاذ» وكانتا ممنوعتين من التداول ولكنهما سريتا في شرايين المجتمع السوداني مع الأوكسجين. وأذكر أنني سمعتهما لدى أمي سارا الفاضل رحمها الله، وكم احتفت بهما مع أن ذائقتها الغنائية كانت محصورة غالبا بغناء الحقيبة ولم يكن مصطفى ضمن مزاجها، إلا أن هموم الشعب السوداني، وعم عبد الرحيم، أدخل (مصطفى) إلى أذنها ضربا من الغناء الصادق الباسل المقاوم الجميل، ومثلها كثيرون.


    قال الأستاذ والعم السر قدور يوما: إن القصيد القومي (بالعامية) يموت إذا لم يـُتغن به، وذلك لأن الشائع كان طبع قصائد الفصحى وحدها ومن ثم حياتها في الكتب والأضابير بينما تحفظ الأشعار العامية في الأغنيات، ولكن يمكننا القول إن مدرسة حميد والقدال جعلت للشعر العامي حياة خارج اللحن وداخل الأضابير، وفي شرائط الكاسيت ومقاطع الفيديو والأقراص المدمجة، وهذه النقلة التي قاموا بها تشكل تطويرا لأدب المسدار وأبطاله أمثال الحاردلو وود شوراني وود ضحوية وود الفراش، فالمسدار كان يحفظ برغم طوله وبالرغم من أن اللحن الذي كان ينشد به ليس غنائيا، وما أضافه حميد وصاحبه في هذه النقلة تحميل الصور والأخيلة والخبرة الشعبية بمفاهيم فلسفية عميقة وحديثة، ونحن لا نعتقد أن شعر أصحاب المسادير كان خلوا من فلسفة ولا خبرة ذاتية، ولكن خلطة شعر حميد وصاحبه برأيي موغلة في التجديد برغم لباسها العتيق/ اللغة. فأن تحمّل لغة أهلنا البسطاء مضامين الانعتاق والحرية والعدالة بذلك الشكل الباذخ وبذلك الحس الملهم هي نقلة تحتاج لعبقرية فذة، مثلما كان حميد.
    وهو إلى تلك العبقرية متواضعٌ أشد ما يكون التواضع، دخّال لبيوت السودانيين مرحاب بهم في بيته، قال: كل بيوت الفقرا بيوتي. ولو لاقيته بعد إذ خبرت عبقريته لتعجبت منه ألا يعلم من هو؟ ثم إن نظرت عرفت أنما التواضع من شيم الكبار، وأنه ما من متكبر متعجرف إلا لخواء وصغار.
    وحميد شاعر من النوع الثاني في الشعراء، وقد وصف المولى عز وجل الشعراء في كتابه الكريم: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ *إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين كفروا أي منقلب ينقلبون) فهو من الشعراء أصحاب القضية الذين صبروا وظلموا لأجلها، وصاحب القضية يكون دائما خلفها وأمامها مغردا ومتوجعا. فإن غير موقفه من سلاح أو غير موقعه من الميدان فهو دائما يقصد ويؤم الوطن.


    وسواء قال حميد بالنضال الدامي: (سني على النضال أيدي/ سوكي بالهتاف فمي/ شوارعك لي دويها على/ إذا ما آخر العلاج الكي/ مراويدك حمر يا أمي)، أو تغنى مترقبا لنهاية المواجهات الدامية: (أرضا سلاح/ ترحل هموم/ تنصان دموم/والبال يرتاح)، فإنه كان دائما ينشد ويعمل من أجل ذلك الوطن الجريح، قالها وهو يخاطب أمه: وطنى ولا ملى بطني/ سكاتى ولا الكلام الني / بليلتي ولاضبايح صي/ قليلتي ولا كتر سمي/ سلام يا أمي. ورحل وهو يقصد المشاركة في الاحتفال بعيد الأم في 21 مارس.
    ونحن كلما نظرنا إلى الوطن وحاله إذ تتربص به دوائر عديدة من حكام يتشبثون بالكرسي ولو على جثة وطن، وأجانب يترصدونه بالشمال واليمين، ومغبونين لا يأبهون إن كان فش غبينتهم بدماره، وهائمون لا يحسون بضرره وضراره، نتذكر قصيدته الرائعة: طاير طيب وصيادين: في إحدى الجزائر والعيش مو ضنين/ صياد عن شمال وصياد عن يمين/ في ذات قرصنة/ نشّنوا نحو طائر غرقان في غنا/ الطاير نفد/ وطلقة داك في دا/ فالك يا بلد! فهو يتمنى للبلد أن تنجو دائما من المتربصين بها دوائر السوء.
    سلام على حميد في العالمين، ورضوان الله ومغفرته ورحمته تغشاه، وتحقق فأله لهذه البلاد التي أحبها وأحبته، وضمها بقصيده فضمته بمحبة الشعب التي لا تنقطع ولا تتبدل.
    نواصل بإذن الله حول فاجعة الأستاذ نقد،
    وليبق ما بيننا


    ----------------

    آخر حوارات الراحل حميد مع (الرأي العام): الشعر العامي يرقى الى مصاف العالمية

    حاوره في أبوظبي : الشفيع عمر حسنين

    بالرغم من أن هذا الحوار مرّت عليه فترة، إلا أن ما حواه من موضوعات متجددة، أعطى فيها شاعرنا الكبير الراحل محمد الحسن سالم حميّد آراء جريئة ومفيدة، مسحت كثيراً من «غشاوة» المعرفة والوعي لدى الكثيرين ممن يقيمون تجربته، وتغيب عنهم آراؤه. حميد، في هذا الحوار الأخير الذي نشرناه له، أفصح عن كثيرٍ من الأشياء، وقال رأيه في تجربة الراحل مصطفى سيد أحمد، مؤكداً أن الأرض التي أنجبته ستنجب غيره، كما تحدث عن الشعر السوداني بصورة عامة، حيث يتسق رأيه مع ما أصبح في البلاد من اهتمام كبير بالثقافة على أعلى المستويات، وفتح الباب أمامها، ختاماً للمقدمة، نقول لا يحتاج عزيز الوطن الراحل حميّد منا لمقدمة، فالرجل عرفه الناس منذ زمنٍ ليس بالقريب، مبدعاً كبيراً، وحاملاً هموم الوطن حتى في منامه، وهذا ما كان هو سبب الحوار المفصل هذا، والذي ننشره وفاء له بعد رحيله، ولتكون ما أدلى به من آراء خير معين لجيل مقبل يحمل هموم الوطن كما حملها شاعرنا الكبير الراحل، وكأنما كان يعرف موته، وأن سيرة المبدعين ومن يحبون الوطن ستستمر ولا تتوقف، كما تحث بذلك عن تجربة رفيق دربه مصطفي سيد أحمد.


    تميز شعر محمد الحسن سالم حميّد ـ كما شخصه، بالبساطة والوضوح، ينفذ شعره الى الناس بسهولة، وينتقى مفردات يومية متداولة معبراً ومفصحاً عن طاقة شعرية هائلة. تجلس اليه فلا تحس الا بتلك النكهة السودانية الطيبة الأصيلة. كتب الشعر كثيراً وطويلاً، مستخدماً شخصيات حقيقية من الواقع البسيط أعطت مطولاته الشعرية طعماً ولونا مميزين يعرفانه الناس على الفور، وحمتها من الملل. كتبت عنه الكثير من الدراسات المتخصصة. سئل مرة عن تعريف الشعر وعلاقته بالفلاحين الذين دائما ما يستفتون بعضهم في مفرداته المستوحاة من بيئتهم، فقال: »القصائد كالأشواك في أرجل الفلاحين. تؤلمهم ويمشون عليها، ومتى ما توفر لهم الوقت وضعوا على مكانها بعد جرح الموضع قليلا من الأعشاب.. ويتركونه لأيام، وقتها يكون خروج الشوكة سهلا وممتعا للفلاح خاصة مع حصحصة الزوجة للشوكة في كل الأنحاء، وبالضغط الخفيف »تنط الشوكة« فيرتاح الفلاح برهة وهو يهييء أقدامه لشوك جديد، وأن كثيرا من الأشواك »تزوغ« في اللحم الحي ولا تعرف طريقها الى اليابسة مرة أخرى، وكم من الفلاحين ماتوا وبين أجسادهم أشواكا تكفى لبناء »زريبة« متواضعة. وما بين أشواك الفلاحين وأشواق الشعراء أشجار من الحب والزهور المتشابكة«. هذا كان آخر الحوارات لنا مع الشاعر الكبير الراحل حميد إبان زيارته للعاصمة الإماراتية أبوظبي :
    ـ بداية ماذا عن تجربة الشعر العامي في السودان، الأسماء الجديدة، بدايتها وتطورها، وأين هي من حركة الشعر العربي العام؟
    ــ تجربة القدال وعاطف خيري وغيرهما من الشعراء المبدعين حقا، هي نتاج تطور طبيعي لما سبقها من تجارب في هذا المجال فالثورة الشعرية انتظمت العالم العربي »شعر الحداثة«، وتركت انعكاساتها على الشعر بصفة عامة، ومن ثم كان لابد لشعر العامية في السودان، أن ينتفض على شكله القديم لأن هناك مضامين ورؤى وأفكار جديدة تنتظر من يتناولها بطريقة مبتكرة، تشبع وجدان المتلقي الذي لا يجامل في مثل هذه الحالات.. فكانت تلك الحديقة الوارفة الظلال من مبدعي شعر العامية السودانية والتي آتت أكلها نصوصا طيبة ترقى إلى مصاف العالمية بروعة متناهية متى قيّض الله وسيطاً يسهم في تعريف الدنيا بها.. خاصة أن هنالك فتحاً شعريا جديدا بدأ يكتسب ملامحه في الكتابات الأخيرة للعارف بالشعر »المكاشفي محمد بخيت«، ويعتبر بمثابة إضافة حقيقية لتلك التجربة الرائدة.


    ـ تمتد تجربتك طويلاً ولكن مؤخراً ارتبط اسمك بالفنان الراحل »مصطفى سيد أحمد« حدثنا عن هذه التجربة، لاسيما وأنت كنت من أقرب الناس إليه، ماذا عن توقعاتك لاستمرار التجربة والفكرة، وهل لها أن تجهض برحيله المفاجئ؟
    ــ تجربة الفنان السوداني مصطفى سيد أحمد لم تجد حظها الكامل من الكتابة لسبب رئيسي وهو أن هذا المبدع القتيل لم يوثق لمعظم إنتاجه الغنائي بالصورة التي تساعد المتتبعين لأثره من تقييمه بموضوعية، بعيداً عن الانطباعات الذاتية، والتي لا تجدي في مثل مبدع صاحب مشروع غنائي متكامل جعل كتّاب الأغنية ومغنّيها في ورطة من أمرهم، فمن أصابه وتر من غناء مصطفى من العسير أن يتقبل وجدانه ما هو أدنى من ذلك الطرح، فلا وطن ولا حبيبة تأتي إلاّ على إيقاعه المشبّع بصخب وضجيج القادمين من ضواحي العتمة إلى حاضرة الفجر الجديد صحيح أن مصطفى قد سجّل اسمه كمبدع جدير بالاحترام والاحتفاء والوفاء له، بيد أنه ليس هو الوحيد في هذا المشروع وان كان له القدح المعلّى فيه، فلا شك أن التجربة ستستمر مادامت الحياة مستمرة، والبلد والحمد لله عامرة بالمبدعين فقط عليهم أن يتحسسوا أوتارهم جيداً.
    مشهد مكثف
    ـ الشعر السوداني ـ والعامي منه على وجه الخصوص ـ محاط بجدار كثيف من اللغات واللهجات والثقافات المتباينة في السودان، نود التعرف على ملامح المشهد الثقافي والشعري هناك بعد نصف قرن على استقلال البلاد؟.
    ــ أنت تسأل عن الشعر السوداني وهنالك مئات من الشعر السوداني بحكم التعدد الثقافي واللغوي الموجود في السودان، تجدني هنا لا أستطيع إلا التحدث بإيجاز عمّا تقصده وهو الشعر العربي السوداني..


    لعل المتتبع لهذه المسيرة يرى أنها بدأت بقوة ووصلت قمة مجدها أبان الستينيات ولعل حركة التحرر الوطني التي كانت تسود أفريقيا بصفة خاصة في ذلك الوقت، قد تركت أثرها على أولئك الشعراء مما جعلهم يبحثون عمّا يميزهم عن الآخرين في أفريقيا والوطن العربي ويؤكد هويتهم، إضافة إلى ان رحيل المستعمر القريب عن الوطن، ترك مما ترك وجداناً مشتتاً يحتاج لمن يلملمه ويصوغه من جديد، فنشأت العديد من المدارس الشعرية وكلها بغض النظر عن طريقة طرحها للقضية، نجدها في النهاية قد استطاعت ان توجد لنا نصاً شعرياً متقدماً يحفل بالكثير من الوطن، حتى يكاد الشخص يجزم ان تلك السنوات هي سنوات الشعر العربي الفصيح في السودان، لان ما تلا ذلك من شعر يكاد اغلبه يهوم في فضاءات لا علاقة لها بالقضية السودانية والتي في تقديري هي من أعدل القضايا في العالم إذ أنها قضية تحرر وطني من كل ما هو دخيل على الروح والجسد السوداني، ويبدو هنا ان الهزائم المتتالية على الزول السوداني فعلت فعلها في البعض وجعلتهم ينكفون على ذواتهم، وأعني هنا قبضة جمرة الشعر السوداني منذ أواخر الخمسينيات، والذين لايزال العديد منهم بكامل قواهم الوطنية، إلا فئة قليلة رحلت في ريعان شبابها، ولعلهم آثروا التعبير عن أنفسهم بعيداً عن وجع القصيدة... فتركوا بعض أبنائهم وكل شعراء العامية لوحدهم للقصيدة... ولئن كانت العامية هنا نجحت أكثر من الصمود وتأكيد ذلك الوطن الجميل، إلا أنها في النهاية تظل قاصرة لوحدها في العالم ما لم تنفك تلك اللغات المتعددة من عقالها، ليحلق طائر الشعر السوداني عالياً ويحط كيف وأينما يشاء.
    ـ السُلطة، المبدع والمثقف.. علاقة تلاق أم تضاد؟ والأمثلة كثيرة من الذاكرة الإبداعية العربية.. هل من الضروري للفنان أن يعارض الأنظمة؟ أم أن الإبداع عندنا ارتبط بالمعارضة والمقاومة؟

    ش
    ــ المثقف أم المبدع؟ وإذا كان المعني هنا بالسلطة هي تلك التي تراها.
    سيدي.. المثقفون بلا ثقافة هم دائماً خير معين لتلك السلطة في كل شيء، والمصيبة ان الظروف جلبت لنا أولئك »المثقفاتية« الذين سريعاً ما يتنازلون عن كل دائم في سبيل ما لا يدوم، وينقلبون وبالاً على أهلهم، متى لاح لهم بريق تلك السلطة، ليرتدوا بدلات القبح، فيتعبوا أعيننا من البحلقة فيهم وهم يطلون علينا من عل.. أما المبدعون الحقيقيون والإبداع هنا لا يقتصر على القصيدة أو على الرسم أو التمثيل أو.. مما عليه وإنما الإبداع الذي تحسه وأنت تتحدث لإنسان عادي لكنه واع بما حوله ويعرف قدر وطنه، وهو يتقن كيف يحاول يبدع ويعرف قدر وطنه يتقن كيف يبدع الحياة في مجاله، فهذا المبدع علاقته بالسلطة، تلك السلطة، دائماً ليست على ما يرام، لأنها تريد منه ما لا يريد.. فما بالك بمبدع له أسلحة لا تقاوم..؟! خلاصة الأمر أن تلك السلطة تضيق الهواء على المبدعين وتظل تحسب أنفاسهم، لأنهم الأكثر قدرة على التأثير على الناس من أي كيان سياسي كان في مقاومة القبح. أما أن معارضة الأنظمة هي الطريق الوحيدة للإبداع والانتشار.. فمن أين لك بهذا القول؟ المبدع لا يعارض، الذين يعارضون هم الساسة بمختلف مشاربهم.. المبدع يقاوم ويقاوم كل أشكال القبح، ولأنه يقاوم فعليه أن يبدع ولأنه يبدع فلابد أن ينتشر لان ريح الجماهير تتلقفه بنهم وتنطلق به في كل الأنحاء... عموما لو كان الأمر كما ذكرت لامتلأنا إبداعا حتى الثمالة فما أكثر المعارضين عندنا في كل مجال؟.
    ـ بالقدر نفسه للسؤال السابق.. هل كثيرا ما تنجح السيرة الذاتية في إلهام قصيدة ونص إبداعي عال؟ وفي البال.. ما هي مواصفات القصيدة التي تسكن وجدان وروح الجمهور؟
    ــ صحيح أنني أنحدر من بقعة تاريخية في شمال السودان، ولعل العديد من الناس السودانيين، يعرفون أن السودانيين، يعرفون أن بلدة نوري، تكاد تكون من أجمل وأبَدعْ بقاع البلاد، إلا أن الناس هناك لا يعطون صفة الشاعر لشخص، إلا إذا تأكد لهم ذلك تماماً، فهم يفهمون بصورة عميقة في هذا المجال ولا يجاملون أحداً، ومن المحال غشهم الشعر.. أي أنهم لا يطربون إلا عن حق، أقول ذلك لا لشيء إلا أنهم هم بالفعل كذلك.. لذا تجدني احرص أن أرد لهم بضاعتهم غير منقوصة فهم لا يرحمون، ومما لا شك فيه أن السيرة الذاتية لأي بلد هي معين لا ينضب لإلهام الشاعر قصيدة جيدة، متى كان هذا الشاعر مشبعاً بالوعي الوجداني اللازم لخلق تلك القصيدة الجيدة التي تعلق بوجدان الجمهور.. وأي نص يعاني الشاعر في خلقه معاناة صادقة، ويصبر على حمله وهناً على وهن حتى يكتمل نموه لا شك انه سيكون جديراً بالجمهور الذي يحتفي به... والأمر في النهاية يرتكز في تقديري على قوتين: الأولى هي شفافية الذات وشاعريتها وقوتها في آن واحد. والثانية هي الموضوع ومدى انحيازه للإنسان في كدحه العام.
    حضور وغياب
    ـ في العلاقة بين الشاعر ونصه، هناك تمايز بين الحضور والغياب لجدل يطول ويطول ويدور في ذات المحاور من نص جمالي وانتماء للقضية التي ربما تستعصى على الشاعر أحيانا، أو يرفضها لأسباب غير معنية بالشعر أو هو غير معني بها. إذن كيف يتحقق الجمال لدى الشاعر، وفي الشعر عموما؟
    ــ من المؤكد أن العلاقة بين الشاعر ونصه علاقة جدلية وصريحة في عضويتها، فما نسميه شعرا لا يعدو سوى كونه ناتج الحركة بينهما أثناء عملية الخلق إلا أن من يغني بحمامة السلام غناء مسئولا لا كمن ينعق ببومة السلام نعيقا مشلولا، خلق الخالق الشاعر والجمال من طينة واحدة، جاء الشاعر ليكشف القبح، فأستنجد القبح بالسلطان الجائر.. هرعت القضية إلى الشاعر »فتلقفها« الشاعر، وما بين الشاعر والشارع احرف متشابهات فمن يعطى من؟.. ونحن على هذه الحالة ليس غريبا أن يطالعك من أجهزة الإعلام المتسلقة شاعر بلا نص أو نص بلا شاعر، وهذا أمر يحدث في الأزمنة العامة التي تعصف بالبلاد والبلاد التي في القصيدة..
    ـ سؤال أخير، اشتهرت قصائدك بتميزها باستخدام التشخيص الدرامي واليومي على وجه الخصوص، كما أن الشخصيات يلاحظ استيحاؤها من عمق النسيج الاجتماعي. من البلد، لماذا هذا التميز، ولماذا البلد؟
    ــ نزعة الحياة دائما تنحاز الى العاديين من الناس فهم الذين ينتجون الجمال، ويفككون الأشياء ليعيدوا تركيبها من جديد في نسق رائع، وهم الذين يحلون تعقيدات الواقع ويكسرون »المل بنكسر« بمهارة فائقة، ويصنعون التاريخ بذكاء مبدع وقاد، وعندما يدخلون علي بلا استئذان في قصيدتي يتفوقون على أنفسهم ولحظتها أدرك أني لست عليهم بمسيطر، فأدعهم لحالهم يتداعون.. فقط أكون قلقا على قصيدتي منهم خشية أن يفسدوها علي وكثيرا ما أوشكوا، فخذ عنك مثلا «السقا» في «جوابات ست الدار» أو «نورا» في «نورا والحلم المدردح» أو «عيسى» الذي مات على الطريقة نفسها التي في القصيدة مما اضطرني الى تغيير اسمه الى حمتو حفاظا على شجون أهله، ومرة تم اقتيادي الى مبنى جهاز امن سلطة نميري بسبب أحد الشخوص الشعرية، بعدها أُطلق سراحي، رجعت عدت الى البلد تاركا شخوصي يهيمون على وجد شعبهم هناك لأنهم منهم، هذا قليل من كثير مما تسببه الشخوص الشعرية أكثر مما تسببه الشخوص البشرية من متاعب.
    محصلة القول أن النزعة التشخيصية كما نسميها في الشعر غير مضمونة العواقب دائما، وهي أمر في غاية الصعوبة والخطورة والتعقيد في مثل حالنا.


    ---------------------

    
    حميد.. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح)
    الاثنين, 26 مارس 2012 09:26 hiba
    رأي : حسن الحميدي :

    حميد.. يا أنت.. يا آخر عصافير الربيع التي غادرت حدائق اللارنج والبرتقال والجمال فغدت الأبجدية السودانية أرملة.. يا أنت .. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح) وما أظن النواح يشفي الجراح.. يقولون الأشياء والكائنات تولد صغيرة وتكبر مع الأيام إلا الحزن.. فإنه يولد كبيراً ويصغر مع الأيام.. ولأن الأقوال والقواعد الذهبية تنصهر أحياناً بصهد الحريق الكبير.. فإن الحزن على حميد ولد كبيراً وسيظل كبيراً في الذواكر إلى أن يرث الله الأرض والقمر والشعر والمطر.

    حميد.. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضا نواح).. يا ديوانك (أرضاً سلاح) جاء (قيدومه) للبوح غير المباح.. البوح الذي جاء في الديوان كالصراخ المبحوح المطرز باليتم والحزن والأسى.. البوح المبحوح عن أثمال العراة والحفاة الذين تختلج خطاويهم على أرصفة المسغبة ويمشون ولا يستطيعون ويسقطون تحت أقدام الشمس جوعى وهم يصرخون ويفنون ويحترقون على محفة من أعواد الصندل ليس كالهندوس ولا كعروس النيل التي ما عرفت كيف تتنفس تحت الماء فغرقت وماتت وعاش الفرعون وهو يتناول وجبة من أعشاب النهر التي ينتزعها من كبد النهد المصلوب على صدر العروس النائمة في عتمة الأبدية.

    حميد.. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح) نم مفتوح العينين إلى جوار عروس النيل واهنأ بالفرح النبيل وترانيم الخليل.. أما نحن فسنظل نثرثر فوق النيل ولا نستطيع أن نكتب مثلما كتبت.. ولا نستطيع أن نعيش مثلما عشت لأنك عشت وستعيش في غرفات قلوب العراة والحفاة الذين تختلج خطاويهم علي أرصفة المسغبة لأنك منهم ومنهم ولن يستطيع القدر أن ينزعك منهم ولكن الموت انتزعك منهم.. انتزعك ومراسم خطبتك لعروس النيل والبوح الجميل لم تكتمل بعد.. فقد انتزعك الموت يا (حميد) وفي نفسك شيء من حتى.. وفي قلمك قطرة من مداد أخضر كان ينتظر البذار مرة أخرى في أرضك ولكن الموت قالها قبل الأوان (أرضاً نواح).

    الحديث يا سادتي عن شاعرنا حميد يطول ويطول.. هذا الشاعر الذي نحت اسمه بأظافره على جدار الزمن الجميل الذي جمله (حميد) بشعره الجميل.

    و(حميد) يا سادتي لم يكن شعره جميل فحسب.. وإنما تشاهق فوق الجمال وأصبح جميل الجمال ومن ثم أحدث ثورة في كتابة الشعر الحديث.. شعر العامية المطهم بالمفردة العربية الفصيحة.. فأصبح شعره خلاسي الطعم والمذاق والرائحة.. وكان شعر (حميد) ثائرً ومتحرراً من قيود القافية المضنية التي تحرر منها من قبل الشاعر العربي الثائر بدر شاكر السياب والبياتي ونازك الملائك.. وهنا في بلدي كان قد تحرر منها الشاعر المغني خليل فرح وود حد الزين إسماعيل حسن والسر عثمان الطيب الذي كان الراحل ويا سبحان الله ينوي حضور حفل تدشين ديوانه (بحر المودة) ولكن إيقاع الموت كان أسرع وتحول (بحر المودة) من مجراه القديم وهو يفسح الطريق لبحر قادم آخر هو بحر الدموع الذي فاض وملأ المجرى القديم ولكن العزاء كل العزاء جاء في نهر (نهر المودة) الذي روى أرضنا الطيبة التي تشاهق بذارها واشتعل النور والنوار على أرضنا الطيبة المعطاءة.

    جاء ديوان (أرضاً سلاح) وقبله صدرت لشاعرنا الراحل المجموعة الكاملة من دار عزة للطباعة والنشر.. ومن هذه المجموعة (السرة بت عوض الكريم) و(أرضاً سلاح) هذا الديوان الذي أهداني إياه أحد الأصدقاء الأوفياء.. وهذا الديوان يضم بين دفتيه أربع وعشرين قصيدة.. منها بسم السلام.. مرق الحلم.. سوقني معاك يا الحمام.. غنواتنا طعم.. ملح الشاعر.. تعلق.. و.. تعلق.. حق الغني.. هذا الجميل.. بشارة.. كسوة الكعبة.. زبد زيف الدوار ثم قصيدة (أرضاً سلاح) وهي تعد كبرى قصائد شاعرنا الراحل في ديوانه الذي حمل عنوان هذه القصيدة التي جاءت في (578 ) شطرة.. وربما تكون هذه القصيدة هي الوحيدة بين قصائد الشعر في بلدي في عدد شطراتها.

    من المعلوم أن شاعرنا الراحل (حميد) كانت قد جمعت بينه وبين الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد صداقة حميمة زادتها قوة وحدتهما في المنافي بالدوحة.. وكان الشاعر (حميد) قد رثي صديقه العزيز مصطفى سيد أحمد بقصيدة حملت عنوان (مصابيح السما الثامنة وطشيش).. وشاعرنا (حميد) كان قد شهق شهقة ميلاده الأولى بمدينة نوري بالولاية الشمالية.. وكان ذلك في عام 1956م وتلقى تعليمه الأولي والأوسط بالمدينة نفسها.. ثم تلقى تعليمه الثانوي بمدرسة عطبرة الشعبية الثانوية.. وفي عام 1978 تم تعيينه بهيئة الموانيء البحرية وبعدها ترك العمل بالهيئة وحملته أجنحة المنافي إلى البعيد حيث عمل بالمملكة العربية السعودية وكان قد أحيا فيها عدداً من الأمسيات الشعرية.. فضلاً عن أنه شارك في بعض المشروعات الإبداعية كان بعضها متعلقاً بالتوثيق لتجربة الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد ثم عاد بعدها إلى الخرطوم وعمل لفترة قصيرة مديراً عاماً لدار الأشقاء للطباعة والنشر التي يمتلكها الوجيه صلاح إدريس الذي درج على التعاطف مع المبدعين والشعراء والفنانين.. غير أن شاعرنا الراحل (حميد) وبروحه الرومانسية وعشقه للانعتاق والتمرد على القيود وأضواء المدينة.. فعل ما فعله (مصطفى سعيد) بطل رائعة الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال).. ومن ثم حمل شاعرنا روحه المتعطشة للحرية والإنعتاق وصنع لنفسه موسماً للهجرة إلى الشمال حيث الجمال وراحة البال ورائحة طيوب حدائق اللارنج والبرتقال والجمال.

    وشاعرنا العظيم الراحل (حميد) كان قد ارتبط في بداية مشواره الفني بالفنان الراحل ياسين عبد العظيم.. وبعدها تغنى له الكثير من مطربي الطنبور وفي مقدمتهم الفنان محمد جبارة ومحمد كرم الله وعادل عثمان الطيب ومحمد النصري.. كما أن الفنان الكبير الراحل مصطفى سيد أحمد كان قد تغنى بعدد من قصائده التي ذاع صيتها.. كما أنه غنت له فرقة عقد الجلاد بقيادة المؤلف الموسيقي الشهير والمايسترو الكبير عثمان النو.. كما غنت بعض قصائده الفنانة حنان النيل التي كان شدوها النبيل يبكي النيل وشدو الخليل وزفرات الليل.

    (حميد).. يا أنت.. يا من جلس الحزن الحزين عليك (أرضاً نواح).. سيبقى الحزن عليك (أرضاً نواح) حتى يرث الله الأرض والقمر والشعر والمطر.. ورغم القمر والشعر والمطر.. فإن أرضنا الطيبة ربما يصيبها المحل حزناً عليك.. وربما يجف الطل والندى على أوراق الأزهار في حدائق الجمال.. لأنك يا (حميد) قد كنت أنت الجمال.. كل الجمال الذي أودعه الخالق في مياسم كل الأزهار في بلدي.

    ...------------------

    رأي: خباب النعمان

    باغتنا ريح الفجعة ليل.. صادنا الذهول.


    . زي التكنو قبل دا ما فارقنا زول بعد الرسول.. ولا التقول أول قلوب في الدنيا يغشاها القدر.. يا جرحنا الكيف يندمل.. ما بار وراك شهد الغنا.. ونحل الحناجر ما همل.. وين ماشي يا نبض الرحيق.. سايب المشاعر ريق دقيق.. سايب لياليك لي نجوم.. واقفات وجوم على فد رجل.. وفرع الغنا الميل هنا على مين وراك حيتكل؟«لظلال الموت في نفس المبدع وقع عميق.. يستشعره الحدس ولايدركه الحس.. قد يطفو حيناً وينطفيء أحياناً.. ولا ينكشف أمره إلا لخواص الخواص ذائقة وفهماً.. ولهذا يتجلى صدق الشعراء في الرثاء أكثر من الهجاء والمديح.. فالرثاء ينطوي على قيمة، بينما الهجاء والمديح ينطويان على موقف.. ولا مندوحة أن القيمة أكثر لصوقاً وعلوقاً بالإنسان من الموقف.. ولأن حميد شاعر معطاء..

    فقد وهبنا مفرداته التي صاغها من دمائه، وكتبها بمداد روحه لا روح مداده.. فلم يسلمنا لميادين الحيرة وأنجانا من غمرات التفكر، وآنسنا بقبس أشعاره وأفكاره من التوحش والوحشية.. فها نحن نستفتح بأبياته ونستلهم سيرته التي تدل على سريرته.. وأول ما يلفت نظرنا هو إحتشاد حياته بكثير من الدلالات الفارقة، إبتداءً من تزامن ميلاده مع ميلاد السودان أعني نيله لإستقلاله في العام 1956م، ووفاته عن 56 عاماً، بعد أن انشطر الوطن نصفين وصار المكان لا يتماهى مع الوجدان، إلا في مخيال الذاكرة وذاكرة المخيال، ولعل هذا ما يفسّر وطنيته العابرة للتحيزات الإثنية، والتحيثات المناطقية، في بلد تمثل القبائل والطوائف والطرائق حاضنات إنتماء منافسة، شديدة الجذب، وعالية الضغط.. حميد المولود بنوري والمنتقل إلى عطبرة للدراسة الثانوية، وفيما بعد للعمل في مدينة بورتسودان بهيئة الموانيء البحرية، منذ العام 1978 إلى العام 1992م،

    والتي تفتقت شاعريته منذ زمان باكر، وأنثال دفق بوحه، وفوح عبيره وتعبيره يضمخ الساحات أريجاً في كل الأرجاء، وهو ينطق بلسان عاميّ مبين معبراً عن آمال الشعب وآلامه.. وأشواقه وأشواكه.. وشؤونه وشجونه.. وانتصاراته وانكساراته.. وقد صلته الغربة بلهيبها الحارق فتكشف معدن الذهب في وطنيته المتوطنة، حتى صار يستجدي الحمام أن يحمله معه أو أن يحمل عنه ما يحسه من ألم وتشظي .. «سوقني معاك يا حمام.. سوقني محل مالحبيبة قريبة تراعي الغرام ..»..


    حميد وهو حفي بكل هذا الألق ومحفوف بكل هذا الرهق لم يتنازل عن علته الغائية، التي يدور معها وجوداً وعدماً، فقد ظل كما هو مبذول للضعفاء والغلابة شعراً وشخصاً، فلا تكاد خارطة أعماله على تنوعها وكثافتها تخلو من إشارة للبسطاء والفقراء، ونصرة لقضاياهم على نحو صارم ومباشر.. وتوصف قصائده في أدنى مراتبها بأنها تمثل مسارح مفتوحة وشوارع مشرعة، تضج بالشخوص والأحداث والحيوية والحياة، وتزخر بالتفاصيل المجهرية على مستوى السرد والإيحاء، ولذا فإن شعر حميد تضطرد فرص إمتاعه مع إمكانيات سماعه إلقاءً أو غناءً، لأنه يحكي ما هو أدنى من الخلجات والآهات، وينقل ما هو أدق من التصاوير والتشبيهات، ويبعث ما هو أدل من الإشارات والتنبيهات.. وهو مع ذلك بارع في تفصيل ما هو مجمل وإجمال ماهو مُفصًل، أنظر معي تلخيصه لمطالب الراهن بقصيدة الجابرية «دايرين بسطة ومدرسة وسطى والشفخانة محل النقطة» متجاوزاً بذلك معاظلات الإنتلجينيسيا وتعقيداتهم حول الدولة الوظيفية والرسالية كونه أُعطي مجامع التفكير وجوامع التعبير ..

    ملمح آخر يؤكد هذه السمة المائزة وهو مزاوجته بين الهم المحلي والهم العالمي في نسيج خلاق، يعكس جوهر الوحدة الإنسانية على اختلاف صروفها وظروفها «من حقي أغني لشعبي من حق الشعب عليّ.. لا بإيدك تمنع قلبي لا قلبي كمان بإيديا.. علمني أغني الطين المخرطة والطورية.. الناس الصابرة سنين بالحالة المادغرية.. ومن حقي أغني العالم إبداع وعلم حرية.. إنساني شعوب تنسالم.. تنسالم بحنية.. على نخب الود نتنادم.. لا جنس ولا لونية» .. ملمح آخر لا يقل أهمية وهو إرفاده لبنية الثقافة والوعي الجمعي بالحكم والوصايا والشخوص، التي تمثل في ذاتها وموضوعها أعلى تجليات القيم السودانية.. حميد نفسه يمثل منتوجاً سودانياً خالصاً، دعى صنوه الصنديد محمد طه القدال يطلق عليه هوم ميد في أروع رثاء لإنسان حي يمشي بين الناس بشخوصه ونماذجه، فقد بكاه القدال وهو في زهو إحتفائه بتدشين ديوانه الأخير أرضاً سلاح «يا حميد أقيف شوف الخلوق محنانة.. كفكف دمعتك والعبرة فوت خنقانة.. عسلك سال بحر فوقو النحل ونانة.. يات من ضاق غرف جازاك دبابير دانة..» لقد أدرك القدال بإستشعار ذائقته التي لا تخطيء أن غاية الشيء نهايته، وقد بلغ حميد في إبداعه وإمتاعه ورؤاه الإنسانية غاياته، فمضى من علياء شعره وإبداعه إلى علياء ربه وهو فقير، إلا من حب الناس، وخوف رب الناس.. ألهم تغمده بواسع غفرانك وأرحمنا إذا صرنا إلى مصيره..

    .sd
                  

العنوان الكاتب Date
حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توثيق.. الكيك03-20-12, 05:05 PM
  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث Abdlaziz Eisa03-20-12, 05:12 PM
    Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-20-12, 05:55 PM
      Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث اسعد الريفى03-20-12, 06:49 PM
        Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث Rawia03-20-12, 07:02 PM
          Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-20-12, 07:33 PM
            Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-20-12, 07:49 PM
              Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث مجدي عبدالرحيم فضل03-20-12, 07:58 PM
                Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-21-12, 04:58 AM
                  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-21-12, 06:05 AM
                    Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث Hassan Senada03-21-12, 06:10 AM
                      Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-21-12, 07:47 AM
                        Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-21-12, 09:14 AM
                          Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-21-12, 11:19 AM
                            Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث انعام حيمورة03-21-12, 02:06 PM
                              Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث عزالدين عباس الفحل03-21-12, 03:22 PM
                                Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-22-12, 05:32 AM
                                  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-22-12, 06:08 AM
                                  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-22-12, 06:11 AM
                                    Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-22-12, 10:22 AM
                                      Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-22-12, 10:54 AM
                                        Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-25-12, 04:52 AM
                                          Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث سلمى الشيخ سلامة03-25-12, 05:24 AM
                                            Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث Ismail Yasin03-25-12, 06:13 AM
                                              Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-25-12, 10:27 AM
                                                Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-25-12, 10:08 PM
                                                  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-28-12, 10:32 AM
                                                    Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-29-12, 04:23 AM
                                                      Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث صديق الموج03-29-12, 05:27 AM
                                                        Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-29-12, 09:21 PM
                                                          Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك03-30-12, 01:35 PM
                                                            Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك04-03-12, 10:55 PM
                                                              Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك04-04-12, 05:36 PM
                                                                Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك04-07-12, 11:14 AM
                                                                  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك04-12-12, 11:20 AM
                                                                    Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك04-16-12, 09:20 AM
                                                                      Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك04-17-12, 10:44 AM
                                                                        Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك05-13-12, 07:59 AM
                                                                          Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك05-14-12, 05:46 AM
                                                                            Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك05-14-12, 06:57 AM
                                                                              Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك05-21-12, 08:38 AM
                                                                                Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك05-24-12, 06:18 AM
                                                                                  Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك05-27-12, 11:07 AM
                                                                                    Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك06-04-12, 08:10 AM
                                                                                      Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك06-20-12, 07:22 AM
                                                                                        Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث عبدالله الشقليني06-20-12, 11:55 AM
                                                                                          Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث الكيك06-21-12, 04:20 AM
                                                                                            Re: حميد ...شاعر القضية ...شاعر السودان ..الجنا المدردح ...وداعا..توث عبدالله الشقليني06-21-12, 07:25 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de