|
Re: الطيب صالح :اراء في السياسة والهجنة الثقافية-الجزء الاخير (Re: osama elkhawad)
|
الجزء الاخير: لمصطفى سعيد صلة حميمة بما اصطلح عليه بالزنوج المنمبتين قبليا:
Negroid but detribalized people
وهم كما -يرى المستعمرون البريطانيون-
"العبيد السابقون الذين ترجع أصولهم الى قبائل الجنوب او جبال النوبة,لكنهم استقروا في المجتمع الشمالي السوداني,وفقدوا بالتالي,اي صلة بقبائلهم الأصلية اذ لم يكن لهم في الشمال أي مكان في النظام الاجتماعي".
فوالدة مصطفى سعيد -فاطمة عبد الصادق- كانت من تلك الفئة-تقول احدى شخصيات "موسم الهجرة الى الشمال" عنها"ويقال أن أمه كانت رقيقا من الجنوب ومن قبائل الزاندي أو الباريا,الله اعلم. الناس الذيت ليس لهم اصل هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الانجليز"ص 63 -من الاعمال الكاملة- دار العودة بيروت,1988.
صحيح ان والد مصطفي سعيد كان عربيا من "العبابدة القبيلة التي كانت تفيش بين مصر والسودان"-ص-63. ولذلك كان مصطفي سعيد كما يقول في الرواية -عربيا افريقيا,الا ان أباه توفى قبل ولادته,وانقطعت علاقة مصطفى سعيد باسرة أبيه لأسباب لم تقلها الرواية,فانبت عن جذوره العربية,وأصبح كأمه-زنجيا منبتا بامتياز,لذلك قال"لم يكن لنا أهل"-ص29 ولانبتاته القبلي هذا,ولاسباب أخرى لم يرجع مصطفى سعيد مباشرة بعد انهاء دراسته,وقضى وقتا طويلا متسكعا بين البلدان, اذ أنه كما يقول الراوي -بعد أن يخرج من السجن-"يتشرد في أصقاع الأرض, من باريس الى كوبنهاجن الى دلهي الى بانكوك"-ص78-79.
وحتى حينما عاد لم يعد عودة طبيعية-حسب الراوي_ ولم يختر قريته الجديدة بدلا عن الخرطوم أو ضواحيها, بل عاد عودة عبثية الى قرية منسية الذكر على منحنى النيل-يقول مصطفي سعيد عن ذلك -اذا أخذنا روايته على محمل الجد: "كنت في الخرطوم أعمل في التجارة.ثم لأسباب عديدة قررت أن أتحول للزراعة,كنت طوال حياتي أشتاق للاستقرار في هذا الجزء من القطر,لا أعلم السبب.وركبت الباخرة, وأنا لا اعلم وجهتي, ولما رست في هذا البلد,اعجبتني هيئتها.هجس هاجس في قلبي: هذا هو المكان"-ص20.
ولأنه بلا أصل قبلي, ولا تاريخ يقبله القرويون, لم يتزوج طواعية من امراة عادية, بل تزوج امراة من أصل قبلي متواضع..يقول الجد عن قبيلة زوجته حسنة بنت محمود, معلقا "تلك القبيلة لا يبالون لمن يزنوجون بناتهم"ص16. ترد في نصوص الطيب صالح اشارات كثيرة عن "الرق", يقول ودالريس عن جارية خطفها من بيت العرس "كانت فرخة عديلة من جواري بحري"ص84 .وفرخة بالعامية السودانية تعني"أأمة" أو "عبدة" أو" جارية". ونرى ايضا أن موسى الأعرج احدى شخصيات "عرس الزين" "كان عبدا رقيقا لرجل موسر في البلد, ولما منحت الحكومة الرقيق حريتهم اثر موسى أن يبقى مع مولاه".ص202-203. وموسى هذا هو الذي طرده "سيف الدين" بحجة أنه لم يعد رقيقا ,وانه ليس مسؤولا عنه, ص229.
وبدا وضع الرقيق سيئا ,عندما حلف والد سيف الدين "ليسجننه طوال حياته في الحقل كالعبد الرقيق" ص229.
وأحيانا لا تكتفي نصوص الطيب صالح بالوصف الاحادي فقط,بل تقدم عرضا بانوراميا,حين تتحدبث عن وضع"الجواري" في "ود حامد"...تقول الرواية"الجواري-الخدم كما يقول أهل البلد-كن رقيقا أعطى حريته,بعضهن هاجر من البلد,وتزوجن بعيدا عن موطن رقهن.وبعضهن تزوجن من الرقيق المعتقين في البلد وعشن حمياة كريمة,بينهن وبين سادتهم السابقين ود وتواصل, وبعضهن لم تستهوهن حياة الاستقرار,فبقين على حافة الحياة في البلد,محطا لطلاب الهوى واللذة"ص229-230.
نلاحظ ان الرواية على قتامة الصورة تعكس ظلالا متدرجة عنها,لكن نص العرض السينمائي في تعامله مع النص المكتوب اختار الظل الاشد قتامة, مما أثار حنق الجنوبيين.
لا تعكس نصوص الطيب صالح الوضع المتري للرقيق بأبعاده المختلفةفقط,بل تعكس بعض مظاهر"التمايز العرقي".ففي "عرس الزين" تم التحدث عن "عرب القوز"-الذين يرابطون-كما تقول الرواية-على طرف الارض المزروعة,فعرب القوز لا يتزاوجون مع السكان الاصليين,فهم يعتبرون أنفسهم "عربا خلصا",وأهل البلد يعتبرونهم "بدوا أجلافا",ص197-198.
ان الحديث هنا لا يدور عن الخليط العرقي السلمي,كما يرى الطيب صالح,بل عن صورتين متنافرتين يعكسهما كل من الطرفين على الاخر-الحديث هنا يختص "بالتمايز العرقي",ولذلك يتحدث محمد خلف في دراسته عن "خطاب الدرويش" عن أن"عرب القوز تم احتجازهم في ما وراء الخطوط المبينة للنقاء العرقي". ومن هنا نرى أن مسألة الأعراق ليست أوروبية فقط, وانما يمكن أن تكون سودانية أيضا.
لسنا وحدنا –في هذا العالم- الذين تؤرقهم , وتزلزل أركان مجتمعهم اشكالي الهجنة الثقافية.فأغلب المجتمعات تعيش-بشكل أو باخر_اشكالية الهجنة الثقافية.فأكبر بلدان العالم الان-أمريكا,تئن تحت وطأة هذه الاشكالية.يتحدث ادوارد سعيد في "الثقافة والامبريالية" عن الالتباس المزدوج "للهوية الأمريكية".
المهم الان –بالنسبة الينا كسودانيين, الاعتراف بوجود اشكالية للهجنة الثقافية.فعبر النقد الأليم,والاعتراف بالمرارات والخيبات,يمكن لنا على شارع الدموع والعذاب,أن نعبر الى فضاء"التسامح والاحترام المتبادل".
ان النص الابداعي,كنصوص الطيب صالح,يمكن ان يساهم في قيامنا بتلك الرحلة الأليمة.بالتأكيد هنالك فرق شاسع بين النص الذي يقفز فوق التاريخ والحقائق الدامغةليشوه صورة "الاخر" و"الواقع" معا, وبين النص الذي يرينا –من كل ذلك صورتنا القبيحة التي نحاول اخفاءها عبر أقنعة وحيل كثيرة,واعتقد ان هذا ما نجحت نصوص الطيب صالح في انجازه.وهذا ما سيجعلنا كسودانيين أكثر محبة له, وافتتانا بنصوصه.
هامش: كتب هذا الموضوع –كما يقول خلف في رسالة لاحمد عبد المكرم,في اطار من العزلة عما يدور في الملاحق الثقافية,اذ انني لم اطلع على دراسة محمد عبدالخالق التي نشرت على خمس حلقات في "الخرطوم" ,وعلى دراسة خلف "اعادة نظر في شهادة مأمور متقاعد". وبالرغم من ذلك ,ارتاينا نشرها للتاكيد على ما يثيره كتاب ما –مثل كتاب يوشيكو كورتيا عن علي عبداللطيف من أفكار متشابهة رغم اسوار العزلة الثقافية..بالتأكيد ان دراستي محمد عبدالخالق وخلف تطرحان افكارا أكثر ثراء من محاولتي المتواضعة,لكن محاولتي في المقابل تشتغل على مفهوم شغلني لزمن طويل, وهو مفهوم النسيان, وما يثيره من ظواهر ثقافية,كما تهتم تلك المحاولة-ضمن مفهوم النسيان-بالكشف عن الصور المتبادلة,صورة الذات وصورة الاخر.
|
|
|
|
|
|