سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 02:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة انتهاكات شرطة النظام العام السودانية
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-22-2004, 01:20 AM

tariq
<atariq
تاريخ التسجيل: 05-18-2002
مجموع المشاركات: 1520

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم (Re: tariq)


    سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة الرابعة
    إشكاليتان تعترضان طريق الترابي، لماذا لم تقدم «الإنقاذ» نظرية تأصيلية عن الدولة؟
    تأليف :د. حيدر ابراهيم
    كانت تجربة حكم الجبهة الإسلامية القومية في تحالف مع العسكريين اختباراً حقيقياً لجدال وسجال استمرا منذ القرن الماضي حول الدولة في الإسلام. وبعد ذلك ما هو موقف الأحزاب والتيارات الإسلامية في الديمقراطية؟ فنحن الآن أمام تجربة عينية ملموسة وصل فيها إسلاميون تجديديون إلى السلطة السياسية في نهاية القرن العشرين. وكانت لهم اجتهادات وتنظيرات في موضوعي الدولة والديمقراطية.
    والآن في يدهم سلطة سياسية كاملة وبدون مشاركة أي طرف قد يحد أو ينقص اطلاقية وشمولية سلطتهم. فكيف كان التطبيق؟ وكيف نزّلوا اجتهاداتهم ونظرياتهم إلى أرض الواقع؟
    وقد كانت التجربة الإسلامية في الحكم في السودان احراجاً لجميع الإسلاميين الصادقين في كل أنحاء العالم، ووضعتهم في موقف لا يحسدون عليه. واضطر الكثيرون إلى تأييد ومناصرة (الإسلامويين) في السودان، وفقاً لبعض تفسيرات: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». واكتفوا بتأييد نظام يرفع شعار المشروع الحضاري الإسلامي، بغض النظر عن ممارساته وبعدها أو قربها من الإسلام.
    لأنه من ناحية معنوية ورمزية لا يمكنهم تصور سقوط أو فشل نظام ينسب نفسه إلى الإسلام، في وقت تعاني فيه الحركات الإسلامية من الملاحقة والاضطهاد والتهميش.
    لذلك بحث (الإسلامويون) عن تبريرات تقلل من وقع الأخطاء التي لازمت حكم الجبهة الإسلامية في السودان. وكان الحديث عن الحصار والتآمر على النظام الحاكم مدخلاً لاعطاء النظام السوداني الحق في الاستمرار في «التجاوزات». وكلمة «تجاوزات» تسعى إلى وصف التعذيب وغياب الديمقراطية والعدل بطريقة تبريرية ومخففة، باعتبار أن هذا الوضع ليس هو الأصل في الحكم الإسلامي. ولكن التجاوزات كانت هي القاعدة في تجربة الحكم الإسلامي.
    لا ينوي الكاتب تكرار النقاش حول مواقف الجبهة الإسلامية من الدولة والديمقراطية من الناحية النظرية، فقد سبق تناول الموضوعين بتفصيل في كتابي: «أزمة الإسلام السياسي ـ الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجاً» و«التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية» ولن أعيد عرض تلك المواقف النظرية الا بمقدار مساعدتها في اختبار صدقية الإسلامويين على مستوى الممارسة والواقع.
    ومن البداية كان واضحاً أن الفكر الإسلامي عموماً لا يملك أي نموذج ارشادي مستمد من التاريخ لشكل ومضمون الدولة. وعلى الرغم من التمجيد لنموذج «مجتمع المدينة» فقد عجز الحكام (الإسلامويون) السودانيون عن التأسي بروح ذلك النموذج، اذ ليس المطلوب اتباع مؤسساته وتنظيمه. وأعني بالروح قيم ذلك المجتمع مثل العدالة والمساواة وتكريم الانسان.
    وزهد الحاكم وعفته وبعده عن الترف والكبرياء والتكبر. وكان عليهم مهمة التأسيس لدولة إسلامية في نهاية القرن العشرين مع غياب مرجعية تقدم شكلاً مفصلاً أو تقريبياً لدولة إسلامية تاريخية. وهناك خلط واضح في الفكر العربي ـ الإسلامي بين مفهومي الدولة من جهة والحكومة أو الادارة من جهة ثانية.
    يرى كثير من الباحثين صعوبة وصف الدولة الإسلامية، اذا لم يكن ذلك أمراً مستحيلاً. والسبب في ذلك ليس قلة المعلومات والمصادر ولكن من عملية تكوين الدولة ذاتها. فقد كان العرب يعرفون دولة طبيعية دنيوية دهرية، هدفها في ذاتها، بمعنى أنها تتوخى الشهرة والمال والقهر. (العروي، 1984: ص91) ويرى العروي أن العناصر المكونة لما نسميه الدولة الإسلامية، هي:
    الدهرية العربية، الاخلاقية الإسلامية، التنظيم الهرمي الآسيوي. فالعنصر الأول هو المحافظة على توازن القبائل والعشائر والأسر. والثاني يعمل على تهذيب الأفراد أي اخراجهم من خلق إلى خلق جديد. أما التنظيم الآسيوي فقد أنشئ منذ عشرات القرون قبل الإسلام لخدمة أهداف دنيوية داخل وضع اجتماعي معين. والسؤال هو:
    «هل يتصور أن يتحول ذلك الجهاز إلى أداة طيعة تخدم هدفاً روحياً مستحدثاً وهو بين أناس لا خبرة لهم به؟ الأقرب إلى الواقع المعهود هو أن يبقى وفياً لهدفه التقليدي متجاهلاً دعوة الإسلام، لا مؤثراً فيها ولا متأثراً بها» (العروي: ص92).
    يبدو أن «حزب التحرير» الذي يدعو إلى العودة إلى نظام الخلافة هو أكثر اتساقاً مع أصول الدين بسبب غياب اجتهاد في تأسيس دولة إسلامية حديثة صرفة أي غير متأثرة بما هو غربي أو غير إسلامي عموماً.
    «حزب التحرير» لا يحاول القيام بعمليات توفيقية صعبة بين الديمقراطية والإسلام بتحوير مفهوم الشورى إلى مترادف غربي هو الديمقراطية. ويقسم ابن خلدون النظم إلى ثلاثة: الملك الطبيعي وهو الاجتماع الضروري للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية. والنوع الثاني الملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.
    أما الثالث فهو الخلافة: «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة اليها، اذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة (نيابة) عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به». (ابن خلدون: ص244).
    وهنا يكمن مأزق حداثة الحركات الإسلاموية عموماً، فهي في القرن الحادي والعشرين تنوس بين الدولة الحديثة أي النظر العقلي وبين الخلافة أي النظر الشرعي. ولذلك تواجه قضايا معقدة مثل حقوق الانسان والأقليات ووضعية المرأة ومدى حرية التعبير ونوعية الأحكام الحدية... الخ. والدولة الإسلامية هي الخلافة حتى ولو تغيرت التسميات لأنها تتميز بكونها تطبق الشرع أو تحكم بمقتضى النظر الشرعي، كما أسلفنا.
    الحرب والمال
    يكشف الاستخدام اللغوي المُبيّن في المعجم عن الفكرة السائدة لطبيعة الدولة عند العرب المسلمين. اذ تعني الدولة: الاستيلاء والغلبة. والدولة: الغلبة والسلطان. ويرى العروي أننا اذا لخصنا تعريفات الدولة فإننا نجد أنها تتناول جميعها ميدانين: الحرب والمال وتؤدي معنيين: الغلبة والتناوب. وأن الغلبة في الحرب تؤدي إلى الاستيلاء على المال والاستقلال به.
    ولكن الحرب سجال ولا دوام لسلطة جماعة واحدة (ص 114) وهو يختار الدولة السلطانية عوضاً عن الخلافة أو الدولة الإسلامية، ويمكن أن نقول دول المسلمين أو دولة الإسلام أي نظام تقام فيه شعائر الإسلام ويعيش فيه مسلمون مؤمنون.
    ويعتقد أن شعار الإسلام دين ودولة يصف الواقع القائم منذ قرون أي حكم سلطاني مطلق يحافظ، لأسباب سياسية محضة، على قواعد الشرع، وليست بأي حال تعبيراً عن طوبى الخلافة (ص 122) فالخلافة أو الدولة الشرعية الإسلامية مجرد طوبى أو يوتوبيا، لم تتحقق في الواقع ولكنها حلم أو مثال ظل مجرد فكرة يتمناها الفقهاء ويدعون اليها حيث يكون الوازع الديني البحت هو أساس الحكم.
    يلاحظ المتتبع لمفهوم الدولة لدى المفكرين والكتاب الإسلاميين عدم دقة التعريف الذي يختلط عادة بالدين وبالمجتمع، وهذا سبب غموض الموقف من القضايا سابقة الذكر والتي تحدد وظائف الدولة الحديثة وعلاقتها مع المواطنين بغض النظر عن دينهم.
    لذلك نلاحظ أن الامام حسن البنا يربط الدولة «بالعقيدة الصحيحة والصلاح الشامل والتربية السليمة». (موصللي، 1993: ص90) وهو يرى الدولة الإسلامية: سور الأمة وتقوم بحراسة الناس في دينهم ودنياهم طبقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه، فان السلطان ظل الله في الأرض» (حسن البنا. 1969: ص194).
    والدولة عنده واجبها الأول والأساس هو القيام بواجب الدعوة وأن تتبع في الحكم المنهج القرآني. ويرتبط مفهوم السلطة والدولة عند البنا بتحديده لمفهوم التوحيد المفضي إلى مفهوم حاكمية الله.
    وعلى الرغم من أنه لم يطور المفهوم كما فعل المودودي وقطب إلى حده الأقصى، إلا أن الاستخدام «فلا حكم الا لله» تشمل السياسة والقضاء وكل السلطات (موصللي: ص105) وكان سيد قطب أكثر وضوحاً حين قال بأن الإسلام يرفض عبودية الانسان للانسان ويقصد أي سلطة يمارسها البشر من خلال القوانين والنظم الوضعية، فهي مخالفة لقوانين الله. ومن هنا يجيء التكفير ومفهوم الجاهلية.
    واجهت الحركة (الإسلاموية) السودانية وزعيمها الشيخ حسن الترابي قضية الدولة على مستويين، الأول كاشكالية نظرية ثم كمشكلة حكم فعلي. فمن الملاحظ أن (الإسلامويين) السودانيين لم يقدموا مساهمات نظرية تأصيلية عن الدولة رغم كل الحديث عن الدستور الإسلامي والحكم الإسلامي في السودان والذي امتد منذ الاستقلال 1956.
    ولم يختلفوا ـ نخبة وعامة ـ عن شعارات الأخوان المسلمين في البلدان الأخرى: «القرآن دستورنا». واكتفى بعموميات يتم تداولها في الندوات والليالي السياسية والصحف السيارة.
    ولم يشغل (الإسلامويون) أنفسهم بتكوين أرضية فكرية تستند عليها دعوتهم مع أن الحركة تعج بالمتعلمين وتدعي أنها حركة مثقفين وصفوة فكرية. ولكن من يتأمل المكتبة السودانية والأدبيات السياسية يواجه بجدب وفقر (الإسلامويين) السودانيين الفكري. لذلك حين استولوا على السلطة لجأوا إلى التجربة.
    والخطأ وكانت الأخطاء كثيرة بسبب تعقيدات الواقع السوداني والتطور العالمي في نهاية قرن مليء بالأحداث والتحولات حتى اعتبره البعض نهاية التاريخ. وواجه الإسلامويون السودانيون هذه التحديات غير مسلحين بمعرفة عميقة متجددة بالدين ولا بالحضارة الغربية الحديثة. وكان حلمهم بسيطاً تركوا التفكير والتنظير للشيخ الترابي، مما جعل ساحتهم الفكرية تبدو مثل مسرح الرجل الواحد.
    اكتفى الشيخ الترابي بترديد كلمة التجديد وأطنب في الكتابة في الموضوع ولكن وهو السياسي والقانوني الذي شارك في تقديم نموذج في وضع دساتير بلدان أخرى، ولكن لم يقترح نظاماً حزبياً وكياناً سياسياً كما فعل لاحقاً في التوالي رغم شطحاتها ـ قبل وصولهم إلى الحكم. لذلك كان من الطبيعي أن يعتمد (الإسلامويون) على الأجهزة الأمنية والاعتماد عليها حتى اليوم في التمكين ـ حسب لغتهم.
    وبعد تجارب الحزب الواحد: المؤتمر الوطني ومشاركة بعض الأحزاب المسجلة، ازداد اعتمادهم على الأجهزة الأمنية لذلك ليس من الغريب أن يتشاور مدير جهاز الأمن مع الصادق المهدي في القاهرة، ولا يقوم بالمهمة الأمين العام للحزب مثلاً. ويقول أحد المشاركين في السلطة عند قيامها: «الجهاز الوحيد الذي كان له من الانتشار والقدرة كي يتولى بعض مهام التنظيم السياسي كان جهاز الأمن. فقد أعطى أولوية كبيرة لبناء أجهزة أمنية فاعلة للأسباب التي أسلفنا.
    وقد كانت هذه الأجهزة هي الوحيدة المطلعة على كافة ملابسات الوضع، والوحيدة التي تملك حرية الحركة الكاملة، والوحيدة القادرة على تأمين قنوات الاتصال بين جميع المراكز الفاعلة في النظام. ومن هنا أصبحت الأجهزة الأمنية تلعب الدور الأكبر ليس فقط على صعيد تأمين الحكم، بل أيضاً على صعيد التنسيق السياسي» (عبد الوهاب الأفندي: ص46).

    موقف من الديمقراطية
    ظهر موقف (الإسلامويين) السودانيين منذ البداية تجاه الديمقراطية والتعددية والتي يرى فيها الفرقة والفتنة مقابل الوحدة والشوكة. ولـ (الإسلامويين) نظرة أبعد من الرفض سياسياً للتعددية بل موقف فلسفي ثابت يقود إلى حاكمية الله من خلال التوحيد. ففي سؤال عن فكرة النظام الديمقراطي في الحكم وجه للشيخ الترابي: هل تغير موقفك من هذه المسألة أم لا؟
    وما هو انعكاس ذلك على تجربة الحكم الإسلامي في السودان؟ كانت الاجابة: «ان هدف الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية هو العودة بالأمة إلى نقاء المجتمع الأول والانتقال بها من التمزق والشتات إلى الوحدة والانسجام.
    ورد الخلق عن كل ما يمكن أن يفتنهم من متعلقات... بالله سبحانه وتعالى، ورد القوى المتباينة إلى الله سبحانه وتعالى والى هدي الدين، ورد نسبية الظروف والأمكنة إلى الأزلي المطلق الخالد. ولو نزلنا إلى النظام السياسي فهو تقريباً محاولة للربط والبدء بما هو ابتلاء وقدر من تباين المناسك والأعراف ورد إلى أصل الوحدة بالدين لا بوسيلة القهر» (الترابي: 1992: ص19).
    ويرى في الشورى محاولة لجمع مسيرة المسلمين الخالصة حيث يسعون إلى اجماع يمثل وحدتهم، وينبغي لهذه الصورة السياسية التوحيدية أن تجسد في مؤسسات سياسية تعبر عن المسلمين وتبرز هويتهم. وهذا الرأي يتعارض مع القول بأن الإسلام دين الفطرة، لذلك أقر بالاختلاف والتنوع والتعدد بين البشر، بحكم انسانيتهم. وبالتأكيد تواجه مسألة الوحدة بمطلب الحرية والتي يمكن أن يضحى بها بسهولة ولو خشينا من الانقسام والاختلاف. ويربط الترابي الحرية بالصراع العدائي لذلك يأخذ على الغرب أنه عرف الصراع في المسرح والاقتصاد وفي العلاقات السياسية والدينية وبالتأكيد في العلاقات الدولية.
    ويؤكد: «ولأنه صراع مطلق ليس فيه عامل موحد من ايمان بالله، ولذلك، هو في صور التعبير السياسي، عرف بعض عصوره عهد الحزبية» (ص30) ولا يرى أي داع لكي يقلد المسلمون هذه الصور وألا يخجلوا من رفضها مهما كانت التسميات جذابة أو سائدة مثل الديمقراطية أوالتعددية الحزبية.
    وكل هذه النظم ـ في رأيه ـ لا تعبر عن مضمون الإسلام وهو التوحيد والنظرية التوحيدية السياسية، ولكن الذي يعبر عنه، هو نظام يقوم أولاً على الايمان منطلقاً لسيادة الشريعة كدستور في الحياة السياسية العامة، وثانياً على الحرية رمزاً لعقيدة التوحيد حيث ينبغي أن يكون كل فرد متجرداً لله.
    لابد من التوقف عند مفهوم الحرية ـ عند الإسلاميين ـ في سياق التوحيد مقابل التعدد. فالحرية لا تعني الحق في اعتناق الآراء والأفكار والتي ستكون بالضرورة مختلفة ومتنوعة، ولكن هي نفي الخضوع لغير الله ويكون الفرد متجرداً لله لا تفتنه عصبية لحزب ولا لقبيلة. لذلك حين يتخذ مواقفه في الشورى مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة يقول الترابي:
    «تكون حرة بغير عصبية كتل حزبية، ولا أهواء أفراد ومجموعات في نظام الضغوط ومجموعات الضغط» (ص31) وواضح أن الأحوال الحزبية والطائفية بالذات، والقبلية في السودان قبل الانقلاب، كانت ماثلة في ذهنه وهي التي شكلت هذه الأفكار التي تغلق حق الخيارات المفتوحة للفرد بهدف حجب حق تلك المؤسسات التقليدية في العمل والحركة وحتى الاختيار والذي يراه الترابي غير حقيقي بل فرضته ضرورات الجهل والتبعية للآخرين، فهو يرفض الحرية خشية سوء الاستخدام.
    العقيدة فوق الحرية عند (الإسلامويين) ويولّد الحال التقديسي الشامل للعقيدة الخوف من الحرية. ولابد من التحوط من خلال التنظيم الواحد والعنف لايقاف أي تمدد للحرية وسط الجماهير. وقد يصبح ردع الحرية ـ للوقاية ـ من الواجبات والفروض التي تتقدم على سواها، لأن باب الحرية تأتي منه رياح خطرة لا يجب التهاون معها.
    وتظل مسألة حق المسلم في التعبير عن رأيه وفي الوقت نفسه ضرورة توحيد الرأي العام أو تنظيمه على الأقل لكي لا تذهب به التيارات، من معضلات الفكر السياسي الإسلامي ومن نواقص الحكم الإسلامي.
    ولكن الترابي يرى امكانية التضحية بالحرية حين يقول: «... الشعب المسلم غير مهيأ ولا تزال فيه عصبيات ولو أطلقت له الحرية فأنه لا ينطلق بالإسلام وانما ينطلق بكثير مما ورثه من قبل.. وبذلك تتعقد علينا هذه المشكلة بأنها تطرح في مرحلة انتقال... لذلك اذا أطلقت الحرية استغلت تلك الحرية لتدخل منها مُدخلات غريبة على الدين.
    واذا توجهت تلك الحرية نحو الإسلام وُئدت وأُجهضت وفُرض على المسلمين نظام قهري حتى لا يتمهد لهم طريق الإسلام» (الترابي: الحركة الإسلامية في السودان: ص8586) وعلى الرغم من أن الموقف الإسلاموي من الحرية يبدو في ظاهره وكأنه طارئ بقصد الدفاع ـ راهناً ـ عن العقيدة من أخطار داخلية: الطائفية، وخارجية:
    الحضارة الغربية، الا أنه موقف أصيل لم يدرك أن الدين أعطى حق الاختيار، ولكن غلبة السياسوي على التفكير الديني السوداني وضع (الإسلامويين) في مأزق رفض الحرية في مجتمع لا يمثلون فيه ـ كحزب ـ أغلبية تمكنهم من الهيمنة من خلال الانتخابات الحرة. فأعطوا أنفسهم حق الوصاية على الشعب حتى يصل الرشد وينضج ثم يمكن له بعد ذلك أن يختار بحرية.
    السؤال الصعب
    يردد (الإسلامويون) أن غالبية الشعب السوداني مسلم وله ارتباط ـ بطريقة أو أخرى ـ بالمشروع الحضاري الإسلامي المطروح. وهذا القول ليس دقيقاً، والا لما احتاج الإسلاميون ـ ممثلين في الجبهة الإسلامية القومية ـ للانقلاب على القوى الإسلامية الأخرى المشابهة لكي تفرض برنامجها الإسلامي. فقد كان من الممكن من خلال العمل السياسي السلمي أن تحقق الجبهة الإسلامية أهدافها المعلنة.
    ولكنها بعد الانقلاب أدركت الاختلاف بين إسلامها المتضخم سياسياً وبين إسلامهم ـ أي السودانيين ـ الثقافي والاجتماعي والروحي. وحين وقفت هذه القوى معارضة بشدة للنظام الجديد على الرغم من شعاراته الإسلامية ولم يستطع النظام الا استمالة عناصر قليلة من أعضاء تلك الأحزاب وتم اغراء أغلبهم بمناصب رسمية والبعض الآخر كان مختلفاً أو غاضباً من حزبه السابق.
    وكان من الطبيعي أن يطرح (الإسلامويون) سؤالاً مهماً حين حاولوا انشاء تنظيم شعبي: «كيف تستطيع ـ أي الحركة الإسلامية ـ من جهة، أن تحرك هذا الوجدان الصوفي السالب إلى الرصيد من أن يتحول إلى فقاقيع هوائية فارغة وأن تجعله ينصب في أطر البناء الحضاري المنضبط؟» (التيجاني عبد القادر حامد 1992: ص34).
    وصار من المتوقع أن تهمش هذه القوى على الأقل لفترة، ويتبع ذلك عدم التورط في أي شكل انتخابي مفتوح وحر. خاصة وأن الأحزاب السودانية التقليدية أفرغت الديمقراطية من مضمونها بل شوهت وظيفتها لكي يحدث عكس المطلوب في النظام الديمقراطي، يكتب أحد الباحثين الإسلامويين: «فصارت الديمقراطية في مثل هذا المناخ هي الأداة المسلطة لتزوير الارادة الشعبية الإسلامية وتدوير السلطان السياسي والاقتصادي بين الطائفتين (الختمية والأنصار) وخلفائهم في الريف وحلفائهم من النخب المثقفة في المدن» (التيجاني 1992: ص43).
    كان من الطبيعي أن تمارس السلطة السياسية كل الوسائل لكي تضمن استمرارها وتؤمن وجودها، فالدولة أصلاً هي احتكار شرعي أو غير شرعي للعنف، فكيف يكون الحال اذا استندت هذه الدولة على الدين وأعطت نفسها حقاً مقدساً يضاف للحق السياسي. وقام المنظرون بتمهيد الظروف للعنف على أرض الواقع، بحيث يصبح جزءاً عادياً وليس نشازاً وخروجاً عن الأيديولوجية التي يتبناها النظام.
    اذ يقول الشيخ الترابي بصراحة مباشرة: «السودان اليوم وهو يتقدم نحو الإسلام، يبدأ أولاً بالغاء ما مضى لأن الدين يبدأ بالنفي ثم يثبت العبادة لله سبحانه وتعالى، لأنه قبل الايمان يكون الارتهان للمعبودين من دون الله. فالبداية هي تنظيف الساحة وطهارتها ونفي خبثها، ثم الصيرورة إلى ساحة العبادة والتوحيد والايمان. والسودان يبدأ المشروع بنفي النظم القديمة وبجمع السلطة وسلبها من أهواء البشر وصراعاتهم» (الترابي، 1992: ص32).
    واذا كان الشيخ الترابي يبدأ بالنفي، فإننا نجد أن منظراً آخر ينطلق من التفكيك وهي خطوة عملية أكثر من مفهوم النفي غير المحدد. ويرى التيجاني عبد القادر أن سيرورة التأصيل التي ابتدرتها الحركة الإسلامية منذ أكثر من نصف قرن، هدفت إلى تفكيك الدولة القومية ـ دولة ما بعد الاستقلال وتقطيع لعلاقات التبعية الكبرى التي تقوم على الهيمنة الطائفية (1992: 43).
    وسيكون أطراف المعركة هي الطائفية والامبريالية، خاصة بعد أن وصلت الحركة إلى السلطة. ويرى أن «العامل الحاسم في هذا الأمر سيكمن في قدرة الحركة الإسلامية السودانية على مقاومة دواعي الانشقاق الداخلي، وفي قدرتها على اعادة البناء الاجتماعي وفقاً لعملية اجتهاد وجهاد تقوّي احداهما الأخرى دون خروج على الأصل أو انقطاع عن العصر» (1992: ص54) .
    ومن الواضح أن هاجس (الإسلامويين) هو ما يعتبرونه «الانشقاق الداخلي» ومعالجته بإعادة البناء الاجتماعي لذلك لم يكن غريباً أن ترفع الحركة حين حكمت: شعار اعادة صياغة الانسان السوداني وهذا الهدف شبه النازي لا يعترف بالاختلاف أو التعدد، فهناك ـ في تصورهم ـ انسان واحد منمّط في سلوكه وتفكيره ورؤاه، ليس لديه حق الاعتراض أو المخالفة خاصة والأمر يتعلق بتطبيق مشروع حضاري إسلامي.
    فقد يدخل الاختلاف السياسي إلى دائرة خطرة يخرج من المعارضة السياسية إلى مجال الكفر والتجديف. وتعتبر عملية التنميط والغاء الفوارق في كل شيء حتى اللبس والشكل، من الأدوات المهمة في النظم الشمولية لأنها تضمن الخضوع والطاعة والاستقرار أو ما يدعى الوحدة الوطنية وهي الصفة المفضلة.
    تسعى النظم الشمولية ومنها نظام الإنقاذ رغم بدائيته إلى تحقيق السيطرة الكلية على المواطنين، وهذه العملية كما تعرفها حنة أرندت: «إن السيطرة الكلية، هي التي تجهد في تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم اللانهائيين وكأنما البشرية كلها ان هي الا هوية ثابتة من ردود الفعل. هكذا يتسنى لكل مجموع من مجاميع ردود الفعل هذه أن يُستبدل بأي مجموع آخر.
    أما المسألة فتكمن في أن يصطنع شيء ليس موجوداً، مما يعني أن يصنع نوع بشري يشبه الأنواع الحيوانية الأخرى والتي تقضي حريته الوحيدة في الحفاظ على نوعه» (أرندت، 1993: ص206).
    لجأ ستالين في التجربة الشيوعية وهتلر في ألمانيا النازية إلى اعداد النخبة اعداداً أيديولوجياً، ومن خلال الارهاب في معسكرات الاعتقال أو السجون. وينقسم المواطنون إلى خاضع إلى التلقين الأيديولوجي أو إلى معزول ومضطهد ومرعوب داخل السجون. وبالتالي تغيّب كل ما هو مخالف للنظام الشمولي، وهذا مجتمع مصطنع يخلو من العفوية والابداع وهذا الجدب أو الفراغ هو ما يملؤه النظام لأنه يمتلك وسائل الاعلام والتعليم والمؤسسة الدينية، ولا يسمح للأسرة بتنشئة مختلفة.
    ولكن المجتمع الموحد والانسان المنمط هي منتهى البشاعة والفجر والرتابة عند العاديين أو الطبيعيين من البشر. ولكن هتلر كان يرى أن «أعظم أعمال الحركة النازية انما يكفي في أن ستين ألفاً من رجاله يصيرون اذ يُنظر اليهم في الخارج، شبه شخص واحد، وأن هؤلاء الأعضاء هم في الحقيقة موحَّدو الأشكال، فليست الأفكار ما توحدهم فحسب، بل حتى تقاسيم الوجه التي تكاد تكون متشابهة:
    أنظروا إلى هذه العيون الضاحكة وهذا الحماس المتعصَّب، فتكتشفوا.. كيف أن مئة ألف رجل في حركة يتوصلون إلى أن يكونوا على النموذج الواحد نفسه» (أرندت: ص177) ويكاد أصحاب التنظيم الشمولي الواحد يكتسبون أنثروبولوجية خاصة تجعلهم يظهرون وكأنهم ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة واحدة ذات أصل واحد أو جد مشترك.
    وصار من الممكن معرفة عناصر الجبهة الإسلامية بعد استيلائهم على الحكم من خلال شكل خارجي موحد: اللحية، طريقة الكلام وتحريك الأيادي، الابتسامة، مفردات اللغة، الملبس، نوع الاستهلاك والاهتمامات... الخ
                  

العنوان الكاتب Date
سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-21-04, 09:51 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-21-04, 10:55 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-21-04, 11:30 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-22-04, 01:20 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-23-04, 02:56 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Hani Abuelgasim10-20-04, 05:10 AM
    Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم AnwarKing10-21-04, 12:41 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:41 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:43 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:45 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:46 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:47 PM
    Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم بكرى ابوبكر08-04-10, 06:29 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Agab Alfaya10-22-04, 05:27 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Khatim10-24-04, 00:06 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Elbagir Osman10-24-04, 11:21 AM
    Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم AnwarKing08-07-10, 00:44 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de