|
في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون
|
قد تبدأ الأشياء العظيمة باكتشاف يبدو لنا بسيطا.
إكتشاف الجاذبية الأرضية الذي قاد خطى الإنسانية إلى القمر، بدأ باكتشاف بيسط. تفاحة نيوتن.
السر إذن يكمن في رؤية ما لم ير الآخرون. فقد ظل التفاح يسقط منذ تفاحة آدم المجازية والحقيقية، ولم ير إنسان في ذلك بداية لكشف عظيم حتى جاء العبقري نيوتن ليقول أن هذه بداية ثورة في علوم الفيزياء.
والاكتشاف العظيم لحظة فاصلة بين الظلام والنور، لا يكون ما بعدها مثل قبلها.
هذه اللحظة الفاصلة لا يستطيع الإمساك بها سوى العباقرة.
وهذه اللحظة هي التي استطاع الراحل العظيم جون قرنق دي مبيور الامساك بها، فخرج بفكرة السودان الجديد.
ولو لم يفعل قرنق شيئا غير ذلك لدخل التاريخ كأحد اعظم بناة الأمم.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
لا أنوي هنا شرح فكرة السودان الجديد، فهي فكرة بسيطة لأنها في الأصل تجلي تجسيدي لفكر البسطاء المهمشين. التفاحة تسقط إلى اسفل، إذن، ثمة جاذبية أرضية.
كما لا أنوى التغني بمحاسن الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أسسها جون قرنق، فهذا فن لا أجيده.
الذي أريد القيام به هنا هو الإجابة على السؤال التالي:
لماذا اقتنعت بفكرة السودان الجديد؟
ومن خلال الشرح آمل أن تتجلى عظمة صاحب الفكرة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
حتى لا نتوه في مسالك المشكل السوداني، دعونا نبدأ بالظاهر والمرئي والملموس، أي قمة جبل الجليد من هذا المشكل.
والمرئي هو التناحر السياسي الذي وصل حد الحروب الأهلية.
ولا يكون الصراع السياسي عيبا في حد ذاته أو سببا لأزمة خطيرة، إلا إذا كان دائرا بلا أرضية مشتركة هي الوطن – الهوية، أو دائرا بسبب الاختلاف حول مفاهيم الوطن والهوية . هنا يتعدى الأمر الاختلافات الطبيعية بين البشر في البلد الواحد ليتحول إلى تشوه بنيوي. وهذا للأسف الشديد هو الحال في بلادنا.
ولنبدأ ببحث هذا الزعم حول التشوه البنيوي في نمو مفاهيم الوطن – الهوية في السودان.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: تولوس)
|
الأخ تولوس، شكرا على المتايعة.
أود في البداية التأسيس لأن ما قام به الراحل العظيم، جون قرنق دي مبيور، لم يكن مجرد تمرد على السلطة المركزية في الخرطوم، وإنما هو ثورة شاملة في مفاهيم الوطن والهوية والمواطنة. أي أنه قد حاول معالجة تشوهات التجربة السياسية السودانية معالجة جذرية. وهذا هو فعل المفكرين الثوار المخلصين.
ومعالجة ذلك تحتاج لبعض الإطالة، إذا يتعين أولا شرح تلك التشوهات من أجل التأسيس لفكرة ان قرنق قد رأى ما لم ير الآخرون.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
وثمة تشوه بنيوي آخر يتعلق بالبنيات الأساسية للحركة السياسية السودانية، ولكنه لا يرتبط بالمرجعية التاريخية للحركة السياسية الوطنية كما عرضناها أعلاه، وإنما يرتبط بالظروف والعوامل التاريخية التي لم يكن للحركة السياسية الوطنية يد فيها. فهذا التشوه الثاني يكاد يكون قدرا تاريخيا علينا أن نعيه ونتعامل معه وندرك نتائجه. وخطورة هذا التشوه البنيوي الثاني تكمن في تأثيره السلبي علي المنظومات المفهومية الخاصة بالوطن والمواطنة والقومية والهوية.
فالثابت تاريخيا أن أي من العهود التاريخية السودانية الحديثة الثلاث، التركية والمهدية والإستعمار، لم ينعم بالمدى الزمني اللازم والكافي له ليتمكن من خلال آليات التطور التاريخي التلقائية من التحول والترقي. فلم يتح لأي من هذه العهود أن يتطور من المرحلة العسكرية الفجة، مرحلة الفتح والغزو والثورة إلى مرحلة الدولة.
فقد قامت التركية السابقة وإنتهت دون أن تتجاوز مرحلة الغزو والحملة العسكرية. وقامت المهدية وإنتهت دون إن تتجاوز مرحلة سلطة الثورة. وأضطر الإنجليز للخروج من السودان، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية قبل أن يؤسسوا الدولة الديمقراطية المستقلة المرتبطة ببريطانيا عبر الكومونولث مثلما فعلوا في الهند قبل إستقلال السودان، ونيجيريا بعده. فقد كانت بريطانيا مضطرة للتخلي عن العديد من مستعمراتها حسب مقتضيات النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية. ومعلومة تماما الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة والأمم المتحدة ضد بريطانيا للتخلي عن السودان. وقد ذكر جابريل د. وار بيرج ذلك بوضوح في قوله: (كان الرأي السائد أن السودان سيظل تحت النفوذ البريطاني في المستقبل المنظور، ولهذا لا يبدو أن هناك سبباً في التنمية السريعة. ولقد تغير هذا كله بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن أجبر الإرهاق والضغوط من الأمم المتحدة وظهور الوطنية المتطرفة في كل من مصر والسودان، حكومة العمال البريطانية بتفكيك الإمبراطورية بأقصى سرعةٍ ممكنة).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
إن الحركة السياسية السودانية، متمثلة في جناحيها الكبيرين، عندما طرحت مشروع الدولة العروبية ومشروع الدولة الدينية، فقد تجاهلت عن عمد كل السودانيين الذين هم ليسو عربا أو مسلمين ولم تعاملهم سوي معاملة الأقليات. ونسبة لانخفاض الوعي والتخلف السائد في عموم المناطق التي يقطنها غير العرب وغير المسلمين في السودان، فان هذا الطرح الانتقائي لأكبر أجنحة الحركة الوطنية، قد إستطاع أن يمر وسط زخم الفرحة بالإستقلال على الكثيرين ألا مواطني جنوب السودان، الذين تنبهوا باكرا وقبل الإستقلال إلى الخلل الذي صاحب الحركة السياسية السودانية.
ثمة رجل واحد شجاع استطاع أن يرى ما تعامى عنه الآخرون من ساسة السودان قبيل إعلان الاستقلال. هذا الرجل الشجاع هو السيد إبراهيم بدري والذي وثق موقفه هذا في مذكرة تقدم بها إلى لجنة تعديل الدستور لعام 1951 والتي دعا فيها إلى (تضمين بنود احترازية خاصة بالجنوب والمناطق المتخلفة في الشمال ) وقد فسر ما عناه بالجنوب قائلا (عندما أقول الجنوب فأنا لا اعني سكان المديريات الجنوبية الثلاثة فقط، بل أيضا سكان جنوب الفونج في مديرية النيل الأزرق وأيضا بعض السكان من دار فور وجبال النوبة في كردفان .. كل هؤلاء لا يدينون بالإسلام ولا يتحدثون باللغة العربية ولا توجد روابط في التقاليد، الدين، اللغة، أو الثقافة بينهم وبين الشماليين. الصلة الوحيدة هي التواجد الجغرافي الذي يمكن إرجاعه لتاريخ الفتح المصري عام1820).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
السيد إبراهيم بدري وثق موقفه هذا الواعي منذ عام 1951.
لكن الأمر المدهش حقا هو أن هذا الرجل قد وضع يده على القضية التي صارت محورا للكثير من النشاط السياسي والإنساني والأكاديمي اليوم. نعني قضية "التهميش".
لا شك ان ذلك كان وعيا مبكرا بوجود مشكلة أسست لها الإدارة الاستعمارية، فانبرى هذا السياسي للفت النظر إليها في ذلك الزمن المبكر. بل انه قد حدد الإطار الجغرافي للمشكلة فذكر بدقة المناطق المهمشة حتى اليوم، وهي حسب لغة ذلك الزمن، (المديريات الجنوبية الثلاثة زائدا جنوب الفونج في مديرية النيل الأزرق وأيضا دار فور وجبال النوبة والمناطق المتخلفة في الشمال)،
كان الرجل يفكر ويعمل في إطار ما نسميه اليوم (السودان القديم)، لكنه كان جديدا حينها والبلاد على أعتاب نيل استقلالها. ولا شك انه لم يخطر ببال هذا السياسي النبيل أن الحال في السودان سيتدهور لدرجة فرض الحكم الاسلامي والثقافة العربية، أي فرض التهميش السياسي والثقافي، على المناطق التي ذكرها وبقوة السلاح.
مر ما يزيد عن نصف قرن على دعوة إبراهيم بدري الشجاعة، ولا يزال المستفيدون من هيكلية السودان القديم القديم يتمسكون بها ويدافعون عنها ولم يصلوا بعد لذرة من وعي ذلك الرجل.
لكل ذلك تطلب الأمر تأسيس حركة سياسية عريضة لها ذراعها العسكري لمواجهة الحرس القديم الذي اعتمد القوة العسكرية لفرض أسوأ نسخة للحكم تمخضت عنها هيكلية السودان القديم.
وفي ظل الظروف التي كانت سادة في بداية الثمانينات، وقد جن جنون الدكتاتور نميري، فارتمي بالكامل في أحضان مهووسي الحركة الإسلامية، كان الأمر يحتاج إما معجزة سماوية أو سوداني عبقري.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
فهم جديد للمشكل السوداني
كانت بصمات الراحل جون قرنق واضحة في (منفستو – 1983 ) الذي أعلنت من خلاله الحركة الشعبية لتحرير السودان عن وجودها. حاء ذلك المنفستو نقلة نوعية ضخمة ضمن تطور حركة التمرد والثورة التي ظلت مندلعة في الجنوب منذ عام 1955م. فلأول مرة في تاريخ السودان يقدم تنظيم سياسي سودإني فهماً قائماً على الدراسة والتحليل لما كان يسمى (مشكلة جنوب السودان)، وتتبدى نتائج الدراسة والتحليل في الفهم الجديد للمشكلة. فقد توصلت (الحركة الشعبية لتحرير السودان) إلى إن ما يسمى بمشكلة جنوب السودان هي في الحقيقة (مشكلة عامة، إذ هي في الاساس مشاكل المناطق المتخلفة في القطر كله).
ولا تتحامل الحركة على (الشمال أو الجلابة او المندوكورو) في مسئولية خلق مشكلة المناطق المتخلفة، كما يفعل بعض متشدقي النضال هذه الايام، بل تلوم الإستعمار. فهي ترجع نشوء هذه المشكلة إلى سياسة الإستعمار التي كانت قائمة على (تكريس التباين الإجتماعي والثقافي والديني بين الشمال والجنوب).
كما يظهر أثر الدراسة والتحليل في تحديد مصطلح (الشمال) في فهم الحركة، فالحركة ترى إن الشمال (يشمل [فقط] مديريتي الخرطوم والجزيرة القديمتين). وترى الحركة إن إقليم دارفور وكردفإن وكسلا والشمالية (متخلفة مثلها مثل المديريات الجنوبية).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في الذكرى 28 للحركة الشعبية - جون قرنق ... رؤية ما لم ير الآخرون (Re: حامد بدوي بشير)
|
ترجع الحركة سبب إندلاع التمرد في الجنوب، دون بقية الاقاليم المتخلفة إلى عدم الرضى بحركة سودنة الوظائف [1954-1955م] من قبل الصفوة الجنوبية. إلا إنها لا تلوم الصفوة الشمالية على التوزيع غير العادل للوظائف بين الصفوه الشمالية والصفوه الجنوبية. فهي ترى إن هذا التوزيع غير العادل، (كان ضرورة تاريخية ترجع جذورها إلى التنمية الهامشية غير المتوازنة في الشمال والجنوب خلال الفترة الإستعمارية).
وبناءاً على هذا الفهم للمشكلة تتوصل الحركة إلى إستنتاج أساسي يبرر إحداث هذا التحول الراديكالي في تنأول المشكلة. فحيث إن إندلاع التمرد في الجنوب يرجع إلى عدم رضا الصفوه الجنوبية ######طها على التوزيع غير العادل للوظائف التي أخلاها الموظفون الاستعاماريون، فإن هذا قد جعل أهداف التمرد في الجنوب (تدور حول الوظائف والالقاب الوظيفية) وليس حول مشكلة الجماهير المهمشة والاقاليم المتخلفة. يوضح التشخيص الدقيق والتحليل النقدي لنشأة المشكل السياسي السوداني ولطبيعة حركات التمرد في الجنوب، أن المنهج الذي اتبعته الحركة الشعبية، تحت قيادة جون قرنق، كان منهجا نقديا بعيدا عن الديماجوجية والصراخ السياسي والشعارات الرنانة. كان منهجا يقوم أولا على الصدق مع النفس.
| |
|
|
|
|
|
|
|