|
دمشق .. نزار قباني
|
دمشق مهرجان الماء والياسمين
لا أستطيع أن أكتب عن دمشق , دون أن يعرش الياسمين على أصابعي . ولا أستطيع أن أنطق اسمها , دون أن يكتظ فمي بعصير المشمش والرمان , والتوت , والسفرجل . ولا أستطيع أن أتذكرها , دون أن تحط على جدار ذاكرتي ألف حمامة .. وتطير ألف حمامة ..
كل أطفال العالم , يقطعون لهم حبل مشيمتهم عندما يولدون إلا أنا .. فإن حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق منذ 21 آذار 1923 . إنها معجزة طبية , أن يبقى طفل من الأطفال يبحث عن ثدي أمه سبعين عاماً …
أنا مسكون بدمشق , حتى حين لا أسكنها . أولياؤها , مدفونون في داخلي . حارتها تتقاطع فوق جسدي . قططها , تعشق .. وتتزوج .. وتترك أطفالها عندي .
دمشق , ليست صورة منقولة من الجنة . إنها الجنة . وليست نسخة ثانية للقصيدة .. إنها القصيدة . وليست سيفاً أموياً على جدار العروبة إنها العروبة .
لا تطلبوا مني أوراقي الثبوتية . فأنا محصول دمشقي مئة بالمئة.. كما الحنطة , والخوخ , والرمان , والجانرك , واللوز الأخضر في بساتين الغوطة . وكما البروكار , والأغباني , والداماسكو , وأباريق النحاس , والخزائن المطعمة بالصدف , التي هي جزء من تاريخي .. ومن جهاز عرس أمي ..
اللغة التي أكتب بها أيضا , هي محصول دمشقي فلو فتحت ثقبا صغيراً في أبجديتي .. لانفجرت نوافير الماء.. وطلعت من مسامات حروفي.. رائحة النرجس , والريحان , والزعتر البري , والطرخون …
سافرت كثيراً.. حتى وصلت الى حائط الصين العظيم . ولكن حمائم الجامع الأموي لا تزال تطلع من جيوبي حيثما اتجهت , ولا تزال القطط الشامية تموء تحت سريري في كل فندق أنزل فيه . ولا تزال رائحة الخبيزة والقرنفل تطلع لي من كل حقيبة أفتحها ..
أنا خاتم من صياغة دمشق . نسيج لغوي من حياكة أنوالها . صوت شعري خرج من حنجرتها . رسالة حب مكتوبة بخط يدها . سحابة من القرفة واليانسون , تتجول في أسواقها . شجرة فل تركتها أمي على نافذتي , ولا تزال تطلع أقمارها البيضاء … كل عام ..
|
|
|
|
|
|