|
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! (Re: صلاح عباس فقير)
|
المبحث الثاني موقف الإمام الغزالي من نظرية الفيض أ/ سؤال : أيمكن أن يَعتقد أو يتأثر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي بهذه النظرية المتهافتة ، وهو الذي كانت له مع الفلاسفة ومقاصدهم صولات ، كما كانت له مع الباطنية وفضائحهم جولات ؟ سؤال يفرض نفسه علينا بإلحاح ، ننظر إلى الجانب المشرق المعروف عن أبي حامد الغزالي صاحب ( إحياء علوم الدين) ، وغيره من التصانيف البديعة فنستنكر ، ثم نطالع بعض الدراسات الحديثة التي تكشف في شخصية الغزالي عن جانب آخر وتسوق الشواهد والأدلة على وجوده فنتحير . ومن كل ذلك نستشعر حاجة ماسة إلى دراسة منهجية متكاملة للتراث الفكري الذي خلفه أبو حامد الغزالي ، دراسةٍ تتيح لنا - على الأقل - أن نجيب عن ذلك السؤال بوضوح . لكن ذلك لا يمنعنا في إطار هذا البحث بل يوجب علينا أن نقترب من ذلك الجانب المشار إليه، لنطلع على حقيقة ما يقال فيه عن الوجه الآخر لشخصية أبي حامد الغزالي الفكرية . ب/ شخصية ذات وجوه متعددة : مما هو معلوم بالضرورة عن أبى حامد الغزالي ، أنه قد قسم كتبه إلى قسمين : قسمٍ سماه الكتب (المضنون بها على غير أهلها) وخاطب به صفوة من الناس وأودع فيه ما أسماه بالأسرار ، وقسمٍ قدّمه للجمهور ومن أمثلته (إحياء علوم الدين) . قال ابن تيمية ( وأما "المضنون به على غير أهله" فقد كان طائفة من العلماء يكذّبون ثبوته عنه ، وأما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه ، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضا) . بل قد صرح الغزالي في خاتمة كتابه ميزان العمل بأن المذهب الذي يعتنقه المرء ( اسم مشترك لثلاث مراتب : إحداها ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات ، والأخرى ما يسارُّ به في التعليمات والإرشادات ، والثالثة ما يعتقده الإنسان في نفسه مما أنكشف له من النظريات ، ولكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار) . نستطيع - بناءً على ذلك - أن نقول إن لشخصية الغزالي الفكرية وجوهاً متعددة ، وهذه صفة في حد ذاتها قد تكون حسنة ، ولكن السؤال هو: هل القول بنظرية الفيض - اتباعاً للفارابي وابن سينا - أحد هذه الوجوه ؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال معتمدين على أحد كتبه (المضنون بها على غير أهلها) كتاب معارج القدس ، الذي كتبه الغزالي مضطراً – كما قال- لأن ( الزمان قد خلا من الوارثين لهذه الأسرار ) ، فلم يجد بداً من تسطيرها وتوجيهها إلى صفوة من الإخوان ، ( الذين لهم المناسبة العلوية والقريحة الصافية ) ، ولم ينس أن يوجه إليهم – في خاتمة كتابه - هذا التحذير قائلاً بنبرة حاسمة ( ثم إني حرمت على جميع من يقرؤه من الإخوان ... أن يبذله لنفس شريرة أو معاندة أو يطلعها عليه أو يضعه في غير موضعه : فمن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين علماً فقد ظلم ) . فلنر ماهيّة هذه الأسرار التي اضطرّ إلى كشفها أبو حامد الغزالي في هذا الكتاب .
ج/ جوهر فكرة الفيض : في النص التالي نجد توكيداً لصفتي الوحدة والبساطة اللتين يتصف بهما لله - سبحانه وتعالى - في تصور أصحاب نظرية الفيض مع ما يبنونه عليها من القول بأن الواحد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد ، يقول أبو حامد الغزالي ( فالواحد الحق هو الله سبحانه ... ويكون التركيب منفياً عنه من كل وجه ) ، أما ما سواه ( فلا يخلو عن تركيب ما ، وإن كان من حيث العقل لا تركيباً جسمانياً أو متوهماً ) ، يعني أن ما سوى الله سبحانه إن لم يكن عقلاً فهو مركب تركيباً بدنياً حسياً ، أما إن كان عقلاً فلا يكون تركيبه كذلك ، وحتى يبين طبيعة تركيب العقول يضرب مثالاً بواحد منها فيقول ( حتى أن العقل الذي هو المبدع الأول لا يكون واحداً صرفاً بل فيه اعتباران ) ، وهذان الاعتباران هما بحسب نظرية الفيض أنه عقل مبدأه ثم عقل ذاته ، يقول الغزالي ( ولهذا صدر منه أكثر من الواحد ) . إن هذا النص - الذي قدمناه مجزأً من أجل شرحه - يدل دلالة قاطعة على تأثر الغزالي بنظرية الفيض . بل لنقرأ في نص آخر محاولة جريئة للاستدلال بنصوص الشرع على فكرة الفيض والعقول ، يقول أبو حامد الغزالي ( أما العقل فيطلق ويراد به العقل الأول ، وهو الذي يعبر عنه بالعقل في قول النبي ( أول ما خلق الله العقل ، فقال له أقبل فأقبل ، ثم قال له أدبر فأدبر ) ) ثم بعد هذا الاستدلال يشرح الغزالي كلمتي (أقبِل ) ، (أدبِر) بقوله ( أي أقبل حتى تستكمل بي ، وأدبر حتى يستكمل بك جميع العالم دونك ) ولعلنا نلحظ بوضوح في هذه العبارة جوهر فكرة الفيض وقد لبست لباساً شرعياً.
د/ العقول والأفلاك : والنص التالي يبين الدور المهيمن الذي تلعبه الأفلاك ، يقول أبو حامد الغزالي ( وجميع ما يحدث في العالم العنصري منوطة بالحركات السماوية ، وحتى الاختيارات والإرادات ... فجميع الاستعدادات تابعة للحركات السماوية ( = ثم هذه) مستندة إلى اختيارات النفوس الفلكية ، والكل يستند إلى العقل الإلهي المستعلي على الكل ... فالجود الإلهي بواسطة العقول والنفوس والحركات السماوية يعطي كل مادة استعدادها ) . إذاً فالجود الإلهي إنما يحصل بواسطة العقول والنفوس والحركات السماوية ، وليس ذلك بمعنى أن ( العقل الإلهي المستعلي على الكل ) يأمر أحد العقول أو الأفلاك أو الملائكة بإفاضة الجود على بعض خلقه ، ليس كذلك لأن ذاتَ ذلك العقل الإلهي- كما أشار الغزالي في الفقرة السابقة- بسيطة لا تركيب فيها ، فلا يصدر عنها إلا شئ واحد بسيط مثله . بل يوظف أبو حامد الغزالي قوله تعالى ( ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ، ليستدل على هذه الحقيقة بقوله ( فالمخلوقات كلها مفطورة على الازدواج : لطيفها وكثيفها ، معقولها ومحسوسها ، ففي المركبات ازدواج ، وفي البسائط ازدواج ،وبين البسائط والمركبات ازدواج ) ، فهو هنا يقرر أن الزوجية فطرة عامة للمخلوقات وأنها تتنوع صورها في المركبات وفي البسائط وفيما بين المركبات والبسائط ، ويبدأ بأن يوضح طبيعة الازدواج فيما بين البسائط والمركبات ، يقول ( والنفوس بواسطة الأفلاك معطية والعناصر ( = الأرضية ) قابلة ، وبين المعطي والقابل نتائج ومواليد من المعادن والنبات والحيوان والإنسان ) ، ويبدو أن هذا الازدواج الذي تم بين المركبات والبسائط يستند إلى ازدواج أرفع تم في عالم البسائط ، يقول ( وبين العقل والنفس ازدواج كما بين القلم واللوح ازدواج ، ومواليدهما الروحانيات من العقول والنفوس ) ، أما الازدواج في المركبات فيحدث كما هو معلوم في عالم العناصر الأرضية ، وكما لا حظنا فكل ازدواج من هذه الثلاثة قد نتجت عنه مواليد هي أصناف الموجودات المختلفة ، فهذه المواليد أهي من خلق ذلك ( العقل الإلهي المستعلي ) أم إنه يتبرأ منها ؟ سؤال يطرح نفسه بإلحاح ، و يردّ عليه أبو حامد الغزالي – في ختام هذا النص – قائلاً ( و مَن له الخلق والأمر متعالٍ على الازدواج أداء وقبولاً ، سبحانه أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة و خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً ) ، لنتابع هذا النص من بدايته إنه يقرر أن الإنسان مثلاً قد نتج من الازدواج بين نفوس الأفلاك والعناصر فهو وليد لتلك النفس الفلكية ، أما الله سبحانه فيتعالى عن أن يكون له ولد ، وهذه حقيقة من ثوابت العقيدة الإسلامية لكن الغزالي يدسّ فيها معتقد أهل الفيض عن الذات الإلهية ، من خلال وصفه لها بِ( العقل الإلهي المستعلي على الكل ) ، فوصفه بالاستعلاء للدلالة على الترفع والتنزه عن الفكر فيما هو دونه ، و بالتالي عن خلق ما هو دونه.
هـ/ مراتب العقل من الكتاب الإلهي : كما مرّ بنا فإنّ جوهر فكرة الفيض يتمثل في حركة صاعدةٍ مترقية ، وهذه الحركة الصاعدة المترقّية إنما تحصل للإنسان من خلال ما يسمونه بعملية التجرّد أي من البدن وصفاته ، بحيث تتحرّر كينونته الحقيقية فيصير روحاً خالصاً أو عقلاً ، وذلك يتم _ كما اتفق القائلون بالفيض _ عبر الارتقاء من مرتبة العقل الهيولاني إلى العقل المَلَكي ، ثم إلى العقل المستفاد الذي هو أعلى مراتب العقل في طوره الإنساني والذي يكون مستعدّاً لاستقبال فيوضات العقل الفعّال ، وذلك حتّى يصير مثله عقلاً كلياً أو كوكباً من الكواكب التي هي – في تصورهم _ الملائكة . تحت العنوان أعلاه يحاول أبو حامد الغزالي أن يستدل على مراتب التجريد العقلي التي يرتقي من خلالها الإنسان – كما يزعمون – حتى يصير ملكاً من الملائكة . يقول أبو حامد ( اعلم أن الله تعالى ذكر هذه المراتب في آية واحدة ، فقال (الله نور السموات والأرض ) إلى نهاية الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور ، ثم يقول ( فالمشكاة مثل للعقل الهيولاني ) ، وهكذا يبذل جهداً في المقابلة بين الأسماء الواردة في الآية ، وبين مراتب العقل عند الفلاسفة وأصحاب الفيض حتى يبلغ إلى قوله تعالى ( نور على نور ) فيفسره بأنه ( نور العقل المستفاد على نور العقل الفطري ) ومن أين استفيدت أنوار العقل المستفاد ؟ يجيب أبو حامد الغزالي عن هذا السؤال بوضوح يزيل كلّ شك عن حقيقة مقاصده يقول ( هذه الأنوار مستفادة من سبب (= تُعتبر) هذه الأنوار بالنسبة إليه كالسراج بالنسبة إلى نار عظيمة طبقت الأرض ، فتلك النار هي العقل الفعال المفيض لأنوار المعقولات على النفس البشرية) .
و/ العقل الفعّال: يتردّد مصطلح العقل الفعّال كثيراً في كتاب معارج القدس ، متسماً بنفس السمات تقريباً التي يتسم بها عند أصحاب الفيض . فالعقل الفعّال هو آخر العقول العشرة ، والغزالي يؤكد ذلك إذ يذكر أن الروحانيات قد ( انتهت بروح القدس أو العقل الفعال) ، وعندهم هو الجوهر المفيض للمعقولات وواهب الصور وكذلك يستخدم الغزالي نفس هذه الأوصاف في تحديد طبيعته . وفي النص التالي يبدو لنا جلياً أن الغزالي إنما يريد بثّ نظرية الفيض من خلال نصوص الشرع ، يقول ( وإثبات العقل الفعّال من حيث الشرع أظهر من أن يثبت لوروده جلياً في النصوص كقوله تعالى (علمه شديد القوى ، ذو مرة فاستوى) ) . إن ما يلفت النظر في هذا النص أنه يتحدث عن العقل الفعّال باعتباره اسماً واضحاً بذاته وعَلَماً بارزاً الأمر الذي لا يجد تفسيراً إلا في إطار المرجعية الفلسفية ، لأن نصوص الشرع لم يذكر فيها هذا الاسم العلم .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 07:32 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 07:36 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 07:39 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 07:42 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 07:44 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | محمد عمر جبريل | 09-19-10, 07:46 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | هشام آدم | 09-19-10, 08:11 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 08:52 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | صلاح عباس فقير | 09-19-10, 09:01 AM |
Re: نظرية الفيض والصدور! أو نظرية العقول والأفلاك! | هشام آدم | 09-19-10, 09:16 AM |
|
|
|