هدني الحزن وأطبق على الأسى لما بلغ مسامعي خبر رحيل منصورخالد من هذه الدار الفانية. خبر كرهت أن أصدقه. كنت كالمتنبي عندما نُعيت إليه أخت سيف الدولة:-
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
في ذلك اليوم فقدت أخاً وصديقاً عرفته منذ أن كنت أستاذاً بمدرسة أم درمان الوسطى ومنصور طالباً لا يجاوز عمره الثالثة عشرة. كان منصور من التلاميذ "الشطار" يتحلى بالذكاء وحب المعرفة، وكنت اتوسم فيه المقدرة على التفوق حتى بلوغ آخر مراحل التعليم. مضى منصور إلى المدرسة الثانوية ولكني لم أستطع مشاهدته عن كثب إذ انقطعت صلتي بالتدريس بضع سنين. ولكني كنت حريصاً على تتبع أخباره. كان خاله أمير الصاوي صديقاً عزيزاً وزميلاً في كلية غردون التذكارية التي كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في السودان حتى الثلاثينات من القرن الماضي. لم تعد الكلية كافية لاستيعاب كل التلاميذ المؤهلين للدراسة الثانوية وبدأ المواطنون ينشئون المدارس الثانوية أولاً المدرسة الأهلية في أم درمان وبعد ذلك في واد مدني والابيض وغيرها من المدن الكبرى. بعد إكمال الدراسة الثانوية يستمر الطلبة إلى التخصص: العلوم الطبيعية( Science )، الطب، الزراعة، القانون، الآداب. بعد الدراسة الثانوية أختار منصور دراسة القانون فأحرز درجة LL.B. ثم تعلم اللغة الفرنسية وأجادها فأصبح أهلاً لأعلى المناصب الوزارية وصار وزيراً للخارجية ومثل السودان في عدد من اللجان العالمية في البلاد المختلفة. كان منصور صادقاً في القول والعمل لا غرو وقد ولد ونشأ بين قوم عرفوا بالصدق وحسن السيرة والسريرة وانطلاقاً من ذلك أعجب بعبد الله خليل الذي صار من مؤسسي حزب الأمة وأصبح السكرتير العام للحزب وأصبح منصور سكرتيراً له. كان منصور من الداعين إلى أن يظل السودان حراً مستقلاً شاملاً لكل أجزائه حتى جوبا جنوباً. كان منصور صديقاً عزيزاً. كنت أحب الاستماع إليه والعلم يتدفق منه في أي موضوع يطرقه، ومع ذلك فقد كان ديمقراطياً متقبلاً للرأي الآخر وكثيراً ما كان يشاورني ويحاورني حول هموم الوطن وقضاياه المصيرية مثل مفاوضات نيفاشا واتفاقية السلام. لم تنقطع صلتي به حتى فرقت بيننا ظروف الحياة وعدم المقدرة على تكبد مشاق السفر، لذلك ظل منصور مقيماً في لندن وظللت أنا في واشنطن. كان منصور يحب الوطن حباً لا يتطرق اليه الشك فيغادر إقامته في العاصمة البريطانية حيث إتاحة وسائل العلاج الذي كان في أمسّ الحاجة اليه ويتكبد مشاق سفر لا طاقة له به ليعود إلى أرض الوطن ويزور أقصى مدن الجنوب ولدى عودته للخرطوم توافيه المنية عن كثب من أخواله وأجداده الأتقياء الصالحين. رحم الله منصور رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة