|
Re: تداعيات في بلاد بعيدة (Re: حيدر حسن ميرغني)
|
بالمقابل ، كان لهذه"الحضارة" دموع قلّما رآها عالم المدينة الضيق ، وإن سمع عنها حدَّ الرثاء والشماتةً أحيانا، تلك كانت دموع الجارة ... أو أحزان فاطمة ، التي كاد أن يفضي بها "نجاح ماما المذهل" إلى "جنون لا عودة منه"، على حد تعبير أختي الكبرى التي عادت ذات إجازة بوجه مستثار حاملة لأمي أنباء عن أهمية قيام مظاهرات طلابية في " العام التالي " تطالب الحكومة بإصدار قوانين صارمة تتيح للزوجة أن ترفع ضد الزوج قضية طلاق وتعويض مالي ضخم في حالة ما إذا " ركب رأسه وصمم على ختان البنات " ، لكنها أبداً لم تحدثها عن الخطط السرية لتلك المظاهرات بشأن " المثليين " ! .
زاد الأمر تعقيداً أن زوجها صلاح عاد في ذلك الصباح إلى البيت يشمله حزن ثقيل، دلف صافقاً باب الحوش وراءه، و "سيبقى صدى هذه الصفقة المدوي يتردد طويلاً " في أنحاء المدينة! ، حدث ذلك بعد ذهابه إلى الدكان بنحو الساعة أو أكثر قليل اً، كانت وقتها داخل المطبخ، تعد " طعام الغداء "، ظنت في البداية أن ابنتها الوحيدة "أمل"، التي غادرت منذ دقائق إلى مدرستها، قد نسيت شيئاً ما، ثم عادت لتسترده على عجل، لكنَّ هاجساً غامضاً دفعها إلى الخروج ...... "المسكينة... لم يرد إلى ذهنها... حتى تلك اللحظة.... أن المرحوم والد صلاح... الذي كان يمتلك نسخة أخرى من مفتاح باب الحوش... قد يعود غاضباً ذات يوم... وقد أضجرته رقدة المقابر الطويلة"، هكذا خرج الكلام من فم "وكالة رويتر المحلية"، وهي تحاول جاهدة أن تضع بعض التوابل على حكايتها في محاولة لتبديد ما تبقى من كرب ارتسم على وجه المحافظ عقب "زيارة ذلك الوزير المتعجرف التفقدية... المفاجئة"، و لاحظ لأول مرة الشُعيرات البيضاء التي غزت رأسها في وقت وجيز عندما قالت : "وذلك المسكين أيضاً... يا سيادة المحافظ... بعد أن قفل باب الحوش... مشي ببطء ... وقد أحنى رأسه... حتى أنه تجاوزها... دون أن يُلقي عليها نظرة واحدة... و "قسماً بالله ثلاثاً"... كما يقول الحاج محمود... لو بُعث والده من القبر حياً ... لما تعرّف عليه داخل تلك الملابس... التي فرضتها عليه فاطمة... كما تعلم... بعد عودة بنتي جارتها من إجازتها الأولى في الخرطوم".
كان يرتدي بنطال "كوردرايت" أزرق ذا نهايات واسعة يعلوه قميص أحمر ذو أكمام جدُّ قصيرة أُطلقت عليه عبارة دراجة طويلة مفادها: "ذراعاه المشعرتان تحتضنان صيف حبيبة حضارية ماطر"، منتعلاً حذاء من "الكموش" الأخضر الباهت ذا قاعدتين مرتفعتين تحدثان لدى ملامسة الأرض "صوتاً مكتوماً"، ولربما... أو لهذا الصوت تحديداً، كان الرجال يقبلون على شرائه ، "صوت" أطلق عليه سادة الموضة في الخرطوم عبارة لا تقل اشتعالاً في جيشانها العاطفي عن سابقتها : "مشية الحضاري الرصينة المُتقنة"، لقد تبدلت أسماء أشياء عديدة في تلك الأيام ، حتى أن الحاج محمود تساءل ذات يوم بغرابة شديدة : "يا وكالتنا... من أين يأتون بأسماء الشيطان هذه " .
سارت وراءه ، وقد وافقت خطاها إيقاع خطواته البطيئة المثقلة ، "لابد أن كارثة أخرى في طريقها إلى تدمير ما تبقى من سلام المنزل"،هكذا حدست فاطمة، وهي تتابع تطاير ورقة صفراء نُزعت على نحو من الأنحاء من كتاب "ألف طريقة لصناعة الحلوى"، حقا ما عادت الأشياء هي الأشياء ، كانت "الهزائم الحضارية المتتالية"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية المعني بتدريس "تاريخ حروبات المهدي"، قد حفرت في نفسها عميقاً، لقد أصابتها بنوع من "اللامبالاة"، كان ثمة ريح شمالية جافة واهنة شيئاً ما، تزيل ما تبقى من نداوة ذلك الصباح، وهي تتخلل أغصان شجرة الليمون في أقصى الحوش، ثم تدفع بأوراقها المتساقطة الجافة نحو "مشية الحضاري المتقنة" البطيئة الحزينة هذه المرة، أخيراً تهالك على مقعد داخل صالة المعيشة، غائم النظرات، مشبكاً يديه فوق رأسه، ماداً ساقيه الملتفين نحو طرف سجادة فارسية شديدة الحمرة، بينما علا أزيز الثلاجة "كولدير" الجاثمة على يمينه في تزامن مع صوت الريح التي أخذت تولول في الخارج على حين غرة، كانت لا تزال واقفة إلى يساره داخل "قميص النوم الوردي الشفّاف"، تنظر إليه بعينين واجمتين، ولا تدري أية مصيبة ستقع على رأسها الآن ، "يا ترى.. بعد مرور كل هذه السنوات... ألا تزال ذكرى والده تؤلمه إلى هذه الدرجة ! ... أخبرني بالأمس فقط أنه ظل يزوره في المنام كثيراً... قال إنه يسأله بنصف لسان دائماً... يقول له... يا صلاح... يا ولدي العاق... لماذا تفعل هذا من بعدي.... ثم يؤنبه بوجه يسيل منه الدود... يا صلاح... يا ولدي... أمركم الآن لا يعجبني"، عندما أتت "وكالة رويتر المحلية" للمرة الثالثة على ذكر الموت " على هذا النحو المقزز " ، تلاشت ابتسامة المحافظ، وتقبض وجهه، فطفق ينظر مشمئزاً عبر نافذة مكتبه الزجاجية المطلة على ميدان الحرية الواسع، قبل أن يعود كما كان متابعاً مجرى الحكاية " الشهيرة " كبوصلة .
في تلك اللحظة ، حين تراءى أمام عينيها مثل طيف حبيب آخذ في الذوبان والتلاشي شيئاً بعد شيء ، اقتربت منه خطوة ، ثم بصوت مرتعش خفيض ، خرج من بين شفتيها المرتجفتين ، السؤال الذي ظل يغلي في داخلها طويلاً كمرجل :
- " ما بك ... يا (أبو أمل)" ؟!.
وقد تدحرجت دمعته الخرساء أمام عينيها لأول مرة:
- " لاشيء " .
يتبع
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-27-07, 05:11 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | أبوذر بابكر | 03-27-07, 06:32 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-27-07, 06:38 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | فيصل نوبي | 03-27-07, 07:07 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-27-07, 07:31 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | معتصم دفع الله | 03-27-07, 07:36 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-27-07, 05:55 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | osama elkhawad | 03-27-07, 06:41 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-27-07, 08:21 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | Osman Musa | 03-27-07, 08:42 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-28-07, 06:37 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | elham ahmed | 03-28-07, 04:51 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-28-07, 06:28 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-29-07, 07:06 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الدائم سيد أحمد | 03-29-07, 09:29 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-29-07, 06:02 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-30-07, 07:06 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-30-07, 08:14 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-30-07, 04:02 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-30-07, 07:25 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | حيدر حسن ميرغني | 03-31-07, 05:16 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-31-07, 06:54 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | ابو جهينة | 03-31-07, 07:03 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-31-07, 08:14 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | ahmad almalik | 03-31-07, 11:24 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 03-31-07, 03:24 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-01-07, 02:23 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-01-07, 06:40 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | Kamal Abdu | 04-01-07, 07:51 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-01-07, 03:50 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-02-07, 02:38 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-02-07, 07:33 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | غادة عبدالعزيز خالد | 04-02-07, 07:39 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-03-07, 08:27 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-03-07, 06:08 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-04-07, 07:34 AM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-04-07, 04:52 PM |
Re: تداعيات في بلاد بعيدة | عبد الحميد البرنس | 04-05-07, 06:32 AM |
|
|
|