المخلوق الراوي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-17-2024, 07:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-11-2007, 10:33 PM

Amin Elsayed
<aAmin Elsayed
تاريخ التسجيل: 09-05-2003
مجموع المشاركات: 1252

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المخلوق الراوي




    واشنطن: منير الماوري

    يقول بعض الفلاسفة إن البشر نوعان: نوع يعيش ليأكل، وآخر يأكل ليعيش، أما الأديب الروائي، والكاتب الصحافي، والفيلسوف الإنساني الشهير غابريل غارسيا ماركيز فقد اختار لنفسه طريقا ثالثا مميزا، وقال عن نفسه إنه «يعيش ليروي». ومن أجمل ما رواه هذا الكاتب الكبير سيرته الذاتية التي نشر الجزء الأول منها عام 2004 تحت عنوان «العيش من أجل الرواية»، لم يرو فيها قصة السنين الأولى من حياته فحسب بل روى تاريخ بلاده كولومبيا، وتاريخ أميركا اللاتينية، وقصص أجيال بأكملها بكلمات وعبارات أجادت الوصف وأبدعت التشخيص.
    وقد احتفل محبو الأديب الكولومبي العالمي، يوم الثلاثاء الماضي، بدخوله العام الثمانين من عمره حيث أن شهادة ميلاده الرسمية تشير إلى أنه مولود في 6 مارس (اذار) 1928، رغم أن بعض كتاب سيرته الذاتية أشاروا إلى خطأ في تاريخ ميلاده المعلن، قائلين إنه ولد في عام 1927 وليس في 1928 وفقا لما أكده والده في سنين مبكرة من حياته. وسواء أكمل الرجل الثمانين أو دخل الثمانين من عمره فإن الشيء المتفق عليه بين الجميع هو أن حياته كانت حافلة بالأدب الرفيع، والكتابة الراقية والقصص المبهرة، التي حاز عنها جائزة نوبل للآداب، وأصبح من بين من يشار لهم بالبنان في الأدب العالمي، بل إنه أشهر رجل في تاريخ كولومبيا الحديث على الإطلاق.
    ومن المقرر أن تقيم كولومبيا في السادس والعشرين من الشهر الجاري مهرجانا كبيرا لإحياء ميلاد أشهر أبنائها، حيث دعي لحضور المهرجان، الذي سيقام في مدينة كارتاغينا، ضيوف من مختلف أنحاء العالم، بينهم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وملوك ورؤساء آخرون سابقون وحاليون، وكتاب عالميون من الحاصلين على جائزة نوبل في الآداب. ويأتي احتفال كولومبيا بعيد ميلاد غابريل غارسيا ماركيز ليتزامن أيضا مع الاحتفال بمرور 25 عاما على حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1982، ومرور 40 عاما على صدور أشهر رواياته التي حصل بموجبها على الجائزة وهي رواية «100 عام من العزلة» التي نشرها عام 1967، وهو يمر بأسوأ حالات الفقر والعوز، وبيعت منها 20 مليون نسخة باللغة الاسبانية ومعظم اللغات العالمية التي ترجمت إليها. كما تتزامن الاحتفالات أيضا مع مرور 60 عاما على صدور أول رواية أدبية له أصدرها عام 1947 تحت عنوان «الاستقالة الثالثة». ومن المتوقع أيضا أن يعرض نهاية هذا الشهر في مدينة كارتاغينا فيلم «الحب في زمن الكوليرا» وهو عنوان واحدة من قصصه الشهيرة التي تحولت إلى فيلم سينمائي. وقبل أن يتلقى غارسيا ماركيز في عيد ميلاده الثمانين الهدايا من محبيه في مختلف أنحاء العالم فاجأهم بهديتين ثمينتين على هيئة خبرين سارين، الأول هو خبر شفائه من مرض السرطان بعد خضوعه لعلاج في مركز طبي بمدينة لوس أنجيلس في ولاية كاليفورنيا، منذ أن تم تشخيص مرضه عام 1999، أما الهدية الثانية أو الخبر الثاني فهو مرتبط على ما يبدو بخبر الشفاء ويتعلق بقرار الأديب العالمي الخروج من عزلته المختارة التي فرضها على نفسه منذ أكثر من عام، حيث أعلن في الأسبوع الحالي أنه قرر العودة لكتابة الجزء الثاني من سيرته الذاتية، بعد أن كان قد أعلن مطلع عام 2006 أن الوقود لديه قد نضب وقرر التوقف عن الكتابة من أجل التفكير الخلاق. وصرح في ذلك العام لصحيفة تصدر في مدينة برشلونة قائلا إن «عام 2005 هو الأول في حياتي الذي يمر من دون أكتب سطرا واحدا»، وأضاف «لم أجلس أمام جهاز كومبيوتر طوال العام، ولا أتوقع أن أعود إلى الكتابة مجددا في المستقبل القريب». وتزامن إعلان غارسيا ماركيز توقفه عن الكتابة مع انتقادات تلقاها عقب صدور آخر روايته «مذكرات عاهرات كئيبات» التي لم تكن في مستوى رواياته السابقة وفقا لوجهة نظر بعض النقاد.
    وها هو الكاتب الكبير يعلن الآن أنه قد انتهى من فترة التوقف، وبدأ بالفعل في 2007 العودة لمواصلة كتابته سيرته الذاتية بدءا من النقطة الأولى التي انتهى فيها الجزء الأول من سيرته ليستأنف رحلته تحت عنوان «أعيش لأروي». ومن الغريب أن صاحب الشهرة الذي ذاع صيته في العالم بمختلف اللغات لا يحب الظهور ويكره كاميرات التلفزة، ويرفض أن يعطي الصحافيين مقابلات إلا فيما ندر، ورغم عزوف الأديب الكبير عن الظهور فإن البروفيسور غيرالد مارتن أستاذ اللغة الإسبانية في جامعة بطرسبورغ الأميركية يكاد يجزم بأن غابريل غارسيا ماركيز هو أكثر الأدباء شهرة على نطاق عالمي بعد إيرنست هيمنغواي.
    ويقول البروفيسور مارتن «حتى لو جادل البعض بأن ماركيز ليس بمثل هذا المستوى من الشهرة عالميا، فإن لا أحد يستطيع أن يجادل بأنه رمز كبير وعلم وطني في بلاده، بل هو أشهر كولومبي خارج بلاده بعد الرئيس الراحل سيمون بوليفار».
    ومن المفارقات أن هذا الرمز الوطني الكولومبي لا يزور وطنه إلا نادرا منذ أن جرى نفيه في مطلع الستينات إلى مكسيكو سيتي بسبب توجهاته السياسية وروابطه المزعومة مع حركة الثوار الكولومبيين المتمردين. وفي الواقع فإن غارسيا ماركيز كثيرا ما كان يلعب دور الوسيط بين الحكومة الكولومبية والمتمردين الماركسيين، خصوصا في كوبا، وساعدت على قيامه بالوساطة علاقة الصداقة الوثيقة التي تجمعه مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو منذ منتصف السبعينات بعد أن انتشرت روايته «مائة عام من العزلة» على نطاق عالمي.
    توطدت الصداقة بين ماركيز وكاسترو مع الايام بفعل اهتمام الاثنين بالأدب. ويقول غارسيا ماركيز انه اكتشف على الفور ما لا يعرفه الا قليلون، وهو أن فيدل كاسترو قارئ نهم محب ومتابع للادب الجيد في كل وقت حتى في أصعب المراحل، وان الكتاب لا يفارقه في أي وقت فراغ. وظل غارسيا ماركيز مواليا لكاسترو على الدوام حتى في تلك الاوقات التي كانت جموع المثقفين في مناطق واسعة من العالم تنتقد الثورة الكوبية بسبب قضايا مثل الرقابة ومعاملة المفكرين والفنانين وأصحاب الرأي. بل ان الكاتب البيروفي ماريو فارجاس يصف ماركيز بأنه واحد من حاشية الرئيس الكوبي. ويقول منتقدون سياسيون للكاتب الشهير انه أضفى نوعا من التوقير على الثورة وان دفاعه عن الاشتراكية الكاريبية أفاده كثيرا في الفوز بجائزة نوبل وعمره لم يتجاوز الخمسين. ويرفض غارسيا ماركيز على الدوام الاتهامات الموجهة له بالغرام بالسلطة ويصر على أن صداقته بكاسترو تتجاوز السياسة وان قربه من الزعيم الماركسي سمح له بإنقاذ عدد كبير من المنشقين بهدوء.
    وعندما توجه ماركيز إلى كوبا في ديسمبر (كانون الأول) الفائت، لحضور الاحتفالات العامة بعيد ميلاد كاسترو، بقي هناك لمدة شهر لكنه لم يتمكن من مقابلة صديقه القديم، الامر الذي حدا بمجلة «سيمانا» الكولومبية للقول إن هذه هي المرة الاولى التي لا يلتقي فيها الصديقان عندما يزور غارسيا ماركيز الجزيرة، معتبرة أن ذلك مؤشر على صحة ما يتردد عن وضع كاسترو الصحي. بيد أن جارسيا قلل من شأن ذلك وقال «إن ما يجعلني اشد سعادة بمجيئي إلى هنا لحضور الاحتفال بعيد ميلاد فيدل الـ 80 هو أنني سآتي إلى هنا لحضور عيد ميلاده المائة». ويمكن أن نفهم من هذا التصريح أن ماركيز لا يتمنى فقط لصديقه كاسترو أن يمتد به العمر إلى المائة، ولكنه في الواقع يتمنى لنفسه نفس الأمنية لأن الرجلين متقاربان في السن.
    لقد كانت ولادة غابريل غارسيا ماركيز ثمرة لقصة حقيقية مليئة بالدراما بطلتها والدته التي روى الأديب العالمي قصتها فيما بعد في رائعته التي أسماها «الحب في زمن الكوليرا». وكانت والدته لويزا ابنة ضابط برتبة عقيد معروف بمحافظته على التقاليد ويفاخر بأنه صاحب بطولات حربية وقتالية، أما ابنته والدة ماركيز فكانت قبل زواجها وإنجابها تتميز بما لديها من عواطف جياشة، وقد وقعت في حب رجل يدعى ابريل إليغيو غارسيا، وكان ذلك الرجل أبا لأربعة أطفال غير شرعيين ما جعله في نظر الكولونيل المحافظ غير جدير بقلب ابنته، وحاول العشيق أن يظل على ارتباط بفاتنته ابنة العقيد عن طريق عدد لا يحصى من الرسائل والقصائد والأغاني والبرقيات.
    ووفقا لما رواه ماركيز عن والدته فإنها عندما كانت في مقاعد الدراسة بادلت عشيقها رسائل الحب إلى أن طردت من المدرسة لأن المدرسة الدينية ضبطتها تكتب رسالة حب، كما رفض والدها ذلك الحب لأنه يأمل لابنته بعريس من طبقة اجتماعية أعلى فقرر أن يسافر بها بعيدا عن المنطقة ويغيب فترة يظنها كافية بدون أن يدرك أن ابنته كانت على اتصال مع حبيبها طيلة الوقت بوساطة التلغراف، وتعلقت به إلى أن اعتبرته خطيبا لها. وبعد ذلك تزوجت والدته من طبيب حديث التخرج تلبية لرغبة والدها وعاشت معه سعيدة أكثر من نصف قرن من عمرها، ومع ذلك فإن حبيبها الأول لم ينسها، وجاء إليها يوم وفاة زوجها فما كان منها إلا أن طردته، ولكنه لم يرتدع واستمر في محاولة كسب ودها رغم أنها أصبحت امرأة في السبعين، علاوة على انتشار وباء الكوليرا، وعدم صلاحيتهما الاثنين للحب الجسدي. وعندما يعلم ابنها الذي هو ماركيز فإنه يشجع والدته ويقول لها إنها جديرة برفيق من سنها يتفاهم معها، وعندها تستجيب الأم للحب الحقيقي البعيد عن أي رغبات جسدية.
    ما لم يذكره ماركيز في روايته هو الأسماء الصريحة لوالده ووالدته وحبيبها، ولكنه أشار في سيرته الذاتية إلى أن جديه لوالدته حاولا من جانبيهما بكل ما أوتيا من تأثير على ابنتهما أن يبعداها عن حبيبها، ولكن محاولاتهما باءت بالفشل إذ أن الفتاة كانت على ما يبدو متيمة بعشيقها، ولكنهما لم يستسلما لمطالباته المستمرة بالزواج منها، وأجبراها على الزواج من الطبيب الذي تقدم لها، وكانت الثمرة الأولى لذلك الزواج انجابهما لابنهما غبريل غارسيا ماركيز الذي قبل جده وجدته أن يتوليا تربيته نظرا لحالة الفقر التي كان يعاني منها أبواه. ونشأ ماركيز في مدينة صغيرة تدعى آراكاتاكا، شمال كولومبيا، حيث رباه جداه لأمه في تلك المدينة بمنزل مليء بعدد غير محدود من العمات والخالات. ويجمع كاتبو سيرة الكاتب الكبير أن جديه لوالدته هما أكثر الأقارب الذين لعبوا دورا كبيرا في حياته، فجده هو العقيد نيكولاس ريكاردو ماركيز ميغا، وكان من المشاركين في حرب الألف يوم ضد الإسبان، وعاش في أركاتاكا مسقط رأس غابريل غارسيا ماركيز، وكان العقيد نيكولاس من مؤسسي البلدة ومن أبطالها، ومن بطولاته المعروفة عنه رفضه للبقاء صامتا إزاء مذابح بنما. وجاهر عام 1929 بإدانة تلك المجازر. وعرفت عن جد الكاتب العظيم أيضا مقدرته الرائعة على رواية الأحداث، كما أنه أنجب عددا كبيرا من الأطفال يقال إن عددهم وصل إلى 16 ولدا وبنتا.
    لقد تعود الجد على رواية أحاديث بطولاته ومشاركته في حرب التحرير لأطفاله عندما كان شابا، ولأحفاده عندما أصبح كهلا، ومن بين هؤلاء الأحفاد غابريل غارسيا. واعترف الجد لأحفاده بأنه أطلق النار أثناء شبابه على أحد الرجال فقتله، ثم قال لهم «ليس هناك من حمْل أثقل ولا أسى أقسى من شعور الإنسان بأنه قتل نفسا بشرية» وكان غابريل غارسيا يسمع كل تلك الأحاديث في طفولته.
    لقد كان غابريل غارسيا يحسن الإنصات إلى جده ويستمتع بأحاديثه، وكان الجد من جانبه يستمتع بإنصات الحفيد له وباستمتاعه بتلك الأحاديث، وبما أن الفائدة كانت متبادلة بينهما فلم يبخل الجد على حفيده بزيارات ميدانية لبعض المواقع التي يراها الحفيد لأول مرة في حياته، ويروي له الجد بأسلوبه الجذاب ذكرياته في كل موقع. ولم يكتف الحفيد بما يرويه له جده بل استزاد كذلك من أحاديث جدته التي كانت تتطرق لتفاصيل تغيب عن ذاكرة الجد، سهوا أحيانا، وعمدا في أحايين أخرى.
    لم يكن تأثير جدته ترانكويلينا يقل بأي حال من الأحوال عن تأثير جده عليه، فقد كانت تروي له القصص بأساليب جذابة، وتستشهد على بعض الوقائع والأحاديث بشقيقاتها الكثيرات اللائي ملأن البيت وجعلنه مفعما بالقصص، والأحاديث الشيقة، التي شكلت مسار حياة الطفل الذي أصبح فيما بعد واحدا من عظماء الرواة في التاريخ البشري.
    وقد توفي جد ماركيز والصبي في الثامنة من عمره، في حين بدأت جدته تفقد بصرها فعاد ماركيز للعيش مع والديه في مدينة أخرى ثم أرسلاه لتلقي علومه الأولية في مدينة بارانكويلا على نهر ماجلان، وهناك كان يتسم الفتى ماركيز بالخجل، واشتهر برسوماته الجميلة وحبه للقصائد، والكتابة، كما كان يلاحظ عليه زملاؤه بأنه جدي أكثر من اللازم، ولا يحب الرياضة فأطلقوه عليه لقب «الرجل العجوز».
    وفي عام 1940 عندما بلغ الثانية عشرة من عمره حصل ماركيز على منحة لمواصلة الدراسة الثانوية لأنه كان من بين الطلبة المتفوقين، فانتقل للدراسة في شمال بوغوتا التي لم يحبها. وأثناء الدراسة كان يقرأ الكتب والقصص لزملائه بصوت عال في السكن الداخلي، وكان معروفا بين زملائه بحبه للكتابة أيضا حيث كانوا يسمونه بالكاتب. ورغم أن ماركيز كان يأمل في دراسة الصحافة بعد حصوله على الثانوية العامة إلا أنه خالف رغبته ملبيا رغبة والديه في دراسة القانون، وكان قبل ذلك قد قابل أثناء إحدى زياراته لوالديه زوجة المستقبل ميرسيديس بارتشا باردو واتفقا على الزواج عندما تكمل الفتاة دراستها.
    وأثناء دراسته للقانون اكتشف ماركيز عدم وجود أدنى رغبه له في هذا التخصص، فبدأ يهمل دراسته ويقرأ قصائد الشعر بدلا عن كتب القانون، وكان يحب رفقة الصحافيين والتردد على المقاهي التي يترددون عليها، ويدخن السجائر التي يحبونها، واكتشف كذلك أن لديه نهما وحبا للكتب الأدبية وكان يقارن بين الروايات التي يقرأها وما كان يسمعه من حكايات على لسان جده وجدته فوجد أن هذا الصنف من الأدب يمكن أن يحرره من جفاف القانون. وقرر غارسيا ماركيز أن يكتب رواية، فبدأ عام 1946 بكتابة روايته الأولى التي نشرها في صحيفة «إليسبكتادور» في بوغوتا، تحت عنوان «الاستقالة الثالثة». وفي عام 1950 قرر نهائيا التخلي عن دراسة القانون والتفرغ للكتابة عائدا إلى مدينة بارانكويلا حيث بدأ يختلط هناك بالأدباء والشعراء والصحافيين والكتاب. وفي عام 1952 رفض له أحد الناشرين طباعة رواية من رواياته فسبب ذلك صدمة قاسية له، ثم تسنى له العمل صحفيا في نفس الصحيفة التي نشرت أولى رواياته، وتولى صفحة الأدب والسينما، وعرف من كتاباته بتوجهه اليساري.
    وفي سنوات الخمسينات تمكن ماركيز من السفر إلى أوروبا والتنقل بين دولها حيث اكتسب خبرات كثيرة هناك قبل أن يعود إلى كولومبيا عام 1958 لينجب ابنه البكر روريغو عام 1959. ورغم زيارة ماركيز إلى مدينة نيويورك عام 1960 إلا أنه منع من دخول الولايات المتحدة بعد ذلك حتى عام 1971 واستقر في مدينة مكسيكو سيتي في الستينات التي عمل فيها كاتبا لترجمات الأفلام، وأنتج أعمالا روائية يفخر بها، كما كتب سيناريوهات سينمائية ليعتاش منها.
    ورغم أن الكثير من الكتاب والروائيين في تلك الفترة كانوا يكتبون ليعيشوا فإن غارسيا ماركيز كان على عكسهم يعيش ليكتب، وكان يعاني من الفاقة والعوز، وقد روى ماركيز في مذكراته بعضا من الأزمات المالية التي واجهته أثناء تأليفه لروايته العالمية «100 عام من العزلة» التي حاز عنها جائزة نوبل للآداب فقال: «في أوائل شهر أغسطس من عام 1966 توجهت أنا وميرسيدس إلى مكتب سان أنجل للبريد في المدينة المكسيكية لأرسل النسخة الأصلية من روايتي «مائة عام من العزلة» إلى برينس أيرس، كان مظروفا يحتوي على خمس مائة وتسع صفحات مكتوبة بالآلة الكاتبة على ورق عادي للغاية وموجهة إلى دار «سود اميركانا» للنشر، وعندما وضع موظف مكتب البريد المظروف على الميزان ثم اجرى حساباته المعتادة قال لنا: «سيتكلف هذا اثنين وثمانين بيزو»، وأحصت زوجتي الأوراق والعملات المعدنية التي كانت لدينا، ثم واجهتني بالحقيقة المرة قائلة: ليس معنا سوى ثلاثة وخمسين بيزو». وتابع قائلا: «كنا قد اعتدنا تماما على تلك الأزمات اليومية بعد عام كامل من الأزمات المادية لدرجة أننا لم نفكر كثيرا في الحل، لقد فتحنا المظروف وقسمنا الأوراق إلى جزءين متماثلين، أرسلنا النصف الأول فقط إلى بوينس أيرس بدون أن نسأل أنفسنا كيف سنتمكن من إرسال الباقي».
    وأضاف «كانت الساعة السادسة مساء يوم جمعة ولن تفتح مكاتب البريد قبل يوم الاثنين ولذلك كان لدينا نهاية الأسبوع بطولها لنفكر في الحل، ولم يكن قد تبقى لدينا سوى القليل من الأصدقاء الذين يمكن أن نثقل عليهم بإقراضنا. وكان لدينا بالتأكيد الماكينة المتنقلة التي جلست أمامها لمدة ست ساعات يوميا لما يزيد على عام لأنتهي من كتابة الرواية، ولكن ما كان يمكن أن نرهنها لأنها كانت مصدر الرزق بالنسبة لنا. وبعد مراجعة دقيقة للمنزل وجدنا شيئين يمكن بالكاد عرضهما للرهن: المدفأة في حجرة مكتبي، ولم تكن تساوي الكثير، وخلاطا أهدي لنا بعد زواجنا، وكان لدينا أيضا خاتما الزواج اللذان لم نجرؤ يوما على رهنهما لما يعنيه ذلك من فأل سيئ. ولكن في تلك المرة حسمت ميرسيدس الأمر وقررت عرضهما باعتبار انهما كانا احتياطيا استراتيجيا للطوارئ.
    ومع أولى ساعات صباح الاثنين توجهنا إلى أقرب فروع «مونت دي بيداد» حيث كنا من العملاء المعروفين لديهم، وهناك أعطونا بضمان خاتمي الزواج ما يزيد قليلا عما كنا نحتاج. وما كدنا نصل إلى مكتب البريد وننظر إلى باقي المظروف حتى اكتشفنا أننا عكسنا الرواية فبدأنا بإرسال الصفحات الأخيرة منها قبل البداية، غير أن ميرسيدس لم تعبأ بالأمر بل قالت: إن الشيء الوحيد الذي ينقصنا الآن هو ألا تكون الرواية جيدة».
    وتابع «كانت هذه العبارة هي النهاية لثمانية عشر شهرا كافحنا خلالها معا لننتهي من الرواية التي كنت أعلق عليها جميع آمالي، فحتى ذلك الحين كنت قد نشرت أربعة كتب خلال ست سنوات وحصلت مقابلها على ما هو أفضل من لا شيء باستثناء كتاب «ساعة النحس» الذي نلت عنه جائزة بلغت ثلاثة آلاف دولار نفعتني في مصاريف ولادة ثاني ابنائي جونثالو بالاضافة إلى أننا اشترينا بها أول سيارة». ويروي غارسيا رحلته قائلا «لم تعد ميرسيدس تحدثني عن القروض ومشاكلها حتى مارس (اذار) من عام 1966 أي بعد عام من بداية كتابة الرواية وذلك بعد أن أصبح متأخرا علينا ثلاثة أشهر من الإيجار. كانت تتحدث مع المالك في الهاتف كما اعتادت دائما لتحاول تهدئته ليصبر علينا في الدفع. وفجأة وضعت يدها على سماعة الهاتف لتسألني عن الوقت المتبقي للانتهاء من ذلك الكتاب. وبالنظر إلى القدر الذي أنجزته في عام من الكتابة حسبت أنه يتبقى لي حوالي ستة شهور وعندئذ قالت ميرسيدس للمالك الصبور في ثقة وبدون أية رجفة في صوتها: نستطيع أن نسدد لك كل شيء خلال ستة أشهر. وقال المالك مندهشا: اعذريني سيدتي، ولكن ألا ترين أن المبلغ سيكون ضخما حينذاك؟! فأجابته: نعم أنا أدرك ذلك، ولكن في ذلك الوقت ستكون جميع مشاكلنا قد حلت. فلتهدأ إذن. وكان الرجل واحدا من أكثر من عرفت ذوقا وصبرا ولذلك فقد قال بصوت مرتعش: حسنا سيدتي.. تكفيني كلمة منك. ثم قام بحساباته وقال سانتظر المبلغ في السابع من سبتمبر (ايلول) المقبل. وقد أخطأ الرجل. ففي الرابع من سبتمبر ومع أول شيك أتلقاه بشكل غير منتظر إطلاقا عن الحقوق الأدبية للطبعة الأولى دفع له».
    هذا مجرد جزء بسيط مما واجهه الكاتب الكبير من صعوبات مالية في منتصف عمره وفي ذروة نبوغه، وهو الأمر الذي جعله يتحسر على عدم إجادة اللغة الإنجليزية لأنه كان يدرك أن التأليف بالإنجليزية قد يدر عليه ربحا كثيرا كون القدرة الشرائية للقارئ بالإنجليزية تفوق بشكل كبير نظيره القارئ بالإسبانية أو بأي لغة أخرى، وهذا ما أثبتته الأيام لماركيز إذ أن حصوله على جائزة نوبل عن روايته التي عجز عن إرسال كامل صفحاتها في وقت واحد إلى ناشرها، درت عليه أموالا طائلة بعد ترجمتها للإنجليزية ولغات أخرى غيرها، وما زالت تدر عليه حتى الآن ربحا لا ينقطع.


    From alsharqalawsat.com
    http://asharqalawsat.com/details.asp?section=45&article=409711&issue=10328
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de