|
"أحـــداث عـلى مشـاجـــب الذاكـــرة"
|
فجر التاسع من سبتمبر يفرك جبين السماء في خمول ثقيل لتشرق شمسه فاترة مرهقة التفاصيل .. وكأنها آتية من رحم غيب سحيق.. "هـــــــــاهـ .. توبــــــــــــاه" أول صوت فجراوي تكاد أن تفلت أطرافه من مسامعنا لولاء الهدوء الذي يسود المكان وقلة عمرانه وانعدام الحيوان فندرك أنه طابور العساكر لرفع تمام الصباح .. المكان قصي جداً والرياح لا تحمل سوى أصوات جوفاء تعج بخوائها المتداخل .. قاتمة هذه الزنزانة التي زججنا فيها كأي تالف متاع، متعفنة رائحة هوائها، رغم متانة بنيانها إلا أن به الكثير من النشاز وكأن الذي بناها كان في حالة عدم رضا عن الذات .. بؤس ملامح العساكر يدعو أحياناً للشفقة، ملابسهم رثة باهتة اللون يتثاءبون في فتور أعمق من فتور شروق شمس يومهم ..
"يتبع"
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: "أحـــداث عـلى مشـاجـــب الذاكـــرة" (Re: السوباوي)
|
أفصح الفجر عن قدومه بلسان شمس مايو الحارقة .. وبدأت ظلال الأشياء تخرج يحدوها رهاب يتراقص في حدود رسمها وكأن الظل يشكو الرمضاء ويحتاج إلى ظل من فعل حرارة الطقس .. لم أكن الوحيد الذي احتمى بالشجرتين المتوسطتي الظل والعمر الواقفتين في صمود أمام "مخبز عرمان" الواقع في الجهة الغربية لشارع كرري الذي يربط شارع الثورة بالنص من تقاطع شقلبان و شارع الوادي عند محطة المهداوي ويكاد أسفلت هذا الشارع "كرري" لا يبين بفعل أرض المنطقة المتحركة والتي كادت أن تذهب بملامحه وهو يفترشها ليفصل بين الحارتين العاشرة والثامنة كفاصل رمزي تتجاوزه أضعف وشائج التواصل بين ساكني الحارتين وأوهى خيوط الخلاف أيضاً .. ففي الأولى منهما أقطن أنا وفي الأخيرة يقطن تاج السر المعروف بالتاج ..
"يبتع"
| |
|
|
|
|
|
|
Re: "أحـــداث عـلى مشـاجـــب الذاكـــرة" (Re: السوباوي)
|
ثمة حوارات غريبة صامتة إلى حد ما تحدث أو إن شئت قل تمارس عند محطة انتظار المواصلات بين مرتادي تلك المحطة رغم اختلاف وجهاتهم وطرق قدومهم لهذا الملتقى .. ألقيت تحيتي عليها بعادية فعل الوجود بالمحطة وبذات فعل التوقيت واختيار نقطة الوقوف فأومأت لي بإضافة ابتسامة تعني أين أنت بالأمس لم تأتي فابتسمت بدوري بأن المانع خيراً .. وتوقف حوارنا الصامت في ابتسام عند وقوف حافلة ترحيلها والتي لم أمل من قرأة ما كتب عليها كل صباح عند مرورها من أمامي "ترحيل – بنك الـ ...." فتوارى جسدها الأنيق داخل الحافلة منتهياً حوارنا عند هذا الحد كالعادة .. فنسقط عن ذاكرة بعضنا بتراجيديا معتادة إلى أن نعاود حضورنا فجر غد .. وثمة حوارات مشابهة تدور مع وبين بقية مرتادي المحطة .. وتتقاطع في إحداثيات ذاكرات كل الحضور بذات فصول تراجيديا التساقط ..
"يتبع"
| |
|
|
|
|
|
|
Re: "أحـــداث عـلى مشـاجـــب الذاكـــرة" (Re: السوباوي)
|
ها هم العساكر يمارسون ضوضائهم الصباحي المغيت .. تصحبه جلبة مزاح بعضهم السخيف لبعض .. ويشدون أطراف أحاديث مهترئة التفاصيل فارغة المحتوى ودائبة المعنى .. وإمعان في تسخيفها يضيفون إليها ما فحش من الألفاظ بين حين وآخر وما تجود به ألسنتهم من سباب بذئ .. كان لا زال يكتنفني رهق سهر ليلة البارحة بمكاتبهم وسفر هذا المشوار المرهق الذي وعلى حسب تقديري إن لم يتجاوز الثمانية عشر ساعة لن يقل عنها والتي فارقت فيها كفرات العربة التعيسة الأسفلت منذ بواكير خروجها من المدينة .. أشعر بألم طفيف في عيني عند جفوني وأسفل الحاجب بسبب تلك العصابة التي لم يبذل من قام بشدها حول رأسي أي مجهود ليكون عمله متقن وبه بعد فني من أجل الرأفة ..
"يتبع"
| |
|
|
|
|
|
|
Re: "أحـــداث عـلى مشـاجـــب الذاكـــرة" (Re: السوباوي)
|
صرير باب الزنزانة كفيل بأن يسكن بالرؤوس صداع دائم .. دخل علينا اثنين منهم تكتسي ملامحهما بعبوس قاسي يتناسب وهذا المكان الكالح البيئة .. أخرجنا وكنت الوحيد الذي لا علم لي بوجهتنا تاركين هذا المبنى البائس خلفنا .. الرياح لفوح وصفيرها يتخلل أجسامنا التي بدت لي أخف وزناً وأكثر شحوباً .. مضى على مسيرنا الكسول ما يقارب الخمسة عشر دقيقة .. ثم أمرنا بالتوقف فبدأ من معي بالعمل مباشرة من غير تلقي أية إشارة أو أوامر ووقفت أنا ساكناً لبرهة .. أتاني صوت الذي كان يحمل بندقية قد أكل الدهر على أخشابها وشرب على نجادها لا تحوي بما يدل على فتكها سوى ذاك السنوكي المثبت على مقدمتها وكان أكثر لطفاً أو بمعنى أدق أقل قسوة من رفيقه بأن أبدأ بالعمل مع رفاقي فسيكون هذا البرنامج يومياً .. فباشرت معهم في خلع لحاء يابسة عن سوق أشجار شوكية غائرة الجذور توحي ببقايا قوة خائرة و يبدو أن الماء قد فارقها منذ شهور ..
"يتبع"
| |
|
|
|
|
|
|
Re: "أحـــداث عـلى مشـاجـــب الذاكـــرة" (Re: السوباوي)
|
كان الصمت والحذر جبة ارتدتها كامل أيام الأسبوع الأول .. وكنت متخم بتفاصيل وحوارات واحتمالات تعتلج في داخلي واجترار ذكريات ومواقف لم يمضي عليها كثيراً ولكني كنت أستعيدها من أقصى ما يكون في الذاكرة وكأن بيني وحدوثها سنيناً عددا .. وبدأ لي كأنني أعيش كابوس رهيب كلما ساورتني غفوة أتمنى أن استيقظ على غيره .. وأصبحت تدريجياً أتأقلم مع وضعي الجديد والذي كان مشحون فراغه بالتوتر من غير موترات سوى هذا الصمت المطبق والبيئة السادرة في فقرها وصفير الرياح الذي لا ينقطع إلا في بعض أوقات الظهيرة فيسود السكون المكان .. فيطلق كل منا لدواخله النحيب الكل يومئ برأسه إلى أسفل يمعن النظر إلى لا شيء ثم نرفع الرؤوس محدقين في الفراغ .
"يتبع"
| |
|
|
|
|
|
|
|