جنوب كردفان تحتضر: بين فاشية الدولة وغفلة النخب المحلية بقلم د. حامد البشير
جنوب كردفان تحتضر: بين فاشية الدولة وغفلة النخب المحلية د. حامد البشير [email protected] كانت وما زالت سياسة الإنقاذ على الأرض وعلى الواقع الإجتماعي الإثني في جنوب كردفان تمثل أول المحاولات للدولة، بعد التجربة البريطانية الاستعمارية، لمصادرة ثقافة المجتمعات المحلية وعلاقتها البينية وتدمير عوامل ترابطها. و الهدف الأساسي من ذلك بالنسبة للإنقاذ، هو إحداث حالة من الفوضى والإرتباك الإجتماعي و الثقافي يتبعها إعادة الصياغة و التشكيل الاجتماعي حسب الرؤية العنصرية (عرب – غير عرب) والتي تحتفظ بها الدولة كمنظور أساسي يحدد سياستها تجاه المواطنين في هذه المنطقة. لقد كان من الضروري لمخيال السلطة الذي أصبح مفعماً بالشعوبية و العنصرية، أن يضع الأوضاع على ذلك النسق الحاد ( نوبة - عرب) و الذي تنعدم فيه التضاريس والوديان الثقافية التي غالباً ما تربط الناس ويتواصلون عبرها في واقع إجتماعي متشابك مثل ذلك الذي في جنوب كردفان. لكن ألآن، هذا الواقع يشهد تناميا وتجاذباً وتناطحاً بين القومية العروبية و الافريقانية (عند العرب والنوبة) على السواء. إن هذا الواقع الجديد هو حتماً ليس نتاج لعوامل سوسيولوجية نابعة من داخل هذه المجتمعات المتساكنة لخمسة قرون خلت، لكنه نتيجة لمجهود خارق وجبار ومتأني ومدروس قامت به الدولة وأجهزتها المحلية وشاركت فيه حتى مؤسسات التنشأة ألحديثة مثل المدارس والتي أصبح النشاط بعد المدرسي الأوحد فيها خلال التسعينيات هو تدريبات الدفاع الشعبى والمجاهدين التى تتخللها الأهازيج وخطب إعادة صياغة الإنسان الرنانة التى تفعل فى عقول الصغار فعل النار في الهشيم. لقد إلتهمت الإنقاذ أسس التعايش السلمى بين النوبة والعرب إلتهاماً وتركت رحابة ثقافتهم صحراء جرداء إلاّ من ذكريات تضرب بعيداً فى أعماق التاريخ وترويها قصص عن كرام المواطنين في المجتمعات المحلية من الطرفين. أما ألآن وبفعل سياسات الإنقاذ ممثلة في ذراعها السياسي المؤتمر الوطني، فقد أزكمت العنصرية الأنوف وأصبحت هى المزاج الغالب للحياة في جنوب كردفان: فأصبحت النكتة عنصرية، وأصبحت الحكمة عنصرية وأصبحت قصص الأطفال عنصرية وكذلك حكاوى الحبوبات و حتى أغانى البنات ( يوسف كوة نسيت الخوة). ومن الطريف ان الدولة إستطاعت بسياستها الفاشية أن تصيب الثقافة المحلية بشلل (الاطفال) وأن تصيب العقل الجمعى في جنوب كردفان بالإعاقة الذهنية الجزئية وأن تقضى على الخير فى سفوح الجبال وعلى الوديان وأن تنصب للشر تمثالاً قائماً على البغضاء و الكراهية و الرغبة فى النيل من الأخر. ونتيجة لكل ذلك، أُصيب المجتمع المحلي فى جنوب كردفان بحالة الدوار وانعدمت فيه الجرأة و المبادرة و الحيوية وأصبح فاقداً القدرة على إعادة إنتاج ذاته وتجدد خلاياه وتوثبه كما كان فى السابق حينما طور كل الناس فى المنطقة حميمية بينهم وبين المكان الجغرافي (جبال النوبة) ألذى ألفوه لسنوات وألفوا فيه قومية المكان الذي إحتضن في دفء فريد كل قوميات المنطقة وكل قوميات السودان. ووصلت تلك المساكنة جذوتها فى العصر الحديث في عهد السيد محمود حسيب الذي جسد ذلك الشعور خلال السبعينيات عند إنشاء هذه الولاية. وبالطبع ذلك ليس محل إستغراب من الحكام ذوى القامات الكبيرة وذوى الرؤى الثاقبة و البعيدة. وعلى النقيض من ذلك، إتبعت الدولة في عهد الانقاذ عدة إستراتيجيات لخلق الحواجز وبناء الجدران للفصل الإثني والعنصرى فى المنطقة. لقد أضعفت الدولة بصورة منهجية و منظمة سلطات الإدارات الأهلية القبلية والتى كانت تتمتع بقدر كبير من الكفاءة فى مجتمع ممعن فى التقليدية فأضحى بعيداً من تيارات الحداثة والتمدين، وكذلك لإرتباطه الوظيفى و العضوى بالأرض، وفى ذلك يستوى النوبة والعرب . وكان إضعاف سلطات الإدارة الأهليه قد تم عن طريق حل الكيانات القديمة وتشكيل كيانات جديدة ورُفعت أخرى كانت فى مستويات إدارية صغيرة ( عموديات ) إلى نظارات مما إقتضى ذلك تغيير تعريف القبيلة بحيث أن فرع القبيلة ( العمودية التى أضحت الان نظارة ) قد أصبح هو قبيلة. ان هذه العملية قد أحدثت إرتباكاً مع الطرف الاخر من النوبة الذى ظل لمئات السنين يتعامل ويتحالف مع هذا الكيان على أنه جزء من قبيلة. والأمر الذي لا يقبل الجدل، ان الدولة في عهد الإنقاذ قد فعلت ذلك لهدفين: أولاً، لإضعاف الشعور القبلى عند القبيلة الكبيرة وشل قدرتها على الحركة (فى حالة المعارضة). وثانياً، قصد من خلق الكيانات القبلية الصغيرة تقوية المشروع الشعوبى العروبى حيث تضحى هذه المجموعات الصغيرة أكثر قبولاً لدعاية الدولة القاضية " بأن العروبة مهددة بالخطر الأفريقى" الذى يُشبّه بوحيد القرن او الغول الذى من شأنه أن يلتهم هذه الكيانات الصغيره إن لم تتوحد تحت راية "العروبة المستهدفة" بواسطة الغرب وعملاؤه من أفريقيا جنوب الصحراء. وللاسف لقد خلق هذا المشروع الذي يقوده المؤتمر الوطني بعض المناصرين له من ذوى التعليم والوعى المحدودين الذين يكثرون الحديث عن أن العروبة الأن تحتضر فى مجاهل أفريقيا السمراء في جنوب كردفان و ضرورة الدفاع عنها أمر مُلحٌ. لقد تم التأسيس لهذا المشروع بعد أن رُتب له عن طريق إبعاد مثقفي المنطقة ذوى الشعور المتقد و المسؤلية الوطنية و فى ذات الوقت أصبحت الإنقاذ تحتضن فقط من يؤمن بأن السياسة "هي أن تخدم نفسك وتشوف مصالح عيالك" كما فسّرها لى احد العقلاء الغاضبين في مدينة الدلنج . تلك هى النخب التى أنتجتها عصور من إنحطاط الشمولية التى مارست ترويضاً عنيفاً للنخب الطرفية حتى أعادت تشكيلها وتسخيرها بالصورة التى لاترى فيها أبعد من ذواتها و مصالحها الشخصيه و تسخير قبائلها، ومن قبل قد حُرَم عليها التفكير النقدي عن الواقع المزري الذى يعيشه رعاياهم في ريف جنوب كردفان الكالح. ولم يعد لهؤلاء النخب من حديث الاّ عن " تراث قبيلتنا الممعنة فى القيم العربيه الأصيله وعن عروبتنا الغالية التى ضحينا بملامحها المميزة بأختيارنا أن نكون حُراساً للعروبه فى مجاهل أفريقيا و فى خطوط التماس والواجهة الأولى مع النوبة ومع الدينكا في جنوب كردفان وفى شمال بحر الغزال". هذا الخطاب الاستجدائي الإعتزاري الممعن فى الإنبطاح والتمرق و العنصرية أيضا هو ناتج للدور الذى رسمته السلطة المركزية للنخب القبلية الطرفية في منطقة التماس كعربون لقبولها فى منظومة النخب القومية ومشاركتها السلطه مع قليل من الثروة ( فقط ما يكفى لفك الريق وسد الرمق). تلك كانت هى الآليات التى يتم عبرها إنتاج النخب الطرفية والتي وجدت نفسها في طريق ذو إتجاه واحد : إما القبول بهذه الوظيفة "البوقية" لتكون جزءاً من السلطة المركزية أو لتأخذ مكانها تحت اشجار اللبخ في وسط الخرطوم الذى قررت الدولة "القومية" فجأة إستبداله بشجر النخيل الذي لا ظل له، لكن أشجار النخيل التى ملأت العاصمة تؤكد معاني دلالية أخرى هي الأحادية الإثنية للنخب القومية. ومع مشروع التوجه الحضاري الذي شمل حتى الأشجار فإن النخب الطرفية من جنوب كردفان، التي تعمل بالوكالة ضد مصالح أهلها المحليين، حتماً ستجد نفسها في يوم من الأيام في عراء الخرطوم الساخن حيث لا ظل تحت أشجار النخيل والدليب. بريمة منقول من ٍSudanile.com

[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1: << 1 >>

احدث عناوين سودانيز اون لاين الان

اراء حرة و مقالات	Latest Posts in English Forum
Articles and Views	اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases	اخبار و بيانات

الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة

About Us
Contact Us
About Sudanese Online

اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين

News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums

If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]