|
Re: السودان بين ثورة الإنقاذ وإنقاذ الثورة (ابراهيم الهطلاني) (Re: محمد طه الحبر)
|
المدخل إلى السودان: السودان بلد إفريقي عربي، واسع في مساحته، متعدد في ثقافته، متنوع في موارده، يعيش فيه الأسود والأبيض، والمسلم والمسيحي، والعربي والزنجي، يجمع بين متناقضات التاريخ والثقافة والسياسة، حدوده ممدودة، وأحداثه مشهودة، تعاقبت عليه حضارات ودول، أرضى القليل وأسخط الكثير من أفراد وهيئات وحكومات، شعب متعدد الاهتمامات، تجد فيه الفنان والأديب والرياضي، والكل سياسي، بلد الأحزاب والثورات والانقلابات، تناولته الأقلام القريبة والبعيدة بالتاريخ والنقد والتحليل، كُتب عنه الكثير عبر تاريخه السياسي والديني منذ الإمبراطورية النوبية مروراً بسلطنة الفونج والحكم الثنائي البريطاني المصري وانتهاء بالاستقلال عام 1956م وتعاقب فترات الحكم الوطني سواء أكانت مدنية أم عسكرية، ومن آخر تلك الفترات وأبرزها هي الفترة التي تمكنت فيها الجبهة الإسلامية عن طريق انقلاب عسكري من الاستيلاء على السلطة في عام 1989م مع المحافظة على سلطتها حتى الآن مع ما تخلل هذه الفترة من أحداث سياسية وعسكرية وانقسامات حزبية. وما يميز السودان عن بقية الدول ويلفت نظر المراقبين إليه هو عدد الانقلابات العسكرية التي لا يجاريها في هذا الأمر عربياً إلا العراق، كما أن هناك خاصية مميزة لانقلاب 89م عن الانقلابات السابقة في السودان وهي خاصية الصبغة واللغة الأيديولوجية التي اعتمد عليها في مخاطبة الإنسان السوداني ومن خلالها قدم نفسه عربياً، إضافة إلى سهولة وسرعة صعود الجبهة الإسلامية إلى سدة الحكم وسيطرتها على البلاد بأقل قدر إن لم يكن بانعدام وجود خسائر بشرية، وبذلك تكون قد قدمت نموذجاً وتجربة جديرة بالاهتمام والدراسة مهما كان اختلافنا معها، خاصة وأنها تمكنت من الصمود والاستمرار منذ 1989م وحتى الآن، صحيح أن الاستمرار والوصول إلى القبول العربي والعالمي اعترضته كثير من العقبات والإملاءات أدت إلى بعض التنازلات بل والانقسامات في الجسم الحركي إلا أن الفكرة مازالت حية يقظة، والتجربة مازالت قائمة وماثلة أمام الجميع. كنت مهتماً خلال مراحل الدراسة الجامعية بمتابعة المجلات والدوريات العربية المهتمة بالشأن السياسي العربي والإسلامي في العالم وذلك على قدر المتاح ومن تلك المجلات التي كنت أتابعها مجلة البيان التي يصدرها المنتدى الإسلامي في لندن. وفي القسم المخصص لتناول مشكلات العالم الإسلامي لفت نظري مقال لم يذيل باسم، عنوانه (من ينقذ السودان) والآن وبعد 14 عاماً عدت إليه لأقرأه من جديد. والملفت في هذا المقال أنه كتب في شهر مايو 1989م أي فترة حكم الصادق المهدي التي صورها المقال بشكل مأساوي ولا إصلاح له إلا بالتغيير، إضافة إلى عدد من المقالات الصحفية كتبت من داخل السودان وخارجه تنبأت أو هيأت الرأي العام السوداني لحدث قادم، وفي آخر يونيو 1989م قامت (جبهة الإنقاذ) بانقلاب عسكري لإنقاذ السودان من وضعه المتردي كما أعلن في حينه. ولقد يسرت لي الظروف زيارة السودان عام1991م ضمن وفد لمنظمة تطوعية تنشط في مجال الإغاثة الإنسانية. ومن خلال جولة من الشمال إلى مناطق البترول في الجنوب تبعتها عدة زيارات عام 2002م تمكنت من مشاهدة ورصد التحولات الرسمية والشعبية في السودان نتيجة للفكر والمنهج الذي جاءت به ومنه ثورة الإنقاذ وحاولت بسطه على ارض السودان كي يصبح واقعا وحياة لكل السودانيين مع محاولتها مراعاة الخصوصية في المناطق الجنوبية. وبغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع كثير من المواقف والسياسات (الإنقاذية) فلا بد أن نقرر أن وصول الحركة الإسلامية في السودان إلى الحكم لم يكن وليد الصدفة ولم يأتِ بدعم خارجي، بل جاء كنتيجة طبيعية لمجهودات مضنية وتحركات حثيثة وتصميم فريد على امتداد عدة عقود، أيده الواقع المؤلم والرغبة المأمولة لدى الشعب.. ولأن ثورة الإنقاذ تعبر أو تحاول التعبير عن فكر أصيل من الناحية التاريخية والأيديولوجية وعن جيل له جذور ورؤى خاصة به، بمعنى أنه لم يكن مستورداً من خارج العقل أو النقل العربي، فلا بد من الاستعراض التاريخي لمراحل الحركة الإسلامية في السودان حتى يمكننا قراءة الواقع بشكل مباشر لنتناول فيه الدوافع والموانع الداخلية والخارجية ونستعرض الوضع السياسي الحالي بصورة واضحة وأمينة. ومن خلال ما يأتي سنقلب صفحات ثورة الإنقاذ وأهم المعالم الفكرية والتاريخية لها، إضافة إلى أبرز المواقف السياسة الداخلية والخارجية منها.
|
|
|
|
|
|
|
|
|