الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 04:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-05-2010, 11:41 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً

    تذخر الساحة الأدبية السودانية في السنوات الأخيرة بزخم هائل من النتاج الأدبي الثر الذي تقود دفته ثلةٌ من الأدباء الشباب الذين تبلورت لديهم الرؤية الثاقبة والجريئة في طرح قضايا السودان من زوايا متعددة فيها كثير من الواقعية. وإنه لجديرٌ بنا أن نحتفي بجيلٍ واعد من الأدباء الشباب الذي بدأت ملامح كتاباتهم تلوح في الأفق لترسم معالم راسخة للمشهد الأدبي في السودان. ومن واجبنا نحن كمتتبعين أو كناقدين أن نسلط الضوء على هؤلاء الأدباء لعله يتسنى لنا أن نخرج الأدب السوداني من الدائرة الضيقة التي ما فتئ يدور فيها منذ عقودٍ طويلة… خصوصاً وأن النتاج الأدبي لهؤلاء الأدباء الشباب يشهد جرأةً في طرح قضايا الإنسان والوطن اليومية بتفاصيلها وواقعها الاجتماعي والسياسي المتداخل أحياناً والشائك في كثير من الأحيان.

    (عدل بواسطة مبارك السروجي on 01-05-2010, 11:44 AM)

                  

01-05-2010, 11:49 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    من بين هؤلاء المبدعين.. الروائية والقاصة "رانيا مأمون".. كاتبة واعدة حظيت كتاباتها بالكثير من الاهتمام في الأوساط الأدبية السودانية والعربية على حدٍ سواء. وهي من جيل الكاتبات الشابات اللائي ظهرن إبان حقبة التسعينات، ونجحت في وضع بصمتها المميزة وإضافتها الجريئة على المشهد الأدبي. نشرت لها قصص ومقالات فى الصحف والدوريات وبعض المواقع العربية على الإنترنت. ويتضح جلياً تمتع "رانيا مأمون" بمقدرة مذهلة في سرد تفاصيل الواقع إذ ترسم تفاصيله رسماً موغلاً في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث .. ما ينم عن موهبة فذة.. وكأن لسان حالها يقول أن العالم الذي نراه مألوفاً فيه قدر كبير من الغرابة واللامعقول وهذه بعينها هي الواقعية السحرية حيث تظهر عناصر أو أحداث غير واقعية في إطار واقعي أو عادي..
                  

01-05-2010, 12:48 PM

عبد اللطيف بكري أحمد

تاريخ التسجيل: 11-13-2005
مجموع المشاركات: 7394

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)


    خرجتُ من شرنقتي، ملأتُ رئتي بالأكسجين، تلفتُ يمنى ويسرى فردتُ يديَّ ورجليَّ، تمطيتُ بعد أن كنتُ متكورة على نفسي في ذلك الغشاء. ما أحلى العيش في الهواء، بل ما أعذب الحياة ، أقول هذا أنا الوالجة للتو إليها.

    نظرت حولي مستكشفة البيئة التي أجدني فيها، بيئة رطبة .. مخضرة.. هادئة.. تفوح منها رائحة عبقة بأنفاس الأشجار التي تهتز طرِبة لهذا الطقس الخريفي، ولكن هذه الرائحة تتخللها لبعض اللحظات رائحة عفونة هادئة.. مستحيية تجاهد لتكون أكثر قوة، كانت هي رائحة المجرى الذي أعيشُ فيه، أو بالأحرى عشتُ فيه لأني الآن أقوم بعملية حِمية وتهيئة جناحيَّ للطيران.

    كنتُ كما بدأ لي في حيّ راقي، عرفتُ هذا من الحديقة التي تحيط به.. هناك في البعيد أرى ضوءاً، وطيوفاً تتحرك جيئةً وذهاباً.. هبّت نسمة قوية، شعرتُ بالجوع والبرد؛ فأنا أطفو على سطح جدول لا يفتقر إلى الماء رغم أنه غير ممتلئ بها تماماً.. بدأنا الحياة، ماذا أفعل .. وبماذا أملأ هذه الخاوية التي بدأت بالنباح..؟

    جناحاي اكتسبا نوعاً من التماسك ولا بأس من إجراء اختبار صغير لهما، فردتهما .. رفرفتهما.. ارتفعتً قليلاً، ولكني سقطتُ وكدتُ أشرق بالماء.. لملمتُ بعضي وخضت التجربة من جديد. هذه المرة ارتفعت أكثر من الأولى، ولكني شعرتُ بالوهن، فحططتُ مرة أخرى على سطح الماء.

    يبدو أني أفتقد الطاقة لا بُدَّ لي من تناول شيء يعينني على الوقوف والطيران، تلفتتُ حولي. كل ما كان حولي هو الشجر .. شجر عالي .. وليس فيه ما يؤكل.. ماذا آكل منه صفقه.. أم لحائه.. أم جذعه..؟ أريدُ شيئاً طريَّاً، شيء لا يرهق معدتي الصغيرة ويستطيع خرطومي اختراقه، شيء يصلح ليكون وجبة أولى.. ولكن أين أجده..؟ أين..؟ أين..؟ أين..؟

    أثناء تفكيري وتلفتي لمحتُ وردة حمراء قانية في إحدى الأصص، ولكنها بعيدة عني، إضافة إلى أنها ليست طعامي بل طعام ذكوري الخائبين..

    ولكن ماذا أفعل وهذه الصارخة داخلي تطالبني بشيء.. جناحاي مازالا رخوين لا يحتملان ثقلي لأذهب وأحصل على وجبتي..

    ***


    أحسستُ بالماء تحتي يهتّز، نظرتُ اسفلي فوجدتُ دوامة صغيرة في طريقها للاختفاء، ثم ظهرت أختي بعد أن جاهدت لتمزيق الغشاء والتخلص من السائل اللزج، وبدأتْ في تنشّق الأكسجين بشراهة وكأنها تريد أن تلتهم كل أكسجين الغلاف الجوي..

    - ما هذه الشراهة..؟

    - كدتُ أختنق .. آآآه .. ما أجمل الهواء..

    ولم تنقطع عن التنشق قلتُ في سِرِّي:

    - الله يدينا خيرها.. ح تكون خطيرة

    ابتسمتُ بخبث، انتبهت لي وقالت:

    - ما المضحك..؟

    - لا شيء. وددتُ أن أقول لكِ: لا تشبعي هواء، هيّا لنبحثُ عمَّا نأكله..

    قلتُ هذا وعيني على الوردة الإنجليزية التي سلبت لبي..

    - لا أستطيع.

    - سأعينكِ ..

    وزحفنا زحفاً على الماء ؛ فلم يكن لدينا خيار أو طاقة أو أجنحة.

    بعد جهد وصلناها وأنفاسنا تتلاحق، سبقتني أختي وغرزت فهمها قبلي في لحم الوردة، تبعتها أنا وامتصصنا ما استطعنا من رحيقها حدّ الشبع. شعرتُ بتراخٍ في جسمي ولم أرغب في الحركة فمكثتُ مكاني وكذا فعلت أختي، ثم تبعنا رهط من الأخوة والأخوات فكان الناظر إلى الوردة والورود التي حولها يرى أنها مغطاة بطبقة من الأجنحة الشفافة والأجسام الهزيلة الرخوة.

    ***

    لم أكن أرغب في لسعه، كنتُ فقط أود أن ألعب معه؛ فلدي مبدأ أظنه خاص بي وحدي دون سائر قومي الذين يصفونني بالمعتوهة، مبدأ يرونه أخلاقي وأراه إنساني بشكل أكثر دقة، مطلقاً لم أكن أتغذى على دم الأطفال مهما كانت شدة جوعي.

    بدأتُ أول الأمر في لفت انتباهه..

    - ززززن

    بالقرب من أذنه .. ثم اقتربتُ أكثر

    - زززززززن

    وأخذتُ في استعراض مهاراتي في الطيران أمام ناظريه بعد أن أحسَّ بوجودي ومن ثمَّ رآني. تابعني بنظراته وشعرتُ بالسعادة عندما رأيته يبتسم.

    ولكن جدته التعيسة التي تتصرّف وكأنها ترى حفيداً لأول مرة جاءت وفي نيتها أن تغتالني.. يا لها من قاتلة قاسية، كم قتلت مِنّا..؟ ولكني أفشلت لها مخططها بأن ابتعدت في الوقت المناسب وكادتْ تضرب الرضيع على وجهه بهذا الشيء الذي يهُشون به الذباب ونحن أيضاً. سمعتهم يتحدثون عني ويلعنوني ولم يدروا أني كنتُ ألاعب صغيرهم ولا أنوي به شراً..

    عندما طرتُ هاربة من تلك العجوز لاحقتني، ولكني ركّنتُ إلى زاوية قصيّة صعب الوصول إليها في الركن الأعلى بين الدولاب والحائط، والزوايا القصيّة، الأركان الصعبة، تحت المناضد، الأسِرّة المقاعد، الكراسي، أسفل وأعلى الدواليب وزوايا النوافذ هي أماكننا المفضّلة التي تشعرنا بالأمان داخل الغرف، أما في الخارج فما أجمل الرطوبة تحت الأزيار في ذاك (الخُضير) والمجاري، النجيلة، البراميل وفتحات المكيفات المائية.

    إلا أن هؤلاء القوم ليس لديهم خارج، فقط الحديقة ولم أكن أحبّها لأني أشعر فيها البرد والجوع، ولا يمكنني في كل وجبة أن أمتّص رحيق الأزهار.

    العجوز لا تريد تركي، تصرّ على قتلي وعندما لم تنجح في معرفة مخبئي – وكنت أراقبها وألزم نفسي بالهدوء وعدم التحرك- أحضرت تلك الأسطوانة التي أرهبها ورشّتْ في كامل الغرفة ذاك (البف باف) الكريه، وهي تتمتم وترش بعصبية وغزارة. كم أكره هذا المبيد (البف باف) يخنقني ويكتم أنفاسي.

    شعرتُ بدوار خفيف وثقل في رأسي، وقبل أن أفقد وعيي أو حياتي طرتُ بسرعة كبيرة وخرجتُ من فتحة في النافذة التي كانت أقرب مخرج لي. تنفستُ بشراهة كما فعلت أختي عندما خرجت من الشرنقة وظننتتني لو أني تأخرت ثانية فقط لفقدت حياتي.

    غادرتُ ذلك وكل الحي الراقي، لم أكن أشعر فيه بالارتياح وكانوا يخافوننا جداً ولا يتركونا لحالنا، كلما ذهبتُ إلى منزل أُكافح وتُشن عليَّ الحروب. أغادره لغيره ونفس الأمر يتكرر، مع أن دماءهم كانت ماسخة؛ فهم لا يشربون السكر خوفاً من السكري، ولا يأكلون الملح خوفاً من الضغط، ويقيِّدون أنفسهم بأنظمة صارمة بغيضة. لعمري أي حياة هذه..؟!

    ***

    في طريقي التقيتُ رفيقي، كانوا كُثر ولكنه أول من بادر ووصل إليَّ، فعلنا ذاك الشيء الذي يضمن استمرار نسلنا. سألني بعدها وجهتي، فأخبرته بما حدث لي فقال لي: رافقيني إلى حيث أقيم فلم أمانع.

    وجدت العيش هناك غيره في ذاك الحي.. وجدت حياة.. حركة .. ضجيج.. صخب.. لعب.. بيئة صالحة لنا، وليس مجرد هدوء وإتيان كل شيء بحذر حتى الكلام، أظن أن حياتهم كانت مَواتْ بشكلٍ آخر..!

    في المساءات كنَّا رفيقي وأنا ننصت إلى سمرهم وهم يشربون الشاي بعد المغرب، وعندما تُقطع الكهرباء ونشعر بصمتهم وذهاب كل واحد فيهم وراء شجونه نصنع لهم سمر بطريقتنا الخاصة ونجبرهم على الصحو. لم نكن نفعل ذلك لأننا مزعجين أو شريرين أو جوعى، بل لأننا نستمتع بهم وهم يتسامرون؛ سمرهم يُمتعنا ويسلِّينا.

    هؤلاء لا يتحصنون في الغرف، ولا يختبئون وراء (البف باف) الكريه.. وإن توفر لديهم مرة أو اثنتين في العام فهو يكون من نوع رخيص ولا مفعول له.

    كان الأب هو الوحيد الذي يحتاط مِنّا ولكننا كنَّا نجد طريقة دوماً لمناوشته.

    بعد مغيب الشمس وقبل العِشاء ينادي على ابنه الكبير ليحضِّر له (القنا) (للناموسية) وينصبها له بعد أن تكون ابنته قد جهّزت له الفراش. الولد ينصب الناموسية بشكل سيئ كل يوم؛ لأنه يكون في عجلة من أمره للخروج. يأتي الأب ليصلحها ويتأكد أنها لن تتكوم عليه وهو نائم - كنا نسخر منه ونضحك عليه - يحضِّر الابن الصغير المنضدة وعليها (حُقة الصعوط) وبالقرب منها الراديو والإبريق على الأرض وسجادة الصلاة، وتحضِّر الزوجة الشاي، ويبدءون بالسمر وقد ينضم إليهم بعض الأصدقاء والجيران.

    كل هذا نراقبه عن كثب ونكون على يقين أننا سنتمكن من الدخول إلى تلك المنصوبة.. رفيقي دوماً يوجد لي ثغرة للدخول ويؤمن لي الخروج، وهو هنا فقط من أجلي؛ لأنه أحبني وإن غادرني كما قال يموت؛ فذكورنا لا يظهرون إلا في موسم التزاوج، الموسم الذي التقيته فيه، وعموماً فإن حياتنا قصيرة وهو يفضِّل أن يقضيها بصحبتي على أن يموت وحيداً.

    كنَّا نغتاظ منهم أحياناً عندما يضعون حطب (الطلح) و(الشاف) على الموقد في نار الشاي وينطلق الدخان ليطردنا، يحاربنا بطريقته الناعمة والخبيثة، نراه يتلوى كالأفعى لا تحدّه حواجز ويتسرب من أتفه الفتحات، ونشم رائحته ولكننا لا نستطيع الإمساك به لنلسعه، فقط غضباً وغيظاً. حينها نلجأ إلى الزوايا والأسافل، فنقبع في (خُضير) (المزيرة) أو ماء البالوعة حتى يتبخر هذا البغيض وتنطفئ النار.

    ***


    الأم كانت طيبة، عندما تصل السرير تكون منهكة للغاية، أشفقُ عليها ولا أمسّها، فقط أزعجها وأشاغبها.

    - زززززن

    ولكنها لا تشعر بي؛ لغرقها في النوم، أما الأب فقد كان تخصصي، لا يعرف للنوم سبيلاً رغم الناموسية التي تحميه.

    ***

    كنتُ أكره المذياع والتلفاز، كلما لم يجدوا ما يملئون به زمن بثّهم يضعون تلك البرامج لمكافحة الملاريا.. لا تهمني الملاريا بحد ذاتها، إنما تهمني نفسي؛ فهم ليكافحوا الملاريا اللعينة لا بُدَّ أن يقضوا عليَّ، يتركون كل أمراض الدنيا المهلكة والمميتة ويصبون جام غضبهم على الملاريا، يستحضرني المثل القائل: (عينك في الفيل تطاعن في ضله).

    ***

    مللنا العيش هناك، أصبح الدخان يؤثر عليَّ ويسبب لي سعال عنيف. اصطحبني رفيقي إلى مكان حيث لا يشعر فيه المرء ولو فقأت عينه وامتصصت ما فيها. وعدني رفيقي بدماء وفيرة ولن يهتم أحد بوجودنا أو عدمه. فقلتُ له فرِحة: هذا هو المكان..!

    دخلنا فوجدنا شيئاً عجباً.. رجال كُثر وأمامهم قرع وكور وكئوس، ولا تعرفهم إن كانوا نياماً أو ميتين. فجأة يعلو صراخهم ويتشاجرون، بعضهم لا تستطيع أن تحدد وضعيته أهو جالس أم مستلقٍ أم واقع على الأرض.. ومن تتكهن بأنه مستلقِ تجد نصفه على السرير والآخر في مقعد (بنبر) أم رجلاه فعلى الأرض. وامرأتان أم وابنتها تخدِّمان عليهم وتسلبان ما تستطيعان، ليستا وحدهما فالأيدي التي تسلب كثيرة، وكم رأيتُ من يدخل يده في جيب الآخر غير المُدِرك أو ينزع منه ساعته أو حذاءه وأحياناً قميصه وسرواله وهو في غياب تام عن الوعي والإدراك، ضحكتُ وقلت:

    - يالهم من سكارى حمقى ..

    ذهبتُ إلى أحدهم موفور الصحة، بدين، يشرب من (كورة) يمسكها بكلتا يديه والسائل يتدفق من جانب فمه، حتى شاربه شاركه الشرب.

    - ززززن

    فلم ينهرني.. أعدتُ المحاولة

    - ززززززززن

    فلم يعرني اهتماماً .. حددتُ مكاناً مناسباً بشفاهي، ثُم غرزتُ خرطومي على رقبته، وللعلم فإننا نشم الدماء الصالحة لنا ولا نلسع أي أحد - كانت هذه جملة عرضية- بعد أن غرزت خرطومي ولم يشعر بي اتخذتُ وضعية أكثر راحة بعد إحساسي بالأمان وامتصصتُ دمه. فشعرت بخدر يسري في أوصالي، ثم امتصصتُ بتلذذ حدّ الامتلاء.

    كانت من أطعم الدماء التي ذقتها، غفوتُ طويلاً دون أن يلاحقني أحد، وبين لحظة وأخرى أفتح عيني إثر صراخ وتشاجر وضرب وتكسير للمناضد والأواني وقلب للأسرِة وانتزاع للملاءات ولكن، لم يقربني أحد.. كانوا غارقين في عوالمهم التي تخصهم وحدهم فقط، وواصلتُ حياتي في عالمي الذي يخصني وحدي دون تربص أو (بف باف) أو دخان، مات رفيقي أما أنا من يومها لم أغادر هذا المكان
    .



    قلت لها يوماً وهي لما تزال يافعة في (أشجان الغرفة الوحيدة) إنك ستصبحين رقماً
    في الرواية العالمية ، فتذكري أنني صديقك،،
    هاتفتها قبل شهر ، تزوجت وأنجبت وتبدو رائعة في حياتها مما يبشر بمنتوج رائع
    بإذن الله ،،

    إنها الرائعة رانيا ، وحري بي أن أفخر بصداقتها وقد وجدت هذا الحيز من الإهتمام
    خارج السودان،،

    أهل مدني فلتفخروا بالقادمة للعالم بقوة!!

    = حقوق النشر تحفظها أواصر ، سجن سجن غرامة غرامة!!

    شكرا يا مبارك،،
                  

01-05-2010, 04:16 PM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: عبد اللطيف بكري أحمد)

    الأستاذ عبد اللطيف

    لك التحية على هذا التداخل الثر

    في الحقيقة رانيا مأمون ظاهرة جديرة بالقراءة المعمقة والتحليل ، فهذا الخيال الجامح والمقدرات المتمكنة تجعل منها رقماً صعباً ضمن المشهد الثقافي.

    سنحاول من خلال هذا البوست أن نسلط الضوء ونقوم بالتحليل لبعض أعمالها وتجربتها الناجحة.

    أرجو أن تكون ملازماً لنا.. مع شكري وتقديري
                  

01-06-2010, 06:16 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    تقوم قصة "زززززن" على مبدأ الإيحاء والرمز ، حيث عكفت الكاتبة على السرد على لسان أنثى بعوضة تروي سيناريو حياتها منذ أول وهلة لوجودها في الكون. بهذا الأسلوب تعيد الكاتبة "رانيا" إلى أذهاننا كتاب "كليلة ودمنة" لإبن المقفع الذي إتخذ من القصص الخرافية للحيوانات ذريعة لتقديم النصائح الأخلاقية و الإصلاح الإجتماعي و التوجيه السياسي. وفي هذا السياق فإن لقصة "رانيا مأمون" أيضاً بعداً إجتماعياً وسياسياً. إلا أن وجه الإختلاف بين الإثنين هو أن "إبن المقفع" إعتمد على الأسطورة والخيال.. بينما نجد أن "رانيا مأمون" عمدت إلى الواقع.. فهي تروي قصةً تمت بصلةٍ كبيرة إلى الواقع مع الأخذ بعين الإعتبار مسألة (آدمية) البعوضة التي هي في الواقع رمز لفتاة معذبة تكافح بمفردها وتشق طريقها بين مسالك وعرة.
    عنوان القصة "زززززن" هو عنوان إيحائي أو ما يعرف بالـ onomatopoeia حيث تحمل الكلمة معانٍ كثيرة من خلال نطقها وتركيبتها. فكلمة "زززززن" تدل على الكدح ، المثابرة والإصرار وهي بالتأكيد لا تخلو من إزعاج. وهذا ما اردات أن تعبر عنه "رانيا". فهذه الشخصية التي تجسدت في شكل "أنثى البعوض" بدأت مسيرة كفاحها منذ الولهة الأولى لخروجها من شرنقتها.. وبالرغم من الصعوبات التي تعترض طريقها لكنها تبقى مثابرة .. تتكيف مع الظروف التي حولها بحسب ما تمليه ظروف الحياة.

    (عدل بواسطة مبارك السروجي on 01-06-2010, 10:55 AM)
    (عدل بواسطة مبارك السروجي on 01-06-2010, 11:03 AM)

                  

01-06-2010, 11:05 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    Quote: زززززززززن

    خرجتُ من شرنقتي، ملأتُ رئتي بالأكسجين، تلفتُ يمنى ويسرى فردتُ يديَّ ورجليَّ، تمطيتُ بعد أن كنتُ متكورة على نفسي في ذلك الغشاء. ما أحلى العيش في الهواء، بل ما أعذب الحياة ، أقول هذا أنا الوالجة للتو إليها.
    نظرت حولي مستكشفة البيئة التي أجدني فيها، بيئة رطبة .. مخضرة.. هادئة.. تفوح منها رائحة عبقة بأنفاس الأشجار التي تهتز طرِبة لهذا الطقس الخريفي، ولكن هذه الرائحة تتخللها لبعض اللحظات رائحة عفونة هادئة.. مستحيية تجاهد لتكون أكثر قوة، كانت هي رائحة المجرى الذي أعيشُ فيه، أو بالأحرى عشتُ فيه لأني الآن أقوم بعملية حِمية وتهيئة جناحيَّ للطيران.
    كنتُ كما بدأ لي في حيّ راقي، عرفتُ هذا من الحديقة التي تحيط به.. هناك في البعيد أرى ضوءاً، وطيوفاً تتحرك جيئةً وذهاباً.. هبّت نسمة قوية، شعرتُ بالجوع والبرد؛ فأنا أطفو على سطح جدول لا يفتقر إلى الماء رغم أنه غير ممتلئ بها تماماً.. بدأنا الحياة، ماذا أفعل .. وبماذا أملأ هذه الخاوية التي بدأت بالنباح..؟
    جناحاي اكتسبا نوعاً من التماسك ولا بأس من إجراء اختبار صغير لهما، فردتهما .. رفرفتهما.. ارتفعتً قليلاً، ولكني سقطتُ وكدتُ أشرق بالماء.. لملمتُ بعضي وخضت التجربة من جديد. هذه المرة ارتفعت أكثر من الأولى، ولكني شعرتُ بالوهن، فحططتُ مرة أخرى على سطح الماء.
    يبدو أني أفتقد الطاقة لا بُدَّ لي من تناول شيء يعينني على الوقوف والطيران، تلفتتُ حولي. كل ما كان حولي هو الشجر .. شجر عالي .. وليس فيه ما يؤكل.. ماذا آكل منه صفقه.. أم لحائه.. أم جذعه..؟ أريدُ شيئاً طريَّاً، شيء لا يرهق معدتي الصغيرة ويستطيع خرطومي اختراقه، شيء يصلح ليكون وجبة أولى.. ولكن أين أجده..؟ أين..؟ أين..؟ أين..؟
    أثناء تفكيري وتلفتي لمحتُ وردة حمراء قانية في إحدى الأصص، ولكنها بعيدة عني، إضافة إلى أنها ليست طعامي بل طعام ذكوري الخائبين..
    ولكن ماذا أفعل وهذه الصارخة داخلي تطالبني بشيء.. جناحاي مازالا رخوين لا يحتملان ثقلي لأذهب وأحصل على وجبتي..
    ***

    أحسستُ بالماء تحتي يهتّز، نظرتُ اسفلي فوجدتُ دوامة صغيرة في طريقها للاختفاء، ثم ظهرت أختي بعد أن جاهدت لتمزيق الغشاء والتخلص من السائل اللزج، وبدأتْ في تنشّق الأكسجين بشراهة وكأنها تريد أن تلتهم كل أكسجين الغلاف الجوي..
    - ما هذه الشراهة..؟
    - كدتُ أختنق .. آآآه .. ما أجمل الهواء..
    ولم تنقطع عن التنشق قلتُ في سِرِّي:
    - الله يدينا خيرها.. ح تكون خطيرة
    ابتسمتُ بخبث، انتبهت لي وقالت:
    - ما المضحك..؟
    - لا شيء. وددتُ أن أقول لكِ: لا تشبعي هواء، هيّا لنبحثُ عمَّا نأكله..
    قلتُ هذا وعيني على الوردة الإنجليزية التي سلبت لبي..
    - لا أستطيع.
    - سأعينكِ ..
    وزحفنا زحفاً على الماء ؛ فلم يكن لدينا خيار أو طاقة أو أجنحة.
    بعد جهد وصلناها وأنفاسنا تتلاحق، سبقتني أختي وغرزت فهمها قبلي في لحم الوردة، تبعتها أنا وامتصصنا ما استطعنا من رحيقها حدّ الشبع. شعرتُ بتراخٍ في جسمي ولم أرغب في الحركة فمكثتُ مكاني وكذا فعلت أختي، ثم تبعنا رهط من الأخوة والأخوات فكان الناظر إلى الوردة والورود التي حولها يرى أنها مغطاة بطبقة من الأجنحة الشفافة والأجسام الهزيلة الرخوة.
    ***
    لم أكن أرغب في لسعه، كنتُ فقط أود أن ألعب معه؛ فلدي مبدأ أظنه خاص بي وحدي دون سائر قومي الذين يصفونني بالمعتوهة، مبدأ يرونه أخلاقي وأراه إنساني بشكل أكثر دقة، مطلقاً لم أكن أتغذى على دم الأطفال مهما كانت شدة جوعي.
    بدأتُ أول الأمر في لفت انتباهه..
    - ززززن
    بالقرب من أذنه .. ثم اقتربتُ أكثر
    - زززززززن
    وأخذتُ في استعراض مهاراتي في الطيران أمام ناظريه بعد أن أحسَّ بوجودي ومن ثمَّ رآني. تابعني بنظراته وشعرتُ بالسعادة عندما رأيته يبتسم.
    ولكن جدته التعيسة التي تتصرّف وكأنها ترى حفيداً لأول مرة جاءت وفي نيتها أن تغتالني.. يا لها من قاتلة قاسية، كم قتلت مِنّا..؟ ولكني أفشلت لها مخططها بأن ابتعدت في الوقت المناسب وكادتْ تضرب الرضيع على وجهه بهذا الشيء الذي يهُشون به الذباب ونحن أيضاً. سمعتهم يتحدثون عني ويلعنوني ولم يدروا أني كنتُ ألاعب صغيرهم ولا أنوي به شراً..
    عندما طرتُ هاربة من تلك العجوز لاحقتني، ولكني ركّنتُ إلى زاوية قصيّة صعب الوصول إليها في الركن الأعلى بين الدولاب والحائط، والزوايا القصيّة، الأركان الصعبة، تحت المناضد، الأسِرّة المقاعد، الكراسي، أسفل وأعلى الدواليب وزوايا النوافذ هي أماكننا المفضّلة التي تشعرنا بالأمان داخل الغرف، أما في الخارج فما أجمل الرطوبة تحت الأزيار في ذاك (الخُضير) والمجاري، النجيلة، البراميل وفتحات المكيفات المائية.
    إلا أن هؤلاء القوم ليس لديهم خارج، فقط الحديقة ولم أكن أحبّها لأني أشعر فيها البرد والجوع، ولا يمكنني في كل وجبة أن أمتّص رحيق الأزهار.
    العجوز لا تريد تركي، تصرّ على قتلي وعندما لم تنجح في معرفة مخبئي – وكنت أراقبها وألزم نفسي بالهدوء وعدم التحرك- أحضرت تلك الأسطوانة التي أرهبها ورشّتْ في كامل الغرفة ذاك (البف باف) الكريه، وهي تتمتم وترش بعصبية وغزارة. كم أكره هذا المبيد (البف باف) يخنقني ويكتم أنفاسي.
    شعرتُ بدوار خفيف وثقل في رأسي، وقبل أن أفقد وعيي أو حياتي طرتُ بسرعة كبيرة وخرجتُ من فتحة في النافذة التي كانت أقرب مخرج لي. تنفستُ بشراهة كما فعلت أختي عندما خرجت من الشرنقة وظننتتني لو أني تأخرت ثانية فقط لفقدت حياتي.
    غادرتُ ذلك وكل الحي الراقي، لم أكن أشعر فيه بالارتياح وكانوا يخافوننا جداً ولا يتركونا لحالنا، كلما ذهبتُ إلى منزل أُكافح وتُشن عليَّ الحروب. أغادره لغيره ونفس الأمر يتكرر، مع أن دماءهم كانت ماسخة؛ فهم لا يشربون السكر خوفاً من السكري، ولا يأكلون الملح خوفاً من الضغط، ويقيِّدون أنفسهم بأنظمة صارمة بغيضة. لعمري أي حياة هذه..؟!
    ***
    في طريقي التقيتُ رفيقي، كانوا كُثر ولكنه أول من بادر ووصل إليَّ، فعلنا ذاك الشيء الذي يضمن استمرار نسلنا. سألني بعدها وجهتي، فأخبرته بما حدث لي فقال لي: رافقيني إلى حيث أقيم فلم أمانع.
    وجدت العيش هناك غيره في ذاك الحي.. وجدت حياة.. حركة .. ضجيج.. صخب.. لعب.. بيئة صالحة لنا، وليس مجرد هدوء وإتيان كل شيء بحذر حتى الكلام، أظن أن حياتهم كانت مَواتْ بشكلٍ آخر..!
    في المساءات كنَّا رفيقي وأنا ننصت إلى سمرهم وهم يشربون الشاي بعد المغرب، وعندما تُقطع الكهرباء ونشعر بصمتهم وذهاب كل واحد فيهم وراء شجونه نصنع لهم سمر بطريقتنا الخاصة ونجبرهم على الصحو. لم نكن نفعل ذلك لأننا مزعجين أو شريرين أو جوعى، بل لأننا نستمتع بهم وهم يتسامرون؛ سمرهم يُمتعنا ويسلِّينا.
    هؤلاء لا يتحصنون في الغرف، ولا يختبئون وراء (البف باف) الكريه.. وإن توفر لديهم مرة أو اثنتين في العام فهو يكون من نوع رخيص ولا مفعول له.
    كان الأب هو الوحيد الذي يحتاط مِنّا ولكننا كنَّا نجد طريقة دوماً لمناوشته.
    بعد مغيب الشمس وقبل العِشاء ينادي على ابنه الكبير ليحضِّر له (القنا) (للناموسية) وينصبها له بعد أن تكون ابنته قد جهّزت له الفراش. الولد ينصب الناموسية بشكل سيئ كل يوم؛ لأنه يكون في عجلة من أمره للخروج. يأتي الأب ليصلحها ويتأكد أنها لن تتكوم عليه وهو نائم - كنا نسخر منه ونضحك عليه - يحضِّر الابن الصغير المنضدة وعليها (حُقة الصعوط) وبالقرب منها الراديو والإبريق على الأرض وسجادة الصلاة، وتحضِّر الزوجة الشاي، ويبدءون بالسمر وقد ينضم إليهم بعض الأصدقاء والجيران.
    كل هذا نراقبه عن كثب ونكون على يقين أننا سنتمكن من الدخول إلى تلك المنصوبة.. رفيقي دوماً يوجد لي ثغرة للدخول ويؤمن لي الخروج، وهو هنا فقط من أجلي؛ لأنه أحبني وإن غادرني كما قال يموت؛ فذكورنا لا يظهرون إلا في موسم التزاوج، الموسم الذي التقيته فيه، وعموماً فإن حياتنا قصيرة وهو يفضِّل أن يقضيها بصحبتي على أن يموت وحيداً.
    كنَّا نغتاظ منهم أحياناً عندما يضعون حطب (الطلح) و(الشاف) على الموقد في نار الشاي وينطلق الدخان ليطردنا، يحاربنا بطريقته الناعمة والخبيثة، نراه يتلوى كالأفعى لا تحدّه حواجز ويتسرب من أتفه الفتحات، ونشم رائحته ولكننا لا نستطيع الإمساك به لنلسعه، فقط غضباً وغيظاً. حينها نلجأ إلى الزوايا والأسافل، فنقبع في (خُضير) (المزيرة) أو ماء البالوعة حتى يتبخر هذا البغيض وتنطفئ النار.
    ***

    الأم كانت طيبة، عندما تصل السرير تكون منهكة للغاية، أشفقُ عليها ولا أمسّها، فقط أزعجها وأشاغبها.
    - زززززن
    ولكنها لا تشعر بي؛ لغرقها في النوم، أما الأب فقد كان تخصصي، لا يعرف للنوم سبيلاً رغم الناموسية التي تحميه.
    ***
    كنتُ أكره المذياع والتلفاز، كلما لم يجدوا ما يملئون به زمن بثّهم يضعون تلك البرامج لمكافحة الملاريا.. لا تهمني الملاريا بحد ذاتها، إنما تهمني نفسي؛ فهم ليكافحوا الملاريا اللعينة لا بُدَّ أن يقضوا عليَّ، يتركون كل أمراض الدنيا المهلكة والمميتة ويصبون جام غضبهم على الملاريا، يستحضرني المثل القائل: (عينك في الفيل تطاعن في ضله).
    ***
    مللنا العيش هناك، أصبح الدخان يؤثر عليَّ ويسبب لي سعال عنيف. اصطحبني رفيقي إلى مكان حيث لا يشعر فيه المرء ولو فقأت عينه وامتصصت ما فيها. وعدني رفيقي بدماء وفيرة ولن يهتم أحد بوجودنا أو عدمه. فقلتُ له فرِحة: هذا هو المكان..!
    دخلنا فوجدنا شيئاً عجباً.. رجال كُثر وأمامهم قرع وكور وكئوس، ولا تعرفهم إن كانوا نياماً أو ميتين. فجأة يعلو صراخهم ويتشاجرون، بعضهم لا تستطيع أن تحدد وضعيته أهو جالس أم مستلقٍ أم واقع على الأرض.. ومن تتكهن بأنه مستلقِ تجد نصفه على السرير والآخر في مقعد (بنبر) أم رجلاه فعلى الأرض. وامرأتان أم وابنتها تخدِّمان عليهم وتسلبان ما تستطيعان، ليستا وحدهما فالأيدي التي تسلب كثيرة، وكم رأيتُ من يدخل يده في جيب الآخر غير المُدِرك أو ينزع منه ساعته أو حذاءه وأحياناً قميصه وسرواله وهو في غياب تام عن الوعي والإدراك، ضحكتُ وقلت:
    - يالهم من سكارى حمقى ..
    ذهبتُ إلى أحدهم موفور الصحة، بدين، يشرب من (كورة) يمسكها بكلتا يديه والسائل يتدفق من جانب فمه، حتى شاربه شاركه الشرب.
    - ززززن
    فلم ينهرني.. أعدتُ المحاولة
    - ززززززززن
    فلم يعرني اهتماماً .. حددتُ مكاناً مناسباً بشفاهي، ثُم غرزتُ خرطومي على رقبته، وللعلم فإننا نشم الدماء الصالحة لنا ولا نلسع أي أحد - كانت هذه جملة عرضية- بعد أن غرزت خرطومي ولم يشعر بي اتخذتُ وضعية أكثر راحة بعد إحساسي بالأمان وامتصصتُ دمه. فشعرت بخدر يسري في أوصالي، ثم امتصصتُ بتلذذ حدّ الامتلاء.
    كانت من أطعم الدماء التي ذقتها، غفوتُ طويلاً دون أن يلاحقني أحد، وبين لحظة وأخرى أفتح عيني إثر صراخ وتشاجر وضرب وتكسير للمناضد والأواني وقلب للأسرِة وانتزاع للملاءات ولكن، لم يقربني أحد.. كانوا غارقين في عوالمهم التي تخصهم وحدهم فقط، وواصلتُ حياتي في عالمي الذي يخصني وحدي دون تربص أو (بف باف) أو دخان، مات رفيقي أما أنا من يومها لم أغادر هذا المكان.
                  

01-06-2010, 11:28 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    إختارت "رانيا" (أنثى البعوض) بطلةً للقصة .. وهذا الإختيار له مدلولاته الرمزية بحيث أنها ترمز لفتاة في مقتبل العمر بجامع التكوين الجسماني للأنثى .. وهي تريد بذلك أن تعكس لنا صورةً مفادها أن المجتمع البشري يبقى قاسياً في وجه المراة .. وأن ظروف العيش لا ترحم ضعفها وأنوثتها .. ولكنها بما حباها الله من حيلةٍ ودهاء تستطيع أن تكيف نفسها مع ذلك الواقع القاسي لتجد ملاذاً آمناً في آخر القصة وسط عالم ليس آمناً في حد ذاته.. ولكنه لا يأبه لوجودها .. فقاطنيه يتصارعون فيما بينهم غير آبهين بمن حولهم .. الأمر الذي يتيح لها فرصةً مواتية للعيش دون كدر أو مخاطر.
    Quote: دخلنا فوجدنا شيئاً عجباً.. رجال كُثر وأمامهم قرع وكور وكئوس، ولا تعرفهم إن كانوا نياماً أو ميتين. فجأة يعلو صراخهم ويتشاجرون، بعضهم لا تستطيع أن تحدد وضعيته أهو جالس أم مستلقٍ أم واقع على الأرض.. ومن تتكهن بأنه مستلقِ تجد نصفه على السرير والآخر في مقعد (بنبر) أم رجلاه فعلى الأرض. وامرأتان أم وابنتها تخدِّمان عليهم وتسلبان ما تستطيعان، ليستا وحدهما فالأيدي التي تسلب كثيرة، وكم رأيتُ من يدخل يده في جيب الآخر غير المُدِرك أو ينزع منه ساعته أو حذاءه وأحياناً قميصه وسرواله وهو في غياب تام عن الوعي والإدراك، ضحكتُ وقلت:
    - يالهم من سكارى حمقى ..
    ذهبتُ إلى أحدهم موفور الصحة، بدين، يشرب من (كورة) يمسكها بكلتا يديه والسائل يتدفق من جانب فمه، حتى شاربه شاركه الشرب.
    - ززززن
    فلم ينهرني.. أعدتُ المحاولة
    - ززززززززن
    فلم يعرني اهتماماً .. حددتُ مكاناً مناسباً بشفاهي، ثُم غرزتُ خرطومي على رقبته، وللعلم فإننا نشم الدماء الصالحة لنا ولا نلسع أي أحد - كانت هذه جملة عرضية- بعد أن غرزت خرطومي ولم يشعر بي اتخذتُ وضعية أكثر راحة بعد إحساسي بالأمان وامتصصتُ دمه. فشعرت بخدر يسري في أوصالي، ثم امتصصتُ بتلذذ حدّ الامتلاء.
    كانت من أطعم الدماء التي ذقتها، غفوتُ طويلاً دون أن يلاحقني أحد، وبين لحظة وأخرى أفتح عيني إثر صراخ وتشاجر وضرب وتكسير للمناضد والأواني وقلب للأسرِة وانتزاع للملاءات ولكن، لم يقربني أحد.. كانوا غارقين في عوالمهم التي تخصهم وحدهم فقط، وواصلتُ حياتي في عالمي الذي يخصني وحدي دون تربص أو (بف باف) أو دخان، مات رفيقي أما أنا من يومها لم أغادر هذا المكان.


    كما أن الكاتبة لم تجهل الحاجة الغريزية لدى البطلة .. فهي تتناول هذا الجانب لدى المرأة بحنكة وواقعية بعيدة عن السفور والإبتذال. فهي تريد أن تقول بأن الجانب الجنسي من الأهمية بمكان ما يسمح بإستمرار الحياة وتكاثر النسل.
    Quote: في طريقي التقيتُ رفيقي، كانوا كُثر ولكنه أول من بادر ووصل إليَّ، فعلنا ذاك الشيء الذي يضمن استمرار نسلنا. سألني بعدها وجهتي، فأخبرته بما حدث لي فقال لي: رافقيني إلى حيث أقيم فلم أمانع.


    ولعل الحبكة المتقنة وكثافة السرد وتداخل الأحداث يجعل من القصة نموذجاً متفرداً من هذا النوع من الكتابة.. وكذلك فإن الكاتبة إختارت أن تكون الراوية هذه البعوضة صغيرة الحجم التي تحلق فوق الجميع .. وكأني بها تحمل كاميرا سينمائية لتصور لنا المشهد من علٍ دون حذف او قص. فالقصة تصلح لأن تكون عملاً من الرسوم المتحركة للأطفال .. وهنا تكمن القيمة الجمالية والفنية للقصة.. فهي ذات أبعاد ومدلولات عميقة تبشر بنوع من الكتابة تفتقر إليه الساحة الأدبية.
                  

01-06-2010, 11:36 AM

عبدالغني كرم الله
<aعبدالغني كرم الله
تاريخ التسجيل: 07-25-2008
مجموع المشاركات: 1323

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    استاذالسروجي،


    الشكر ليك، لهذا البوست الرائع، للزميلة المبدعة، رانيا

    متابعة، بشوق..
                  

01-07-2010, 05:18 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: عبدالغني كرم الله)

    الأستاذ/ عبد الغني كرم الله

    لك التحية وأنت تتابع معنا.. ولعلك ممن بإمكانه أن يسهم معنا في رفد هذا البوست عن الكاتبة "رانيا مأمون" بما حباكم الله من حس أدبي رفيع. لأن المقصد هو تسليط الضوء على الجوانب الإبداعية لهذه الواعدة الأمر الذي عجز إعلامنا من القيام به.

    لك مودتي
                  

01-06-2010, 11:56 AM

Elfatih Abuelhia
<aElfatih Abuelhia
تاريخ التسجيل: 12-30-2009
مجموع المشاركات: 514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    Quote: من بين هؤلاء المبدعين.. الروائية والقاصة "رانيا مأمون".. كاتبة واعدة حظيت كتاباتها بالكثير من الاهتمام في الأوساط الأدبية السودانية والعربية على حدٍ سواء. وهي من جيل الكاتبات الشابات اللائي ظهرن إبان حقبة التسعينات، ونجحت في وضع بصمتها المميزة وإضافتها الجريئة على المشهد الأدبي. نشرت لها قصص ومقالات فى الصحف والدوريات وبعض المواقع العربية على الإنترنت. ويتضح جلياً تمتع "رانيا مأمون" بمقدرة مذهلة في سرد تفاصيل الواقع إذ ترسم تفاصيله رسماً موغلاً في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث .. ما ينم عن موهبة فذة.. وكأن لسان حالها يقول أن العالم الذي نراه مألوفاً فيه قدر كبير من الغرابة واللامعقول وهذه بعينها هي الواقعية السحرية حيث تظهر عناصر أو أحداث غير واقعية في إطار واقعي أو عادي..



    يا سلام يا رانيا مأمون..
    .لن تقدر كلماتى ان تصفها..انها الأخت..الزميلة..وهى تذكرنى دائما بلوك 7 ومعمل الفيزياء والحاسوب وكل الرفاق بذاك المبنى العتيق بالنشيشيبة
    .انها العبقرية التى تملك كل فكر وطرح ..من تكنولوجيا المعلوماتية الي الخيال والكتابة المعبرة للمشهد الثقافى المعاصر
    .انها كاتبة العصر الحديث..
    لكى التحية منى ومن زوجتى...وما زلنا نتذكر زيارتنا لكم وان طال الزمن والمسافة


    د. الفاتح
                  

01-06-2010, 01:22 PM

Gafar Bashir
<aGafar Bashir
تاريخ التسجيل: 05-02-2005
مجموع المشاركات: 7220

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: Elfatih Abuelhia)

    شكرا مبارك السروجي لتعريفنا بالكاتبة رانيا مامون

    سؤال بخصوص الواقعية السحري

    حسبما اعرف أن رائدها هو ماركيز وبالتالي فهي تنتمي لجيل السبعينات علي ما أظن ... هل من ناحية أدبية يؤثر ذلك علي تقييم أعمالها ... خصوصاً وهنالك عدد من امدارس الحديث منذ ذلك التاريخ

    تحياتي
                  

01-07-2010, 06:31 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: Gafar Bashir)

    عزيزي جعفر بشير

    شكراً على مرورك ..

    في الحقيقة شاع مصطلح الواقعية السحرية إبان فترة الثمانينيات من القرن الماضي من خلال أعمال عدد من كتاب القصة في أمريكا اللاتينية من أمثال الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899م – 1988م) والكولومبي غارسيا ماركيز (1928م) غير أن استعمال المصطلح يعود إلى العام 1925م. فالمصطلح لم يتم إبتكاره على يد كتاب أمريكا الجنوبية.. بل إنهم أعادوا إحياءه وإستخدموه كأسلوب ميز كثير من أعمالهم..

    والمصطلح في حد ذاته هو أحد مشتقات المدرسة الواقعية (Realism) التي ظهرت كردة فعل للمدرسة الرومانسية.. وهي تشمل بالإضافة " الواقعية السحرية " .. "الواقعية الجديدة" و "الواقعية الاجتماعية" و"الواقعية الجمالية" و"الواقعية النقدية" و "الواقعية الاشتراكية" و"الواقعية العلمية".

    والواقعية السحرية بالرغم من قدمها كمدرسة أدبية ولكن إستخدامها يظل متجدداً ضمن قوالب تختلف بإختلاف الثقافة والموروث والمخزون الفكري.. فهي تسرد احداثا واقعية ولكن ضمن إطار وهمي خيالي يكتنفه اللا منطق واللامعقول. وكأقرب مثال لذلك القصة التي أورتها أعلاه بعنوان "زززززن" التي تبدو في إطارها الخارجي غير واقعية لانها تُروى على لسان "أنثى البعوض" ولكنها غنية بالمعاني والصور التي تمت للواقع بصلة وثيقة.

    مع كل الود
                  

01-07-2010, 05:53 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: Elfatih Abuelhia)

    د. الفاتح

    لك التحية وأنت تشرفنا بإطلالتك معنا.. فالمجال متاح لك لإضافة جوانب لا يعرفها القارىء عن الرائعة "رانيا مأمون".

    لك كل المودة
                  

01-07-2010, 09:17 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    تبلورت تجربة "رانيا مأمون" الروائية من خلال روايتها الأولى "فلاش أخضر" التي صدرت في العام 2006م. حيث تستخدم الكاتبة تقنية "الفلاش باك" او إستدعاء الماضي.. ببساطة لأن الحاضر الذي تعيشه شخوص الرواية لا يمثل أحلامهم ولا يروي تطلعات أرواحهم المتعطشة.. تلك شخصيات تفتقد إلى جزء جوهري يكمن بكل حذافيره في مخزون الذاكرة المثقلة بالحنين والشجن. فهاهي "رانيا" تطرق بكل جرأة أبواب المحظور.. والمسكوت عنه في المجتمع السوداني وذلك من خلال طرح قضايا العنصرية البغيضة وعقدة الترفع على الآخر. ذلك الداء العضال الذي يفتك بالوطن .. ويحمل أبناءه عبئاً ورثوه دون وعي.. هذه الإشكالية التي هي جوهر القضية.. وسر عدم إلتئام الجرح الغائر في خاصرة الوطن.
    فبالرغم من حالة التمزق التي تكتنف الوطن والمأساة الطاحنة التي تعتريه نتيجة لتوجسنا من بعضنا.. بل ومن أنفسنا .. تظل "رانيا" تحلم بالغد المشرق والواقع الجديد.. وهذه هي رمزية عنوان الرواية "فلاش أخضر" .. فهناك بصيص أمل.. ووميض ضوء أخضر بارق يلوح في الافق.. وسر نجاح هذا العمل هو أنها تقدم لنا الحل بكل جرأة وبساطة.. فالمسألة لا تحتاج إلى مجلس من الحكماء ليحلوا قضايانا .. فنحن أجدر بحلها .. فقط إذا تصالحنا مع ذاتنا.. وآثرنا على أنفسنا ولو كان بها خصاصة.

    (عدل بواسطة مبارك السروجي on 01-07-2010, 09:22 AM)

                  

01-07-2010, 11:35 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    الأستاذ: مالك السروجي
    تحيّة عاطرة

    كنتُ من أوائل الداخلين إلى هذا البوست، فأنا أحد المهتمين بمنجزات الكاتبة المتألقة بالفعل رانيا مأمون، وكنتُ سعيد الحظ إذ حظيتُ منها بمقدمة جميلة لروايتي الأولى [أرتكاتا] وهي من الكاتبات المُجيدات اللواتي شغلهن كسر طوق العزلة الذي يفرضه المُبدع السوداني على نفسه، وكانت إحدى اللواتي قرأتُ لهن في موقع كيكا، وقد أسعدني ذلك كثيراً، كما أن المُبدع رانيا لها إنتاج أحدث من الذي تتناوله بالنقد هنا، ومن الطريف أنني كنتُ أنوي التداخل في هذا البوست للحديث عن نص للكاتبة بعنوان [مُتكأ على جدار الشمس] والذي نشرته الكاتبة في موقع كيكا من قبل، وتأتي خصوصية هذا النص في أنه تناول سيرة العاصمة المثلثة [الخرطوم] بعين وذاكرة وقلب سوداني محض، وتألقت فيه أيّما تألق، وقد كُتب النص بطلب من المعهد الهولندي للفنون وترجم إلى اللغة الإنكليزية ونشر مع نصوص أخرى في كتاب بعنوان [Here as the centre of the world] في سبتمبر 2009م، كما أن الكاتبة حاصلة على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون، كما أنها أحد الكُتاب السودانيين الذين ترجم لهم المستشرق البلجيكي إكسافير لوفان إلى الفرنسية في الكتاب الذي صدر عن دار ماجلان الفرنسية تحت عنوان [Nouvelles du Soudan] على العموم ستكون لي إطلالة أخرى على هذا البوست ولكن اسمح لي فقط أن أنشر نص [مُتكأ على جدار الشمس] برغبة من كاتبته في هذا البوست الجميل جمال سيّدة المزامير رانيا مأمون




    • أرجو كتابة بريدك الإلكتروني حتى تتمكن الكاتب من مراسلتك مباشرة
                  

01-07-2010, 11:41 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: هشام آدم)

    مُتكـأ على جدار الشمس


    الشمسُ هنا لا تسطع بغتةً كمن يفتح عينيه ظهراً فجأة فيجدها في كبدِ السَّماء، إنما تُفصِح عن نفسها بهدوء وتروٍ بالنسبة لـ حواء بائعة الشاي في سوق الدَّيم.

    يبدأ صباحها ليس كأيّ أحد، إنما صباحٌ ذو تفاصيل تخصَّها وحدها. يبدأ بغسلِ عِدَّتها بعد أن تكون قد أدَّت صلاة الفجر حاضرة؛ فتعجن عجين الزلابيا القليل كي يختمر، وتغسل أكواب الشاي، (الكفتيرة)، (الشغال) والمصافي جميعهم بصابون البُدرة لما له قدرة خاصة في تلميع تلك الأواني، إضافة إلى رائحته الزكية، حتَّى برطمانات الشاي والبُن والكركديه المنقوع. تحبُ أن تترك عِدّتها نظيفة ولامعة مما يُكسبها مزيداً من الزبائن.

    عادةً تترك النساء عِدِّة عملهن في الدُّكان الذي يستظللنْ بظله أو في (الطبليات) المعقودة أحياناً إلى أقرب عمود من (الراكوبة) ـ التي يجلسنْ تحتها ـ ويقفلنْ بابها بضبَّةٍ ومفتاح. إلا أن حواء لا تأمن (الشماسة) المشردين الصغار، عِوضاً عن أنَّها تحبُ غسلها في البيت رغم ثقل حملها.

    تحضر إلى سوق الدَّيم والظلام يفرد عباءته على كل ساكن ومتحرك، على كل شيء، إلا أنَّ نسمات الفجر الحانية اللاثمة خدها تجعل من رحلتها من بيتها على بُعد خمسة كيلومترات محتملة ومُحببة. هي لا تختلف كثيراً عن كل بائعات الشاي في الدّيم أو في أيّ سوق وأيّ شارع، أو أيّة بائعة شاي على الإطلاق. الحوجة هي ما جعلها تمتهن بيع الشاي، تماماً مثلهنْ.

    حالما تصل، تُشعل نارها في الموقد المزدوج ببقايا فحم الأمس، الذي تركته عمداً لنار الصباح؛ فـ (الزريبة) التي تبتاع منها الفحم لا تفتح باكراً. بعد أن تنهي صنع (الزلابيا)، تضع ماء القهوة والشاي في الوهج البرتقالي المتموج العتيد، وتبدأ في الانتظار الملَّون بالأمل في يومٍ وفير الرزق. تتبدى للنَّاظر في ذاك الوقت كأنها أحد عناصر هذا السوق مثل الدكاكين، الجزارة أو حتى (زريبة) الفحم والحطب.

    يتوقّف عندها (العزابة)، طلاب الجامعات، الموظفون وكل من لديه خمس دقائق لشرب كوبٍ من الشاي، أو القهوة أو الكركديه لمن يشكو احتقان الحلق.

    ***


    مثل العجوز الذي يعاني من التهاب المفاصل، يسحب الظلام عباءته تدريجياً مفسحاً لضوء باهت يُمكِّن العين من الرؤية بمرور الوقت. حين تكشف الشمس عن نفسها تماماً يضج السوق بالحركة والصخب. تكون دكاكين السلع الاستهلاكية قد فتحت أبوابها، وحضر باعة الخضار، وفرشوا خضرواتهم على جوالات خيش على الأرض، أو طاولات كبيرة عليها قطع من الخيش أيضاً، ورشوا عليها الماء لتبدو طازجة. يكون آدم في (الزريبة) ذات الأرضية السوداء المصبوغة بالفحم قد كسّر الحطب، وعبأ الفحم في أكياس صغيرة. وعلّق عمر اللحم على (الشناكل)، وعلى المصطبة العالية حيث يضع الميزان بدأ في تكسير العظام ليبيعها مع اللحم. النسوة يحمِلنْ أكياسهن أو (قُفَفهنْ) أو (سُبَاتتهنْ) ويحاججن في الأسعار.

    سوق الديم ليس كبيراً، إلا أنه مُلتقى يومي لنساء الحيّ يتبادلنْ الأخبار، يتشاركن النميمة، يبتعن خضارهن ويترافقن في طريقهن منه وإليه. كثيراتٌ منهن يلقينْ التحية على حواء، الرابضة هناك منذ دهر تحت راكوبة مسقوفة بالحصير وقطع الخيش والبلاستيك، ومستندة إلى (شِعَبْ) ملتوية ومفتوحة من الجوانب الأربعة، تحيط بها مقاعد صغيرة يجلس عليها الزبائن. تظل تتابع حركة السوق، وتخرم أذنيها الأصوات العالية ، تلاقي النسوة وسماع حكاياهن، لعن وسِباب وشتيمة التجار للصغار الذين يخطفون كالحِداء ما يستطيعون من خضار (طماطم، ليمون أو (عجور)) والركض به كصغار الفهود.

    حيّ الدَّيم إن زرته قد لا تغفل وجود العربات التي تجرّها الحمير كوسيلة للمواصلات ونقل البضائع. وللمفارقة تُفرش العربة ـ زيادة في الرفاهية ـ بسجادٍ خفيفٍ رخيص الثمن، وتجد ببعضها جهاز تسجيل، كما في بعض الأحياء مثل حيّ الشِقلة في أمدرمان. تكون رحلتك عليها على أنغام الموسيقى سقفك السماء ولا حدود بينك وبين المارة، فأنت تجلس على كارو حمار، لكنه يوفر خدمات إضافية.

    ***


    الخرطوم مدينة مركزية، تتململ على مدار الساعة من الحركة والضجيج والبشر الدائسين على أرضها. تتوه فيها بوصلتي؛ لاتّساعها، تباعد أحيائها وتشعبها وترامي مقاصدي دوماً عندما أزورها. هل أحبّها؟ أكرهها؟ أنكره ما نجهل عادةً، أم أن في المعرفة يكمُن الحب؟ لا أدري!

    أعتقد أني أخافها وأهاب السير فيها وحدي. أحبها أحياناً وأكرهها أحياناً أُخر، لكنَّها تظل المدينة التي لا يمكنك تفاديها، فإنها تصطدم بك لا محالة، ولا بُدّ من المرور العابر وغير العابر بها.
    مدينةُ التناقضات والتطرف، قمة الثراء وأدنى درجات الفقر. جمالٌ هنا وقبحٌ يجاوره. عِمارة جميلة مبتكرة، وبيوت من الطَّين وعشش ورواكيب في الحي الآخر. مساكن آية في الجمال والتنظيم، ومساكن عشوائية متلاصقة ومتراصة ومتنامية بسرعةٍ وخفاء كالنبت الشيطاني. مدينة رجال الأعمال والشحاذين. مدينة الشركات وأيضاً الفترينات على أرصفة الشوارع وتحت ظلال الأشجار.

    ***


    الخرطوم ليست عاصمة السودان السياسية فقط، إنما العاصمة التجارية والمدينة الأكبر والأكثر كثافة سكانية. وعندما نقول الخرطوم فإننا عادةً نعني العاصمة المثلثة كما كان يطلق عليها وهي: الخرطوم والخرطوم بحري وأمدرمان الضلع الأعرق في هذا المثلث، حيث تلاحظ قِدم مساكنه، وتشتم عبق التاريخ الممزوج بطينها ومائها، خلافاً لبعض أحياء الخرطوم فأنت ترى مبانٍ تتماهى مع روح العصر الحالي وتعبِّر عنها.

    مدينة تمثل مركز السودان نزح إليها الملايين على مر الأزمان، الجنوبيون إبان الحرب في جنوب السودان وقبلها. الشماليون للتجارة والرزق. سكان الغرب للعمل وكسب العيش. سكان الوسط والشرق، الطلاب والعُمّال وأصحاب المهن الحرفية واليدوية، حدّادون، بنّاءون، سائقوا مركبات عامة وبالطبع الكماسرة. (جمع كمساري محصِّل التعريفة بالمواصلات العامة)

    ***


    في إحدى زياراتي، هواجسٌ كثيرة تظلّ تطرق بقوةٍ على رأسي في طريقي من حيّ السلمة طرف الخرطوم الجنوبي ـ حيث أنزل مع أختي ـ إلى قلبها. يعلو صوت الهواجس على صوت الموسيقى الصاخب داخل الحافلة التي تقلّني. كما يعلو على صوت راكبَين لم يتلقيا منذ دهر فيما يبدو. ويعلو على مشاجرة (الكُمساري) مع الطلاب في المقعد الخلفي، ذلك لأنهم لا يحملون بطاقة طالب تخوّل لهم الركوب بنصف القيمة. يتشاجر معهم ويطلب من السائق التوقّف ليترجلوا من الحافلة. يتدخل راكب ليفض الشجار. يعلَق الكُمساري معه، فينضم للراكب ركابٌ آخرون يعنّفون الكُمساري. لا أتساءل عن لماذا يأتي دوماً الحقّ على الكماسرة! ولا أتساءل عن حتمية شجار الكماسرة مع الرّكاب في كل حافلة! إنما أظلُّ أراجع في ذهني خريطة الطريق التي عليّ أن أسلكها، والمحطات التي عليّ أن أترجل فيها والعلامات التي عليّ أن أنتبه لها أثناء مروري. خريطة الطريق تلك عادةً في زياراتي المختلفة يرسمها لي زوج أختي سائق التاكسي لمعرفته المفترضة بل المتُحققة للمدينة.

    أول ما يلاقيني في خضم هواجسي وخوفي من الضياع حيّ الأزهري بمبانيه الحديثة في أكثرها. ثم حيّ الإنقاذ بمبانيه الشعبية من الجالوص غالباً. الحيّ الزاخر بالحياة والنَّاس، تهاجمك روائح العرق النفّاذة الحارة عند ركوب البعض. فيما بعد عند عودتي مساءً، وبعد انحسار تموجات هواجس انجاز الحاجة والتّوهان، تنتبه حواسي أكثر أثناء عبور الحافلة بحيّ الإنقاذ، فأرى جانبي الشارع على امتداد الحيّ مكتظاً بالنّاس، الركشات، الفترينات التي تعرض السمك المقلي والدجاج والباسطة (الحلويات)، مواقد الطعمية، قِدر الفول وأكشاك البارد والعصير، وبين كل عدة أمتار تستمع إلى موسيقى مغايرة. تمر الحافلة على بشر متمايزة فئاتهم: فتيات وفتيان، باعة ومشترين، أطفال وكهول. تتراءى لي الوجوه الكثيرة عبر الزجاج أتعجّب وأفشل في اكتناه أسباب العلاقة الطردية بين الفقر والإنجاب!

    تعبر الحافلة في طريقها أيضاً بأرض المعسكرات، وهو مقرّ ثابت يقيم فيه الشباب إبان الفعاليات الرياضية والثقافية المختلفة. أقمتُ فيه أكثر من مرة لمدة تترواح بين الأسبوع والعشرة أيام. مكانٌ أخضرٌ بديع، تحت أشجاره عامرة الخضرة تركت ذكريات حميمة تُخلِّف أثراً مُسِعداً كلما تماست بحواف الذاكرة.
    نهاية الشارع عند تقاطع شارع افريقيا تقع جامعة افريقيا العالمية، يؤمها طلابٌ من شتّى أنحاء العالم الإسلامي. هناك تقف الحافلات، يشحذ كل كُمساري صوته لينادي: عربي.. عربي.. عربي. شعبي.. شعبي.. شعبي. وتعني أن هذه الحافلة متّجهة إلى السوق العربي، في حين تلك وجهتها السوق الشعبي. الكل ينادي في ذات اللحظة. الكل يصرّ على أن يكون صوته الأعلى. الكل يريد جذب أكبر عدد من الرّكاب معظمهم من الطلاب الوافدين والعمال. تتراص الحافلات بقربٍ حميم، هذه في ذيل تلك. كل سائق يريد استباق الآخر لحمل ما يجود به الشارع من الرَّكاب الواقفين على الرصيف على امتداد المشوار حتى النقطة التي تكون هي محطة الانطلاق والرجوع.

    قد يصعد طالب صومالي، مدغشفري، نجيري، باكستاني، صيني، أو مجموعة طلاب كلٌّ بسحنته ولغته وأحياناً زيَّه. توافدوا من أصقاع متباينة ومتباعدة ليجتمعوا في قاعات ومكتبات الجامعة مُشكِّلين منها بؤرة تعكس أشعتها حيثما وجدت منفذا في كل الاتجاهات.

    على الرّصيف أمام الجامعة يفترش الباعة بضاعتهم على جولات خيش، بلاستيك، أو قطع كبيرة من قماش سميك على الأرض: ملابس، أحذية، خضروات، أواني منزلية، عطور، فواكه. أيضاً أشكاك لبيع البارد والمرطبات وبعض المأكولات، ترابيز لشراء وتحويل رصيد الموبايلات. في كل خطوة لك هناك احتمال أن تتعثر بشيءٍ أو بأحدٍ قائم. بعض الباعة ينصب فيما يشبه المظلة من جولات خيش أو بلاستيك على أربع عصي؛ عساها تظلّهم من الصفراء اللاسعة. بعض الباعة يجبرونك على الشراء بإلحاحهم، أحياناً تشتري ما لا ترغب به؛ فقط كي تخلِّص نفسك من الإلحاح. ذات يوم اخطأت وسألت أحدهم عن ثمن زجاجة عطر، لم يَفك حصاري إلا شرائي للعطر، الذي تبيَّن لي من أول زخة رداءته ووقوعي في الفخ.

    بعد تجاوزها شارع أفريقيا تدخل الحافلة شارع المطار الطويل. شارع مصقول لامع. تفتح فيه مطاعم فخمة، محال تجارية راقية وغالية الثمن، تعرض بضاعتها من وراء زجاج يُسفر عن نظافة متقنة. ينظر الكثيرون إلى هذه البضائع كالملابس وغيرها مثل السَّراب يرونه لكنهم أبداً لا يصلون منتهاه.

    أثناء سيرها تمر الحافلة بمركز العفراء للتسوق، أول وأكبر مول في السودان. تكثر خارجه السيارات الفارهة متمايزة الألوان والأنواع، يترجّل منها أناسٌ نظيفي الثياب، زكيي الرائحة تقرأ على وجوههم مفردات الدِّعة والثراء. هذا المول يدخله الفقراء ـ إن دخلوه ـ للتنزه والتفرج لا غير.

    ***


    في محطة السكة حديد، موقف حافلات السَّلمة قرب مستشفى الخرطوم وفي مواجهة شارع القصر تنتشر على الرّصيف الضيق بائعات الفول والتَّسالي والكبكبي (الحمص) مستندات على الحاجز الحديدي الذي يفصل بين الموقف والشارع العام. كل امرأة تجلس على بنبر (مقعد) واضعة أمامها صينية ممتلئة بالكبكبي والفول والتّسالي المعبأ في أكياسٍ صغيرة. قد تضع بعض النساء قبعات من القش على رؤوسهن تقيهن أشعة الشمس اللاهبة الجالسات تماماً تحتها. المحظوظات والمحظوظون من الباعة يجلسون تحت ظل الأشجار المنتصبة في الشارع أو داخل المستشفى ربما، يفترشون بضاعتهم على الأرض أيضاً: فراشي أسنان، أمشاط، لُعب أطفال، ملابس داخلية، (كفرات cover) موبايلات، حُلى نسائية رخيصة، وأشياء أخرى كثيرة مثل: أحذية أطفال مصنَّعة يدوياً ونظارات شمسية رخيصة الثمن.

    أسير في شارع القصر على بعد خطوات من هؤلاء الباعة، تقع عيني على باعة آخرين وآخرين وآخرين. بعض هؤلاء يستظلون بظل مبنى المرديان المنتصب بشموخ، المنفصل تماماً عن الواقع والمناخ خارجه.

    في إحدى نواصي الشارع يقبع كشك لبيع الصحف والمجلات وبعض الأدوات المكتبية. أبتاع صحيفة أو اثنتين في طريقي الذي قد يكون أحياناً إلى مكاتب صحيفة الصحافة أو الأضواء (سابقا)، أو لإجراء معاملة أو لمقابلة صديق في قلب السوق العربي، الذي هو تقريباً قلب الخرطوم، أسير كاظمة غيظي وحقدي عليها، وعلى المشاوير التي عليّ أن أمشيها ـ راجلة طبعاً ـ، يلفح وجهي هواء حار، وتطأ أقدامي أرضاً حارة، وتلهب جلدي أشعة حارة لا يحتملها سوانا.

    سوق الجنوبيون للكتب إحدى محطاتي الأثيرة. هو ليس سوقاً وإنما نسميه هكذا لكثرة باعة الكتب من إخوتنا الجنوبيين، حيث تجد الكتب المستعملة والنادرة التي لا تجدها عادة في المكتبات، وبأسعار جيدة أيضاً. وربما يكون أحد الأسباب القوية لاحتمالي الخرطوم هو شرائي الكتب.

    ***


    عيناي عدستا كاميرا تدوران في كل اتجاه، تلتقطان وتسجلان كل ما تعبران به، تنظران بقلق إلى معظم يافطات الدكاكين والكافتريات والمحلات التجارية. أسوح في أوجه المارة المكتظين في الشوارع، تسيل قطرة عرق من الرأس، تمر بالجبين، قد تستقر على الحاجب، أو تواصل طريقها أسفل لتتجمع مع قطرة أخرى على أرنبة الأنف. وجوه ووجوه، بعضها مريح، وبعضها منفِّر، بعضها مبتسم، وبعضها مقطّب الجبين بفعل الشمس غالباً أو بفعل الحياة. الكل مسرع. الكل يصطدم بالكل، قد تسمع اعتذاراً أو ترى نظرة حانقة في عيني أحدهم. الاصطدام بكل الموجودات من بشر وبضاعة وسيارات وأعمدة إنارة، وترابيز معروضات مختلفة، أصوات باعة ينادون على بضائعهم. وكمسارة ينادون على حافلاتهم. تصطدم بأبواق السيّارات ومراياها الملتصقة على جنباتها كآذان القرود أو ايَّة آذان أخرى، لك أن تشبِّه بما تشاء. تصطدم بالموسيقى الصاخبة: أغانٍ عربية، غربية، محلية، أشرطة نكات ومدائح نبوية، شجارات وأحاديث. أصواتٌ.. أصواتٌ. أصوات تتداخل، تضج بها رأسي بل ترتج. تتداخل هذه الأصوات، لا أعرف نهاية أو بداية الحدود الفاصلة بينها، لا حدود، تداخل وتمازج أصوات أكاد لا أسمع سوى ضجيج. أنسحب إلى داخلي هرباً منه، أحاول أن اتمفصل عنه، أحاول التزود ببعض الهدوء والسكينة، أحاول إراحة رأسي من الغليان وأذنيّ من التقاط الأصوات..

    نعم، أنا الآن في السوق العربي. قلب الخرطوم النابض بالحياة والحركة، الذي يضخ الدم دفّاقاً في شوارعها ومنعطفاتها وأحيائها. مكانٌ ضاج بالحركة والصخب والنَّاس والسيارات والموسيقى والباعة والنشالين والشحاذين والمشرّدين وطلاب المدارس والجامعات والموظفين والكافتريات ومحال الملبوسات وباعة الكتب المدرسية وغير المدرسية وفترينات يكشف زجاجها عن الكثير والمختلف من البضائع.
    فترينات صغيرة تحت برندات العمارات، يعرض أصحابها الساعات والنظارات الشمسية. ترابيز يصين أصحابها الساعات المعطلة ويبيعون ملحقاتها من بطاريات وكتاين وبراغي. فترينات لعرض الموبايلات وملحقاتها من كفرات وشواحن وبطاريات، وبالطبع الشرائح وتحويل وبيع الرصيد. فترينات تعرض دبل وخواتم فضة وتكثر هذه في برندة عمارة الدهب كما يطلق عليها؛ لأنها مركز لتجمُّع الصاغة. ترى فيها النساء تشكيلات رائعة من الحُلي الذهبية، تجهر أعين بعضهن، وتتمناها بعضهن وتشتريها بعضهن. أما فترينات وترابيز الفضة الرخيصة فهي جملة مغايرة لمن لا يجيد حديث الذهب.

    أخرج من ظل برندة العمارة إلى الهجير مرة أخرى، لا يمكن إلا ملاحظة بل رؤية ترابيز وفترينات تجّار الرصيد ـ إن جاز لي أن أسميهم ـ فلا يسعني أو يسع الناظر غفل هؤلاء. تقرأ كلمات: بيع – تحويل – شراء رصيد لكل الشبكات على واجهات الترابيز بالأحرى الفترينات الصغيرة الحديدية غالباً، والتي أطلق عليها فترينة مجازاً. تُطلى بالبوهية وتكتب تلك الكلمات على واجهتها بألوانٍ مختلفة يغلب عليها الأحمر والأصفر ولا أدري السبب في ذلك.

    تجارٌ صغار، أصحاب تجارة محدودة. يأتيهم طلاب الجامعات الوافدين من الولايات الأخرى لبيع الرصيد الذي يرسله لهم أهاليهم لبيعه وتكون المبالغ للمصروف أو لحاجة معينة، وهذه تجارة ناشئة حديثاً، أُمتهنت بعد تغلغل الموبايل في نسيج الحياة، وتحوله من كماليات إلى عنصر أساسي في الحياة اليومية. للموبايل أهمية كبيرة هنا؛ فهو إضافة إلى أنه وسيلة اتصال وتواصل، فهو بنكٌ صغير للحولات، يُستقبل فيه الرصيد بمبلغ معين، ويباع من خلاله أيضاً بعد أن يخصم المشتري نسبة من المبلغ. الموبايل أيضاً لحفظ المال أي وديعة في اليد، يُباع متى ما ألمت الفاقة بالشخص. الفاقة المؤقتة بالطبع، أقصد نفاد ما في اليد من مصاريف.

    ***


    كل الأوقات في السوق العربي ذروة، إلا أن ذروة الذروة هي حوالي الثالثة ظهراً حتى ما بعد الخامسة بقليل؛ لأن هذه المدينة تضخ عدداً من البشر حدّ أن تظن أن لا أحد بقي في العالم. كل العالم هنا. كل البشر. طلاب مدارس، جامعات، موظفون، باعة، عمال، مارة يخرجون جميعا في وقت واحد أو متقارب. وتبدأ زحمة المواصلات. الغالبية الساحقة هنا تتنقل بالمواصلات العامة. والشمس لا ترحم، لا في هذا الوقت ولا أي وقت ما دامت صاحية.

    يدخل الطلاب أو الشباب عموماً بنوافذ الحافلات، وترمي الفتيات بحقائبهن على الكراسي وهي إشارة إلى أن المقعد محجوز. ضائعٌ من لا يستطيع المزاحمة. الكل على باب الحافلة، قد يدخل أحدهم ومازالت يده في الخارج، أو تنسحب فردة حذاء آخر من قدمه ولا يكتشف هذا إلا بعد جلوسه، ليجد نفسه متنازعا بينها وبين الكرسي. إن ترجّل فسيظل دهراً قبل حصوله على مقعد آخر، وإن بقي سيذهب بفردة حذاء واحدة.

    الأمر ليس بدرجة المأساة التي أراها به بالنسبة لسكان الخرطوم. اعتادوا على هذا الوضع. أما أنا فمازلت أخاف وأتجنَّب تلك الأوقات؛ لأن هذا الزحام بهذا الشكل لم يغزُ مدينتي ودمدني بعد.

    ***


    بغتةً أثناء تسجيلي لهذه المشاهد بعيني عدستي الكاميرا اصطدم بوجهٍ مألوف.. بصديق. ما هي نسبة احتمال لقاؤك بصديق في مدينة غريبة ليست مدينتك وسط زحام فائق؟!

    صديقي أصرَّ على دعوتي لاحتساء عصير بارد في إحدى الكافتريات التي لن نتعب للعثور عليها؛ فما أكثرها.
    أقول له: أوف. هذه المدينة في الصيف يهيأ لي أنها تتكيء على جدار الشمس.

    يجيبني: ليس تهيؤاً، هي فعلا تتكئ على جدار الشمس.ندخل أقرب كافتيريا، نجد داخلها مرايا عاكسة لما يدور خارجها. هواء حار يلتف حول نفسه. كل الطاولات مشغولة. أحاديث بأصوات عالية لأن الموسيقى تطغى عليها. غالبية المتواجدين من طلاب وطالبات الجامعات تتقافز الحياة على ووجوههم بتعبير صديقي (عثمان). بعض المتواجدين عشاق فيما يبدو وسنجد مثلهم في الطابق العلوي؛ فمعظم الكافتيريات أصبحت من طابقين طابق أسفل مزدحم عادة وعلوي قصير السقف يربط بينهما سلم حديدي غالباً، وفي معظم الأحوال تضطر أن تحني رأسك عند وصولك أعلى عتباته، ربما حركة لا إرادية، أو لطول قامتك، أو طبعا لقصر السقف.

    الحال هنا أيضاً ليس بأفضل، لا، بل أفضلية صغيرة؛ إذ وجدنا طاولة تشغلها فتاتان بقربهما كرسيان آخران. تساءلنا عن إمكانية مشاركتهما إياها وافقتا. كل الطاولات والمقاعد من البلاستيك، متّسخة أحياناً، نظيفة أحياناً أُخر، وأحياناً تلاحظ على الطاولة بقعة دائرية لامعة هي أثر قاعدة الكوب عليها. والحقُّ يقال إن هناك كافتيريات يحرص أصحابها وعمالها على تنظيفها باستمرار، فلا تجد عاملاً يحمل فوطة ويمسح بها أثناء جلوسك إلى الطاولة.

    من تلك المُبرّدات الشفافة المتراصة والممتلئة بأنواع العصير المختلفة، اخترنا عصير عرديب، أعانني على احتمال ما تلاه من وقت. حدثني عن نيته الاستقرار هنا، وأنه قريباً سينقل أسرته معه. سألني ماذا عنك؟ أجبته بإنني في زيارة قصيرة وسأعود. قال لي مبتسماً: ظننتك انتقلتِ إلى هنا. أخبرته أن فكرة العيش الدائم خارج مدينتي مدني ترجفني وتكتم أنفاسي فما بالك بتنفيذها. لا، لا مجال لذلك.

    ***


    عندما ينهي النَّهار سطوته على المدينة، الشوارع تكون شبه خالية وقت الأصيل إن قارناها بساعات النهار. تلمح بوضوح تعبيراً مريحاً على وجوه المارة، أوراق الشجر، وأوجه المباني حتى السيارات تكون بمزاج جيد. كنتُ في ما مضى أقول لأصدقائي بنظريتي عن ارتباط درجة الحرارة بالمزاج، والمكان والبيئة بالشكل حيث تصيغ البيئة ملامح البشر، صرعتهم بهذا، إلى أن دمّر أحدهم يوماً ادعائي الاكتشافي فقال لي إن هذا أمر معروف، ولهذا تجدينا نسير عادة وحواجبنا مقطّبة. حرّمت بعدها الإتيان بالنظريات، وعلى كلٍّ كانت تلك الأولى.

    أسيرُ في شارع القصر ليس بضيق أو عجلة، إنما بتمّهل وروقان. أصل موقف السكة حديد دون تعرُّق. أجلس قرب النافذة في الحافلة. الآن يمكنني أن أختار المقعد الذي أريد. تتجه الحافلة جنوباً وكأنها ملكة الطريق، تسير بارتياح وغبطة. نسمات باردة تمس خدِّي كأنها تلثمه لثماً ودوداً رقيقاً. أنظر للشارع أشعر به أكثر اتساعاً. تحدثني نفسي بالترجّل والسير، إلا أني لا أفعل.

    أحب هذا الوقت ـ الأصيل ـ يختفي حنقي على الخرطوم كأنه لم يكن. استشعر لطفها وحنانها. أخالها تحتضنني برقة. في ذاك الوقت أرى شارع المطار أكثر نظافة، والمباني أبهى وأجمل، إلا أني لا أفتأ أشيح بوجهي عن مركز السودان للقلب والواقع في طريقي، فقد أجرتْ فيه أمي عملية قلب وارتبط بتجربة قاسية مررت بها.

    تهدأ في تلك الأثناء الأصوات الصاخبة الكثيرة التي اخترقتني خلال ساعات النهار. تنتابني رغبة مُلِحّة للكتابة، أتشوق للوصول، إلا أني لا أفعل بعدما أصل. تخفت تلك الجذوة تدريجياً. تستعصي عليّ الكتابة في الخرطوم، رغم اجتياح حاجتي إليها في لحظاتي المشرقة.

    ذلك الوقت، ولحين وصولي البيت، وكل اللّيل حتى الساعات الأولى من الصباح أضبطني متلبسة بحبي للخرطوم.
    هذه المدينة التي لا تني عن الركض لالتقاط الفرح الهارب، والتي لا تتعب من السعي الحثيث للوصول.
    مع هذا، ورغم قسوتها فيما يتراءى لي فإن للخرطوم وجه آخر، وجه عامر بالحب، رائق كعيني طفل، أخضر كقلب أم. وجه جميل أخاذ يبدأ بالأثر الجمالي الخالد مقرن النيلين ـ الأبيض والأزرق ـ يبدأ به ولا ينتهي أبداً.
                  

01-07-2010, 10:42 PM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: هشام آدم)

    الأستاذ/ هشام
    لك التحية على هذا الكم الوافي من المعلومات التي تخص المبدعة "رانيا مأمون" .. ولعلي بسبب ظروف الغربة لم تسنح لي الفرصة بمواكبة مسيرة الكاتبة منذ بداياتها الأولى.. ولكني مؤخراً حصلت على مجموعة من أعمالها .. هي في رأي تجسيداً حياً لتجربة ثرة وموهبة فذه تبشر بغدٍ مشرق للمشهد الأدبي في السودان.. وهذه الحقيقة تقودنا لأن نقول للعالم من حولنا بكل جرأة أن الأدب السوداني غني بمبدعيه الذين لو سُلط عليهم الضوء لوجدوا المكانة السامقة التي تليق بهم ضمن الخارطة الأدبية.. ولهذا السبب وجب علينا تسليط الضوء على مثل هذه الأعمال وهؤلاء المبدعين من خلال التحليل والنقد الأدبي عله يتسنى لنا أن نقوم بالدور الذي فشل إعلامنا في القيام به.

    قصة "متكأ على جدار الشمس" هي كما أسلفت تحكي السيرة الذاتي للعاصمة الخرطوم.. وهي تقع ضمن ما يعرف بأدب البانوراما.. فالراوي يحمل عدسة ويجوب بها كل ركن ليصور تفاصيلاً دقيقة للغاية.. فهو يحكي عن الشخوص وحواراتهم وأنشطتهم .. وكذلك الأماكن وملامحها .. والأشياء ومحتوياتها.. كل هذه معاً تعطي بعداً آخر للمكان والزمان والشخصيات تساعد على إضفاء صبغة واقعية للسرد وللقصة في مجملها.
    والقصة تبدو كانها دعوة لزيارة المدينة والتعرف عليهاعن كثب .. هذه الدعوة ترتبط في ذهني بدعوة "Prufrock" في قصيدة T.S. Eliot التي جاءت تحت عنوان "أغنية الحب لـ ج. ألفريد بروفروك" The Love Song of J. Alfred Prufrock وذلك حينما يستهل القصيدة بدعوة لزيارة الأزقة الضيقة والحواري البائسة في مدينة الضباب..

    LET us go then, you and I
    When the evening is spread out against the sky
    Like a patient etherised upon a table
    Let us go, through certain half-deserted streets
    The muttering retreats
    Of restless nights in one-night cheap hotels
    And sawdust restaurants with oyster-shells
    Streets that follow like a tedious argument
    Of insidious intent
    To lead you to an overwhelming question
    Oh, do not ask, “What is it
    Let us go and make our visit

    Quote: مثل العجوز الذي يعاني من التهاب المفاصل، يسحب الظلام عباءته تدريجياً مفسحاً لضوء باهت يُمكِّن العين من الرؤية بمرور الوقت


    هذا المشهد الذي أمامنا هو الذي أطلق عليه T.S. Eliot ما يعرف بالمتلازم الموضوعي Objective Corelative وهو أن حالة الراوي النفسية تتجسد تماماً من خلال وصفه للمشهد .. ووصفة للجو العام من حوله.. وهذا هو حال Prufrock حينما يصف المساء الممدد في السماء كمريض تحت تأثير البنج يتمدد في إنتظار أن تجرى له جراحة.
                  

01-09-2010, 08:15 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    بالعودة إلى رواية "فلاش أخضر".. تستدعي الكاتبة ما يعرف بـ "تيار الوعي" Stream Of Consciouness .. بحيث ينصب التركيز على الجانب النفسي والعاطفي للشخصيات.. أكثر من الوصف الخارجي لهذه الشخصيات.. وأن مخزون الذاكرة هو الرافد الأساسي للأحداث .. هذا الأسلوب يعيد للذاكرة الكاتبة Virginia Woolf التي برعت في إستخدام مثل هذا النوع من الكتابة.. خصوصاً روايات مثل "السيدة دالاوي" Mrs. Dallaway و "أورلاندو" Orlando و "السنوات" The Years.. أما بطلة رواية "فلاش أخضر".. "نور" التي تنتمي إلى أسرة من قبائل شمال السودان تعيش في المهجر مثلها مثل الكثير من شباب جيلها.. فهي حبيسة ذكريات خلفتها وراءها .. واقعها الحالي لا يعنيها كثيراً بقدر ما تعنيها ذكريات الماضي.. فالماضي بالنسبة إليها يعني الحب المفقود والأصدقاء الذ ين حالت بينها وبينهم ا لمهاجر.. فالذاكرة لدى "نور" حبلى ليس فقط بذكريات الطفولة والوطن.. بل بذكريات مرحلة الدراسة الجامعية في القاهرة.. حيث تعرفت على حبها الأول والأخير "أحمد" الذي تعود أصوله إلى منطقة دارفور في غرب السودان.. وصديقهما "دينق" من جنوب السودان.. بهذا المزيج الإجتماعي تمكنت رانيا مأمون من جمع جزيئات فسيفساء المجتمع السوداني في قالب واحد.. أرادت من خلاله أن تقول بأنه يمكن للجميع أن يعيشوا معاً.. فقط إذا صدقت النوايا وتصافت النفوس.
                  

01-10-2010, 11:29 AM

الجندرية
<aالجندرية
تاريخ التسجيل: 10-02-2002
مجموع المشاركات: 9450

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    شكراً لك يا اخ مبارك على هذا الخيط
    والذي اتحفنا ببعض انتاج الكاتبة رانيا من عدد من المتداخلين فيه
    رانيا زميلتنا في هذا الموقع ، وفله فضل تعريفنا على حرفها المتفرد
    لكنها اختفت منه ومن سائر الاسافير التي كنا نتلقيها فيها
    لها الود المقيم ولك الاحترام
                  

01-10-2010, 03:19 PM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: الجندرية)

    الأخت/ الجندرية..

    في الحقيقة وقعت بعض أعمال رانيا مأمون بين يدي بمحض الصدفة.. كنت مندهشاً مثلك بالموهبة الفذة التي تمتلكها.. وبدأت بعد ذلك البحث في أعمال أخرى لها .. فهي جديرة بالإطلاع..
    شكراً لك على المرور والشكر أجزله للأخوة الذين أمدونا ببعض ما أنتجته رانيا مأمون.. التي أتمنى إن كانت عضواً في هذا البورد أن تطل علينا ولو من خلال التداخل.

    مع خالص الود
                  

01-10-2010, 04:49 PM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)
                  

01-10-2010, 04:53 PM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    Quote: خلف الأسوار العالية

    الجدار مرتفعاً عالياً جداً بالنسبة لقاماتهم القصيرة وصلباً سميكاً أملس يصعب على أجسادهم النحيلة تسلقه ...
    دائماً ما كانوا يجابهون بالسباب واللّعان والزجر والوعيد من حارس تلك السرايا الذى لا ينسى سلاحه أبداً ويظلُ ممسكاً به على الدوام .. واقفاً كان أم جالساً .. غافياً أو فاتحاً أعينه التى تشبه عيون الثعالب راسماً تلك النظرة المتحفزة المتوثبة حتى ظنوا أن سلاحه هذا وُلد معه كرجله أو يّدِه أو أذنيه مكملاً لأعضائه وربما ، مميزاً لشخصيته التى سُورت بجدار قاس من الخوف فى نفوسهم يصعب إختراقه ...
    لا يستطيع أحد من أهل البلدة أن يقدّر عمر هذا المبنى الذى يحبون أن يطلقوا عليه السرايا .. فمنذ أن وعوا وعرفوا ووعى وعرف أباؤهم وربما أجدادهم .. وهو كما هو .. لا أحد يعلم متى شُيّد وما الغرض منه وفيما يستخدم ... لا أحد يعلم شيئاً وكأنهم ناموا ذات ليلة نوماً عميقاً هانئاً بعد أداء واجباتهم العادية والليلية وغير العادية وغير ليلية ليتفاجئوا فى الصباح بهذا البناء الضخم الجميل الساحر بأحجاره الملونة وأنواره المضيئة ليلاً بكثافة شاملة مساحة واسعة حول البناء الواقع وحيداً فى الركن البعيد من البلدة وكأنه نبت هكذا عملاقاً من جوف الأرض ...
    كثيراً ما سمعوا من الكبار سناً الحكايا عن هذه السرايا .. فمنهم من يزعم أنها مقبرة لمن يلقى حتفه فى الإعتقال ومن يصرّ على كثرة الحديث بالحق أو بالباطل .. ومنهم من يعتقد أنها مركز أبحاث يُنتج فيه بشراً بمواصفات خاصة أهمها أن لا يقول لا أبداً ولا يعرف معناها ويجزم هؤلاء أنهم رأوا إنتاج هذا المركز من البشر ذوى المواصفات الخاصة .. وبعض الكبار من أهل البلدة يظن أنها مصنع سلاح أو طائرات أو صواريخ ... إختلفوا فى حكاياهم وإتفق كلهم فى شىء واحد أن هذا المبنى خطير خطيرٌ جداً ولا يجب الإقتراب منه ..
    زاد الفضول لدى الصغار والأشقياء من الصغار لرؤية ما وراء الجدار العالى .. كانوا يتجمعون وينقسمون مجموعات ، مجموعة لتشغل الحارس وتشاغبه .. مجموعة لجلب الأدوات وتجهيزها والأخرى للتنفيذ .. أحضروا قضيباً صلباً ومطرقة قوية لفتح ثقب يتيح لهم رؤية ما بالداخل ، ولكن الجدار صلب قاسى .. إنثنى القضيب وفشلت المحاولة ... أحضروا سُلّماً حسبوه طويلاً ليتسلقوا عليه ولكنه تسبب فى كسر قدم أحدهم .. فخافوا من التكرار ..
    إنتبه أحدهم يوماً إلى الشجرة العالية الضخمة التى تقف على مسافة ليست بعيدة من السور.. قال بفرح :
    - يمكننا أن نرى من على الشجرة .. سأتسلق عليها ..!
    فرحوا وتدافعوا وصاحوا : سنساعدك
    إنحنى أحدهم وطلع على كتفيه آخر .. وآخر وآخر إلى أن اصبحوا سُلماُ من الأجساد ساعده على التسلق بمشقة أقل
    أصبح كل المبنى تحت ناظريه فرأى وصُدم لما رأى .. لم يكن مركزاً أو مصنعاً أو حتى مقبرة لمَنْ يُكثر الحديث .. كان عبارة عن مبنى فى الوسط مطلى باللون الأبيض .. الباب مفتوحاً هاهو يلمح الأرض عارية من كل شىء وزاوية لشىء مسطح ربما كان سريراً أو منضدة لا يدرِ ولم يستطع التمييز لبعد المسافة .. أما ما يحيط بالمبنى والمساحة التى تقع أمام ناظريه معبّرة عن قُبحها بوضوح ، فهى مجرد خراب ملىء بأوراق الأشجار الصفراء المتساقطة وأكياس النايلون وأخشاب وحجارة وأوراق كثيرة يحركها الهواء فتطير من جهة إلى أخرى و.. و.. و.. وكلباً ضخماً ينبش فى تلةٍ من القمامة باحثاً عن رزقه
                  

01-10-2010, 04:57 PM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    هذا عمل آخر رائع للكاتبة تحت عنوان "خلف الأسوار العالية".. مرة أخرى تركن رانيا مأمون إلى الرمزية والإيحاءات الغامضة لإظهار ما هو غير مرئي .. مستخدمةً في ذلك صيغ شكلية وجمالية يكتنفها الغموض أحياناً وتخيم عليها الأسطورة أحياناً أخرى .. فكثرة ما يحاك من قصص حول البناء العالي السور يجعل منه أسطورة مثل أساطير "الغول" و "العنقاء" ((لا يستطيع أحد من أهل البلدة أن يقدّر عمر هذا المبنى الذى يحبون أن يطلقوا عليه السرايا .. فمنذ أن وعوا وعرفوا ووعى وعرف أباؤهم وربما أجدادهم .. وهو كما هو .. لا أحد يعلم متى شُيّد وما الغرض منه وفيما يستخدم ... وكأنه نبت هكذا عملاقاً من جوف الأرض))..إذن فالأسوار العالية تقف سداً منيعاً يحول دون معرفة ما خلفها.. وهنا تكمن التساؤلات.. التي من شأنها أن ترفع من درجة التشويق وإحتدام وتيرة الترقب والإثارة عند القاريء.
                  

01-11-2010, 06:16 AM

مبارك السروجي
<aمبارك السروجي
تاريخ التسجيل: 01-24-2009
مجموع المشاركات: 470

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الكاتبة رانيا مأمون .. تتخذ الواقعية السحرية منهجاً (Re: مبارك السروجي)

    أما روعة السرد لدى الكاتبة فتتبلور في كثافة الأحداث وتداخلها وربطها معاً ربطاً متيناً محكماً .. والأجمل من هذا كله هي خروجها من سياق السرد أحياناً بحنكة واضحة ومن ثم رجوعها إلى المسار الأول وكأن شيئاً لم يكن ... ((لا أحد يعلم شيئاً وكأنهم ناموا ذات ليلة نوماً عميقاً هانئاً بعد أداء واجباتهم العادية والليلية وغير العادية وغير الليلية ليتفاجئوا فى الصباح بهذا البناء الضخم الجميل الساحر بأحجاره الملونة وأنواره المضيئة ليلاً)) هذه العبارات في رأيي هي "توابل" السرد القصصي .. ولا زالت الكاتبة تثير فضول القاريء بشكل يبدو تلقائي ولكنه ليس كذلك .. لتجعله يتساءل في قرارة نفسه: "ماهي تلك الواجبات العادية؟ وغير العادية؟ .. الليليلة ؟ وغير الليلية؟"
    مجمل القول القصة تحفل بديناميكية كامنة تؤلف بين الشكل والمحتوى في تناغم جمالي رائع.. كما تحمل إلينا تعبيراً حياً وتحيطنا علماً بحقيقة مفادها أن هذه الهالة الضخمة التي تحيط بتلك الأسوار إنما هي في الواقع إشارة لشمولية السلطة والرهبة التي تخلفها لدى أفراد الشعب .. الذين لن يتحرروا من هواجسهم ومخاوفهم تلك إلا إذا آمنوا بقدراتهم التي ترمز إليها ((الشجرة العالية الضخمة التى تقف على مسافة ليست بعيدة من السور)) ومن ثم تكاتفوا معاً لبلورة تلك القدرات ((إنحنى أحدهم وطلع على كتفيه آخر .. وآخر وآخر إلى أن اصبحوا سُلماُ من الأجساد ساعده على التسلق بمشقة أقل)).
    تكمن وظيفة الرمزية لدى "رانيا مأمون" في طرق المعاني العميقة بأسلوب مبسط يبدو للوهلة الأولى أنها تتناول قصةً من قصص الأطفال..
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de