الزفارة السودانية بالقاهرة .. في ظلِ حكم آيات الله البشير !!!

Quote: بوجه متجهم وعيون زجاجية، رمقني بقسوة واشار بيده اليسري لأدخل المبني الذي يقع في مواجهة جلستنا علي النيل.. لم يجر أي حوارات.. ولم يسمح لي أن ألقي مداعبة خفيفة لأكسر صلابة الموقف، وحين دخلت نقطة شرطة الملازمين بمنطقة " أم درمان" بالعاصمة السودانية الخرطوم.. كنت علي موعد مع تجربة جديدة في أول قسم شرطة خارج مصر. كانت التهمة المعلنة التي واجهني بها اربعة من جنود القسم هي تصويري لشخص دون اذنه - تبين بعد ذلك أن هذا الشخص هو مخبر في نفس القسم- لم تكن التهمة مقنعة بالنسبة لي، خاصة بعد اعتذاري عن هذا الفعل، وتعهدي بمسح الصورة، لكن الحقيقة أن جنود الشرطة الملتفين حولي، بنظرات فاحصة تبوح بالاستنكار والغضب المكتوم، لم يكونوا إلا مجموعة صغيرة من فرقة شرطة " النظام العام" في السودان، وهي الفرقة الأكثر فزعا ورعبا في الشارع السوداني، لأنها تشبه شرطة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " في السعودية لكنهم يطلقون عليهم في السودان " الشرطة المجتمعية"، فشرطة النظام العام تتمتع بقدر واسع من السلطات، فهي المسئولة عن حفظ السلوك والمظهر العام للسائرين في الشوارع، ويمكن ان يتم القاء القبض علي بعض الأشخاص وتوجيه عقوبة لهم بشكل مباشر مثل الجلد في ميدان عام بزعم أنهم يسيئون لمبادئ الشريعة الإسلامية! الأكثر مفارقة فيما حدث، ان أصدقائي المرافقين لي في رحلة نقطة الشرطة أكدوا لي بعد ذلك أن هؤلاء الجنود علي وجه التحديد هم الذين نفذوا عملية القاء القبض علي الصحفية السودانية " لبني" بتهمة ارتداء البنطلون! فسرت هذه القصة، اسباب العداء الواضح الذي حمله الجنود في تصرفاتهم، ولم يكن عاديا أن أقول لأحدهم إننا أخوة ونشرب من نفس النيل، فيرد في صلافة غير مبررة ليقول "لو كنت أختي ما استطعتي الخروج بهذا الشكل" واشار الي ملابسي التي هي عبارة عن بنطلون وتي شيرت وبالطبع دون حجاب.. عند هذه اللحظة تخلصت من ودي ولطفي، وعدت الي صلابتي المعهودة وقلت لهم في حدة " انا لست اختك، وانتم جميعا لا تملكون لدي سوي اعتذار ومسح الصورة، واذا لم يقبل الزول ذلك، فحرروا محضرا رسمياً وكفاكم تأنيبا" لكنني عدت وقلقت بسبب أصدقائي السودانيين الذين سيدفعون الثمن لا محالة إذا تم تصعيد الموقف، بالإضافة الي قلقي علي كاميرتي الخاصة التي تضم عددا كبيرا من صور هذه الرحلة، والتي خطفوها من يدي فور دخولي نقطة الشرطة. بعد تدخلات خجولة من الأصدقاء، قال المخبر الذي صورته " سأعفو عنك من أجل هؤلاء الأزوال"، فمسحوا صورته من الكاميرا، وخرجنا جميعا من نقطة الشرطة المشئومة. شعرنا جميعا بمرارة والتزم صديقي الصمت لفترة وقال : هذه هي أحوال السودان، لا أحد ينطق ولا أحد يستطيع أن يصطحب صديقته في الشارع في أمان، فابسط الحقوق التي نالتها الشعوب منذ قرون، حرمنا منها منذ 20 عاما، منذ ان تولي البشير وأعلن انه سوف يطبق الشريعة الإسلامية. وعندما سألته عن القوانين التي تمنع التصوير في الشارع، نظر الي مستنكرا وقال مناقشة قضية التصوير من الأمور الترفيهية بالنسبة لنا، فليس هناك قانون يحمي السوداني من شرطة النظام العام التي تلقي القبض علينا وتحاكمنا في نفس الوقت بعقوبات مخيفة. بعد هذه التجربة البسيطة، سرت في شوارع الخرطوم المظلمة دائما، وتصورت أن وضع هذه العاصمة المنكوبة، ما هو إلا بروفة لمدينة القاهرة حين يحكمها الاخوان المسلمون، فمن يريد أن يري تطبيق الشريعة الإسلامية علي طريقة الإخوان المسلمين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسي فليذهب الي الخرطوم التي تحولت الي مدينة الجحيم فيعيش مواطنوها تحت قبضة النظام العام، ومن يعارض فمن الممكن أن يختفي بشكل نهائي، ومن يحاول أن يمارس حقوقه الإنسانية البسيطة، فمن الممكن أن يخسر حياته كلها. فابسط الأسلحة التي تستخدمها الشرطة المجتمعية في السودان، هي سلاح يسمي "العوزي" والذي يقع في منطقة وسط بين البندقية الآلية وبين الأربي جي، مع العلم أنه سلاح يستخدمه الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنذ اللحظات الأولي، تبادر الي ذهني نموذج دولة حماس في غزة، وتبادر الي ذهني وضع مصر بين شمالها وجنوبها، ففي الشمال توجد إمارة حماس وفي الجنوب توجد دولة آية الله البشير. وبناء علي هذا التقسيم، تصبح عملية تنظيم مظاهرة لأي فصيل سياسي في السودان، عملية خطيرة ومحفوفة بالمخاطر الشديدة، فهناك عرف سائد هو أن خروج أي مظاهرة تعني مقتل اربعة أو خمسة أشخاص علي الأقل، كما حدث في مظاهرات منطقة " كجبار" اعتراضا علي بناء سد في هذه المنطقة، والتي قتل فيها 4 شباب من هذه البلدة، أما باقي شباب الحركات السياسية في السودان والذين حركوا القضية الجنائية الدولية ضد الرئيس البشير، فتم التنكيل ببعضهم وهرب الباقي الي مصر ولندن وسويسرا وحصلوا علي اللجوء السياسي خوفا من بطش البشير ورجاله، وفي مواجهة ذلك نظمت قوات الشرطة في السودان مظاهرات ضخمة ضد قرار الجنائية الدولية عن طريق حبس موظفي الدولة في مكاتبهم ليخرجوا كمجموعات كبيرة في مظاهرات حاشدة. النظام البوليسي الذي يحكم الخرطوم، كوحش غير مرئي يلف المدينة في ظلامها، لم ينشغل يوما بالتنمية أو بالعاصمة التي تبدو كمدينة في بداية القرن الماضي، فالسواد الأعظم من السودانيين يعملون في مهن متواضعة، فلا توجد مصانع أو مشروعات قومية، حتي المشروعات الاستثمارية الجديدة التي دخلت السودان مؤخرا، علي يد الوليد بن طلال ومعمر القذافي، جلبوا لها عمالة من الصين والهند.. فمن المعروف أن برج الفاتح الذي يتوسط العاصمة، بني علي الارض التاريخية لحديقة حيوان الخرطوم، ولا يعرف أحد أسباب اختيار معمر القذافي ارض حديقة الحيوان التي تضم عددا كبيرا من الأشجار النادرة، وكذلك فعل الملياردير السعودي الوليد بن طلال الذي قرر بناء أبراجه الشاهقة علي أرض غابة السنط التي كانت تعد من المحميات الطبيعية النادرة في العالم، ويظهر بجانب هؤلاء اسم عائلة الملياردير السوداني " داود" والتي تتمتع بنفوذ كبير، فكل من ايهاب واسامة داود يملكان عددا كبيرا من المؤسسات والشركات، وأخيرا وضعا أيديهما علي ما تبقي من غابة السنط، بل ما هو أكثر من ذلك، أن الثنائي داود يسعيان الي خطة معلومة لدي الجميع في الخرطوم وهي تحويل ارض غابة السنط الي " كمبوند" خاص لصفوة المستثمرين في السودان، وتطويق هذه المنطقة ببوابات خاصة، لا تفتح أبوابها إلا للاعضاء فقط. وفي مواجهة مجتمع الصفوة، ينقسم المجتمع في الخرطوم الي مجموعات شديدة التباين، فالسيارات الجديدة التي تملأ شوارع الخرطوم لا تعبر عن أي طفرة في المجتمع، بل تشير الي العكس تماما، لأن الاستثمار الذي دخل الخرطوم يشبه الاستثمار الذي دخل مصر مع الانفتاح الاقتصادي في الثمانينيات، فنحن امام بلد يتمتع بثروات طبيعية هائلة، لكنه ظل مغلقا لأسباب سياسية، وعندما قرر النظام الحاكم فتح البلاد، كانت النتيجة هي الفوضي وإغراق البلاد في فقر لا حدود له، وزيارة واحدة الي مدينة " أم درمان" تلك البلدة التي ارتبط اسمها بهزيمة المنتخب المصري مؤخرا. تعتبر " أم درمان" المدينة الأم في الخرطوم لأنها العاصمة القديمة للسودان، ويعد سكانها من السكان الأصليين الذين لم ينزحوا من قري ومدن أخري، ففي السنوات العشر الأخيرة، نزح مئات الآلاف من سكان الجنوب الي الخرطوم بعد المذابح الجماعية التي نفذها الجنجويد في حق الدارفوريين، لكنهم جميعا يعملون في مهن متواضعة، لأن العنصرية التي تمارس علي الجنوبيين خارج السودان، يواجهون مثلها في الخرطوم ايضا. والسيدات في السودان يتعرضن لضربة مزدوجة، الأولي أن حريتهن شبه معدومة، في نفس الوقت الذي يتحملن فيه مسئولية منازلهن، لأن رجالهن لا يجدون عملا وسط هذا الخراب، فيخرجن للعمل في مهنة منتشرة بشكل واسع في الخرطوم ويطلقون عليها " ست الشاي" وهي السيدة التي تجلس في الشارع لتبيع الشاي والقهوة ويلتف حولها المارة، وتظهر ست الشاي في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه المقاهي بشكلها المعروف.