دليل اللاعنف ، في مجابهة العنف

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 07:20 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-14-2009, 12:35 PM

عادل عبدالرحمن
<aعادل عبدالرحمن
تاريخ التسجيل: 08-31-2005
مجموع المشاركات: 634

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دليل اللاعنف ، في مجابهة العنف

    مقتطفات من كتاب جان ماري مولر : قاموس اللاعنف
    ترجمة : محمد علي عبد الجليل
    مراجعة : ديمتري أفييرينوس




    الإستراتيجية

    تعني كلمةُ "إستراتيجية" stratégie اشتقاقيًّا: قيادة جيش (من اليونانية stratos: "جيش" وagein: "قاد") في مختلف الاشتباكات التي تضعه في مواجهة مع العدو. بهذا المعنى، تكون الإستراتيجية فن الحرب الذي يشمل رسمَ عملياتٍ بعينها للقوات المسلحة وقيادتَها والتنسيقَ بينها بهدف إحراز النصر على العدو الذي يتيح بلوغ هدف سياسي معيَّن. تشير الإستراتيجية إلى التخطيط للحرب في مجملها وإلى قيادتها، بينما يتعلق التكتيك بالتخطيط على حدة لكلِّ عملية من العمليات المختلفة وتنظيمها. وحيث إن المقصود من الكفاح اللاعنفي هو التفتيش عن "معادِلات وظيفية" للحرب لبلوغ هدف سياسي، فإنه يجوز لنا، بإجراء إزاحة للمعنى باستبدال قياسي، الكلامُ على "إستراتيجية العمل اللاعنفي". والقيام بذلك لا يعني عسكرة اللاعنف، بل تخليص الإستراتيجية من طابعها العسكري. ضمن هذا المنظور، تقوم إستراتيجية العمل اللاعنفي، بعد تحليل الموقف وتقييم نقاط القوة والضعف لدى مختلف أبطال النزاع، على اختيار مختلف الأعمال والتخطيط لها وتنفيذها تنفيذًا منسقًا لبلوغ هدف سياسي معيَّن. إن مرمى إستراتيجية الكفاح اللاعنفي هو إكراه الخصم حتى يجد نفسه مرغمًا على قبول حلٍّ للنزاع من شأنه أن يلبِّي مقتضيات العدل. يتطلب التخطيط الإستراتيجي لحملة ما نظرةً إجماليةً إلى مجريات مختلف الأعمال عِبْرَ تصاعُد من شأنه أن يقود إلى النصر. إن الصعوبة القصوى التي نواجهها في إدراك مفهوم إستراتيجية العمل اللاعنفي مردها أساسًا إلى أننا تعوَّدنا أن نتصور المجابهة بين فردين أو بين جماعتين كمعركة "بأسلحة متكافئة"، حيث يمتلك كلٌّ من الخصمين الوسائلَ نفسها، أو على الأقل، وسائلَ مكافِئة. فما إن يتخلَّى أحد الخصمين عن استعمال الوسائل العنيفة التي يستعملها الآخر حتى يظهر الصراعُ غير متكافئ، بحيث يجيز اختلالُ توازُن القوى الظاهري الناجم عنه استشفافَ بوادر النصر المباشر والنهائي للطرف المسلَّح على الطرف غير المسلَّح. في عبارة أخرى، ليس في مقدورنا أن نتخيل معركةً إلا من خلال استعمال الخصمين وسائلَ متناظرة. فكل عدم تناظُر، كل خلل في التناظُر بين الأسلحة، سرعان ما يُفسَّر على أنه نقيصة كأْداء، دونية مطلقة للأقل تسلحًا مقارنةً بالأكثر تسلحًا. بيد أن مفهوم العمل اللاعنفي يحتِّم، في حدِّ ذاته، تفاوتًا وخللاً في التناظر بين وسائل المعتدي ووسائل المعتدى عليه – وهذا الاعتبار وحده يبلبل معالمَنا ويضلِّلنا. فمَن يختار اللاعنف يبدو لنا أعزل تمامًا في وجه مَن لا يتردد في اختيار العنف، بحيث يبدو لنا أن له الحظوظ كلَّها في الهزيمة، وسوف يُحكَم عليه بالموت حتمًا، شأنه في ذلك شأن الحمَل الذي يجابه الذئب! إذا لم نأخذ في حسباننا سوى الأدوات التقنية التي في حوزة الإنسان المسلح ونظيرتها التي ليست في حوزة الإنسان اللاعنفي، يصح أن هذا ليس في مقدوره مقاومة ذاك. من منطلق نظريٍّ بحت، يمكن للإنسان المسلح أن يمارس العنفَ على الإنسان اللاعنفي من غير حدود؛ وهذه احتمالية لا يمكن لنا استبعادها، وذلك لمجرد أنها ممكنة تقنيًّا. غير أنها تبقى احتماليةً مجردة ولن تتحقق بالضرورة؛ فالخبرة تبين أنها ربما ليست الأكثر حدوثًا. فلتقدير احتمالات مبادرة الإنسان المسلح إلى الفعل، لا ينبغي فقط أخذ العوامل التقنية وحدها في الحسبان، بل العوامل الإنسانية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية أيضًا. ففي الواقع، من شأن هذه العوامل أن تفرض على الإنسان المسلَّح حدودًا لا يمكن له تخطِّيها دون حرج كبير عليه. إن عنفًا بلا حدود أعمى بكلِّ ما تعنيه العبارة. فقد يكون هروبًا إلى الأمام لا يمت إلى أيِّ هدف عقلاني. لذا، إذا كان هذا الاحتمال ممكنًا تقنيًّا فإنه ليس بالضرورة الأكثر حدوثًا. إن الخيار اللاعنفي هو اختيار إستراتيجي يفرض أن تكون جميع الأعمال المنفَّذة لاعنفية. فلإستراتيجيةِ العمل اللاعنفي فعاليتُها الخاصة، وكل عمل عنيف يعطِّلها لا محالة، ويحكم عليها في المآل بالفشل. فعندما يتعايش العنف واللاعنف في مكان صراع واحد، فإن العنف هو الذي يفرض منطقَه. إن كفاحًا يتضمن 90% من الأعمال اللاعنفية و10% من الأعمال العنيفة ليس كفاحًا لاعنفيًّا فيه 10% من الأعمال العنيفة، بل صراعٌ عنفي فيه 90% من الأعمال اللاعنفية. فإذا قام 300 شخص باعتصام قعودًا أمام انتشار للشرطة، ملتزمين موقفًا لاعنفيًّا تمامًا، حسبُ ثلاثة أفراد أن يرموا عناصر الشرطة بالحجارة حتى يصنَّف العملُ برمَّته في خانة العنف؛ إذ إن الصورة التي ستفتتح نشرة الأخبار المتلفزة وتحتل صفحة الجرائد الأولى لن تكون المظاهرة اللاعنفية، بل صورة رماة الحجارة على الأرجح. ولن تتوانى السلطات القائمة، شأنها شأن الرأي العام، عن اعتبار أن 303 متظاهرين لجئوا إلى عنف غير مقبول في حقِّ رجال الشرطة. بالمثل، إذا سار بضعة ألوف من الأشخاص سِلْميًّا في شوارع إحدى المدن، يكفي أن يحطم بضعُ عشرات من الأفراد واجهاتِ محلات لكي يُعَدَّ المتظاهرون جميعًا "محطِّمين". لذا يجدر، منذ بداية العمل، إعلان الخيار الإستراتيجي للاَّعنف إعلانًا صريحًا، بحيث لا يكون في إمكان أيٍّ من مُحاوِري القائمين بالعمل، سواء من الشركاء أو الخصوم أو الرأي العام، إلا أن يعلموا به. ينبغي لهذا الإعلان أن يتيح إيجاد مناخ وبيئة ملائمين للتنمية المثلى لإمكانات العمل اللاعنفي الكامنة، يتيحان له التعبيرَ عن فعاليته كلِّها. بذا، فيما يتعلق بالتوفيقات الممكنة بين العنف واللاعنف، ليس هناك من تبادلية بتاتًا: الأعمال اللاعنفية تعزِّز فعالية الكفاح العنفي، في حين أن الأعمال العنيفة تعطِّل فعالية الكفاح اللاعنفي. في النزاعات العنيفة، يتخذ القائمون بالعمل المسلَّحون السكانَ رهائنَ في أغلب الأحيان. فالعمل العنفي لا يتيح لمجموع المواطنين الانخراطَ في عملية الكفاح؛ إذ يجدون أنفسهم مجرَّدين من مسؤوليتهم كمواطنين. على العكس، تتيح إستراتيجيةُ العمل اللاعنفي للمجتمع المدني لعبَ دور أكبر في حلِّ النزاعات. فضلاً عن ذلك، – وهذا ليس تفصيلاً، – يتساوى النساء والرجال تسلحًا في المقاومة اللاعنفية.



    التكتيك

    إذا كانت الإستراتيجية تتعلق بوضع تصوُّر لخطة تنظِّم مختلفَ أعمال كفاح لاعنفي وتنسق بينها وبتنفيذ تلك الخطة، فإن التكتيك يتعلق بوضع تصور لكلِّ عمل من هذه الأعمال على حدة وبتنفيذه. إذ تتيح المهارة التكتيكية أو الحس التكتيكي أفضلَ استفادة من عمل بعينه عبر التطوير الأمثل للوسائل التي تساهم في تنفيذه. يطبَّق التكتيكُ في مجال معيَّن ومحدود ومعروف ومستقر نسبيًّا، بينما تطبَّق الإستراتيجيةُ في مجال أوسع وأعقد بكثير، تصعب الإحاطة به لأنه في تطور مستمر. بكلام ملموس أكثر، تشتمل الإستراتيجية في الكفاح اللاعنفي على عمليات إقرارٍ وتخطيطٍ وتنسيقٍ لمختلف التظاهرات العامة القادرة على إعلام الرأي العام واستنهاضه وتعبئته، لأعمال اللاتعاون الأنسب إضعافًا للطرف الخصم، لأعمال العصيان المدني الأجدى تحديًّا للسلطات العامة، للإنجازات التي ستتيح تنفيذ البرنامج البَنَّاء المقابل لبرنامج اللاتعاون، ولجميع المبادرات التي من شأنها تغيير توازُن القوى وضعضعة الخصم وإرغامه على الاستسلام. أما التكتيك فعبارة عن تنظيم كلِّ مظاهرة من المظاهرات العامة، وكلِّ عمل من أعمال اللاتعاون والعصيان المدني، وكلِّ إنجاز من إنجازات البرنامج البَنَّاء، وذلك بأكبر فعالية ممكنة. بذا تترابط الإستراتيجية والتكتيك وتتضافران للمساهمة معًا في نجاح الكفاح. لكي تكون إستراتيجية العمل اللاعنفي فعالةً تمامًا، ينبغي ألا يعطِّلها أيُّ عمل عنيف. لذا فإن اختيار هذه الإستراتيجية يستبعد لا محالة مبدأ "تنوع التكتيكات" الذي يَحسُن وفقًا له التوفيقُ في الكفاح الواحد بين الأعمال اللاعنفية والأعمال العنفية. كل عمل عنيف يعيق لا محالة الدينامية الخاصة لإستراتيجية العمل اللاعنفي. ضمن إطار معركة مسلحة، تعزز الأعمال اللاعنفية لا محالة الفعالية الإجمالية للكفاح؛ ولكن في إطار مواجهة لاعنفية، تعاكس الأعمالُ العنفية الفعاليةَ الإجمالية لا محالة.



    الاعتصام قعودًا

    الاعتصام قعودًا sit-in (يعني هذا التعبير الإنكليزي حرفيًّا: "القعود في الداخل") طريقةُ تدخُّل مباشر عبارة عن احتلال مكان رمزيٍّ بالقعود جماعةً على الأرض. فبدلاً من البقاء وقوفًا، بدلاً من القيام بـ"اعتصام وقوفًا" stand-in ("وقوف في الداخل")، يتميز القعود بإضفائه على المظاهرة استقرارًا أكبر وصلابةً أشد بمنحها بالدقة "أساسات" أفضل تمكِّن من مقاومةٍ أفضل لتدخُّل محتمَل للشرطة. ومن التنويعات على الاعتصام قعودًا "التماوت" die-in (حرفيًّا: "الموت في الداخل"): والمقصود هو "التظاهر بالموت" باتخاذ وضعية التمدد على الأرض رأسًا. يهدف تنظيمُ مظاهرة قعود عمومًا إلى استنهاض الرأي العام والسلطات العامة على وضع جائر. ويمكن للمشاركين "إنطاق" المظاهرة بلبس أثواب بلا أكمام وحمل لافتات أو رايات لإعلام المارة؛ كما يمكن إقرار توزيع منشورات يقوم به متظاهرون آخرون. كذلك يمكن للاعتصام أن يكون طريقةً لاحتلال القائمين به أماكنَ تعود ملكيتها للخصم لفرض أنفسهم عليه كمحاورين ضروريين؛ كما يمكن له أن يكون طريقةَ عرقلة تهدف إلى منع أي مرور على طريق عام، أو عند مدخل مبنى عام أو مؤسسة خاصة. ويمكن لعمال مضربين القيام باعتصام قعودًا على مداخل معملهم أو داخله بغية منع أشخاص آخرين من التحرك البدني، خاصةً غير المضربين أو ملاك الإدارة. كما يمكن للمشاركين في موكب أو مسيرة استخدامُ هذه الطريقة عندما يصطدمون بحاجز شرطة: إذ لا يعلن المتظاهرون، بهذه الوضعية البدنية الجماعية، إعلانًا صريحًا عن إرادتهم رفض أية مجابهة مع الشرطة وحسب، بل وعن عزمهم على الاستمرار في مظاهرتهم أيضًا. بذلك توضع السلطاتُ العامة أمام مسؤولياتها، ويعود لها وحدها قرارُ المبادرة بالعنف أو عدمه. يرمي الاعتصامُ إلى احتلال الأماكن أطول فترة ممكنة وإلى التصدي لتدخُّل قوى الشرطة المكلَّفة "تنظيف" المكان بأكبر مقاومة ممكنة. وأمام موقف كهذا، من الممكن لقوات الشرطة أن تتورع عن الإغارة على المتظاهرين السِّلميين بضربات الهراوات أو برشاشات الماء أو بقنابل مسيلة للدموع. عندئذٍ، قد يُعطى الأمرُ بـ"تفكيك" المظاهرة بإزالة المتظاهرين واحدًا تلو الآخر. إذ ذاك يمكن لهؤلاء أن يرفضوا أي تعاون مع قوات الأمن بـ"التراخي"، أي بأن يرفضوا القيام والمشي ويذعنوا في هدوء لـ"معالجة" عناصر الشرطة الذين ينقلونهم حملاً إلى الشاحنات المخصصة لاستقبالهم. وقد يحصل ألا تتم عملية الحمل هذه من غير شيء من القسوة. غير أن "تفكيكًا" كهذا غير ممكن بتاتًا إذا كان عدد المتظاهرين غفيرًا. إذ ذاك يُحتمَل أن يتلقى عناصرُ الشرطة أمرًا بـ"تنظيف الميدان" بالإغارة على المعتصمين. لذا ينبغي للصفوفُ الأولى من المتظاهرين أن تتألف من مناضلين مؤهَّلين، إنْ نفسيًّا أو فنيًّا، لمواجهة مواقف خطيرة. وفي هذا الصدد، قد تكون ممارسة لعب الأدوار مفيدةً للغاية. ينبغي عليهم بالأخص معرفة التدابير الأولية للحماية التي ينبغي اتخاذها في هذه اللحظة (ولاسيما حماية قذال العنق باليدين). قلما يكون في الإمكان الصمود طويلاً في مواجهة غارة للشرطة. لذا يعود إلى مسؤولي المظاهرة إعطاء الأمر بالانسحاب في اللحظة الأنسب. وينبغي، ما أمكن، تجنبُ أن يأخذ الانتشار شكلَ الفلول. إذ يهم، في مرأى من الرأي العام، أن تقع مسؤوليةُ العنف في وضوح على السلطات العامة.



    اعتراض الضمير

    المقصود بـ"اعتراض الضمير" – بالمعنى الأشيع، لكن الضيق – رفْضُ أداء الخدمة العسكرية أو تلبية "نداء العَلَم". وتوحي هذه العبارةُ، في حدِّ ذاتها، بأن هذا الرفض يتأسس جوهريًّا على قناعات شخصية تحتج بالفريضة الأخلاقية و/أو الدينية التي تُملي الاحترام غير المشروط للحياة الإنسانية، فتحرِّم إراقة الدم، ومن ثم "حمل السلاح". إبان وقت طويل، كان موقف معترضي الضمير مدانًا من جانب الدول إدانةً صارمةً بوصفه جنحةً غير وطنية تخالف واجبَ التضامن الوطني الذي يفرض نفسه على كل مواطن. ولم تقصِّر الآراءُ العامة نفسُها في تأييد هذه الإدانة؛ فكان المستنكفون، إذ ذاك، متَّهمين بإظهار الجبن برفضهم تحمل مسؤولياتهم كمواطنين. بذا كان الاعتراف بالحق في اعتراض الضمير ومَنْحُ المعترض وضعًا قانونيًّا سابقةً لها دلالتُها في الحضارة. وهذا الاعترافُ حديث العهد؛ إذ لم يتم الحصول عليه إلا بعد صراع طويل تطلَّب من الشجاعة ومن التضحيات ومن الآلام الكثير من جانب الذين باشروا به، حين كانوا يعامَلون معاملةَ الجانحين والناكثين، فيُشهَّر بهم على الملأ ويودَعون السجن. مع ذلك، فإن حق اعتراض الضمير لا تعترف به بعدُ سائر الدول التي مازالت تتمسك بمبدأ الخدمة العسكرية الإلزامية. زبدة القول إنه حتى في البلدان التي ألغت التجنيدَ الإلزامي، مازال على المواطنين أن يطالبوا بالتمتع بوضع معترض الضمير قانونيًّا، مفصحين بذلك عن رفضهم تجنيدَهم في الجيش في حال قررتِ الدولةُ تعبئتَهم. ومادام اعتراضُ الضمير لا يقتصر على استنكار للجيش من نمط لاعسكرانيٍّ وسِلْمي فقط، بل يتأسس على خيار اللاعنف، لا يمكن أن يكتفيَ بمجرد رفض فردي لحمل السلاح. فعلى المواطن الذي يختار اللاعنف، إذ يطلب الاستفادة من حقِّ اعتراض الضمير، "فرضُ الضمير" بتحمل مسؤولياته كمواطن عبر وسائل أخرى غير وسائل العنف، أي عبر وسائل العمل اللاعنفي. إذ ذاك، ينبغي على الدولة منحه إمكانيةَ القيام، ضمن إطار الخدمة الوطنية نفسه، بخدمة مدنية تساوي مدتُها مدةَ الخدمة العسكرية. وتجب عليه، طوال هذه الخدمة، دراسةُ مبادئ إستراتيجية العمل اللاعنفي ومناهجها، سواء فيما يخص مبادئ الدفاع المدني ومناهجه أم مبادئ التدخل المدني وطرائقه، والاستعدادُ لتطبيقها عمليًّا. عندما يتخذ معترضُ الضمير قرارَه، يعلم أن هناك ظروفًا يمكن أن تطرأ فجأةً، بما يضطر الدولةَ إلى التدخل في نزاع للدفاع عن قضية عادلة، فتقوم عند ذاك بهذا التدخل فقط بالوسائل المتاحة لها، ألا وهي وسائل القوة المسلحة. وهو يرى أصلاً أنه، والموقف هو ما هو، خيرٌ للدولة أن تتدخل باللجوء إلى قوة السلاح من أن تلجأ إلى سياسة "عدم تدخُّل" ليس لها من دافع آخر سوى الجبن ولا من عاقبة لها غير إفساح المجال للمعتدين لارتكاب أعمالهم الدنيئة. ولكنْ عندما يقرر المواطنُ أن يصبح معترضَ ضمير، فإنه يختار مسبقًا عدمَ المشاركة بنفسه في تدخُّل عسكري كهذا. فهو على قناعة بأنه سيكون أنفع لبلاده ببحثه عن إمكانات التدخل بوسائل تقدِّمها إستراتيجيةُ العمل اللاعنفي. كما يمكن لاعتراض الضمير السياسي أن يكون وسيلةً لرفض المشاركة في عمل عسكري بعينه يراه المعترض جائرًا وغيرَ مقبول، لكنْ دون أن يختار اللاعنف، رافضًا اللجوء إلى العنف مهما تكن الظروف. إذ يمكن للعسكريين أنفسهم القيام باعتراض الضمير برفضهم المشاركة في حملة قمع لأقلية سياسية تناضل في سبيل الاعتراف بحقوقها؛ كما يمكن لهم رفض اللجوء إلى وسائل يعتبرونها غير مشروعة، كالتعذيب وإعدام الأسرى دون محاكمة. وفي صورة أعم، يمكن أن نسميَ "اعتراضَ ضمير" كلَّ رفض لإطاعة قانون أو أمر من جانب مواطن مقتنع، تحدوه دوافع ضميرية بحتة، بأنه، إذا اتفق له أن يذعن، فسوف يتواطأ مع ظلم مخصوص ينال من الكرامة الإنسانية. هذا العصيان يمليه قانونٌ غيرُ مكتوب عمومًا، يعلو على قوانين المدينة المكتوبة. أفلا ينبغي، والحالة هذه، النظر في إدراج الحق في العصيان لأسباب ضميرية ضمن الدستور؟ أليس مطلبًا من مطالب الديموقراطية تحديدُ "بند للضمير المُواطني" يُعفي الفردَ من الخضوع لقانون ينطوي على فروض تخالف قناعاتِه؟



    الدفاع المدني اللاعنفي

    على كلِّ مجتمع أن يكون مستعدًّا للدفاع عن نفسه ضد تهديدات العدوان التي قد تنال من كرامة أبنائه وحريتهم. ما انفكت المجتمعات، حتى وقتنا الحاضر، تسعى إلى تأمين السلام بالاستعداد للحرب. فإلى أيِّ مدًى يمكن النظر في دفاع عن المجتمعات يرتكز على مبادئ استراتيجية العمل اللاعنفي وطرائقه؟ ضمن إطار استراتيجية الدفاع المدني اللاعنفي، يتكون مسرحُ العمليات من المجتمع بمؤسساته الديموقراطية وأفراده. وفي الواقع، لا يشكِّل غزوُ أرضٍ واحتلالُها هدفَي العدوان؛ إذ هما ليسا غير وسيلتين لترسيخ السيطرة على المجتمع والهيمنة عليه. فالأهداف التي يسعى الخصمُ إلى بلوغها باحتلاله أرضًا هي، على الأرجح، التأثير الإيديولوجي والهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي. ولبلوغ هذه الأهداف، على المعتدي، بالتالي، "احتلال" المجتمع، وبدقة أكبر، "احتلال" مؤسسات المجتمع الديموقراطية. انطلاقًا من ذلك، فإن الحدود التي يجب أن يدافع عنها الشعبُ قبل كلِّ شيء لصون حريته ليست حدود الأرض، بل حدود الديموقراطية. في عبارة أخرى، ليست الأرضُ التي تضمن سلامتُها سيادةَ الأمة رقعةً جغرافية، بل هي رقعة الديموقراطية. ينتج عن ذلك أن على "السياسة الدفاعية" في مجتمع ديموقراطي أن تجعل من الدفاع عن دولة القانون أساسًا لها. إن منشأ التهديد الذي يُثقِل كاهلَ الديموقراطية هو، بالدرجة الأولى، الإيديولوجياتُ القائمة على إقصاء الإنسان الآخر، سواء كانت القومية أو العنصرية أو كراهية الأجانب أو الأصولية الدينية أو أي مذهب اقتصاديٍّ قائم حصرًا على السعي إلى الربح. يجدر، إذن، إعادة تركيز النقاش حول الدفاع على مفهومَي الديموقراطية والمُواطَنة. فإذا كان الغرض من الدفاع هو الديموقراطية، فإن فاعل الدفاع هو المواطن لأنه هو فاعل الديموقراطية. حتى وقتنا الحاضر، وفيما يتعدى مجرد التأكيدات البلاغية التي يجب بمقتضاها على الدفاع أن يكون "قضية الجميع"، لم تتمكن مجتمعاتُنا من إتاحة الفرصة للمواطنين كي يتجشموا مسؤوليةً فعليةً في تنظيم الدفاع عن الديموقراطية ضد الاعتداءات التي يمكن أن تتعرض لها، سواء أتت من الداخل أم من الخارج. لقد كان من تأثير الإيديولوجيا الأمنية للردع العسكري، بصفة أخص، تجريدُ مجموع المواطنين من مسؤوليتهم فيما يخص التزاماتهم في الدفاع. فمادامت التكنولوجيا تسبق التنظير السياسي والاستقصاء الاستراتيجي وتحلُّ محلَّهما وتؤول إلى استبعادهما، لا يعود فاعل الدفاع هو المواطن، بل الأداةُ التقنية والآلة العسكرية ومنظومة السلاح. يجدر بالمواطنين، إذن، أن يستعيدوا الدورَ الذي يجب أن يكون دورهم في الدفاع عن الديموقراطية. ولإشراك المواطنين في الدفاع عن المجتمع، لا تكفي إرادةُ بثِّ "روح الدفاع" في السكان المدنيين؛ إذ لا مناص من إعداد "استراتيجية دفاعية" حقيقية يكون من شأنها تعبئة مجموع المواطنين في "دفاع مدني" عن الديموقراطية. فحتى الآن، ظلت توعية المواطنين بضرورات الدفاع، بما في ذلك توعية الأطفال، تندرج ضمن الإطار الضيق الخاص بتنظيم الدفاع العسكري. ولا يمكن لهذا التقييد إلا أن يعرقل تنمية إرادة دفاع حقيقية عن المؤسسات التي تكفل حسن أداء الديموقراطية. فلكي تسري روحُ الدفاع سريانًا حقيقيًّا في المجتمع، لا بدَّ من تمدين الدفاع، لا عسكرة المدنيين. وبذلك تصير تعبئة المواطنين مستقبلاً فعالةً وعملانيةً بمقدار ما تكون كذلك المهماتُ المقترَحة في إطار المؤسسات السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية التي يعمل فيها هؤلاء المواطنون بصفة يومية. يندرج الإعدادُ للدفاع المدني في استمرارية تامة وتجانُس كامل مع حياة المواطنين في المؤسسات التي يمارسون فيها مسؤولياتِهم كمواطنين. وتتأصل روح الدفاع مباشرةً في روح المُواطَنة التي تحرِّك نشاطاتِهم اليومية. في مواجهة أية محاولة تقوم بها سلطةٌ غير شرعية لزعزعة استقرار المجتمع أو التحكم فيه أو السيطرة عليه أو الاعتداء عليه أو احتلاله، لا مندوحة، إذن، لمقاومة المواطنين المدنية من أن تنتظم على جبهة المؤسسات الديموقراطية، تلك التي تتيح حصرًا حريةَ ممارسة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية من خلال ضمان الحريات والحقوق للجميع ولكلِّ فرد. ويقع على عاتق المواطنين الذين يضطلعون بوظائفَ في هذه المؤسسات الحرصُ على أن تستمرَّ هذه في العمل بحسب قواعد الديموقراطية. وبذا يجوز لهم رفضُ تقديم أيِّ ولاء لأية سلطة غير شرعية تحاول، باستلهامها إيديولوجيا مناوئة للديموقراطية، أن تجيِّر هذه المؤسسات لمآربها الخاصة. الهدف الأخير لأية سلطة غير شرعية تريد أن تمسك بزمام مجتمع ما هو الحصول، من خلال تضافُر وسائل الإقناع والضغط والإكراه والقمع، على التعاون والتواطؤ الموضوعيَّين للمواطنين أو لأكبر عدد منهم على الأقل. مذ ذاك فإن المحور المركزي لاستراتيجية للدفاع المدني هو تنظيم رفض معمَّم، لكنه انتقائي ومسدَّد نحو هدف محدد، لهذا التعاون. بذا يمكن تعريف "الدفاع المدني" بأنه سياسة دفاعية للمجتمع الديموقراطي ضد أية محاولة للسيطرة السياسية أو الاحتلال العسكري، بتجنيد مجموع المواطنين في مقاومةٍ توحِّد، بطريقة مدروسة ومنظمة، أعمالاً لاعنفية من اللاتعاون والمواجهة مع أية سلطة غير شرعية، بحيث تغدو تلك السلطة عاجزةً عن بلوغ أهدافها الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية التي تزعم من خلالها تبريرَ عدوانها. لا يجوز تركُ تنظيم هذا الدفاع لمبادرة الأفراد. إذ يتعيَّن على السلطات العامة الإعدادَ له في جميع المساحات المؤسَّسية للمجتمع السياسي. ينبغي، إذن، أن تصوغ الحكومةُ تعليماتٍ رسميةً حول واجبات الموظفين حين يتفق لهم أن يجبهوا وضعًا مأزومًا كبيرًا عليهم أن يواجهوا فيه أوامرَ سلطة غير شرعية. وهذه التعليمات يجب أن تشدِّد على أن للإدارات العامة دورًا استراتيجيًّا حاسمًا في الدفاع عن الديموقراطية، متمثلاً في حرمان أية سلطة غاصبة من وسائل التنفيذ التي تحتاج إليها لإعمال سياستها. وبعد أن يُهيَّأ الدفاعُ المدني في قلب المجتمع السياسي، يجب تهيئته بالمثل في قلب المجتمع المدني ضمن إطار مختلف المؤسسات والجمعيات التي يكوِّنها المواطنون ليتجمعوا بحسب ميولهم السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية المشتركة. وإن على الشبكات المتشكلة من جمعيات المواطنين هذه التي تحتل الفضاء الاجتماعي للبلد بكامله – والتي تضم بشكل رئيسي الحركات السياسية والنقابات والحركات الائتلافية associatifs والطوائف الدينية – أن يتحول كل منها، في حال وجود أزمة تُعرِّض الديموقراطيةَ للخطر، إلى شبكة من شبكات المقاومة. إن قيام السلطات العامة بالتطبيق المؤسساتي للدفاع المدني اللاعنفي سوف يصطدم لفترة قد تطول بعراقيل سوسيولوجية عديدة. وتحتاج الدولة، بادئ ذي بدء، إلى موالاة الجيش لتضمن نفوذها وتحافظ عليه وتستعيده إذا لزم الأمر. إذا كان "التصوف العسكري" يعتنق دين الحرية، فإن السياسة العسكرية تمارس قبل كلِّ شيء دين النظام. فضلاً عن ذلك، فإن إخلاص الدولة لدين الطاعة أكبر من أن يحول دون مقتها الشديد تعليمَ المواطنين رفض الانصياع للأوامر غير المشروعة. وبهذا، يظل إعمال الدفاع المدني اللاعنفي تحديًا حقيقيًّا، في الحاضر كما في الماضي. لذا يبدو من غير المعقول أن يُتوقَّع من السلطات العامة تنظيمُه على غرار تنظيمها للدفاع العسكري، عِبْرَ سيرورة تُفرَض من أعلى هرم الدولة إلى قاعدة المجتمع. على المواطنين أولاً أن يقتنعوا أنفسهم بضرورة ذلك من أجل الدفاع عن الديموقراطية، أي، في المآل، من أجل الدفاع عن حقوقهم وعن حريتهم. ففي هذا المقام كما في أيِّ مقام آخر، كلما تعلق الأمر، أولاً وجوهريًّا، بالديموقراطية، فإن القول الفصل يجب أن يكون للمواطنين ويبقى وقفًا لهم.



    الردع المدني

    على تنظيم الدفاع المدني اللاعنفي، ككلِّ سياسة دفاعية، أن يتخذ غايةً أولى له ثَنْيَ المعتدي في الإمكان عن الشروع في الأعمال الحربية. وتكون مصداقيةُ الردع المدني فعليةً عندما يُحمَل الخصمُ على الاقتناع بأنه يُعرِّض نفوذَه لمخاطر حقيقية فيما إذا قرر التدخل فيما يتعدى حدوده. قد يتمكن عملاءُ الخصم قطعًا من دخول الأرض التي يطمع فيها دون أن يتكبدوا خسائر ودون أن يتعرض أهاليه لأعمال انتقامية؛ غير أن جنده وموظفيه وجميع المكلَّفين بمهمات لديه قد يصطدمون بالعداء المنظَّم الذي تنهض له السلطاتُ العامة والمؤسساتُ والمواطنون الذين يأبون عليهم أي تعاون. إذ ذاك، يخاطرون بالتورط في شبكات "مقاومة سياسية"، فيكابدون مغبة نقص معرفتهم بالأرض. وسيلاقون إذ ذاك أشد المصاعب في السيطرة على هذه المقاومة ولن يحظوا البتة بأمل القضاء عليها في غضون مهلة معقولة. يكون الردع فعليًّا حالما يتبين أن المَخاطر غير متناسبة ورهانَ الأزمة والتكاليفُ المتوقعة أبهظ من المكاسب المأمولة. لتعزيز مصداقية الردع المدني، يجب، في آنٍ معًا، زيادة تكاليف العدوان المحتمَل وتقليص مكاسبه. ينبغي لصانع القرار–الخصم أن يدرك عِظَمَ التكاليف الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية التي تخاطر، مجتمعةً، بزعزعة نفوذه ونظامه. ناهيكم أنه، بمقدار ما يفقد الأملَ في أيِّ تواطؤ يُذكَر بين أهالي البلد الخصم، يجازف بحرمان نفسه من المكاسب التي يريد أن يجنيها من عدوانه. إن من شأن علاقة التناسب بين تلك التكاليف وهذه المكاسب أن تثنيه عن أيِّ تدخل في أرض مجتمع يطبِّق وسائلَ دفاع مدني. وعلى الافتراض – وهو الأرجح على كلِّ حال – بأن البلد لا يقيم أمنَه على الدفاع المدني اللاعنفي وحده، بل يعد العدة في الآن نفسه لدفاع عسكري، فإن العناصر التكوينية لردع مدني قد تأتي بـ"قيمة مُضافة" إلى مصداقية الردع الإجمالي الذي ينتج عن مختلف أشكال الدفاع.



    البرنامج البنَّاء

    من الجوهري ألا يبقى النضال اللاعنفي ضد الظلم أسير استنكاراته وإداناته، بل أن يتمكن من إعداد مشاريع بديلة تتيح بِناء العدل ومن اختبار هذه المشاريع. ففي الوقت الذي تنفِّذ فيه حركةُ المقاومة برنامجَ لاتعاون، ينبغي عليها وضع "برنامج بنَّاء". وينطوي هذا البرنامج، بالتوازي مع تنظيم المؤسسات والبُنى الاجتماعية التي نشجبها ونرفض التعاون معها، على تنظيم مؤسسات وبُنى تتيح إيجاد حلٍّ بنَّاء للمشكلات المطروحة، وذلك دون أن ننتظر الحلَّ النهائي للنزاع. فبدلاً من الاكتفاء بالطلب من السلطة الخصم أن تقدِّم حلاًّ عادلاً للنزاع الجاري، ينبغي القيام بإدراج هذا الحل في الواقع وذلك بتقديم الدليل على واقعية تنفيذه. فالمقاومون لا يريدون للوضع أن يتغير وحسب، بل يبادرون إلى تحقيق هذا التغيير الذي من أجله بوشر الكفاح. بذا فإن في إمكان مَن يرفضون دفع جزء من ضرائبهم احتجاجًا على النفقات العسكرية الباهظة للحكومة أن يقرروا إعادة توزيع المال المحصَّل من أجل تمويل عمليات تأهيل على الحلِّ اللاعنفي للنزاعات. يتطلب تحقيق البرنامج البنَّاء مشاركةً فعالة حتى ممَّن هم ضحايا الظلم حصرًا، وذلك بدعوتهم إلى استرداد حقوقهم بأنفسهم. فالعمل اللاعنفي ليس عبارة عن مطالبة المرء بحقوقه، بل عن استردادها ما أمكن. والبرنامج البنَّاء ينبغي أن يتيح لهؤلاء الذين ما انفكوا في وضع تبعية داخل البُنى السياسية والاقتصادية القائمة إمكانيةَ الاضطلاع بقَدَرهم والمشاركة مباشرةً في إدارة شؤونهم الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، يتيح تنفيذ البرنامج البنَّاء للعديد من الأشخاص غير المستعدين لتجشم مخاطر العمل المباشر أن يحشدوا طاقاتِهم وينخرطوا في الكفاح. بذا فإن العمل اللاعنفي، بتحقيقه البرنامجَ البنَّاء، لا يعود يستمد قوامه مما يعارضه وحسب، بل ومما يقدِّمه ويحققه أيضًا. يريد البرنامج البنَّاء أن يبيِّن أن مبادئ اللاعنف وطرائقه لا تتيح إعمال استنكار المجتمع فحسب، بل يجب عليه أن يتيح الاضطلاع بـإدارة هذا المجتمع.



    الإضراب

    الإضرابُ هو بعينه نمطُ العمل المباشر القائم على مبدأ اللاتعاون. إذْ لا يمكن لمؤسسة أو لإدارة أن تؤدي عملها إلا بفضل التعاون الطوعي للعمال أو المستخدَمين. ففي اللحظة التي يقرر هؤلاء التوقفَ عن العمل لإيصال مطلب ما من مطالبهم يمارسون قوةَ إكراه حقيقية، اقتصادية واجتماعية، على أرباب عملهم أو مديريهم الذين لا يمكن لهم أن يتجاهلوا طويلاً المطالبَ المقدمةَ إليهم. ولكي يكون الإضراب فعالاً حقًّا، ينبغي له أن يكون قادرًا على الصمود طويلاً: ينبغي على المضربين أن يصمدوا إلى أن يجبر عملُهم الخصمَ على القبول بحلٍّ تفاوضي للنزاع. غيرَ أنه يمكن النظر في إضرابات إنذارية لأجَل محدود. في قطاع الإنتاج الصناعي، كما في قطاع التوزيع التجاري، ليس مرورُ الزمن في صالح أرباب العمل لأنهم لا يستطيعون التأقلم طويلاً مع شلل مؤسستهم. فكل يوم إضراب إضافيٍّ يزيد من عبء الخسائر التي يستتبعها توقفُ العاملين عن العمل. إلا أن تصميم المضربين على الإضراب ليس هو الآخر في مأمن من الاستنزاف الذي يسبِّبه تطاوُل المدة الزمنية: فانقطاع مورد الرزق الذي يُنزِلُه بهم الإضرابُ من شأنه أن يدفعهم على المدى الطويل إلى استئناف العمل دون حصولهم على مبتغاهم. ويكمن الخطر في أن "يتفسخ" الإضراب من تلقاء ذاته. ففي أغلب الأحيان، يقود الحلُّ التفاوضي للنزاع المضربين إلى قبول تسوية ما. وفي أثناء الإضراب، يمكن لالتزام المستهلكين أن يكون ذا وزن كبير جدًّا على تطور توازُن القوة بين الإدارة والمستخدَمين. لذا كثيرًا ما تكون "معركة الرأي العام" حاسمةً في تحديد نتيجة للصراع: فمَن يحظى من الفريقين بدعم الرأي العام هو مَن يجد نفسَه في موقع يقوى فيه على اقتراح مفاوضات. لذا ينبغي على المضربين القيامُ بحملات إعلامية وتوضيحية لدى الجمهور لكي يتفهم تفهمًا واضحًا رهاناتِ الصراع الجاري. إذ لا يمكن للزبائن أو للمستخدِمين أن يعبِّروا عن تضامنهم إلا عندما يدركون جيدًا صحةَ قضية المضربين وشرعيةَ مطالبهم؛ وإلا فإن المساوئ الناجمة عن الإضراب يمكن أن تنفِّر جدًّا هؤلاء الذين يكابدونه يوميًّا، ولاسيما عندما يحصل الإضرابُ في قطاع "حساس" بصفة خاصة، كما في الخدمات العامة حصرًا. فالاستياء الذي ينشأ عندئذٍ لدى السكان يمكن أن يشكل عقبةً كأداء أمام مواصلة الإضراب، وبالتالي أمام نجاحه، ولاسيما أن مديري المؤسسة أو الإدارة لا يقصِّرون في مفاقَمةُ هذا الاستياء للحصول على أكبر فائدة تُرجى منه. وفي المنشآت الخَدَمية، من مصلحة المضربين القصوى أن يقدِّموا، عند الإمكان، خدماتِهم للزبائن والمستخدِمين مجانًا، علاوةً على "الخدمة الدنيا" التي يمكن للقانون أن يفرضها، فيصبح هؤلاء عندئذٍ أكثر استعدادًا لتفهُّم رهانات الإضراب ولتأكيد تضامنهم مع المضربين والمساهمة بذلك في تيسير انتصارهم.



    الإضراب العام

    تقوم المناداة إلى الإضراب العام على الإيعاز إلى جميع المواطنين – موظفين ومستخدَمين وعمالاً – بأن يوقفوا نشاطاتِهم بغية شلِّ الحياة الإدارية والاقتصادية لبلد أو لمنطقة أو لمدينة. من الممكن تنظيمُ الإضراب العام لمدة قصيرة: نهار واحد، بضع ساعات، بل عدة دقائق فقط. (إن عمليات "المدينة الميتة"، التي يُطلَب إبانها إلى كلِّ مواطن تعليق نشاطاته كلها، تنتمي مباشرةً إلى الإضراب العام قصير المدة.) والمقصود إذ ذاك عملٌ رمزي يهدف إلى إظهار إصرار الشعب إظهارًا عيانيًّا في نزاع ما بينه وبين سلطة سياسية أو اقتصادية. ويُفترَض سلفًا، لإنجاح عمل بهذا الاتساع، أن يكون السكانُ على وعي مسبَّق بأهمية رهان الصراع الجاري. ولكي لا يكون وَقْعُ الإضراب العام قصير المدة مبتورًا، ينبغي، إبانه، أن تُقترَح على السكان أعمالٌ أخرى من شأنها أن تتيح للصراع أن يتواصل. وعلى الاستنفار العام الذي يحرِّضه الإضرابُ أن يتمادى عبر أشكال أخرى من التدخل واللاتعاون. لا يمكن للإضراب العام غير المحدود أو ذي المدة غير المعيَّنة أن يتقرر إلا في ظروف استثنائية، حيث يظهر الرهانُ السياسي للصراع حاسمًا للمجتمع. المقصود إذن المبادرة إلى امتحان قوة مباشر وجبهي، إما مع السلطة القائمة وإما مع سلطة غاصبة تحاول أن تفرض نفسها عبر انقلاب أو عدوان خارجي، بغرض جعل هذه السلطة تستسلم أو إجبارها على التقهقر. وهكذا فإن فكرة الإضراب العام لشعب ككل، مصمِّم على كسر نير الطغيان والاستبداد الذي يثقل على كاهله وعلى تسيُّد مصيره، لهي التعبير الأكمل عن مبدأ استراتيجية العمل اللاعنفي نفسه. لكن يجب عدم التقليل من شأن المصاعب العملية التي تعترض تجسيدَ هذه الفكرة في التاريخ. لكي يكون الإضراب العام عملانيًّا حقًّا، عليه أن ينتصر في غضون مهلة قصيرة نسبيًّا. فإذا اتفق له أن يطول أكثر مما يجب، يكون الخطر كبيرًا بأن ترتد نتائجُه على السكان أنفسهم. مذ ذاك، لا بدَّ أن يكون المضربون أنفسهم أول مَن يذعنون، ولا مندوحة أن تكون عواقب الهزيمة ضارة ضررًا طويل الأمد. ينبغي، إذن، ألا يفعل الزمنُ لصالح السلطة الخصم التي يمكن لها عندئذٍ أن تنتظر حتى "يتفسخ" الإضرابُ لتستأنف الهجومَ وتكسب القضية. لذا ينبغي أن يتزود السكانُ بوسائل إطالة امتحان القوة بالحفاظ على نشاط اقتصاديٍّ أدنى يتيح لهم تلبية حاجاتهم الأساسية. ويُستحسَن أولاً تأمين التموُّن بالمواد الغذائية الضرورية؛ إذ لا يجوز للإضراب العام أن يفرض على السكان إضرابًا غيرَ محدود عن الطعام! كذلك، ينبغي العمل بحيث يتمكن العاملون في قطاع الصحة من تأمين خدمة دنيا. فإذا كان هناك حافز نفساني جمعي قوي، بالإضافة إلى تضامن اجتماعي حقيقي، فإن في إمكان السكان قبول الإجراءات التقنينية العديدة التي يفرضها الوضع. غير أنه ينبغي عدم النزول إلى أدنى من العتبة التي تصير الصعوباتُ المادية اليومية اعتبارًا منها لا تطاق. لكي يُفلح الإضراب العام، من الضروري أن يحدد قادةُ المقاومة الأهدافَ السياسية للصراع تحديدًا دقيقًا وأن يتأكدوا من إمكان بلوغها فعليًّا. ويعود إليهم، إذن، أن يتزودوا بوسائل بسط هذه الأهداف بسطًا واضحًا، للسكان وللسلطة الخصم على حدٍّ سواء؛ وإلا، فيُخشى فعلاً أن يتحول الإضرابُ العام إلى حركة تمرُّد مآلها لا محالة إلى الإخفاق. تتعلق نتيجةُ الصراع بتطور توازُن القوة بين الطرفين الداخلَين في النزاع. وهنا يُخشى أن يتبين موقفُ قوى الشرطة والجيش حاسمًا في جري الإضراب. ينبغي، إذن، أن يسعى قادةُ الحركة إلى الاتصال مع ممثلي قوى الأمن بهدف الحصول على حيادهم السلبي على الأقل، إنْ لم يكن في الإمكان الحصول على تضامُنهم الفعال. فإذا تأخر وصولُ النصر وتكَشَّفَ الإضرابُ العام عن علامات لهاث، إذ ذاك ينبغي على قادة الحركة أن يقرروا تعليقَ الإضراب قبل أن يخفق وذلك لإعمال استراتيجية تراجُع تتيح لهم الاحتفاظ بمبادرة الهجوم ضمن إطار صراع طويل الأمد.



    اللاتعاون

    إن المبدأ الأساسي لاستراتيجية العمل اللاعنفي هو مبدأ اللاتعاون. وهو يقوم على التحليل التالي: إن ما يصنع قوة المظالم الناجمة عن الفوضى القائمة في مجتمع ما هو التواطؤ، أي التعاون السلبي، اختيارًا أو قسرًا، لأغلبية المواطنين الصامتة. وتهدف المقاومة اللاعنفية إلى تحطيم هذا التواطؤ بتنظيم أعمال عدم تعاون جماعية مع البُنى الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية التي تتسبب في أعمال الظلم هذه وتُبقي عليها. إن ذوي النفوذ الذين يريدون فرضَ ما يحلو لهم على جماعة اجتماعية أو مجموعة سياسية ما يستمدون سلطتهم بصفة رئيسية من السلطة التي يمنحهم إياها هؤلاء الذين يتعاونون معهم طوعًا أو كرهًا. ينبغي عندئذٍ تنظيم المقاومة بدعوة كلِّ عضو من أعضاء هذه الجماعة أو تلك المجموعة إلى سحب دعمه لهؤلاء المتنفذين، حارمًا إياهم بذلك من المؤازرة التي يحتاجون إليها لضمان سيطرتهم. ويصير الإكراهُ فعليًّا ابتداءً من اللحظة التي تتمكن فيها أعمالُ اللاتعاون من إنضاب مصادر قوة السلطات القائمة التي تعدم إذ ذاك كل وسيلة لفرض هيبتها وطاعتها. وبهذا يمكن أن يتوطد توازنُ قوى جديدٌ يتيح للمقاومين ممارسةَ سلطتهم ونوالَ الاعتراف بحقوقهم. من هذا المنظار، تهدف استراتيجيةُ العمل اللاعنفي إلى تنظيم أعمال لاتعاون مع المؤسسات والقوانين والإيديولوجيات والأنظمة السياسية والدول التي تنال من حريات الكائن الإنساني وحقوقه. وإن الهدف الواجب بلوغه هو شل الآليات الرئيسية لمختلف أجهزة الاستغلال أو القمع بهدف إعادة إرساء دولة القانون. الواقع أن الناس يجنحون، أمام الظلم، إلى الإذعان للتعامل [للتواطؤ] أكثر بكثير من لجوئهم إلى العنف. إن كلمة "تعامُل" [تواطؤ] collaboration تستدعي عمومًا موقفَ الذين يعاهدون العدو، لكنْ يجدر إضفاءُ مفهوم أوسعَ بكثير عليها: فالتعامُل [التواطؤ] هو موقف جميع الذين يوافقون على ظلم الفوضى القائمة. لذا لا تصح المقابلة بين اللاعنف وبين عنف الأقلية بقدر ما تصح مقارنة اللاعنف بتعامُل الأكثرية مع العدو. يمكن البدء بتنظيم اللاتعاون هذا ضمن إطار الشرعية نفسه. والغاية هي استنفاد جميع الإمكانات التي تقدمها الوسائلُ الشرعية في سير العمل الطبيعي لمؤسسات المجتمع الديموقراطية. لكنْ عندما لا يعود اللاتعاونُ هذا يقدِّم وسائلَ تتيح مكافحة الظلم مكافحةً فعالة، ينبغي عندئذٍ على المقاومة اللاعنفية أن تشرع في أعمال عصيان مدني. كثيرًا ما يحصل أن يتعاون الناسُ مع الظلم الذين هم ضحاياه، فيصيرون هم أنفسُهم مسبِّبين للشرور التي يكابدونها، بما يجعل المقموعين مشاركين في المسؤولية عن القمع. وبذا ينغلق المقموعون في عملية "تحول إلى ضحايا" victimisation تجعلهم يرون قمعهم كقضاء محتوم يشعرون أمامه بعجز تام. إن عمل المقاومة الأول هو رفض المرء أن يكون ضحيةً ومناهضة الظلم بـ"لا" تتحدى حتمية القضاء.



    العصيان المدني

    تسيطر على مجتمعاتنا ثقافةُ الطاعة. فمنذ طفولته الأولى، "يبرمَج" صغيرُ الإنسان على الطاعة: عليه أن يطيع في أسرته وفي المدرسة؛ وعندما يصير راشدًا، عليه كذلك أن يطيع في حياته المهنية وفي حياته كمواطن، وعند اللزوم، في الجيش. وإذا كان ملتزمًا دينًا ما، فإن الطاعة تزيَّن له كضمانة على إخلاصه الدين. وبهذا، فإن على الفرد دومًا أن يطيع سلطةً عليا، فيما المعصية توصَم بوصفها خطيئةً فادحة. والعصيان، بما هو كذلك، يستوجب عقوبةً على شكل قصاص. وهكذا يستبطن الفردُ، منذ حداثة سنِّه، تهديدَ القصاص الذي يعاقَب به على عصيانه، فيطيع حتى يتفادى المشاكل. تبدو له الطاعةُ ضمانةً لأمانه. فلكي ينسى المرء ما تعلَّم من طاعة، لا بدَّ له من التحلِّي بشجاعة الاحتيال على الردع الذي يمارسه تهديدُ القصاص. بحسب نظرية الدولة التي سادت حتى الوقت الحاضر في مجتمعاتنا، تُعَد طاعةُ المواطنين لقانون الأكثرية أحد أركان الديموقراطية. إن قانون العدد هو الذي يحكم الديموقراطيةَ عمليًّا. غير أن من الممكن ألا يتوافق قانونُ العدد مع مقتضى الحق. وفي هذه الحالة، ليس من أدنى شك في أن الحق يجب أن ينتصر على العدد. كل حياة في المجتمع فهي تتطلب جزمًا وجودَ قوانين. فحالما نريد أن نلعب معًا، يلزمنا وضعُ قواعد للَّعب؛ ولا يكون اللعب ممكنًا إلا إذا احترم كل واحد منا هذه القواعد. فمن العبث، إذن، باسم مثالٍ للاعنف المطلق، تصوُّر مجتمع يستطاع فيه ضمانُ العدالة والنظام عبر الإسهام الحرِّ لكلِّ فرد من دون أن تكون هناك من حاجة للجوء إلى النواهي والأوامر التي يفرضها القانون. فالقانونُ يؤدي وظيفةً اجتماعيةً لا يجوز إنكارها: وظيفة إجبار المواطنين على سلوكٍ عاقل، بحيث لا يُفسَح للعسف ولا للعنف مجال. من غير الصحيح إذن اعتبار قيود القانون بوصفها عوائق دون الحرية ليس غير؛ إنها أولاً ضمانات لها. فعندما أنتهي عن سرقة ممتلكات غيري، يضمن القانونُ أمْنَ ممتلكاتي أنا. القوانين العادلة هي أساس دولة القانون. بمقدار ما يؤدي القانونُ وظيفتَه في خدمة العدالة، يستحق احترامَ المواطنين وطاعتَهم. هذا ومن الطبيعي، في الديموقراطية، أن تستفيد السلطةُ السياسية من قرينة الشرعية؛ لكن هذه القرينة قابلة للطعن، أي أنه يمكن الإتيان ببرهان على بطلانها. عندما يؤيد القانونُ نفسُه الظلمَ أو يسبِّبه، فإنه يستحق ازدراءَ المواطنين وعصيانَهم. إن قانونية الأحكام التي تتخذها الدولةُ لا تكفي لتأسيس شرعية هذه الأحكام؛ إذ لا تعفي طاعةُ القانون المواطنَ من مسؤوليته. الديموقراطية تتطلب مواطنين مسؤولين ولا تتطلب أفرادًا منضبطين. فالفرد الذي يخضع لقانون ظالم يتحمل قسطًا من المسؤولية عن هذا الظلم. فما يصنع الظلمَ ليس القانون الجائر بقدر ما هي طاعة القانون الجائر. عندئذٍ، لفضح الظلم الناجم عن انتهاك الحق ومكافحته، ولمقاومة جور القانون، لا مناص من معصية القانون. يقحم القانونُ الجائر اعوجاجًا بين الشرعية والعدالة؛ ووحده العصيانُ يتيح تقويم اعوجاج خيط العدالة. في ديموقراطيةٍ حقيقية، يُعَد العصيانُ المدني حقًّا ثابتًا من حقوق المواطن. قطعًا، لن تتورع الدولةُ، للإزراء بغير المنضبطين، عن تجريم العصيان بفضحه كممارسة "غير مُواطِنية". غير أن "العاصي" منشق، وليس جانحًا. فهو لا يتنصل من تضامنه مع الجماعة السياسية التي ينتمي إليها: إنه لا يرفض التضامن، بل يرفض التواطؤ. إن المواطنين هم الذين يمنحون المنتخَبين شرعيتَهم، وليس العكس. في ديموقراطية تَشارُكية، من حق المواطنين إذن إملاءُ القانون على المنتخَبين. ليس على القانون أن يقول ما هو عدل، بل إن على ما هو عدل أن يملي القانون. كذلك، حين يقدِّر المواطنُ أن هناك تضارُبًا بين القانون والعدالة، فإن عليه اختيارَ العدالة ومخالفة القانون. فما ينبغي أن يلهم سلوكَ المواطن ليس ما هو قانوني، بل ما هو شرعي. هنا تنطرح عدةُ أسئلة: أليس من الخطر أن تُترَكَ لكلِّ مواطن حريةُ تقدير شرعية القوانين؟ ألا يعني السماحُ لكلِّ فرد بحرية التصرف على هواه ترسيخًا للفوضى في المجتمع ككل؟ ألن يكفي أن يمتعض أحدهم من قانون ما لكي يطالبَ بحقِّه في عصيان هذا القانون؟ وفي المحصلة، ما هي المعايير التي تجعل مواطنًا ما يستيقن من جور قانون ما؟ لا يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات كلِّها بغير التأكيد أن على المواطن أن يتحمل كاملَ المسؤولية عن قراراته وأفعاله. وفي التحليل الأخير، لا يقدر الإنسانُ أن يعتزم العمل إلا في ضوء ما يمليه عليه عقلُه وضميرُه. إنه بذلك يخاطر قطعًا بأن يغلط، إلا أن هذا الخطر يكون أعظم لو اختار الانصياع للقرارات التي يتخذها الآخرون. يجب، لكي نكون على حق، أن نخاطر بارتكاب الغلط. فاختيارُ الطاعة غير المشروطة يعني اختيارَ التهرب من المسؤولية. وفي المحصلة، عندما يخرج العاصي عامدًا على القانون، فإنه يجشِّم نفسَه مخاطرَ قد تكون جسيمة. ومن شأن هذه المخاطر أن تَثنيه عن خرق القانون لكيلا يُعلي غير مصالحه الخاصة. يعلِّمنا التاريخُ أن الديموقراطية تهدِّدها في أغلب الأحيان طاعةُ المواطنين العمياء أكثر مما يهدِّدها عصيانُهم. وفي الواقع، تصنع طاعةُ المواطنين المنفعلةُ قوةَ الأنظمة الاستبدادية والتوتاليتارية؛ إذ ذاك، يمكن لعصيانهم أن يكون في الأساس من مقاومة هذه الأنظمة نفسها. يبدو العصيان المدني ضروريًّا لتنفس الديموقراطية. إنه أبعد ما يكون عن إضعاف الديموقراطية، بل إنه يحميها ويعزِّزها. يلزم كثير من العُصاة لصنع شعب حر. يجدر بنا التمييز بين شكلين من العصيان المدني: أحدهما مباشر والآخر غير مباشر. فالأول يعارض مباشرةً قانونًا جائرًا بهدف إلغائه، أو على الأقل تعديله؛ بينما الثاني عبارة عن معارضة غير مباشرة لقرار سياسيٍّ جائر بانتهاك قانون لا يُطلَبُ إبطالُه ولا تغييره. فيكون العمل العاصي، إذ ذاك، الوسيلةَ التكتيكية المختارة لإظهار ظلم القرار المتخَذ في وضح النهار ولممارسة ضغط على صنَّاع القرار حتى يغيِّروا سياستَهم: كأنْ يقوم مستخدِمو الخط الحديدي بتعطيل حركة القطارات بتنظيمهم اعتصامًا على سكة الحديد، لا لنيل تعديل للقانون الذي يحرِّم عرقلةَ السير على الطريق العام، بل لنيل تغيير في سياسة السكك الحديدية التي يعترضون عليها. فإذا لوحقوا قضائيًّا على جنحتهم – وهو ما يتمنونه على الأرجح... –، فإنهم سيجعلون عندئذٍ من المحكمة منبرًا يُشهِدون منه الرأيَ العام على صواب قضيتهم. بأي معنى يكون العصيان مدنيًّا؟ إن الجذر الاشتقاقي لكلمة "مدني" civil [الفرنسية] هو لفظة civilis [اللاتينية]، المشتقة بدورها من كلمة civis، بمعنى "مُواطن". المعنى الأول للعصيان المدني، إذن، هو أنه عصيان مُواطني. لكن مصطلح civilis يعني أكثرَ من ذلك. فمن جهة، هو ضد لفظة militaris [عسكري]. فيكون المعنى الثاني للعصيان المدني، إذن، هو أنه غير عسكري. لكن هذا المعنى ملتبس. جزمًا إن وسيلة العصيان المدني ليست عسكرية، لكن العسكريين أنفسهم قد يلجئون إلى هذه الوسيلة، رافضين الامتثالَ لأوامر يرونها منافيةً لمناقبية مهنتهم، كتلك التي تأمرهم بممارسة التعذيب على أسراهم. من جهة أخرى، وبصفة خاصة، تقابل لفظةُ civilis لفظةَ criminalis [جنائي]. وهكذا، يكون العصيان مدنيًّا بمعنى أنه ليس جنائيًّا، أي أنه يحترم مبادئ "السلوك المتمدن" civilité وقواعدَه ومقتضياتِه. العصيانُ المدني هو الطريقة المتمدنة civilisée في العصيان. إنه "مدني" بمعنى أنه ليس عنيفًا. العنف الذي يمارسه مواطنون هو دومًا عصيان ما ظلَّ القانونُ يحرِّم عليهم، من حيث المبدأ، أي عنف، إذ تَستأثِر الدولةُ بالعنف القانوني. غير أن العنفَ هو عصيان جنائي مادام يخالف قواعد السلوك المتمدن. وفي المحصلة، يكون العصيان مدنيًّا بمعنى أنه لاعنفي. فحتى يتمكن العصيانُ من اكتساب الشرعية الديموقراطية، من الجوهري أن يظل مدنيًّا، أي لاعنفيًّا. إن بعضَهم، إذ يريد التشديد على الطابع المُواطِني لعصيان قانون جائر، يفضِّل مصطلح "عصيان مُواطِني". غير أن سيئةَ هذا الاصطلاح تكمن في جعله الطابعَ "المدني" في المقام الثاني، أي الطابع اللاعنفي الذي يجب أن يصرَّ عليه فعلُ العصيان لكي يبقى... "مُواطنيًّا" civique. ولهذا، يبدو مصطلح "عصيان مدني" مفضلاًّ: فهو يقول أكثر ويقول أفضل، مشددًا على أن السلوك المتمدن هو الذي يعطي معنى كاملاً للمُواطَنة citoyenneté. فالمُواطَنة مقام، والتمدن فضيلة؛ إنه بالدقة فضيلة المواطن. فضلاً عن ذلك، فإن السيئة الأبرز لهذا التغيير في المفهوم هي إحداثه قطيعة مع الموروث الطويل للعصيان المدني الذي يمتد من غاندي حتى أيامنا هذه. إن واجب العصيان المدني لقانون أو حكم أو نظام جائر يتعلق بصفة أخص بالمواطن–الموظف. ينبغي لأصول مناقبية عمال الدولة أن تشير صراحةً إلى أن على كلِّ موظف ألا يرفض طاعة أمر غير قانونيٍّ فحسب، بل طاعةُ أمر غير شرعي أيضًا. ينبغي إذن، في الديموقراطية، أن تضع السلطاتُ العامة تعليماتٍ رسميةً عن واجبات الموظفين عندما يجدون أنفسَهم يواجهون أمرًا غير شرعي. وعلى هذه التعليمات أن تشدد على الدور الاستراتيجي الكبير للإدارات العامة في الدفاع عن دولة القانون. غير أن مناقبية الموظف، ككلِّ مناقبية، لا يمكن تحديدها فقط بالرجوع إلى الأحكام القانونية، بل يلزمها الرجوعُ إلى مقتضيات الأخلاق أيضًا. لا يكفي أن يكون عملُ العصيان المدني مبرَّرًا، بل يجب أن يكون فعالاً. إن العصيانَ المدني، بصفته عملاً سياسيًّا، هو مبادرة جماعية منظَّمة تهدف إلى ممارسة ضغط على السلطات العامة لإجبارها على ردِّ الحق إلى نصابه. ليس المقصود فقط تحديد الحق في "اعتراض الضمير" objection de conscience، القائم على واجب الضمير الفردي رفضَ طاعة قانون جائر[1]، بل المقصود، فيما يتعدى هذا الاعتراف، تحديد حقِّ المواطنين في عصيان القانون لتأكيد سلطتهم أو إبلاغ مطالبهم غايتَها. بهذا، لا يُعبِّر العصيانُ المدني عن الاحتجاج الأخلاقي للفرد على قانون أو قرار جائر وحسب، بل يعبِّر، أيضًا وبخاصة، عن الإرادة السياسية لجماعة من المواطنين ينوون ممارسةَ سلطتهم. يهدف العُصاةُ إذن، من خلال عملهم الصفيق، إلى إيجاد توازُن قوة يُلزِم صنَّاع القرار السياسيين على الانصياع لمطالبهم. ضمن هذا المنظور، فإن عدد العُصاة عاملٌ حاسم. ومن الضروري كذلك أن يتمكنوا من الحصول على دعم أقلية واسعة، إنْ لم تكن أكثرية، من المواطنين، لكي يمارَسَ ضغطُ الرأي العام لصالحهم. من هنا ينبغي على المقاوِمين أن يشرحوا رهاناتِ عملهم على أوضح ما يكون الشرح وأكثره مصداقية. وعلى حملة العصيان المدني، كأيِّ عمل لاتعاوُني، ألا تنغلق في موقف سلبي من الرفض والاحتجاج. ففي الوقت نفسه الذي يندِّد العُصاةُ بظلم القانون عليهم اقتراح حلٍّ إيجابي وبنَّاء للنزاع الذي افتعلوه بأنفسهم؛ عليهم إذن وضعُ "برنامج بنَّاء" من شأنه أن ينتصر لدولة القانون. وضمن هذه الرؤية، لا يهدف العصيانُ المدني إلى إلغاء القانون الجائر وحسب، بل إلى إصدار قانون جديد يضمن العدالة أيضًا. العصيان المدني منتج للقانون. فالعُصاة يطالبون، بما لا يخلو من بعض القحة، بالحق والسلطة في "قول القانون" – قانونٍ مغتصَب يستعيد الحق. فخرقُهم للقانون إنما هو ردٌّ له إلى نصابه. ينص القانونُ، بحُكم منطقه، على إنزال عقوبات بحقِّ المواطن الذي يتهرب من تنفيذ أوامره. فكل عمل عصيان مدني يصطدم بقمع الدولة التي تحرص على السهر على "عزة القانون". لكنْ مادام القانون المنتهَك جائرًا حقًّا، فإن العقوباتِ النازلة بالمواطنين العُصاة جائرة هي الأخرى. مَن يعصى قانونًا جائرًا لا يجوز له أن يشعر بنفسه ملزَمًا بأن يخضع للعقوبات التي تريد الدولةُ أن تفرضها عليه؛ لذا فإن "عصيانها" هو الآخر من حقِّه. لكنْ لا يجوز هنا تحديد قاعدة مطلقة. المطلوب هو البحث عن المسلك الأنسب تبعًا لكلِّ حالة. والمطلوب أيضًا تمييز الموقف الذي يضفي على العمل فعاليته السياسية القصوى. لعله يفضَّل عدمُ التهرب من العقوبات التي ينص عليها القانون: فمن شأن ظلم الإدانة النازل بالمواطنين المناهضين أن يكشف لعيون الرأي العام جورَ القانون المنتهَك وأن يحط من مكانة السلطات العامة. بينما في ظروف أخرى، قد يفضَّل التهرب من العقوبات بغية تضخيم التحدي الموجَّه إلى السلطات وإظهار الطابع غير الشرعي للقصاص التي حكمت به المحكمة. يمكن عندئذٍ النظر في مزاولة العمل السري لوقت قد يطول أو يقصر. من الممكن عند ذلك أن يختار المرءُ بنفسه تاريخ اعتقاله، بإعطاء هذا الاعتقال أقوى وقْع إعلاميٍّ ممكن. والمهم هو العمل دومًا على الاحتفاظ بالمبادرة. إن ما يمنح عملَ العصيان المدني قوَّته كلَّها هو عدد المنخرطين فيه. وقد يكون تكاثر الاعتقالات والمحاكمات أفضل وسيلة لإرباك السلطات العامة وإرغامها، في آخر المطاف، على تلبية مطالب حركة المقاومة. وهكذا، حتى في "مجتمع ديموقراطي"، يمكن للمواطنين شرعًا رفض انتظار تغيير افتراضيٍّ في السلطة لتغيير قانون جائر – لأنه لا يجوز "المماطلة" في إحقاق العدل... – بتنظيم حملة عصيان مدني. وقد يكون تغيير القانون أمرًا عاجلاً قبل التمكن من تغيير الحكومة. يمكن النظر في سيناريو آخر: لم يعد من داع لمعارضة قانون جائر في مجتمع ديموقراطي، بل بات يجب مقاومة سلطة جائرة تنتهك عمدًا مبادئ الديموقراطية. يمكن للعصيان، إذ ذاك، أن يتخذ شكل "انتفاضة سلمية" حقيقية للمواطنين الذين يتخذون هدفًا لهم لا تغيير هذا القانون أو ذاك، بل تغيير السلطة ذاتها. تقوم شرعيةُ العصيان المدني، إذ ذاك، على حق الشعب في مقاومة الطغيان. وكما أن في الإمكان التطلع إلى اعتراف دستور نظام ديموقراطي بحقِّ الفرد في اعتراض الضمير، فإن في الإمكان تصوُّر الاعتراف دستوريًّا بحقِّ الشعب في مقاومة الطغيان، بما ينطوي ضمنًا على الحق في العصيان المدني. إذا لم يكن بمستطاع القانون أن يمنح المواطنَ الحقَّ في عصيانه، فقد يكون بمستطاع الدستور أن يمنحه حقَّ عصيان القانون. فللتنظير للعصيان المدني في الديموقراطية، يجدر الاعتراف للحقِّ في المقاومة لا بقيمة أخلاقية وفلسفية فحسب، بل بقيمة قانونية أيضًا.



    السرِّية

    في مجتمع ديموقراطي، يمكن لحركةِ مقاومةٍ للفوضى القائمة أن تعبر عن نفسها علنًا وتنظم مظاهراتٍ عامةً بكلِّ شرعية. فعلى جري العادة، لا يصيب القمعُ عندئذٍ سوى الذين يتحدون السلطاتِ العامةَ تحديًا مباشرًا عِبْرَ عمل عصيانٍ مدني، والملاحقاتُ والاعتقالات والمحاكمات والعقوبات التي يتعرضون لها تروِّج بمزيد من الدعاية للقضية التي يدافعون عنها، إذ هي تستنهض الرأي العام أكثر من العمل نفسه. في ظروف كهذه، يمكن للسرية أن تكون ذات فائدة تكتيكية مؤقتة، لكنها ليست ضرورةً استراتيجية. في المقابل، في مجتمع تستهين سلطتُه بمقتضيات الديموقراطية ويشكِّل فيه كلُّ عملِ معارضةٍ يقوم به المواطنون جنحةً يعاقب عليها القانونُ عقابًا شديدًا، يمكن لحركة مقاومة، لكي تنظِّم نفسها تنظيمًا دائمًا، أن تضطر إلى تطوير جزء من نشاطاتها سرًّا. لقد أقام غاندي تعارُضًا طبيعيًّا بين اللاعنف والخفاء: إذْ كان يقدِّر أن على مَن يختار اللاعنف أن يعمل في وضَح النهار، بكلِّ شفافية، رافضًا أن يرفع من حوله سورَ السرية الواقي. فالحياة في الخفاء كانت تبدو له حياةً في الكذب، في حين أن اللاعنف، بحسب رأيه، يفرض الجهر بالحقيقة في كلِّ مكان ودومًا، مهما تكن المخاطر التي يمكن التعرض لها. لكننا لا نستطيع هنا مجاراةَ غاندي، لا في منطقه النظري ولا في استنتاجاته العملية. من وجهة نظر أخلاقية، ليس الإنسانُ مُلزَمًا بقول الحقيقة لمن لا يتورع عن أن يجعلَ منها أداةً لخدمة هدف ظالم. ففي ظرف كهذا، يكون الدفاع عن الحقيقة هو حصرًا إخفاؤها عمن ينوي استخدامَها للتعدي على حقوق الآخرين. فالإنسان الفاضل لا يدين بالحقيقة إلا لمن يستحقها، لمن هو جدير بمعرفتها، أي لمن هو مستعد لاستخدامها لما فيه خير الآخرين. أما من وجهة النظر العملية، فليس لزامًا على أعضاء حركة انشقاق أو مقاومة أن يتصرفوا أمام سلطة قمعية بكلِّ شفافية، كما ليسوا مضطرين إلى أن يرفضوا الاحتماء من القمع وإحباطه عن طريق التخفي كلما استحسنوه. غير أنه لا يمكن لحركة مقاومة لاعنفية أن تصبح سريةً بالكامل إلا في حالات استثنائية. فمن شأن التخفي، في حدِّ ذاته، أن يحرض على تصرفات غير ديموقراطية تسيء إلى تمثيلية الحركة، وبالتالي، إلى شرعيتها ومصداقيتها. العمل العلني هو عنصر جوهري من عناصر استراتيجية اللاعنف؛ إذ لا يمكن عمومًا للحركة أن تتخلى عنه من دون أن تجازف بفقد فعاليتها. لكنْ إلى هذه الحركة يعود، تبعًا للظروف، تقدير أفضل مَفْصَلَة ممكنة بين النشاطات السرِّية والأعمال الجهرية؛ إذ إن عليها أن تحتفظ بالمبادرة من خلال اختيار اللحظة والطريقة المناسبتين للقيام بتحدي السلطات العامة علنًا. وأحد المعايير الحاسمة في هذا الخيار هو درجة القمع التي عليها أن تواجهها وقدرة الحركة على تحمُّل هذا القمع من غير أن تتضعضع. فانتصارُ الحركة يتعلق، في جزء أساسي منه، بقدرتها على التغلب على القمع.



    القمع

    إن كلَّ عمل مباشر لاعنفي هو تحدٍّ للسلطات القائمة. وبهذا، فهو يؤدي، في أغلب الأحيان، إلى مجابهة مع سلطة الدولة. وإن لَمِن ضمن منطق هذه السلطة، ما إن تجد نفسَها مستنكَرة، أن تدافع عن نفسها بالوسائل التي تختص بها، أي بوسائل الإكراه التي يمنحها إياها القانونُ لمعاقبة المواطنين المتمردين. فهي لن تتردد في اللجوء إلى العنف لإعادة "النظام" إلى نصابه كلما رأت ذلك ضروريًّا. ينبغي، إذن، على حركة المقاومة اللاعنفية مواجهةُ القمع الذي تحاول به السلطاتُ التي تعترض عليها الحركةُ تحييدَها وتحطيمها. وخلافًا للأفكار المسبَّقة السائدة، فإن الحركة اللاعنفية "مسلَّحة" على الأرجح تسليحًا أفضل من الحركة العنيفة لمجابهة هذا القمع. فإذا استخدم المقاومون العنف، فهم يجازفون كلَّ المجازفة بأن يحرضوا في الرأي العام جدلاً لا ينصبُّ على الظلم الذي يكافحونه بقدر ما ينصبُّ على العنف الذي يرتكبونه. إذ إن وسائل الإعلام لن تتكلم على الدوافع السياسية التي ألهمت عملهم بقدر ما ستتكلم على طرائق عملهم؛ وأغلب الظن أنها ستتكلم عليها لإدانتها. في المقابل، يُظهِر القمع، ضمن سياق كفاح لاعنفي، معطياتِ النزاع الحقيقيةَ ورهاناتِه. إن اللجوء إلى العنف يعني تقديم الذرائع التي يحتاج إليها الخصومُ لتبرير عنفهم. إذ يُحشَر الذين يستخدمون العنف في موقف دفاعي يجبرهم على تبرير أنفسهم أمام الرأي العام الذي يحاسبهم. وعليه، فإن القمع الممارَس على القائمين بالعمل اللاعنفي الذين يدافعون عن قضية عادلة بوسائل عادلة يَظهَر في وحشيته كلِّها ويبقى دون تبرير؛ وهناك حظ كبير في أن يحطَّ هذا القمع من شأن مَن يمارسه في نظر الرأي العام وأن يستميل المزيد من المستمعين إلى مَن يتكبدونه. إن اللجوء إلى طرائق العمل اللاعنفي يقوم بقلب الأدوار: فالسلطات العامة، هذه المرة، هي التي تنحشر في موقف دفاعي: إذ ينبغي عليها هي أن تبرر عنفها. يهدف العمل اللاعنفي إلى وضع السلطة الخصم في مأزق، بحيث لا يمكن لأيٍّ من الخيارات المتاحة لها أن يصبَّ في صالحها: فإما أن تترك المقاومين وشأنهم يعملون، وإما تقرِّر اللجوءَ إلى القمع لسد الطريق عليهم. من سيئات الخيار الأول أنه يفسح المجال مفتوحًا للمقاومين ويتيح لهم احتلالَ الميدان لصالحهم؛ لكن سيئة الخيار الثاني أنه يفضح شرور السلطة على مرأى من الرأي العام ويتيح للحركة تعزيزَ مواقفها. أسهل جدًّا على الممسكين بزمام السلطة أن يقمعوا العمل العنيف من أن يواجهوا عملاً لاعنفيًّا، حتى إن السلطة لن تتردد، في أحيان كثيرة، في محاولة إثارة العنف بنفسها بإرسالها "عناصر استفزازية" تعمل لحسابها. لذا يجدر بالمقاومين ألا يردوا على هؤلاء وأن يعملوا جاهدين على بلبلتهم كي تنقلب مبادرةُ السلطة عليها. بذا يندرج القمع ضمن منطق توسيع حملة العمل اللاعنفي. ينبغي، إذن، أخذه بالحسبان والاستعداد لمجابهته. وينبغي أن يكون واضحًا تمام الوضوح أن إطلاق القمع – الذي قد يكون أعنف ما يمكن – لا يعني إخفاق المقاومة. فحالما ينطوي النزاع على رهان كبير، لا يعود في إمكان حركة المقاومة اللاعنفية أن تستبعد وجوب حساب عدد ضحاياها؛ ينبغي عليها أن تقدِّر أدق تقدير ممكن إجراءاتِ القمع التي قد تتعرض لها وهي تقوم بالعمل؛ وتقتضي منها الحيطةُ ألا تتجشم مخاطر متهورة وألا تستفز إلا القمع الذي تستطيع تجشمه. ينبغي عليها الاحتفاظ بزمام المبادرة وذلك بأن تختار نوعًا ما القمعَ الذي يجب عليها مواجهته. ينبغي أن تكون الحركة قادرةً على تكبُّد ضربات القمع دون أن تحطِّمها هذه الضربات. وكما هي الحال في قتال التِحامِيٍّ، فالأمر الأساسي في الحركة اللاعنفية هو عدم فقدانها توازنَها تحت وطأة ضربات الخصم القاسية وتفادي هذه الضربات والقدرة على اتِّقائها، وعند الاقتضاء، إتقان "تحمُّلها"، مع الاحتفاظ بقدرتها على استئناف الهجوم. تتمكن الحركة من تحمُّل القمع كلما ازداد عدد الخارقين للنظام القائم. فالقمع يفقد من القوة بقدر ما يزداد عددُ المقاومين الذين يجب عليه ضربهم. فإذا كانت هناك نسبةٌ ذاتُ دلالة من المواطنات والمواطنين مستعدة، بعدما تغلبوا على كلِّ خوف، للذهاب إلى السجن – لكنْ يجب عدم الأمل بوجود أغلبية من هؤلاء –، فإن القمع يظهر غيرَ ذي جدوى ويمكن للمقاومة، إذ ذاك، أن تتوقع النصر. وهذه النسبة قد تكون ضعيفة بقدر ما يكون المجتمع أكثر ديموقراطية، كونها مرتبطةً بقدرة الرأي العام على ممارسة ضغط حقيقي على السلطات العامة. ينبغي على المناضلين الذين يتكبدون عقوبات مالية أو يفقدون عملهم أو يودَعون السجن أن يستطيعوا الاتكال على التضامن الفعال للحركة في مجملها. ومن الضروري أن يستطيع هؤلاء المناضلون وعائلاتُهم الاستفادة فورًا من مساعدة تتناسب وحاجاتهم؛ وتقع على عاتق الحركة مسؤوليةُ تنظيم هذا التضامن. ينبغي على حركة المقاومة اللاعنفية ألا تواجه قمعَ القانون وحسب، بل ينبغي عليها أيضًا أن تواجه أعمالاً انتقامية يمكن لها أن تمارَس خارج إطار القانون. فخصوم الحركة لا يكتفون دومًا بالإجراءات التي تتخذها الحكومة، ويمكن لهم تنظيم أنفسهم لمكافحة الحركة مباشرةً. وفي حالات معينة، يمكن للحكومة نفسها، أو لأفراد وجماعات مقرَّبة منها، أن تشجع هذه الأعمال الانتقامية وحتى أن تنظمها. فإذا كانت "حسنة" القمع أنه يمارَس بوجه مكشوف وفي وضح النهار، فإن "سيئة" الأعمال الانتقامية أنها تمارَس بوجه مقنَّع وفي الظل. وبهذا، فمن شأن هذه الأعمال أن تكون أشدَّ خطرًا على الحركة وأن تضع على المحك في شدة تصميمَها وقدرتَها على المقاومة. إن اللحظة التي يصير فيها القمعُ أقسى ما يمكن هي لحظة حاسمة لمستقبل الصراع. فإذا لم تتمكن الحركةُ من التغلب عليه، وإذا لهثت دون أن تتمكن من استعادة تنفسها الطبيعي، فقد تموت اختناقًا. إذ ينبغي أن نعيَ أن عنف القمع قد يحبط لاعنف المقاومة. في المقابل، إذا تمكنت الحركةُ من الصمود، ستكون عندئذٍ على الأرجح قابَ قوسين أو أدنى من النصر. ذلك لأنه إذا لم يفلح القمع في تحطيم نبض المقاومة، لن يعود هناك من مخرج آخر للسلطات غير التفاوض على حلٍّ للنزاع. بيد أن هناك حالات قصوى يمنح فيها توازُن القوى بين المنشقين وبين الدولة هذه الأخيرةَ قدرةَ قمع شُرَطية وعسكرية يمكن لها أن تكون رادعةً لأيِّ عملِ مقاومةٍ مفتوح. وفي هذه الحالة، قد يتقلص هامشُ المبادرة المتروك للمعارضين إلى حدٍّ لا يمكن عنده تنظيم أية حركة مقاومة على الساحة العامة. عندئذٍ لا يعود للمعارضة من خيار آخر غير خيار تنظيم نفسها سرًّا على أمل التمكن من إيجاد رباط قوة جديد من شأنه أن يتيح لها المبادرة إلى الهجوم.



    التعذيب

    باسم "واقعية" تدَّعي التفتيش عن "فعالية" آنية، لم تتورع الدولُ عمومًا عن ممارسة التعذيب في حقِّ المتمردين علنًا على سلطتها، خاصةً عندما لم يتورع هؤلاء عن اللجوء إلى العنف. كذلك شاعت ممارسة التعذيب في أثناء الحروب. والحجة المطروحة لتبرير مثل هذه الممارسة هي أنها الوسيلة الوحيدة للحصول على معلومات، مع تجنب اقتراف أعمال عنف جديدة وإتاحة الفرصة بذلك لإنقاذ حياة بشر. هل ينبغي أخذ مثل هذه الحجة بالحسبان؟ وهل ينبغي، بالنظر إلى هذا المعيار، الاعتراف بشرعية مثل هذه الممارسة؟ في الواقع، لقد أدان "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" التعذيبَ إدانةً صريحة. فبعد تأكيده في المادة الثالثة منه على أن "لكلِّ فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه"، يعلن في المادة الخامسة منه أن: "لا يُخضَع أيُّ إنسان للتعذيب، ولا لعقوبات أو معاملات قاسية أو غير إنسانية أو تحط من إنسانيته." كما يؤكد القرارُ الذي تبنَّتْه الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول 1984 تأكيدًا أشد صرامة أنه: "لا يمكن، تبريرًا للتعذيب، التذرع بأيِّ ظرف استثنائي، مهما كان، سواء تعلَّق بحالة الحرب أو التهديد بالحرب أو بالقلاقل الداخلية أو بأية حالة استثنائية أخرى." ويدقِّق هذا القرار أن: "مصطلح تعذيب يشير إلى كلِّ عمل يتم من خلاله إنزالُ ألم أو أوجاع بدنية أو ذهنية بشخص عمدًا، ولاسيما بغية الحصول على معلومات أو اعترافات." يؤكد القانون الدولي، إذن، أن التعذيب لا يجوز أن يكون شرعيًّا في أية حالة ومهما كانت "فعاليته". وهذه الإدانة ليس لها من تبرير آخر غير "الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أفراد الأسرة الإنسانية وبحقوقهم المتساوية والثابتة" (ديباجة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"). بذا تعترف الدول بأن احترام الكرامة المتأصلة في شخص الإنسان يُحرِّم اللجوءَ إلى التعذيب، دون أن يكون في الإمكان أبدًا التذرع بأنه "شر أهْوَن" أو "شر لا بدَّ منه". إن رفض التعذيب، في نظر القانون الدولي نفسه، هو من الأوامر الأخلاقية القطعية التي ليس هناك من ظرف يبرِّر مخالفتها. وفي المحصلة، حول هذه النقطة بالتحديد، تكون أخلاق الدول، كما هي معلَنة على الأقل، "أخلاق قناعة": حتى إذا كان التعذيب "فعالاً" فإنه يظل إجراميًّا. إن مبلغ الشرِّ في التعذيب لأعظم من أن يستطيع "الخير" الذي قد نتوقعه منه أن يبرِّره. وفي جميع الظروف، تأمر الفريضة الأخلاقية برفض التعذيب، مهما كانت عواقب هذا الرفض. فالتعذيب البدني النازل بإنسان لا حول له هو النفي بعينه لإنسانية الإنسان، ولإنسانية الجلاد أولاً. إن التعذيب، في نظر الإنسان–الفيلسوف، ليس ممنوعًا: إنه مستحيل، لأنه بكلِّ بساطة غير معقول. علاوةً على ذلك، يتبين في أغلب الأحيان أن الفعالية الآنية التي قد نتوقعها من التعذيب هي من قبيل الوهم، لأنه، على المدى المتوسط، بدلاً من إضعافه الروح المعنوية للخصم، يمكن أن يكون مفعوله بالأحرى المزيد من زجِّ الخصم في الصراع حتى الموت الذي نذر نفسه له والمجازفة بمستقبل السلام الذي ندَّعي السعي إليه مجازفةً خطيرة. بـ "لَيِّ" tordant (كلمة torture ["تعذيب"] الفرنسية مشتقة من فعل torquere اللاتيني، بمعنى "لوى") أجسام بضعة أناس، نؤلِّب على أنفسنا لا محالة ضمائر الجميع. وفي المحصلة، يبدو أن "أخلاق المسؤولية" تنضم إلى "أخلاق القناعة" لتأمرا برفض التعذيب. هيهات أن يكفي تأكيدُ الأحكام التي ينص عليها القانون الدولي بأن التعذيب في أيِّ ظرف هو انتهاك مخصوص لحقوق الكائن الإنساني حتى تتخلَّى الدولُ فعليًّا عن ممارسة التعذيب. فعلى العكس، تُظهِرُ الخبرةُ أن "المصلحة العليا للدولة" لا تتورع، في ظروف عديدة، في الحاضر كما في الماضي، باسم "الواقعية" و"الفعالية"، عن الضرب بالقانون عرض الحائط لتبرير العنف الممارَس في حقِّ الأعداء الداخليين والأعداء الخارجيين على حدٍّ سواء. لذا يجدر بالمواطنين أن يكونوا شديدي التيقظ لشطط الدول الممكن دومًا هذا.



    الإنذار

    عندما يصطدم الذين قرروا العمل لمكافحة ظلم ما برفض كلِّ حلٍّ تفاوضي للنزاع، لهم عندئذٍ أن يعيِّنوا "مهلةً أخيرة" تُعطى بعدها التعليماتُ بالانتقال إلى العمل المباشر. فالإنذار، إذ يذكِّر بأسباب الحركة وأهدافها ويتحقق من تعذُّر الوصول إلى التفاوض، يريد تأكيد تصميم الحركة على اللجوء من الآن فصاعدًا إلى العمل المباشر بإعمال وسائل ضغط وإكراه. كما يجدر تذكيرُ الخصم بأن الحركة لا تنوي اللجوء إلا إلى أعمال لاعنفية. يمكن للإنذار أن يحدد الأعمالَ التي ستنظَّم إذا لم تُلَبَّ المَطالبُ المقدَّمة في التاريخ المقرَّر. (لنلحظ أن إرسال إنذار ليس له من موجِب لكلِّ عمل مباشر يتم ضمن إطار الحملة؛ إذ تفضَّل أحيانًا مباغتةُ الخصم.) يرمي الإنذار إلى توعية الخصم إلى جميع الأضرار التي سيتحملها لا محالة فيما إذا استمر على رفضه لاتفاق تفاوضي. ينبغي تحرير هذا الإمهال الموجَّه إليه بحيث يتمكن من الذهاب إلى طاولة المفاوضات دون أن يفقد ماء وجهه، أي دون أن يقوم بتسليم شبيه باستسلام غير مشروط. ينبغي، إذن، اعتبار "الإنذار" ultimatum الخطوة الأخيرة (الكلمة مشتقة من صفة ultimus اللاتينية التي تعني "أخير") بهدف التوصل إلى اتفاق تفاوضي؛ غير أنه، في الواقع، قد يكون العمل الأول في اختبار القوة، إذ هو بالفعل يعقب إخفاق وسائل إقناع الخصم. فمن المحتمَل أن يرفض هذا الأخيرُ الإذعانَ لتهديد سيعتبره على الأرجح "ابتزازًا". من المتوقَّع إذن أن يرفض الخصمُ الإنذار، مؤكدًا عدم خوفه من اختبار القوة. الإنذار أيضًا نداءٌ موجَّه إلى الرأي العام لتوعيته أكثر إلى رهانات النزاع ولدعوته إلى التعبير عن تضامنه مع الكفاح الوشيك؛ هدفه، إذن، هو إيجاد "حدث صحفي". والإنذار يوفر أيضًا بعضًا من الوقت – لا يجوز أن يتجاوز بضعة أيام – لمسئولي الحركة لتكثيف التحضيرات للعمل؛ فهو بمثابة إيعاز بالتعبئة العامة لجميع العازمين على العمل.



    التنظيم

    عندما يجتمع أفرادٌ على إرادة القيام بعمل مشترك، على بناء مشروع معًا، فإنه ينبغي عليهم، بمقتضى قانون عضويٍّ خاصٍّ بأيِّ عمل جماعي، أن يبادروا إلى إنشاء بُنًى تنظيمية وهيئات ذات صلاحية لاتخاذ القرار. إذ ذاك يمكن أن يظهر موقفان: إما أن يتكفل تنظيمٌ موجودٌ سلفًا تنسيقَ الحركة، وإما أن يكون إنشاءُ تنظيم جديد ضروريًّا. وعندما تتخذ الحركةُ لنفسها هدفًا دقيقًا ومحددًا، قد يؤول بها الأمرُ إلى الزوال بعد بلوغ الهدف. فالتنظيم هو هيكل الحركة، ولكنه ليس الحركة. هناك أشخاص كثيرون يشاركون في الأعمال التي تبادر إليها الحركةُ ولا ينتمون إلى التنظيم الذي ينسِّق فيما بينهم ويقودهم. فدور التنظيم أن يتولَّى قيادةَ الحركة. إن القيم والمبادئ التي تبتغي الحركةُ أن تجعل لها الغلبة في المجتمع – الديموقراطية، الكرامة، الحرية، المساواة، المسؤولية، العدالة، إلخ – ينبغي تطبيقها أولاً في تنظيم الحركة نفسه. ينبغي على بُنى الحركة ومؤسساتها أن تجسِّد مسبقًا بُنى المجتمع الجديد الذي تريد بناءه ومؤسساتِه. وينبغي لتنظيم حركة الكفاح اللاعنفي أن يتيح التشاورَ بين جميع أعضائها لكي يكون اتخاذُ القرارات المتعلقة بالتوجهات السياسية والإستراتيجية وبتحضير الأعمال المشروع فيها وتنسيقها ديموقراطيًّا أكثر ما يمكن؛ وهذا يتطلب أن يكون التنظيمُ ذاتيَّ الإدارة أكثر ما يمكن، أي أن يتيح لكلِّ فرد أن يكون مسؤولاً وأن يشعر بمسؤوليته. ينبغي أن تتوطد دينامية ديالكتيكية بين القرارات التي يتخذها التنظيمُ المركزي وبين المبادرات التي تقررها الفروع المحلِّية. والمسؤولية تعني، قبل كلِّ شيء، الاطِّلاع: إن إحدى المهمات الدائمة للتنظيم هي إذن تأمين سريان المعلومات. ولهذا الغرض، يمكن طبع وثائق ونشرها – بعضها مخصَّص للمناضلين وبعضها الآخر موجَّه للجمهور العريض –، الهدف منها التعريف بالخيارات السياسية والاختيارات الإستراتيجية للحركة. وعندما تطول مدة العمل، قد يكون من اللازم نشر صحيفة تكون لسان حال الحركة. ينبغي أن توقِّع حياةَ الحركة اقتراعاتٌ وانتخابات، بوصفها أفضل الوسائل الكفيلة لتقيد الجماعة بالديموقراطية. غير أن تطبيق الديموقراطية المباشرة لاتخاذ كلِّ قرار أمر متعذر. فوجود مركز وحيد للقرار ضروري لتماسك الحركة وفعالية العمل. وما إن تتخذ الحركة بعدًا وطنيًّا – تضامنًا مع قضية محلِّية في الحد الأدنى –، ينبغي على التنظيم أن يسعى إلى تكوين شبكة لامركزية تمتد إلى المجتمع كلِّه. ولفرض إكراه حقيقيٍّ على السلطات العامة، لا بدَّ، في الغالب، من تنظيم العمل تنظيمًا متجذرًا في المجتمع بأسره. ولهذا، ينبغي للحركة أن تتفرع إلى مجموعات محلِّية مزودة بوسائل تنظيمية تتيح لها أن تكون فاعلة في العمل. وتتأتى قوةُ الحركة، في جزء منها حاسم، من عدد هذه الفروع المحلِّية ونوعيتها. كما يمكن تنظيم لقاءات "وطنية" دورية تقرِّر التوجهاتِ السياسيةَ للحركة وخياراتِها الإستراتيجية. علاوةً على ذلك، تتيح هذه اللقاءات لمختلف المسؤولين المحلِّيين أن يلتقوا ويتعارفوا. فالعلاقات الشخصية التي تنعقد على هذا النحو تعزِّز من تماسك الحركة. إذ إن التعايش هو خير ملاط للوحدة؛ وعلاقات المودة بين مَن يكافحون، نساءً ورجالاً، من أجل مثال العدالة والحرية الأسمى نفسِه هي واحدة من القوى الرئيسية للحركة. بذاك تصبح شبكاتُ الكفاح اللاعنفي شبكاتِ صداقة. ولا يخلو الأمرُ، قطعًا، من ظهور نزاعات شخصية محتملة في قلب الحركة اللاعنفية نفسها؛ لذا فإن إيجاد هيئات لإدارة النزاعات الداخلية وحلِّها أمر مفيد. والتنظيمُ هو الذي يُبرِزُ الحركةَ على الساحة العامة. فالذين يتجشمون، نساءً ورجالاً، مسؤولياتٍ رئيسيةً يصبحون المُحاوِرين الشرعيين لدى الشركاء والخصوم والسلطات العامة. كما أنهم هم الذين ينبغي عليهم أيضًا تأمين معظم الاتصالات مع الجمهور، ولاسيما الاتصال مع وسائل الإعلام. إن إحدى مهمات التنظيم غير المشكورة، لكن التي لا يمكن تجنبها، هي تأمين "إعالة" l’intendance الحركة، وخصوصًا التمويل عن طريق جمع الأموال. وينبغي التسليم بذلك: "المال" عصب من أعصاب الكفاح. لذا ينبغي السهر على ألا يضرَّ مصدرُ التمويل، سواء كان المال العام أو المال الخاص، باستقلالية الحركة. والمِلاكُ المنخرط في التنظيم يتضمن عمومًا عددًا كبيرًا من المتطوعين بلا مقابل، لكنه يتضمن أيضًا موظفين دائمين مأجورين. ولكي يبلغ أيُّ عمل جماعي أقصى الفعالية، فإنه يتطلب من جميع مَن يشاركون فيه انضباطًا مرنًا وصارمًا في آنٍ معًا. فالعمل اللاعنفي لا يُستثنى من هذه القاعدة. ولكن مادام لا يستطيع الاعتماد إلا على حرية كلِّ فرد في الانضمام إليه، فإن الانضباط الذي يقتضيه هذا العملُ لا يجوز إلا أن يُقْبَل طوعًا؛ إذ هو يرتكز على الالتزام الطوعي لكلِّ فرد، وليس على تقيد الجميع بالطاعة كرهًا. وفي هذا الصدد، ينبغي استبعاد أيِّ تشابُه بينه وبين التنظيم والانضباط العسكريَّين. إن إحدى مهمات الحركة هي تنظيم إعداد المتطوعين للعمل المباشر اللاعنفي. ولأجل ذلك، ينبغي، قبل مباشرة الحملة وفي أثنائها، ترتيب دورات تأهيل لهم. يتيح التنظيمُ للعمل الجماعي للحركة أن ينتشر في المكان ويمتد في الزمان، وأن يبلغ بذلك هدفَه. إن من قبيل الوهم الاعتماد فقط على "عفوية الجماهير" أو على "كرامة" charisme قائدٍ فذ. من المناسب قطعًا، لإثارة عمل جماعي على نطاق واسع، الاستناد إلى عفوية الذين يُستنفَرون، نساءً ورجالاً، لبناء مجتمع أكثر عدالة وحرية؛ ولكن ينبغي تنظيم هذه العفوية، أي إحلال النظام فيها. إذ ذاك، بدلاً من أن تكون العفويةُ عاملَ تشتيت وتفكُّك، تصبح نابضًا يوجِّه العمل ويمنحه قوَّته.



    القائد

    تبين الخبرةُ أن حركات المقاومة التي استطاعت تجنيد شعب أو جالية أو أقلية كان يحرِّكها دائمًا شخصٌ يرمز في نظر جميع أعضاء هذه الجماعة، أو في نظر الأكثرية على الأقل، إلى مثال النضال ورجاء النصر. قد نأسف لهذا الأمر باسم مثال المساواة الذي يقضي أن يمسك كل امرأة وكل رجل من هذه الجماعة (وليس شخصًا فريدًا في نوعه واحدًا) بزمام قَدَرَه ويقرِّر مستقبلَه من غير أن يحتاج إلى الرجوع، من أجل ذلك، إلى قائد ما. إلا أن إطالة التوقف عند هذا الحلم قد تعني افتراضَ المشكلات محلولةً وعدمَ محاولة حلِّها. لأنه مازال صحيحًا أن ثقة الجماعة بشخص تُقِرُّ له بمزيَّتَي النزاهة والشجاعة وتستطيع أن تتماهى معه يمكن أن تتيح لها التصرف بتماسك وتصميم وانضباط تكون عاجزة عنها من دونه. فما إن يخوَّل القائدُ ثقةَ جماعته حتى يصبح لسانَ حالها الشرعي ويستطيع أن يُعبِّر عن مَطالبها، سواء لدى الرأي العام الوطني أم على الساحة الدولية. وهو الذي يصبح بالطبيعة مُحاور صُنَّاع القرار الخصوم المفضل عندما يأتي وقت المفاوضات. إن ظهور قائد بين ظهراني جماعة هو ظاهرة معقدة نوعًا ما. فمن حيث المبدأ، لا ينصِّب المرءُ نفسَه بنفسه قائدًا، بل إن أعضاء الجماعة هم الذين يعترفون لواحد من بينهم، بحكم مزاياه الشخصية، بأنه الأجدر بأن "يقودهم" (لفظة leader [قائد] مشتقة من الفعل الإنكليزي to lead الذي يعني "قاد"). فسلطان autorité القائد لا يمكن له إلا أن يرتكز على ثقة عموم أعضاء الجماعة، وخاصةً ضمن حركة لاعنفية لا يتمتع فيها القائد، من حيث المبدأ، بأية وسيلة إكراه. ويُستحَب أن يُنتخَب القائدُ انتخابًا لكي يكون سلطانُه مشرعَنًا في نظر الجميع. على أن الانتخاب، عمومًا، لا يصنع القائد، إنما يثبِّت زعامتَه ويعزِّزها فقط. بيد أنه قد يكون من المضرِّ أن تتوقف وحدةُ الحركة وقوتها توقفًا كبيرًا على الهيبة الاستثنائية لقائد "صاحب كرامة" charismatique. عندئذٍ، قد يكون خطرُ توطيد "عبادة الشخصية" توطيدًا واعيًا إلى حدٍّ ما، بآثارها الفاسدة العديدة، خطرًا حقيقيًّا. فعندما يلعب القائد دورًا يزيد عن حدِّه، فإنه يخاطر بمصادرة سلطة القرار داخل الحركة. وهذا قد يصير ضارًّا بالديموقراطية التشارُكية التي ينبغي أن تسود فيها. إن القائد رجل سلطان [سلطة معنوية] homme d’autorité، ولكنه لا ينبغي أن يصير رجل سلطة homme de pouvoir. ينبغي عليه أن يكون "حكيمًا"، لا "أميرًا". ناهيك عن أن القائد ليس معصومًا أبدًا، وإذا ما اتفق للموقف أن يتخطاه بعض الشيء، فإن الحركة برمتها تضعف من جراء الأمر. بالإضافة إلى ذلك، إذا ما قُدِّر على القائد أن يغيب، فإن الحركة برمتها معرضة لأن تصاب بِحَيرة اليتيم صبيحة اعتقال "أبيها" أو وفاته، فلا تعود قادرةً على مواصلة النضال. فخطر أن يجد مناضلو القاعدة أنفسهم ضائعين وأن يختل بذلك نظامُ الحركة رويدًا رويدًا خطرٌ كبير. لا بدَّ لكلِّ حركة لاعنفية من أن تجد نفسها في مواجهة مقتضيين متناقضين ينبغي أن يقترنا في حركة جدلية: فمن جهة، يُستحسَن من القائد أن يعطي الحركةَ الدفعَ الذي تحتاج إليه، كما يُستحَب كذلك، من جهة أخرى، أن يبقى دورُ القائد محدودًا. وينبغي على قائد حركة لاعنفية أن يجتهد ليكون بين صحابته "الأول بين متساوين". بذا فمن الضروري وضعُ إدارة جماعية حول القائد لكي يشارك عدةُ مسؤولين في اتخاذ القرارات التي تُلزِم الحركة. من المستحسَن، إذن، أن يكون هناك عدةُ قادة، حتى وإن بدا من المحتم نوعًا ما أن يكون أحدُهم أكثرَ قيادةً من الآخرين. فضلاً عن ذلك، لا يجوز لنا استبعادُ حصول منافسات شخصية في قلب الحركة، وإنْ كانت لاعنفية، حول موضوع إدارتها. وحده التنظيم الديموقراطي للحركة يمكن له أن يتدارك هذه المخاطرَ الكامنة التي يمكن أن تصير حقيقية فعلاً. ولبلوغ أفضل توازن، ينبغي ما أمكن تقليصُ الجانب الانفعالي والعاطفي من الصلة التي تصل الحركة بقائدها وتوسيع الجانب العقلاني والسياسي منها. إلا أنه يجب، بالأخص، أن تتزود الحركةُ بكيفية تنظيم وعمل ديموقراطية أكثر ما يمكن، بحيث يشارك جميعُ أعضائها مشاركة فعلية في اتخاذ القرارات. أجل، إن ظروف الكفاح لا تسمح عمومًا بسلوك المنعطفات وباحترام المُهَل التي تتطلبها الديموقراطيةُ المباشرة؛ ففي اللحظات الحاسمة من الصراع، قد يفرض العملُ طوارئه التي تجبر على اتخاذ القرار بالسرعة القصوى. فأحرى بالحركة أن تمتلك وسائلَ تنظيمية تتيح لها مواجهةً أفضل لمواقف مماثلة. إن الخاصية الديموقراطية لتنظيم حركةٍ ما هي، في المحصلة، خير ضمانة ضد سلطة القائد المطلقة ونتائجها الفاسدة. من الضروري، في حملة عمل لاعنفي، أن تكون لدى القائد أو القادة قناعةٌ شخصية قوية باللاعنف. إذْ ينبغي، من أجل فعالية العمل بالذات، ألا يكونَ خيارُ اللاعنف موضعَ إعادة نظر على الإطلاق، بل على العكس أن يتم التأكيد عليه دائمًا كشرط من شروط النجاح. وسيكون هذا التأكيد المتجدد مهمًّا خصوصًا في أوقات الأزمات التي يمكن للحركة أن تتعرض لها: ففي هذه اللحظات بالذات، سيكون من الضروري، أكثر من أيِّ وقت، احترامُ أوامر التزام اللاعنف، في وقت قد يطعن بعضُهم حتى في صحة خيار اللاعنف. إن كل تردد أو مداورة في هذا الشأن لا يمكن له إلا أن يضرَّ بحُسن سير العمل. أخيرًا، لا مناص من الإقرار بأن القادة كانوا على العموم رجالاً، حتى وإن كانت هناك استثناءات تستحق الذكر. فلعل وعسى أن تشجِّع ثقافةُ اللاعنف وصولَ النساء إلى دور القيادة.



    السلطان

    يجدر بنا، بادئ ذي بدء، أن نميز بين "السلطان" autorité وبين "السلطة" pouvoir وأن نصر على هذا التمييز[1]. فما يميز السلطان، سواء كان سلطان شخص أم سلطان مؤسسة، هو أن الذين يوعَز إليهم أن يتبعوا نصائحه وتعليماته يعترفون بمرجعيته. فطاعة المرجعية تحظى بالقبول؛ إذْ إن ما يربط بين صاحب المرجعية وبين الخاضع لها ليس توازُن قوة، بل علاقة ثقة – حتى إن كلام المسؤول نفسه يصبح "حجة يُرجَع إليها". مذْ ذاك، لا تَلزَمه أيةُ وسيلة إكراه لفرض هيبته. مع ذلك، لا يقتضي السلطانُ سلفًا علاقةَ مساواة بين صاحبه وبين التابع له؛ فالسلطان، بطبيعته، ينطوي على تراتبية هرمية. إن المعادلة الشخصية لصاحب السلطان أهم من الوظيفة التي يمارِس باسمها مرجعيته. نتكلم هنا عن "سلطان معنوي" لرجل قد يتفق له أو لا يتفق أن يمارِس وظيفةَ سلطة، لكن علمه وكفاءته وخبرته ونزاهته واستقامته وحكمته تبعث على الاحترام. إن ما يشكِّل قوة السلطان هي إرادته أن يعدل على الدوام: فمن يمارس السلطان يفقده حالما يحيد عن صراط العدالة. يحترم السلطانُ حريةَ الذين يقوم عليهم. إذ إن المرؤوسَ الذي يعترف بمرجعية شخص ما ليس لزامًا عليه أن يطيعه؛ إذ هو يحتفظ بحرية أن يأخذ على عاتقه مسؤوليةَ تخطِّيه. فالمرجعية تعطي رأيًا وتنصح، ولا تأمر؛ تقدم توصيات، ولا تسن وصايا. من هنا فإن الاستبدادية، أي التسلط، انحراف عن السلطان. بذا فإن الفرد، حين يمرض، يضع نفسَه بنفسه تحت سلطان الطبيب، غير أن له الخيار في اتِّباع وصفاته أو عدم اتِّباعها؛ فإذا ما قرر أن يضرب بها عُرْضَ الحائط، فعلى مسؤوليته. على صعيد آخر، فإن السلطان الذي يتمتع به الحكيم، مهما كانت قوة مرجعيته، لا يمنحه أيةَ سلطة، ولا يجوز إكراهُ أحد أو إجبارُه على اتِّباع نصائحه. بالمثل، فإن سلطان الزعيم اللاعنفي، إذا ما تحمل المسؤوليةَ الرئيسيةَ في قيادة عمل ما، يأتيه من الاحترام الذي يوحي به هو، ولا يمتلك أيةَ سلطةِ إكراه. أما القائد العسكري فيمكن له أن يتمتع بسلطان حقيقي، إلا أن لديه دائمًا، إذا عَدِمَ هذا السلطان، سلطةً تجعله يُطاع من خلال وسائل إكراه عديدة. إن مَن يأخذ على عاتقه مسؤوليةَ ممارسة سلطة معينة – وهذا يصح أصلاً على الأهل وعلى أستاذ المدرسة –، ينبغي له، من جهته، أن يُطاع. وينبغي عليه أن يجتهد في "البرهنة على سلطانه"، أي في الحصول على رضاء مَن يوجِّهُ إليهم أوامرَه. ولكنْ إنْ لم ينجح في الإقناع، ينبغي عليه إذ ذاك اللجوءُ إلى الإكراه، دون أن يعني ذلك أن عليه استخدام وسائل العنف. إذ إن اللجوءَ إلى العنف هو إقرار بالضعف عند صاحب السلطة؛ والعنف يُفقِدُه سلطانَه. السلطانُ لاعنفي في جوهره. فالعنف عاجز عن إيجاد السلطان من جهة؛ ومن جهة أخرى، عندما تُجرَّد السلطةُ من السلطان، لا مفر لها من اللجوء إلى العنف. إذن فمن قبيل الوقوع في لبس كبير تعريفُ استعمال العنف بوصفه الممارسة السوية للسلطة. لا جرَمَ أن في إمكان العنف أن يُرغِمَ على الطاعة، لكنه لا يقدر أن يكون بديلاً عن السلطان، بل هو نفيُه دومًا.



    العرقلة

    العرقلة اللاعنفية طريقةُ تدخل مباشر جماعي هي عبارة عن منع حرية المرور على طريق عام أو خاص أو عن سدِّ سبيل الدخول إلى مبنى أو أرض، وذلك باستخدام المرء جسمَه حاجزًا لا يمكن تفاديه أمام الذين يودون العبور. يمكن للمتظاهرين أن يسدوا المعبر إما وقوفًا وإما بتنظيم "اعتصام" sit-in أو "تماوُت" die-in؛ والمقصودُ بالحالة الأخيرة إذ ذاك هو "التظاهر بالموت" (من الفعل الإنكليزي to die، "مات") بتمدد عدة أشخاص على الأرض. ويمكن للهدف من العرقلة أن يكون إيقاف كل حركة على خط السير هذا أو ذاك، سواء كان طريقًا أو سكة حديد. كما يمكن للعرقلة أن تهدف إلى التوصل إلى إيقاف وشلِّ المرْكبات التي تنقل الأشخاص والمعدَّات التي يحتاج إليها الخصم لوضع مشروعه موضع التنفيذ. كذلك يمكن لها أن تهدف إلى منع بناء منشأة تُعتبَر غيرَ مرغوب فيها (قاعدة عسكرية، مصنع ملوِّث للبيئة، إنجاز بهدف الشهرة، إلخ)، وذلك باحتلال الورشة للحيلولة دون البدء بالأعمال أو لإرغام العمال على إيقافها. كما يمكن القيام بعمل إعاقة باحتلال مدارج مطار ما احتلالاً سِلْميًّا بغية الحيلولة دون هبوط ضيف أو عدة ضيوف غير مرغوب فيهم أو شلِّ الحركة الجوية. ومن الممكن أيضًا تنظيم عرقلة رمزية لدخول مبنى رسمي (وزارة، مقر محافظة، بلدية، إلخ) بغية لفت أنظار السلطات العامة إلى مسألة محددة ما. وبوجه عام، من غير المحتمل أن يقرر الأشخاصُ المعرقَلون اقتحام الحاجز البشري بواسطة مرْكباتهم، مجازفين بالتسبب في وقوع جرحى، أو حتى قتلى؛ ففي أغلب الأحيان، لن يجرؤوا على تحمل مسؤولية كهذه. وكلما كان الرأي العام، المتخَذ شاهدًا على الحوادث التي يمكن لها أن تطرأ، أكثر استعدادًا للتضامن مع القضية المدافَع عنها، كانت المخاطر الناجمة أقل جسامة. مع ذلك، عندما تجعل الظروفُ الموقفَ متوترًا توترًا زائدًا عن حدِّه، يجوز تقدير أن الخطر ليس معدومًا. إذ لا يجوز للمتظاهرين أن يستبعدوا استبعادًا كليًّا فرضيةً كهذه، ولا النظرَ في وضوح في القرار الذي يجب عليهم اتخاذُه في هذه الحالة؛ وفي أسوأ الحالات، ينبغي أن تكون القاعدة هي فتح المَعْبر بدلاً من الموت. تستدعي السلطاتُ العامة، في الأعم الأغلب، قواتِ الشرطة لفتح الطريق، إما بـ"إزالة" المتظاهرين وإما بتفريقهم. وهنا أيضًا، لا بدَّ من تقدير المخاطر المحتملة تقديرًا صحيحًا. ينبغي على المتظاهرين ألا يألوا جهدًا للصمود في أماكنهم أطول مدة ممكنة وعدم الفرار عند أقل إنذار. وفي حالة تفريقهم، من المحتمل ألا يتورع عناصرُ الشرطة عن استخدام وسائل العنف التي في حوزتهم: هراوات، رشاشات مياه، قنابل مسيلة للدموع؛ ولا يُستبعَد أن يستخدموا أسلحةً نارية. ويعود إلى مسؤولي العمل أن يُقدِّروا إنْ كان من المناسب اتخاذ قرار بانسحاب المتظاهرين أم لا. يمكن إعمال وسائل أخرى في العرقلة، فلا تتم العرقلة بالأجسام، بل بالسيارة أو الجرار أو الشاحنة. كما يمكن للمتظاهرين إغلاق المدخل إلى مرفأ ما باستخدام أسطول صغير من المراكب و/أو الزوارق. والهدف قد يكون أيضًا إعاقة تنقلات الخصم وأعوانه، لكنه قد يكون أيضًا منع حركة السير بهدف إيجاد حدث إعلاميٍّ من شأنه أن يتيح تعريفَ الرأي العام بالقضية المدافَع عنها. قد لا يكون عملٌ كهذا عملاً رمزيًّا وحسب: إذ من الممكن متابعته حتى كسب القضية. عندئذٍ يُجتهَد في القيام بما من شأنه إلقاء تبعة الأضرار التي يتكبدها المعرقَلون من جرائه على أصحاب القرار. فهؤلاء سيُجشَّمون، مذ ذاك، ضغطًا اجتماعيًّا من شأنه أن يقودهم إلى البحث عن حلٍّ تفاوضي للنزاع. ولهذا، لا مندوحة من إعلام الرأي العام إعلامًا دقيقًا بالأسباب التي جعلت القيامَ باختبار قوة كهذا ضروريًّا.



    الوسائل

    يقول المثل: "الغاية تبرر الوسيلة." وهذا يعني أن الغاية العادلة تبرِّر وسائلَ غير عادلة، وفي المحصلة، أن "الوسائل كلها صالحة" لبلوغ المرء غايته، بما فيها وسائل العنف. لا جَرَمَ أن اختيار الوسائل ليس أهم من اختيار الغاية، غير أن الوسائل لا تكون عادلةً إلا إذا كانت الغاية، أولاً، عادلة. إذ إن من الممكن العمل في سبيل غاية غير عادلة باستخدام وسائل لاعنفية – كالإضراب أو المقاطعة –، لكن لاعنف هذه الوسائل لا يبرِّر ذاك العمل؛ وبالتالي، فإنه ليس لاعنفيًّا. لا يكفي أن تكون الغايةُ عادلةً لكي تكون الوسائل كذلك. ينبغي أن تكون الوسائلُ منسجمةً مع الغاية، متساوقةً معها. فوسيلةُ العنف، وإنِ استُخدِمتْ لبلوغ غاية عادلة، تتضمن جانبًا لا يُختزَل من الظلم يظهر لا محالة في المآل. إن الغاية العادلة لا تبرر وسائلَ غيرَ عادلة. فما يحدث في الواقع هو العكس تمامًا: الوسائل غير العادلة تجعل القضية العادلة غير عادلة. فإذا اتفق للعقلاء أن يبرروا العنفَ لصالح قضية صالحة، أفلا يتيحون في النهاية لغير العقلاء فرصةَ تبرير العنف لخدمة قضية طالحة؟ إذا كان اختيار الوسائل يأتي في المقام الثاني بعد الغاية المنشودة، فإنه ليس ثانويًّا، بل هو أولي لبلوغ الغاية المطلوبة بلوغًا فعليًّا. إن الأهمية الممنوحة لغاية العمل هي التي ينبغي بالتحديد أن تقود القائمَ بالعمل إلى اعتبار اختيار الوسائل مسألة جوهرية. لا يحصد المرءُ إلا ما زرع: فمَن يزرع العنف يجازف في شدة بأن يحصد القمع والرق، وفي المحصلة، الموت. فوسائل العنف لا تُفسِد الغايةَ فحسب، بل يُخشى أن تحلَّ محلَّها. وفي الأعم الأغلب، يصل الأمر بالإنسان الذي اختار العنف إلى إهمال الغاية التي كان قد تذرَّع بها في البداية وإلى الكف عن الاهتمام لها، لأن كل ما يشغله هي الوسائل. سيظل يذكر قطعًا الغايةَ في دعايته، ولكنْ لن يكون ذلك سوى من أجل تبرير الوسائل. إن تبرير الوسائل بالغاية يعني جعْلَ العنف مجردَ وسيلة تقنية، أداة، آلة ينبغي الحكم لها أو عليها بحسب معيار الفعالية وحده. بحسب هذا الرأي، ليس العنف صالحًا ولا طالحًا، بل أكثر أو أقل فعالية فحسب؛ وبهذا يخرج من ميدان الأخلاق ليدخل في ميدان الپراغماتية [الذرائعية]. وبحسب هذا الرأي أيضًا، يصير العنف محايدًا من وجهة نظر أخلاقية، ووحده احتمال نجاحه وفشله يتيح تقديرَ فائدته. وبذلك لا يعود القرار الآمر بالعمل خيارًا، بل عملية حسابية فقط. ويقول مثل آخر: "من يطلب الغاية يفتش عن الوسائل." وهذا المثل هو الذي يعبِّر عن حكمة الأمم، على أن نفسِّره كما ينبغي: من يطلب العدل يفتش عن وسائل عادلة؛ من يطلب السلام يفتش عن وسائل سلمية. ولهذا يريد اللاعنف أن يستبدل بوسائل إكراه العنف الصرفة وسائلَ متشددة في العدل[1]. فالعمل هو المهم، وليست نية القائم بالعمل. الغايةُ مِن جنس النية، بينما الوسائلُ وحدَها من جنس العمل. إن التأكيد على أن الوسائل ينبغي أن تنسجم مع الغاية لا يعني النطق بمبدأ أخلاقي وفلسفي فحسب، بل يعني التعبير عن مبدأ استراتيجيٍّ تقوم عليه فعاليةُ العمل السياسي نفسها. إذ ليس المقصود هو الانغلاق في أخلاقيات ما، بل البرهنة عن حسٍّ واقعي. وفي الحاصل، من الغلط اعتبارُ عمل الإنسان مجرد وسيلة بقصد غاية خارجة عنه. إن معنى العمل الإنساني يكمن أصلاً في العمل ذاته، وليس في نتيجته فقط. فلا يجوز السعي وراء هذه النتيجة "بأي ثمن"، أي مهما كلف الأمر. فنتيجة العمل الأولى هي العمل نفسه؛ وبهذه المثابة، ينبغي النظر إلى العمل كغاية في حدِّ ذاته. فالفاعل السياسي لا يعمل بأدوات ليصنع أغراضًا، بل يعمل لبناء علاقات عادلة بين الناس. ولذلك فإن معنى العمل هو في العمل نفسه أولاً، أي في وسائله، وليس في غايته. إن فعل الخير هو خير في حد ذاته، بصرف النظر عن نجاح العمل أو فشله. ولا يعني ذلك عدم الاكتراث لنجاح العمل أو لإخفاقه – إذ ينبغي، على العكس، فِعلُ كلِّ ما ينبغي لإنجاحه –، بل يعني أن الفعالية لا يجوز أن تكون المعيار الحاسم لاتخاذ القرار. فالفعالية دائمًا شيء غير مؤكَّد، ولا يمكن تقييمها إلا لاحقًا. في وقت العمل، لسنا نتحكم إلا بالوسائل المستخدَمة، وليس بالغاية المنشودة أو، بتعبير أدق، لا نتحكم بالغاية إلا بواسطة الوسائل. فالغاية ترتبط بالمستقبل؛ بينما وحدها الوسائل تتعلق بالحاضر. ينبغي، إذن، أن تكون الوسائلُ بدايةَ الغاية. يستهوينا دائمًا تركُ الحاضر هروبًا إلى المستقبل. ولهذا يتوه رجُلُ العنف في المستقبل: فهو يَعِدُ بالعدل والسلام، لكنْ دائمًا في الغد. وهو يجدد كل يوم وعدَه نفسَه، مؤجِّلاً الوفاء به إلى الغد، وهلمَّ جرًّا حتى آخر التاريخ. وكلُّ يوم حافل بأعمال العنف والآلام والدمار والموت. لا يمكن لحاضر الإنسان أن يُعَدَّ مجرد وسيلة لبلوغ مستقبل يكون غايتَه، بل هو، في حدِّ ذاته، غاية ذاته. يضحِّي الإنسانُ العنيفُ بالحاضر من أجل مستقبل غير أكيد، متمترسًا خلف إيديولوجيا تجعله يفضِّل غدًا مجردًا على واقع اليوم. وبهذا يقبل اللجوءَ إلى وسائلَ تتناقض تناقضًا جذريًّا والغايةَ التي يدعي السعيَ إليها والتي يؤجَّل تحقيقُها باستمرار إلى مستقبل افتراضي. أما الإنسان الذي يختار اللاعنف فهو يعي أنه مسؤول عن الحاضر مسؤوليةً جوهرية وأنه يولي الحاضرَ اهتمامَه كلَّه؛ ولهذا يفتش عن وسائل تنطوي، منذ اليوم، على التحقيق الفعلي للغاية التي يطلبها.



    الفعالية

    لكي تتيح الوسائلُ المعمولُ بها في عمل ما بلوغَ الغاية المطلوبة، لا يكفي أن تكون هذه الوسائلُ لاعنفية، إذ يجب أن تكون فعالة أيضًا. لكن ما هي "الفعالية"؟ وما هو "الفعَّال" في الفعالية؟ إذا كانت الفعاليةُ معيارَ قيمة العمل، فما هو معيار الفعالية؟ قرون ونحن معتادون، عندما ينبغي العملُ في التاريخ، أن ننظر إلى الفعالية بوصفها مفعولاً للعنف بخاصة. وقد وصل بنا الأمرُ، عن وعي قد يزيد أو ينقص، إلى المطابقة بين قوة الفعالية وبين فعالية العنف. مع ذلك، أظهَرَ العنف، مراتٍ عديدة، عدم فعاليته في الإتيان بحلٍّ إنساني للنزاعات البشرية. فضلاً عن ذلك، بينتْ تجربةُ صراعات عديدة فعاليةَ استراتيجية العمل اللاعنفي في إتاحة المجال للبشر وللشعوب لاستعادة كرامتهم وحريتهم. لا جَرَمَ أن هذه الفعاليةَ دائمًا مشروطةٌ وغيرُ أكيدة ومحدودةٌ ونسبية، وأن الإخفاق ممكن دائمًا؛ لكن العمل اللاعنفي يتيح للإنسان اتخاذ موقف متماسك ومسئول في مواجهة عنف البشر الآخرين. قد يكون من قبيل تدمير أسُس الأخلاق نفسها الادعاءُ، باسم الواقعية، بأن الفعالية هي المعيار الحاسم لقيمة أعمال الإنسان. فعلى منحدَر كهذا، سرعان ما يصل تدهور الأمر إلى تأكيد الشرعية الأخلاقية للعنف ما إنْ يَبْدُ بوصفه الوسيلةَ الوحيدة القادرة على ضمان فعالية العمل. وتؤكد الإيديولوجياتُ، باسم "واقعية سياسية" مزعومة، أن العنف هو وحده الفعال للعمل في التاريخ. مع ذلك، تشهد التجربةُ أنه إذا تجاهَل البشرُ كلَّ أخلاق طلبًا للفعالية بأي ثمن، فإن جميع الانحرافات تصير ممكنة: لقد سوَّغتْ إيديولوجياتُ الفعالية، دائمًا وفي كل مكان، أسوأ ألوان الشطط. إن ابتغاء الفعالية بأي ثمن يتجاهل الواقعيةَ تمامًا؛ إذ إن العمل يصير إذ ذاك أسيرَ منطق قاتل عاجز عن بناء حلٍّ سياسي للنزاعات. لا يكفي عمومًا، لإقناع الناس بالتخلِّي عن العنف، إبرازُ أن العمل اللاعنفي يمكن له أن يكون فعالاً. ففي أغلب الأحيان، لا يتم اختيارُ العنف لفعاليته، بل لذاته حصرًا. إن ما يبهر الناسَ في العنف هو العنف نفسُه؛ إذ يمارِس العنفُ على الفرد سطوةَ إغراءٍ رهيبةً، ولاسيما عندما يكون جماعيًّا ويود أن يكون في خدمة قضية عادلة. ولا يندر أن يختار الناسُ العنفَ، لا لأنه فعال، بل على الرغم من عدم فعاليته. عبثًا نحشد الأمثلةَ على فعالية العمل اللاعنفي، فإن هذا لن يكفي تبيانًا لحقيقة اللاعنف – إذ هي من مرتبة أخرى. فلكي يتوقف البشرُ عن أن يكونوا عنيفين، يجب عليهم أن يقرروا اختيارَ اللاعنف – وهذا الخيار الوجودي روحي الجوهر. كما يتعين عليهم، في الوقت نفسه، تفكيك إيديولوجيا العنف التي تعزز تسليح مشاعرهم وإرادتهم وعقلهم. يُطلِقُ كلُّ عملٍ "سيرورة" جديدة تندرج ضمن شبكة من العلاقات الإنسانية. إن مفعول عمل معين لا يستنفده فعلٌ واحد، بل ينتشر في المحيط البشري الذي يتدخل فيه ويرتد منعكسًا عليه. كلُّ فعل فهو يحرِّض ردود–فعل عديدة على بشر آخرين ويطلق تفاعلاً متسلسلاً. وتفلت هذه السيرورة، في معظمها، من زمام البادئ بالفعل. هناك عواقب العمل، وعواقب عواقبه، وكذلك عواقب عواقب عواقبه، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية... من الصعب للغاية على الفاعل التكهن بعواقب عمله؛ إذ لا يمكن له، في الواقع، أن يعرف مسبقًا فعاليةَ تصرُّفه. فهذه الفعاليةُ لا تقتصر على النتيجة التي يحصل عليها مباشرة؛ إذ لا يمكن تقدير تلك الفعالية إلا على المدى البعيد. لكلِّ عمل أثرُ "عدوى" يرتد منعكسًا مع الزمن. والارتياب، فيما يخص نتائج العمل، يجبر الفاعلَ على إظهار حذر دائم حيال العنف. فالسيرورة التي يُطلِقُها العملُ العنيف تجازف جدًّا بأن تحرِّض ردود–فعل مساوية في عنفها من جانب الآخرين، فتطيلَ المفعولَ المدمِّر للعنف عبر دوامة لا تنتهي. لدينا أكبر اليقين في افتقار وسائل العنف إلى العدالة، بينما لدينا أكبر الارتياب في إمكان أن تقرِّبنا هذه الوسائلُ من الغاية العادلة التي يستهوينا أن نبرِّر بها هذه الوسائل. إن عدم قابلية عواقب عمل ما للتوقع يشهد لصالح اللاعنف. قد يكون من قبيل الخطأ المنهجي الحكمُ على فعالية اللاعنف بحسب المعايير التي نقدِّر بها فعالية العنف. ينبغي القطع مع المفهوم محض الأداتي للفعالية، مفهومها محض الآلي والتقنوي techniciste، وباختصار مفهومها المادي. فالحكم على فعالية عمل ما يجب أن يتم وفقًا للتأثير الذي تمارسه على علاقة الضمائر، وليس فقط بحسب الأثر الذي تُحدِثُه على علاقة القوى. هناك معيار جوهري لفعالية عمل ما، هو مقدار نفعه أو ضرره على الضمائر الأخرى. ينبغي توقع عواقب أفعالنا على صيرورة الضمائر الأخرى. إن اليقين بأن الخصم هو إنسان آخر قبل أن يكون عدوًّا هو في القلب من الخيار اللاعنفي. وتقتضي فريضةُ احترام إنسانية الخصم عدمَ جَرح ضميره وعدم إذلاله؛ بل أكثر من ذلك، تقتضي محاولةَ إيقاظ ضميره. يمكن للعمل اللاعنفي أن يخفق فوريًّا – في هداية الخصم أو في إكراهه على حدٍّ سواء؛ وعندئذٍ يجب الإقرار بعدم فعاليته، في هذا الظرف وفي تلك اللحظة. لكن إخفاق العمل اللاعنفي على المدى القصير لا يُفقِدُه معناه. إن قيمة اللاعنف من حيث الجوهر، ما يضفي عليه قيمته بالقياس إلى المقتضى الأخلاقي، يكمن فيه نفسه، لا في فعاليته الآنية. فهو يبذر للمستقبل. وإذا كانت غايةُ الإنسان إعطاءَ وجوده وتاريخه معنًى، فإن العمل الفعال هو ذاك العمل الذي يتيح له تحقيقَ هذا المعنى: فعالية اللاعنف الأولى هي إعطاء العمل الإنساني معنًى. غير أنه ليس بمستطاع اللاعنف، شأنه شأن العنف المضاد، أن يستأصلَ كلَّ شر، كلَّ "الـ"شر. فمن قبيل الوهم أن نتوقع من اللاعنف أن يمحو مأساويةَ أن الإنسان آيل إلى الموت حتمًا. ثمة، في كلِّ موقف نزاعي، "بقيةُ" عنف ليس بمقدور اللاعنف أن يحلَّها. لكنْ عندما يبلغ اللاعنف حدودَه، تخطئ إيديولوجياتُ العنف فادح الخطأ إذ تباهي بالظفر مؤكدة أنها هي وحدها صاحبة الحل! فحيث لم ينجح اللاعنف في دحر الشر، ليس العنف المضاد، هو الآخر، بأوفر حظًّا من النجاح. فعدم فعالية اللاعنف ليس برهانًا على فعالية العنف. غير أنه حين تبدو كل مقاومة لاعنفية آيلةً إلى الفشل، إذا بدا اللجوءُ المحدود إلى وسائل عنيفة فعالاً لتحييد فاعلين مسلَّحين يهددون سواهم، قد يكون إعمالُ هذه الوسائل ضروريًّا بصفتها أهون الشرَّين.



    الضرورة

    حين يلجأ الإنسانُ إلى العنف فإنه يتذرع عمومًا بـ"الضرورة". إن خاصية مذهب العنف هو التأكيد على مشروعية العنف حين يكون ضروريًّا وعلى عدم مشروعيته، على التلازُم، حين لا يكون ضروريًّا. إلا أن هذا التقييد النظري يبدو معطَّلاً تمامًا على الصعيد العملي، لأن مَن يقرر اللجوءَ إلى العنف لا يعدِم أبدًا الحججَ للتأكيد على "ضرورة" عنفه. فيا له من مذهب قابل للقلب ومتناقض: فهو يجيز لمن يرتكب أعمال العنف تبريرَها جميعًا في نظره، لكنه لا يتيح إدانتها إلا لمن يكابدها فقط! غير أنه قد يتفق لي، تحت إكراه الضرورة، أن أعدم كل وسيلة غيرَ اللجوء إلى وسائل عنيفة لمحاولة اعتراض عنف يهدد سواي، يُذِلُّه، يعذِّبه، ولعله يهمُّ بقتله. فالتذرع هنا بالضرورة ينبغي أن يكون خيارًا أخلاقيًّا صارمًا ومعقولاً ومُخاطَرًا به. وهذا العنف المضاد ليس "ضروريًّا" بمعنى أنني لن أستطيع إلا أن أرتكبه، بل بمعنى أنني أريد ألا أضطر إلى ارتكابه. لذا فإني أرتكبه عامدًا، لكنْ مُكرَهًا. ذلك أن هذا العنف، الذي يبدو لي ضروريًّا للتصدي لصانع الشر، سيسبب له أذًى لا أستطيع أن أريده له. إذ إن من أساسيات اللاعنف أن ما من إنسان، مهما صنع من شر، "يستحق" إيقاع الشر به. فهذا الشر الذي أراه ضروريًّا ليس مشروعًا؛ إذ تظل إنسانية صانع الشر مستحقةً الاحترام. فالعنف الذي أوقعه به والذي يتلف إنسانيتَه هو نقيض الاحترام الذي ينبغي عليَّ تجاهه. بذا فإني حين ألجأ، متذرعًا بـ"أهون الشرَّين"، إلى العنف درءًا لشرِّ أسوأ، ينبغي ألا يغيب عن وعيي أن هذا "الشر الأهون" هو في النهاية شر ويبقى للأسف شرًّا. لا جَرَمَ أن إرادتي تريد خيرًا – وهو أن أوقف ما أمكن عنفًا يبرِّح بسواي –، لكنها تقبل إعمال وسائل تنطوي على شر. لا أستطيع، إذن، أن لا أعانيَ من هذا العنف بوصفه تناقضًا. وعليه، فإن مفعول أي مذهب للعنف هو بالتحديد تغييب هذا التناقض. بالإضافة إلى ذلك، فإني قطعًا سأرتكب شرًّا دون أن أستيقن من أن خيرًا سينجم عنه. فهذا الخيار سيتبين أنه مفيد أو غير مفيد استدلاليًّا فقط من خلال تحليل نتائج عملي لاحقًا. لكني لا أستطيع تجنب القيام بهذه المخاطرة مادمت أظن، بعد إمعان النظر في العواقب، أن رفضها يعني إظهار الجبن. وهذا التناقض وتلك المخاطرة يكشفان عن مأساوية الشرط البشري. إن التذرع بالضرورة لتبرير العنف لهو فعلاً دليل على تعذر الحصول له على تبرير إنساني حصرًا. فلِكَيْ يكوِّن الإنسانُ نفسَه، ينبغي عليه أن يقاوم، ما أمكن، الحتمياتِ التي تعيق عمله الخلاق في كونه حرًّا. فالإنسان لا يتحقق بإنسانيته، ولا يفوز بحريته، إلا بتجاوُز ضرورة العنف. فبخضوعه لمسلسل هذه الضرورة يتنازل عن إنسانيته ويفقد حريته. الضرورة لا تكافئ الشرعية. وحتى في حال بدا من الضروريِّ استخدامُ العنف استخدامًا محدودًا ومتناسبًا مع الظرف، فإن فريضة اللاعنف تبقى؛ إذ لا تلغي ضرورةُ العنف فريضةَ اللاعنف. إن فريضة "لا تقتلْ" مُلزِمة في جميع الظروف. إذ إن تبرير الاستثناء يعني نفي الفريضة. فضرورة القتل فوضى، وليست نظامًا مضادًّا؛ إنها لا تبرئ القاتل. إن تبرير العنف تحت غطاء الضرورة يعني جعل العنف ضروريًّا بلا ريب. وهو يعني سلفًا تبريرَ جميع أعمال العنف الآتية à venir واحتجاز المستقبل l’à-venir في ضرورة العنف. فإذا ما بررتُ عنفي "كل مرة" بذريعة الضرورة، ستفرض عليَّ الضرورةُ قانونَها في "المرة القادمة" أيضًا، وسيكون الأمر كذلك "في المرات كلها". لا بدَّ أن يكون اللجوءُ إلى وسائل عنيفة تحت إكراه الضرورة استثناءً يؤكد القاعدة تأكيدًا حرفيًّا. ولأن العنف ليس بريئًا على الإطلاق، فهو ليس شرعيًّا على الإطلاق. إذ ماذا يطرأ على الإنسان بعد العمل العنيف؟ العنف القاتل هو دائمًا شر ومصيبة، مأساة وإخفاق، وينبغي ألا يؤدي أبدًا إلى انتصار يهلِّل له الجسمُ أو القلب – فالتهلل هنا غير لائق. إذ إن مَن يتلذذ بالقتل ويستمتع به يقتطع نفسه من الجنس البشري. لذا ينبغي أن تعاش ممارسةُ العنف كبلوى. فإذا ما قتلتُ خصمي، ينبغي عليَّ أن أعلن الحِدادَ على من قُتِلَ على يدي. في المكان والزمان حيث يجد الإنسانُ نفسَه خاضعًا لإكراه ضرورة العنف – وخصوصًا فيما يتعلق بضرورة القتل السوداء –، يجد الإنسانُ نفسَه محرومًا من إنسانيته. ومعرفة العنف تعني استيعاءَ هذا الحرمان عبر ألم تمزق داخلي. يريد المثَلُ القائل: "للضرورة أحكام" أن يؤسس لـ"حق الضرورة" الذي يتيح الاستعفاء من احترام القانون. قد تُرغِم الضرورةُ في الواقع على تجاوُز فريضة القانون، لكنها لا تؤسِّس لأي حق. بل إن الحكمة القائلة: "لا حُكم للضرورة" هي التي ينبغي العمل بها تعبيرًا عن حكمة الأمم. إذا وقع المرء في فخ الضرورة التي تُكرِهُه على استخدام العنف ضد خصمه، فلتكن لديه النزاهة الفكرية بأن لا يعمل على تبرئة ساحته؛ إذ إن إضافة تبرير إلى العمل العنيف يضاعف المصيبة ويختم عليها نهائيًّا. فليتذكر المرء، ساعة يظن، تحت سطوة الظروف، أنه أعجز عن فعل شيء آخر غير استخدام العنف، أن فريضة اللاعنف لازمة لإنسانيته. ودور هذه الفريضة الروحية هنا هي الحيلولة دون فخ الحتمية والانغلاق عليه. وبهذا الشرط لن يمنح العنفَ إلا ما تفرضه الضرورةُ حصرًا – وإلا فسيستولي العنفُ على مصيره لا محالة. إن الاعتراف بفريضة اللاعنف هو الخطوة الوحيدة التي تتيح اقتصارَ العنف على الضرورة البحتة. وفي المحصلة، فإن التبرير الحقيقي للعمل تحت سطوة الضرورة هو دفعُ هذه الضرورة بعينها، وإقصاؤها كليًّا إن أمكن. فإذا لم ينخرط الإنسان، في عزم وتصميم، في دينامية اللاعنف، سيعود ويسقط حتمًا في منطق العنف. يتعلق سلوكُ الإنسان حيال العنف، في جانب حاسم منه، بالجهود التي رضي ببذلها لمعرفة اللاعنف وبالتمارين التي مارسها استعدادًا للعمل اللاعنفي. وإذا بدا العنفُ ضروريًّا في لحظة معيَّنة من النزاع بوصفه "الشر الأهون"، فإن سبب ذلك يعود، على الأغلب، إلى أننا تركنا هذا النزاع يتدهور دون أن نُعمِلَ، والأوانُ لم يَفُتْ بعدُ، الطرائقَ اللاعنفية التي من شأنها أن تتيح حلَّه سِلْميًّا. إنه لمن خلال التصميم على اللاعنف يصبح في إمكان كلٍّ منا دفعُ حدود الضرورة. والرهان هنا هو الحرية، ولا شيء أقل منها: حرية فاعل يواجه عسفَ الظروف بالقوة والشجاعة. لا مناص هنا من القرار. ولكنْ ماذا يمنعنا من اختيار معسكرنا حقًّا ومن التصميم على اللاعنف؟ أليس لأننا نستسلم في سهولة للإيمان الساذج بالضرورة، ولأننا نتأبى على الإيمان بحرية الإنسان؟ أليس لأننا نلهو بالفكرة التي مُفادها أن العنف، بحُكم وراثتنا له عن السلف، شريف ومحترَم ويندرج بمعنًى ما في المصير البشري؟ أليس لأننا نعتبره ميراثًا أو، إذا جاز القول، تقليدًا؟ ألا تغرِّر بنا هذه المقاصد الخفية، فتعطِّل عندنا القدرة على الإرادة؟ ألا تُلغِم هذه النوايا المبيَّتة أرضَ القرار؟ فقبل الاختيار حتى، يتقرر الأمر وينتهي، فنوطِّن أنفسنا على الضرورة. غالبُ الظن أنْ ليس للأفراد جميعًا، في مواجهة الحدث، التقديرُ نفسُه لمعايير ضرورة اللجوء إلى العنف. فهذا التقدير مشروط بتاريخ الأفراد؛ وهو لن يتأسس على معايير عقلانية وحسب، بل وعلى قدرة كلِّ فرد على السيطرة على انفعالاته ومخاوفه أيضًا. إن الخيار الشخصي بالمخاطرة باللجوء إلى وسائل عنيفة أو بعدمه يحدِّده، في المحصلة، التحليلُ الأخلاقي للموقف. تُفرَض الضرورةُ، تعريفًا، على الشخص لحظةَ يهمُّ بالعمل. لكن مُفاد السؤال هو في معرفة ما إذا كان الإنسانُ لا يحتفظ بنصيبه من المسؤولية تجاه الحتميات التي ترهق عمله. يتصرف الإنسان حتمًا بحسب استعداداته الحالية، لكنه مسؤول عن هذه الاستعدادات إلى حدٍّ كبير. إن للمرء تاريخًا وماضيًا يزداد سطوةً ويشكِّل مستقبله كلما تقدم في العمر. واستعداداته هذه تتوقف جزيلاً، إذن، على خبراته المعيشة الماضية. ما أسهل أن نعزوَ إلى الضرورة وحدها إخفاقاتِ حياة قوامها التهرب والشطط والفرار والمخاتلة وإرادة التجاهل. فلا ننخدعنَّ بهذا، ولا ننظرنَّ حوالينا نظرةَ اتهام: فهذه الحياة حياتنا نحن. وهكذا فإن الجهل نفسه هو إرادة التجاهُل، أي شكل آثم من المعرفة. إنه إثم. إن خطأ الجهل يتهم الجاهل ولا يعذره البتة. وفي المحصلة، يحدد كل فرد موقفَه الشخصي حيال الحدث، فيقرر اللجوء إلى العنف أو عدمه وفقًا لخيار وجوديٍّ يرهن مسؤوليتَه، وفيما وراء ذلك، معنى وجوده بعينه.



    الجسم

    الإنسان الذي يختار اللاعنف يختار جسمَه لبناء جبهةِ مقاومةٍ ضد العنف؛ وبجعله جسمَه حاجزًا ضد العنف يعتزم أن يبيِّن للعنف الحدودَ التي لا يجوز له أن يتخطاها. بذا فإن الجسم الأعزل، الذي يرفض أن يتوسل حمايةَ الأسلحة، يخاطر بنفسه ويرابط على الصف الأول، معرِّضًا نفسَه، بكلِّ قابليته للإصابة، للمخاطر والتهديدات، متحديًا العنفَ والعذابَ والموت. وبجسمه كلِّه، يناهِضُ s’insurge (من الفعل اللاتيني insurgere بمعنى "نهض") الظلمَ ويتخذ موقفًا في الساحة العامة كي يشهد، في مرأى من الجميع، لصالح العدالة. إن مَن يقدِّم جسمَه الأعزل، عِبْرَ ضعفه نفسه، لا يقدِّم لخصومه أيَّ تبرير لقتله. ومع ذلك، يظل الخطرُ قائمًا والقتلُ ممكنًا دومًا. لا يجب على العقل وحده، بل على الجسم أيضًا، أن يصمِّم على اللاعنف. الإنسانُ كائنٌ متجسد، جسدي، يعاني الخوفَ أمام مخاطر العمل. الخوفُ شيء جسماني؛ وللسيطرة عليه، يجب على المرء أن "يستأنس" جسمَه. إن الطرق والفنون التي تتيح للفرد معرفةً أفضل بجسمه وتحكمًا أكبر به مفيدة جدًّا هنا للسير في طريق اللاعنف. فإذا كان الجسم مفرطًا في المعاندة، إذا كان الخوفُ يشله بحيث يحرن، يكون من الصعب على العقل حملُه على التعقل. لذا ينبغي على المرء تهيئة جسمه وتهذيبه وتدريبه للسيطرة على انفعالاته ومخاوفه. لا يمكن لإرادة اللاعنف أن تؤكد ذاتها إلا في وحدة الشخصية. فللإنسان رأس وقلب وبطن: إنه، في الوقت نفسه، كائن يقوده العقلُ والانفعالُ والغريزة. هذه المَلَكاتُ الثلاثُ متمايزة ويمكن لها أن تتناقض، لكنْ يمكن لها أن تتوافق وتنجح في التواطؤ بعضها مع بعض. ولا مناص هنا من تفنيد النظريات التي تقيم تعارُضًا بين الروح والجسد، وكأن الجسد مصاب بمُعامِل سلبيٍّ ويناوئ متطلباتِ الروح. إن ثنوية كهذه لا وجود لها. فالحالة الجسمانية للإنسان – أي جسمانيته – ليست سقوطًا: فهي التي تتيح للإنسان أن يعيش ويتأثر ويحب ويفكر ويفعل. والوعي الخُلُقي يتأصل في أحاسيس الجسم وإدراكاته وانطباعاته. لا ينفصل أيُّ فكر عن تعبيره الجسماني. إذ إن فكر الذات المتجسدة يتأصل في الجسم، وفي العمل تعيش الذات الخبرةَ الجسمانية للاَّعنف من خلال العمل: ففي العمل يمكن للإنسان الجسدي أن يتفكر في اللاعنف. ومن غير الممكن أن يكون هناك فكر واضح ودقيق عن اللاعنف إذا لم يتأصل اللاعنفُ في خبرة جسمانية للعمل. الفلسفة هي دائمًا تفكُّر ré-flexion، أي عودة للمرء إلى الذات، إلى خبرته الخاصة، إلى عمله. كيف يمكن للفيلسوف أن يطوِّر فكرًا عقلانيًّا في اللاعنف إذا لم تكن لديه خبرة جسمانية في العمل اللاعنفي؟ يجب أن يكون قد كابد بجسمه إمكان العمل اللاعنفي – الأمر الذي لا يعني انتصار هذا العمل دومًا بالضرورة – ليتوصل إلى تصوُّر واضح عن فلسفة اللاعنف. لا يكفي اختبار العنف لفهم اللاعنف، بل يجب أيضًا اختبار اللاعنف، أي العمل اللاعنفي. فاللاعنفُ، في المحصلة، لا يُتصوَّر إذا لم يُعَشْ. كذا فإن فلسفةَ اللاعنف لا تُعقَلُ إلا عِبْرَ اختبار العمل اللاعنفي. وإذا ظل المرءُ خارج العمل اللاعنفي، لن يرى سوى حدود هذا العمل، ولن يعاين سوى نقاط ضعفه، وسيكون عاجزًا عن فهم ديناميَّته الداخلية التي تمنحه قوَّته.



    لعب الأدوار

    إن لعب الأدوار (أو الدراما الاجتماعي sociodrame) هو أحد تمرينات التحضير للعمل المباشر اللاعنفي والتمرس عليه. وهو عبارة عن إخراج جماعي لموقف نزاعي متوقع ضمن سياق اجتماعي وسياسي معيَّن. إذْ يلعب الممثلون أدوارَ مختلف الشخصيات المتورطة في هذا النزاع، جاهدين أن "يعيشوا" ما "يلعبون". إن الهدف المنشود هو إتاحة الفرصة لكلِّ واحد بأن يكابد الانفعالات والمشاعر التي قد يختبرها فيما إذا وجد نفسَه في مواجهة موقف مشابه في الواقع. وبهذا يمكن للمشاركين معرفة سلوكهم الشخصي في الموقف معرفةً أفضل من خلال وعي انفعالاتهم وردات فعلهم ومواقفهم في علاقتهم مع الآخرين. وينبغي أن يعطيَهم ذلك ثقةً أكبر في النفس. يتيح لعبُ الأدوار كذلك إدراكًا أصح وأتم للموقف المُخرَج. وييسِّر لعبُ الأدوار أيضًا الإعداد النفساني للمواجهة المباشرة مع الخصوم والجمهور والشرطة في أثناء المظاهرات. كما يساعد المتظاهرين خاصةً على إجادة ضبط جزعهم وخوفهم وعلى التغلب عليهما. وهذا التمرين يتيح لمجموعة المشاركين التقدم نحو معرفة أكبر وثقة أقوى متبادلتَين. وفي أثناء قيام الممثلين بلعب مختلف أدوار الشخصيات المتفاعلة فيما بينها، يقوم مراقبون بمشاهدتهم وتسجيل مواقفهم بغية التمكن فيما بعد من مساعدتهم على وعي مواقفهم تلك. يتطلب حسنُ سير لعب الأدوار وجودَ شخص محرِّك animateur يتمتع بمعرفة معمقة وبممارسة طويلة لهذه الطريقة. فهو الذي ينبغي أن يقرر اللحظةَ المناسبة لإيقاف اللعب. وبُعيد ذلك، تكون مهمتُه تحريك animer نقاش بين جميع المشاركين بهدف تحليل اللعبة ونقدها وتقييمها.



    التخفيض الذاتي

    يقوم التخفيضُ الذاتي على التنزيل، فرديًّا وجماعيًّا، من حاصل المبلغ الذي يطالِب به دائنٌ لأن هذا المبلغ يُعتبَر مسرفًا في الغلاء. ولا يخص هذا الشكلُ من الاعتراض مستهلكي السلع فحسب، بل المستفيدون من الخدمات أيضًا. وبهذا يمكن تنزيل حاصل الفواتير التي تبعث بها إدارةٌ أو مؤسسةٌ بعينها، وذلك بهدف الاعتراض على زيادة غير مبررة للتعرفات أو التعبير عن خلاف على مضمون الخدمة المقدَّمة. وقد تنطبق هذه الحالةُ على فواتير الماء والكهرباء والتلفون وعلى الرسوم على الأجهزة السمعية–البصرية إلخ. فعندما يرفض الفردُ تسديد "السعر المطلوب"، فإنه يمارِس سلطتَه كزبون بهدف الضغط على القادة. ففي حالة التخفيض الذاتي، خلافًا للمقاطعة التي يرفض فيها الزبون أن يستهلك كي لا يدفع، فإن المستخدِم يستهلك، لكنه يرفض أن يدفع السعرَ المطلوب. يرفض الزبون أن يفي بما عليه، لا لأنه "مَدين مماطل"، بل لأن تسعيرة الخدمة المقدَّمة في نظره "أغلى مما يطيق". يمكن كذلك تنظيم تخفيض ذاتي جماعي لأجور السكن، إما من أجل مكافحة زيادة مفرطة فيها وإما من أجل مطالبة المالكين بالموافقة على إجراء استثمارٍ ما لتحسين شروط سكن المستأجِرين. ويشابه هذا النوع من التخفيض الذاتي إضرابًا جزئيًّا عن تسديد بدل الإيجار. يمكن تنظيم التخفيض الذاتي للحصول على إلغاء زيادة أجور النقل العام، أو تخفيض هذه الزيادة على الأقل، وذلك عندما تكون غير مبرَّرة. غير أنه ليس بمستطاع الفرد هنا تخفيض تسعيرة تذكرته. ينبغي، إذن، أن تقوم لجان الكفاح من المستخدِمين أو النقابات بطباعة سندات نقل صحيحة/مزيفة وتؤمِّن توزيعَها وبيعها في أماكن العمل، ثم ترد المالَ المحصَّل هكذا إلى الشركة المتهمة. يتطلب نجاحُ حملة التخفيض الذاتي ألا تُترَك للمبادرة العشوائية للأفراد الذين قد يتصرفون مشتتين. إذ نادرًا ما تنجح الحملةُ في حال لم تتكفل بها مباشرةً منظمةٌ قادرة على تعبئة أقلية كبيرة من الزبائن والمستخدِمين – ابتداءً من 10% – فتمارس ضغطًا حقيقيًّا على صُناع القرار. يمكن أيضًا تخفيض الضرائب للاحتجاج على قرار حكوميٍّ بعينه يُعتبَر مُضِرًّا. وفي هذه الحالة، لا يعود المستخدِم هو الفاعل، بل المواطن.



    المقاطعة

    أصل كلمة boycott [بالفرنسية والإنكليزية، وتعني "مقاطعة"] اسمُ عَلَمِ مواطنٍ بريطانيٍّ هو شارلز كنِّغهام بُويكوت Charles Cunnigham Boycott. وهو، كناظر أراضٍ واسعة في إيرلندا، كان يعامِل صغارَ المزارعين معاملةً قاسية جدًّا. وفي سنة 1879، قرر هؤلاء تنظيمَ أعمال عديدة تهدف إلى شلِّ مستثمَرته الزراعية. فالمقاطعة le boycott (تورِد المعاجم الفرنسية عمومًا كلمة boycottage) هي واحدة من تطبيقات مبدأ اللاتعاون الاستراتيجي. ففي المجال الاقتصادي، ترتكز المقاطعةُ على التحليل التالي: لا يمكن لأصحاب منشأة تجارية أن يحققوا أرباحًا إلا بفضل تعاوُن زبائنهم الطوعي معهم بشراء منتجاتهم أو باللجوء إلى خدماتهم. فبحجب الزبائن هذا التعاونَ عنهم، يمارسون عليهم ضغطًا اقتصاديًّا وماليًّا يجبرهم، إذا طال أمدُه، على تلبية مطالب منظِّمي العمل. وملاءمة طريقة المقاطعة وفعاليتها تتناسبان طردًا مع وجود المنشأة المستهدَفة في موقع المنافَسة مع منشآت أخرى لا تتعرض للانتقادات نفسها. يمكن لأهداف مختلفة أن تعيَّن للمقاطعة: - التوصل إلى تحسين نوعية منتَج صناعيٍّ تشوبه عيوبٌ خطيرة أو منتَج غذائي تبيَّن أنه مضر بالصحة أو إلى سحبهما من السوق. - إرغام مديري منشأة صناعية على الاعتراف بحقوق العمال الذين يستخدمونهم (سواء فيما يتعلق بالأجور أو بشروط العمل) أو على تعديل بعض الممارسات (كالتمييز العنصري أو عمل الأطفال، على سبيل المثال). - التحصل من مسؤولي مصنع ما على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإيقاف عمليات التلويث التي تسبب أضرارًا خطيرة في البيئة. تهدف المقاطعة إلى تخفيض المبيعات بحيث تصاب المنشأةُ بنقص في الأرباح كبير إلى حدٍّ يجبر المديرين على الإذعان للضغط الممارَس عليهم. وليس من الضروري أن تكون المقاطعةُ تامةً لكي تُثبِتَ فعاليتَها. فعندما يبلغ انخفاضُ المبيعات نسبةً معينة، تفقد المنشأةُ من المال ما يكفي لإقناع مديريها بالقبول بأخذ مطالب منظِّمي العمل في الحسبان. وبهذا تصبح القدرةُ الشرائية للمستهلكين قدرةً حقيقية في مواجهة قدرة المنتجين؛ إذ لا يمكن لهؤلاء أن يتجاهلوها دون أن يضرَّ ذلك بمصالحهم الخاصة. علاوةً على ذلك، فإن المقاطعة تمثل، في نظر المنشأة المتهَمة، حملةَ دعايةٍ مضادة من شأنها أن تضرَّ إلى حدٍّ خطير بصورتها الإعلامية – وهذا أيضًا أمر لا تستطيع إلا أن تأخذه في حسبانها. يتطلب نجاحُ المقاطعة تعميمًا شعبيًّا حقيقيًّا للصراع. فلا يكفي إطلاق تعليمات العمل عِبْرَ بلاغ صحفيٍّ وبعض الملصقات؛ إذ من الضروري توزيع منشورات في الشارع ونشر "مفرَزة مقاطعة" – على غرار "مفرَزات الإضراب" – على مقربة من نقاط البيع الرئيسية لإعلام المستهلِكين وحثِّهم على رفض أية عملية شراء لمنتَج بعينه أو لمنتجات "ماركة" بعينها. ولجعل العمل أصلب، يمكن إقرار مقاطعة المَحالِّ التجارية التي تصر على بيع المنتَج المتهم. فيمكن، إذ ذاك، نشر مفرَزة على مداخل هذه المَحالِّ، لا بهدف محاولة إقناع الزبائن بعدم الدخول وحسب، بل بهدف منعهم من الدخول أصلاً. هذا ومن الضروري لنجاح العمل أن يفلح في الديمومة. وهذا قد يكون ممكنًا في حال كان الهدف على ما يكفي من الوضوح والتحديد، وذلك لأن المقاطعة لا تسبب عمومًا عواقب خطيرة على المستهلكين؛ فخشيةُ هؤلاء من إطالة مدة العمل أقل من خشية المنتجين أنفسهم، ومن شأن هذا أن يحض هؤلاء على الإذعان للصواب. يمكن لأحكام القانون الساري أن تحرِّم المقاطعة؛ وفي هذه الحالة، يصير تنظيمُها عملَ عصيان مدني. ولا تتورع المنشآتُ المستهدَفة عن رفع دعاوى في حقِّ المنظِّمين الذين عليهم أن يعرفوا حدودهم: إذ يمكن للدعاوى والإدانات أن تيسِّر تعميم العمل شعبيًّا، لكنْ يمكن لها أيضًا أن تشلَّ الحركة. فكما هي الحال في كلِّ عمل مباشر لاعنفي، لا مناص من الإصرار على التحكم في القمع بغية التمكن من الاستفادة منه لتعزيز دينامية الحركة. هذا ويمكن للمنتجين أنفسهم أن يطبقوا طريقةَ المقاطعة برفضهم بيع منتجاتهم لهذا الزبون من زبائنهم المحتملين أو ذاك. تُستخدَم كلمةُ "مقاطعة" أيضًا خارج النطاق الاقتصادي للإشارة إلى رفض المشاركة في حدث سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو رياضي. وبهذا يكون الكلام على "مقاطعة" عندما يرفض حزبٌ سياسي ما أو عدةُ أحزاب المشاركةَ في انتخابات بحجة مُفادها أنهم لا يملكون أية ضمانة على أن هذه الانتخابات ستكون ديموقراطية فعلاً. كما تستعمل الدولُ أو المنظماتُ الدوليةُ المقاطعةَ لمعاقبة بلدٍ تنتهك سياستُه القانونَ الدولي. والمقصود بذلك هو رفض استيراد منتجات معينة مصدرها هذا البلد ورفض تصدير منتجات أخرى بعينها إليه – وهنا يكون الكلام على "عقوبات اقتصادية".



    الحب

    يبدي الحب أوجُهًا متعددة. ويمكن لكلمة "حب" أن تُفهَم في سياقات مختلفة بمعاني متعددة، وبهذه المثابة، يكون المفهومُ الذي يدل عليه ملتبسًا. فالحب يعني، في الوقت نفسه، "حب الأخذ" و"حب التلقي" و"حب التملك" و"حب العطاء". هناك تناقُض حقيقي بين حب الإحسان وحب الاشتهاء. ويمكن للحب أن يُعبِّر عن المصلحة كما يُعبِّر عن الزهد. يجب، إذن، عدم الكف عن توضيح معنى الحب في محاولة لتجاوُز التباساته وشكوكه. يمكن للحب أن يعني اصطفاءً متبادَلاً بين كائنين يستبعد، على نحو ما، كائنًا ثالثًا. إلا أن الحب يعني أيضًا محبة القريب. فهو إذ ذاك لا يعود اصطفاءً، لأن "قريبي" هو كل إنسان يقترب مني في حين أنني لا أعرفه ولا أنتظره حتى. فالمحبة تتطلب حتى حب ذلك المرء غير المحبَّب بعينه. تُعلِّم منقولاتٌ روحية مختلفة أن محبة الإنسان لأخيه الإنسان أعظم فضيلة وجوهر الحكمة. وفي المثاليات، يُحتفى بالمحبة بوصفها أقوى تجلِّياتِ الطيبة والعطف والرحمة. للأسف، لم يستطع تعليمُ المحبة هذا، الذي كثيرًا ما يكون أسيرَ بلاغة الفقهاء وأهل الفتوى، أنْ يمنع البشرَ من ارتضاء العنف والخضوع لسلطانه بكلِّ راحة ضمير. ألم تُقرَن المحبة إلى العنف، في ظروف عديدة، في تمجيد قضية أُضْفيَتْ عليها القداسة؟ وكم من مرةٍ كُرِزَ بالعنف باسم المحبة! كذا فإن "حب الوطن" – الذي آل إلى التطابق مع "حب الحرية" – قد ولَّد كراهيةَ العدو وأصبح بذلك حبًّا قاتلاً. كذلك فإن "حب الدِّين" قد جنَّد المؤمنين في "جهاد" ضد الكفار أو الزنادقة، فجعل نفسه مجرمًا. عندما يجابِه إنسانٌ إنسانًا آخر فإن أول ردود أفعاله ليس المحبة. فالمحبة انتصار بطيء ومتأنٍّ وحاذق للإنسان على نفسه وعلى رغبته في العنف وعلى دوافعه الأولية التي تَحْمِلُه على السيطرة على الآخر وعلى فرضِ متطلبات أنا متغطرسة عليه، قسرًا أو حيلة، في بحث دائم عن السلطة. إنها لفتْح تاريخي حاسم، بات اليوم من مكونات إنسانية الإنسان، لكنه فتح مأساوي الهشاشة، مهدَّد على الدوام باحتمالات السقوط. إنه فتح لا مناص من الفوز به باستمرار على الصعيدين الفردي والجماعي. ولأن الطيبة هي أفضل تعبير عن المحبة، فإن هناك تناقضًا لا يُختزَل بين المحبة والعنف. فريضة المحبة الأولى هي عدم ممارسة أيِّ عنف تجاه القريب. فالمحبة تهيب بالمرء أن يغمد سيفه ويلقي سلاحه – ولا شيء أقل طبيعية من ذلك! عندما يكابد الإنسانُ رغبةً في العنف تجاه الإنسان الآخر، فإن نهيًا يتمثل لضميره: "لا تقتل." وهذا النهي، بكسره سلسلةَ العنف، يفتح الطريق إلى المحبة، يفسح المجال لإمكان المحبة. إنها لحظة حاسمة يقبل فيها الإنسانُ التخليَ عن همجية "الأمس" ليتمكن من أن يحيا محبة "الغد". هناك جدلية تقوم بين النهي – وهو مطلق، أولي – وبين المحبة – وهي أبدية، سرمدية. وبنهيها العنف والقتل، تكون فريضة "لا تقتل" تدشينًا للمحبة. فعبر النهي، يعي الإنسانُ فرائض المحبة. إذْ إن النهيَ يكشف المحبة، والمحبة تضيء النهيَ وتضفي عليه معنًى. فالمحبة تدعو الإنسانَ إلى تجاوُز أنانيته، إلى إدخاله في الرحمة، وإلى فتح طريق التعالي أمامه. كذلك يظهر اللاعنف، الذي هو إمساك وامتناع، كأول فروض المحبة: عدم ارتكاب العنف! لا جَرَمَ أن اللاعنفَ، منظورًا إليه في شكله السلبي، لا يفي بجميع فروض المحبة، لكنه يتيح على الأقل تحقيقها. اللاعنف، مأخوذًا في معناه الحرفي، لا يتطلب سوى الحد الأدنى. ذلك الحد ليس كافيًا، لكنه ضروري؛ إذْ تُعلِّمنا الخبرةُ أن الناس في أغلب الأحيان يتألمون ويموتون حصرًا لأنهم لم يُمنحوا ذلك الحد الأدنى الذي هو من حقِّهم. هذا الحد الأدنى، بالمعنى الحرفي للكلمة، حدٌّ حيوي، وانعدامُه مميت. رفضُ العنف شرط للمحبة ليس إلا، لكنه شرط لا مناص منه. شرطُ اللاعنف ليس سوى الشرط السلبي للمحبة، الشرط الانتفائي السالب en creux للمحبة، لكنه شرطها الأول. تستهدف المحبة العالميةَ في إطار احترام جميع البشر، سواء كانوا الأبعد أو الأغرب أو كانوا الأعداء في آخر المطاف. هذا الهدف العالمي للمحبة لا يستبعد النزاعَ ولا يستثني القتال. فنحن مدعوون، باسمها، إلى اتخاذ أمكنتنا إلى جانب ضحايا الظلم وإلى المقاومة الناشطة ضد المسؤولين عن هذا الجور. يستنكر اللاعنفُ المحبةَ الفاترة التي، متذرعةً بالعالمية universalisme، تتهرب من النزاع وترفض العملَ وتفر من الصراع وتتحول عن التاريخ وتتجمد في المثالية. إذا تجنَّبت المحبةُ المخاطرةَ في العمل، فإن العنف لا يتوانى عن اجتياح النزاع وإفساده في سيرورة موت. ففي مواجهة الظلم، تحرض المحبةُ النزاعَ وتنخرط فيه وتغذيه بدينامية تؤدي إلى إيجاد حلٍّ له. رُبَّ بلاغةٍ روحانية يستهويها الكلام على "قوة المحبة"، بل وحتى على "القوة المطلقة للمحبة". لكنْ أليس الكلام على هذا النحو لجوءًا إلى استعارات مجازية قد يُتبيَّن أنها خادعة؟ أليس من خواص المحبة الجوهرية عدمُ امتلاكها أية قوة قسرية؟ في مواجهة التسلط والعنف، ثمة تجرُّد، عجز، وضعف جذري في المحبة؛ وهذا يصح على الحقيقة أيضًا. ليس في مقدور الإنسان قطعًا إلغاء الشر، لكن مناط كرامته في أن يعمل ضده بلا هوادة وأن يعطيَ لحياته معنًى من خلال هذا العمل. لكنْ تبقى هناك مأساوية الوجود، جنون تاريخ البشر. كيف نجعل مصيبة البريء مستحيلةَ الحدوث إلى الأبد؟ حيال الظلم، تلح علينا المحبةُ أن ننخرط في العمل لنقف إلى جانب الضحايا الذين لا تستحق حياتهم أن تُحرَمَ من المعنى الذي يجعل الرجاءَ ممكنًا. استراتيجية اللاعنف هي ذلك الفن في متناول الجميع الذي هو عبارة عن ابتكار وإعمال وسائل عمل تضمن، من اليوم فصاعدًا، عدم المساهمة في الشر وعدم الانتقاص من المحبة؛ وسائل تتيح لنا أن نرجو تقليص الشر والعنف. ليس صحيحًا أن سلطان المحبة أعظم من أيِّ سلطان آخر. ليست قوة المحبة المطلقة في قدرتها على هزيمة الشر والعنف، بل في عدم قدرة الشر والعنف على هزيمة المحبة. لذلك يبقى الرجاء.



    الطِّيْبة

    إن مأساويةَ العنف القصوى متأتيةٌ من أن بشرًا يمارسونه حيال بشر آخرين. لكنْ بما أنه شأن بشري، أي شأن يقع بين بشر، فإنه ليس قضاءً وقدرًا. العنف من ممكنات الطبيعة البشرية؛ وهو، بهذا المعنى، "طبيعي". لكن الإنسان يمتلك إمكانيةً أخرى تساوي الأولى "طبيعية"؛ وهذه الإمكانية الأخرى هي الطيبة. إذا كان الإنسانُ قادرًا على فعل الخير فذلك لأن طبيعته خيرة؛ وإذا كان قادرًا على فعل الشر فلأنه حر بطبيعته. الإنسان طيب بإرادته؛ وهو كذلك بقرار إراديٍّ حر. وهذه الحرية هي التي تعطي وجودَه كرامةً ومعنًى؛ بل أكثر من ذلك، إنها هي وجوده. إن وعي الذات هو هذه الحرية: إذْ لا يعي الإنسانُ ذاتَه إلا من خلال حريته. فمن دون هذه الحرية، يظل الإنسان مجهولاً في نظر نفسه. إن الحرية، وحرية فعل الشر بالتالي، ليست نقيصةً من نقائص الكائن الإنساني، بل هي أساسه وتحقُّقه. الطيبة نقيضة العنف. إنها التعبير الأمثل عن اللاعنف. لكنْ أسهل على المرء أن يكون عنيفًا من أن يكون طيبًا. العنف بدائي ويخضع لقانون الثقالة؛ بينما الطيبة تجاوُز، فتح، وتسامٍ يتطلب إرادةً كبيرة. غير أنه إذا كان العنف قصورًا في الكائن، فإن في الطيبة اكتماله. الطيبة تعبِّر عن فضيلة الإنسانية. ففي الطيبة التي يُعبَّر عنها للإنسان الآخر، تؤكِّد الأنا نفسَها وتنبني. إن الطيبة هي كمال الكائن. ففي حركة الطيبة، تزهد الأنا في نفسها لتهتم للآخر – أولاً. إن المَنْح – أو العطية – هو جوهرُ الطيبة. فالاختبار الأشد للمنح ليس في العطاء، بل في التلقي: فعل التلقي هذا يبعث على فرح ليس رضًا عن الذات، بل اعترافٌ بالجميل تجاه الآخر – إنه اعتراف بالآخر. ففي فعل المنح، تتخذ العلاقةُ بين "الأنا" و"الأنت" بُعدَها كلَّه. فإذا كان العنف "لعنة" malédiction – من الفعل اللاتيني maledicere: تكلم بالسوء –، أي قال كلامًا سيئًا يضر، فإن الطيبة "بركة" bénédiction – من الفعل اللاتيني benedicere: تكلم بالخير –، أي قال كلامًا حسنًا ينفع[1]. عندما أستقبل وجهَ الإنسان الآخر في اللقاء، أصير مسؤولاً عنه. عندئذٍ، ألتزم تلبيةَ طلبه بأن أبرهن عن طيبتي تجاهه، وذلك دون أن أنتظر منه موقفًا مماثلاً. فموقفه يخصه وحده. إن تعالي الإنسان ليس في "فعل الخير" بأداء واجبات يفرضها قانونٌ أخلاقي يُسَنُّ من الخارج، بل في أن يكون قادرًا على الطيبة حيال الإنسان الآخر. فمفهوم "الخير" لم يردع الإنسانَ دومًا عن "فعل الشر". فكون مفهوم الخير هذا سريع التشوه، كثيرًا ما نجده يبرِّر الشر؛ وحين ينأى عن الواقع ويصير مجردًا، فإنه يشرعنُ العنف. إذ ذاك فإن هؤلاء الذين يظنون أنهم يمتلكون الخير يأخذون على عاتقهم رسالةَ الانتصار على الشر؛ ولهذا، فهم يشنون الحرب على الأشرار، وباسمِ فكرة عن الخير، يُريقون الدماء. يقتلون ليجعلوا فجرَ الخير يطلع على التاريخ. وكالغرغرينا التي تجتاح الجسم، لا يفتأ الشرُّ يُفسِد العالَم. فكيف السبيل إلى تخليص البشرية من "الخير" الذي يقتل البشر؟ تجيب الحكمةُ: بالطيبة. الخير يرتضي القتل، أما الطيبة فلا. إن الحدس الأقوى للفلسفة هي أن الانتباه الذي توليه لإنسانية الإنسان توضِّح هذه الحقيقة الجوهرية: طيبة الإنسان تجاه أخيه الإنسان تكشف عن تعالي الكائن الإنساني وتضفي على حياته معنًى. يختبر الإنسانُ الطيبة، لا عندما يكون هو نفسه طيبًا – ففي المحصلة، كيف يمكن له أن يستيقن من كونه طيبًا؟ –، بل عندما يلتقي بإنسان آخر يُظهِرُ له الطيبة. أختبر طيبةَ الآخر من خلال الخير الذي تفعله بي والارتياح الذي تُمِدني به. فمن خلال طيبة الآخر أشعر بالارتياح: الارتياح في جسمي والارتياح في الحياة؛ من خلال طيبة الآخر، أختبر حلاوةَ العيش. لأن الآخرَ، إذ يُعبِّر لي عن طيبته، فإنه "يعتبرني"، وحرفيًّا، يقدِّم لي خالصَ "اعتباره"؛ فيمكن لي إذ ذاك أن أقيم لنفسي "اعتبارًا". الطيبة واحدة من أصفى مصادر السعادة. فإذا كان العنف يشوِّه الوجه، فإن الوجه يتجلَّى بالطيبة. الطيبة لا تلغي ألمَ الآخرين، لكنْ يمكن لها أن تحتويه. والطيبة لا تنكب على الإنسان المتألم؛ فهي ليست إشفاقًا عليه ولا رأفة به. الطيبة تَجهَد أن تنهض بالإنسان المتألم؛ إنها تعاطُف، مشاركة. فحتى للإنسانِ الأكثر شقاءً يقدِّم فعلُ الطيبة قليلاً من السعادة. لذا فإن الإنسانَ متسولُ طيبة. الطيبة مسرة، وكلُّ مسرة فهي فرح مقتسَم. ينبغي أن نُراهنَ على أن الإنسان الطيب إنسانٌ سعيد يتحلَّى بالقدرة على إسعاد الآخرين. العنف والطيبة احتمالان متأصِّلان في الإنسانية عينها. فالإنسان الواحد قابلٌ للعنف وللطيبة على حدٍّ سواء. وهذا الإنسان – للبداهة القاسية – هو نحن... بذا هناك تشابهٌ جوهري بين الشرير وبيننا. فالشرير هو عاثر الحظ. يعلِّمنا الاشتقاقُ أن كلمتَي méchanceté [سوء] وmalchance [سوء الحظ] لهما جذر واحد. كلمة "شرير" méchant في الفرنسية القديمة (من الفعل القديم mesheoir المركب من بادئة النفي me ومن الفعل cheoir بمعنى "عثر") تعني "مَن عثر فساء وقوعُه" qui tombe mal، ومنها "مَن لم يواتِه الحظ"؛ إذْ يذكِّر الحظُّ بالطريقة التي تقع بها العيدانُ أو أحجار النرد. فالشرير هو الذي "يسوء وقوعُه" mal-tombé. إن لكلمة mal-heureux [تعِس] (المشتقة من heur الحظ) المعنى نفسَه الذي تحمله لفظةُ mal-chanceux [تعس الحظ]. فـالشرير هو في آنٍ معًا عاثر الحظِّ mal-chanceux والتعِس mal-heureux، وهما سببان كافيان لأن يثيرَ سوءُه تعاطُفَنا ورِفْقَنا. ولأننا جميعًا قابلون لأن نكون عنيفين أو نكون طيبين، فإن مقتضى الطيبة الأول هو الامتناع عن إدانة الآخرين. إن أحد حوافز العنف – ولعله من أقواها – هو اتهام الإنسان الآخر بفعل الشر الذي نعتبر أنفسَنا منزَّهين عنه. عندما نحمل على الشر، فإننا إذ ذاك نستعمل العنف تجاه الشرير من دون وازع من ضمير. وحيال موقف كهذا، يعلِّم الحكماءُ أن المنهج الوحيد الذي يتيح محاربةَ الشر محاربةً حقيقية هو إظهار الطيبة نحو الشرير. فالطيبة تود أن تقدِّم إشارةَ صداقة إلى ذاك الذي ليس صديقًا حتى. وحده فعل الطيبة من شأنه أن يوقف تصاعُدَ الشر والشقاء. في أوقات الإعياء، يغرينا تصديقُ مَن يؤكدون لنا أن الطيبة عجز الضعفاء. لكنْ كلا! إنما العنف ضعف، والطيبة قدرة الأقوياء. باسم الواقعية، يرى بعضهم أن العنف أقل عنفًا من الطيبة لأن هذه قد تفسح المجال لعنف الأشرار. بل وينتقد هذا البعض موقفَ "المغالين في الطيبة" الذين يتساهلون مع ارتكاب التجاوزات والمظالم التي تسبب شقاءَ البشر. وفي الواقع، إذا كانت الطيبة تتسامح مع الأشرار، فإنها لا تتساهل مع الشر. تأمر الطيبةُ بالعمل لإنصاف الضحايا. إن الطيبة تذود عن المستضعفين والمعوزين؛ إنها تقاوم مزاعم الأقوياء وصلفَ الأغنياء. تريد الطيبة أن تتحالف مع العدالة، حتى في النزاع. والقوة لا يمكن لها إلا أن تكون ثمرة العمل؛ غير أنها، لكي تكون فعالة، ينبغي عليها ألا تستبعدَ مقتضياتِ الطيبة. ينبغي علينا أن نتعلم كيف نميز بين الطيبة وبين لطف الضعفاء الذي ليس سوى مجاملة. قد تكون الطيبة متطلِّبة وحازمة، إلا أنها لا تستخدم العنف. لأن العنف ليس طيِّبًا؛ فالطيبة جوهريًّا هي اللاعنف.



    الشَّجاعة

    الإنسان "الشجاع" هو مَن يغلِّب فضائلَ القلب (كلمة courage الفرنسية [شجاعة] مشتقة حصرًا من كلمة cœur [قلب]) باعتباره مقرَّ الإرادة والطاقة والخصال التي تشكِّل "قوة النفس" أمام الخوف والمجازفة والتهديد والخطر والعذاب والموت. الشجاعة هي فضيلة الإنسان القوي الذي يصمد عند الامتحان[1]. ولما كان خوف الإنسان متأصلاً دومًا في خشية الموت، فإن خصلة الإنسان الشجاع هي سيطرته على خوفه من الموت، مجازفًا بحياته للذود عن قضية عادلة، كرامته مرهونة لها. كان غاندي يضع "رباطة الجأش" في المرتبة الأولى من فضائل الإنسان القوي. أن تكون "رابط الجأش" in-trépide، بحسب المعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة بالفرنسية (من اللاتينية: in [بادئة النفي] وtrepidere [ارتعد])، يعني ألا ترتعد أمام الخطر[2]، أي ألا تخاف أو، بالأدق، أن تتغلب على خوفك. يقال أحيانًا إن الشجاعة يمكن لها أن تُستخدَم في الشر كما تُستخدَم في الخير. لكن شجاعة الإنسان لا تكون موضع إعجاب وتقدير إلا إذا استخدمها في الخير. لا، ليس هناك من شجاعة في فعل الشر. ولدى إعمال النظر في الأمر، يجب الإصرار على أن الشرير ليس شجاعًا، مهما تكن المخاطر التي يتجشمها لبلوغ مآربه. الشجاعة، في جميع الثقافات، هي فضيلة البطل الذي يتحلى بقوة التغلب على خوفه لمواجهة المخاطر الملازمة لنضاله من أجل العدالة. في موروثاتنا الثقافية، تُمتَحن شجاعةُ الإنسان عند الحرب؛ فيُتغنَّى بالشجاعة عند ذاك بوصفها فضيلةَ المحارب الذي يُقدِم ويستبسل أمام المخاطر. وتُعتبَر الحربُ اللحظةَ التي يقوم فيها المواطن، إذ يتخلى عن مصالحه الخاصة، بتحقيق كيانه الأخلاقي والروحي بالتحلي بشجاعة المخاطرة بحياته لخدمة المصلحة العامة. منذ قرون والمجتمعاتُ تتعهد العنفَ وتمجِّده وتقدِّسه بوصفه فضيلة الإنسان القوي الذي يتحلَّى بشجاعة ركوب أعظم الأخطار للذود عن شرفه وحريته وعن شرف أبناء جلدته وحريتهم. يضمن هذا الإشراطُ الاجتماعي والإيديولوجي، من جيل إلى جيل، استنساخَ سلوكياتِ إذعانٍ وطاعةٍ لأوامر السلطات التي تأمر بالقتل حفاظًا على المصالح العليا للجماعة. تظهر نبالةُ فضيلة الشجاعة في وضوح حين تُقارَن بالجبن، المشين دومًا. لكن ثقافة العنف تسجن المواطن في وضع يشعر فيه أن لا خيار له، إذ يواجه الظلم، إلا بين العنف والجبن؛ فيُهاب به إذ ذاك أن يبرهن على شجاعته باختياره العنف. ولأنه يرفض أن يكون جبانًا، إنْ في نظره أو في أعين الآخرين، يقبل عمومًا أن يكون عنيفًا. وبهذا تمارس إيديولوجيا العنف ابتزازًا حقيقيًّا على المواطنين بتأكيدها على أن الطريقة الوحيدة للتحلي بالشجاعة هي الاتصاف بالعنف وباتهامهم مسبقًا بالجبن إذا رفضوا أن يكونوا عنيفين. وإن الذي يختار العنف، مجازفًا بحياته لمقاومة الظلم، إنما يبرهن عن شجاعة لا ريب فيها؛ فلا يجوز لأحد أن ينكر عليه حقَّه في الاحترام. وفي الظروف التي يحسب فيها الإنسانُ، أمام موقف ظلم، أن لا خيار له إلا بين العنف والجبن، تُلزِمُه الشجاعةُ بالعنف. فإذا كان رفضُ العنف والحرب صادرًا عن كراهة الموت، لا عن الاشمئزاز من القتل، إذ ذاك يكون هذا الرفض في الواقع دليلاً على الجبن. لكن من طبيعة الحرب، في أحسن الحالات، أن تجمع بين النقيضين جمعًا عميقًا: إذْ يمكن لها أن تكون تعبيرًا عن الشجاعة، لكنها دومًا إعمالٌ للعنف القاتل. وهنا من شأن الفلسفة أن تقلب المنطقَ الذي رجَّحتْه الإيديولوجيا السائدة على مرِّ القرون، التي ترى في الحرب، على الرغم من أنها تعلِّم القتل، عملاً مشرِّفًا لأنها صنيعة الشجاعة: يجب التأكيد على أن الحرب، على كونها ابنة الشجاعة أحيانًا، ليست شريفة أبدًا لأنها قاتلة. لقد بيَّن غاندي أن الإنسان ليس مخيرًا بين العنف والجبن، بل بين العنف والجبن واللاعنف. إذا كان العنفُ مفضلاً على الجبن فإن اللاعنف خيرٌ من العنف. يتطلب اللاعنف، في المحصلة، شجاعةً أكبر من العنف. لكنْ وحدَه القادر على فعل العنف يستطيع اختيار اللاعنف. شجاعة الإنسان القوي الحقيقية هي مقاومةُ الشر ومكافحة الظلم، راكبًا خطر الموت لئلا يقتُل، لا خطر القتل لئلا يموت. الشجاعة الكبرى هي مقاومة الشر برفض الاقتداء بالشرير.



    الخوف

    يس الخوف أمرًا مخجلاً؛ إنه في بساطة بشري. الخوف هو الانفعال الذي ينبئنا عن وجود خطر كامن ويطلق فينا غريزةَ البقاء التي تدعونا إلى حماية أنفسنا. ينذرنا الخوفُ بإنبائنا أننا نجتاز منطقة قلاقل: "انتبه، خطر!" إنه يدعونا إلى اتخاذ احتياطاتنا لمواجهة التهديدات التي يمكن لها أن تثقل علينا. ليست الشجاعةُ تجاهُلَ الخوف، بل السيطرةُ عليه. إن الخوف تحديدًا هو الذي يتيح التحلِّي بالشجاعة. منذ الطفولة، يختبر صغيرُ الإنسان مخاوفَ عديدة. والحال، ينبغي للتربية أن ترمي إلى تعليمه التعرُّفَ إليها وتسميتَها والتعبيرَ عنها وتجاوُزَها. فحضورُ الراشد إلى جانبه وإيعازُه له المتَّسم بالحزم واللطف معًا، "لا تخَفْ!"، يمكن له سلفًا أن يساعده على الاطمئنان ويمنحه الثقة. لكن لا ينبغي لهذا الإيعاز أن ينفي خوفَ الطفل، بل ينبغي له أن يوعز إليه: "من حقك أن تخاف، لكن الخوف يدعوك إلى أن تكون شجاعًا. في مقدورك السيطرة عليه بالاعتماد على طاقات أخرى موجودة فيك هي الأخرى." بذا فإن الخوف موجود في كلِّ فرد، وليس المطلوب كبته برفض الاعتراف بوجوده، بل على العكس: ينبغي استيعاءُ وجوده والاجتهاد لتقبُّله واستئناسه واحتماله والتغلب عليه، علمًا أنه لا بدَّ من إعادة بذل هذا الجهد دون هوادة. إن قدوم الآخر إلى جانبي أمر خطير، أو على الأقل، قد يكون خطيرًا. وقد لا يكون كذلك، لكنني لا أعلم شيئًا عن ذلك؛ ولهذا أستشعره بوصفه خطيرًا. وكثيرًا ما يتفق للخوف أن يوجِدَ الخطر، لا أن يوجِدَ الخطرُ الخوف. فالآخر لا يريد بي شرًّا بالضرورة؛ بل لعله يريد بي خيرًا، لكنني لا أعلم ذلك. لذا فإن حضور الآخر، الغريب، المجهول، يُلقي بريبة على مستقبلي، يضعني في حال من عدم الأمان، في القلق، في الخوف: الخوف من الخطر، الخوف من العذاب، وفي المحصلة، الخوف من الموت العنيف. هذا ويُخشى على الخوف من الإنسان الآخر أن يدفعني إلى موقف هروب من أمام النزاع. أجل، قد يكون الهرب من خطر شديد أفضل وسيلة آنية متاحة لتفادي الأسوأ. إلا أن الهروب يُبقي النزاع على ما هو عليه، ولا بدَّ من العودة لمواجهته هذه المرة. وكثيرًا ما يُخشى أن يكون الهروب جُبنًا. ولهذا ينبغي أن أتمكن من السيطرة على خوفي لمواجهة الآخر وبناء علاقة معه تتأسس على احترام حقوقنا المتبادل. يهيِّئ الخوفُ الإنسانَ لأنْ يضع نفسَه في موقف تعصُّب وعداوة حيال الآخر. عندئذٍ يتدخل عاملٌ لاعقلاني في تطور الروابط بين البشر، ويمكن له أن يتسيد الموقف. الخوف شرُّ ناصح، سواءٌ دعا إلى الإذعان أم حضَّ على العنف. الخوف لدى الإنسان واحد من أقوى الحوافز على العنف. فسيطرة الإنسان على خوفه وتحكُّمه بانفعالاته وأهوائه التي يثيرها الخوفُ يتيح له التعبير عن عدوانيته بوسائل أخرى غير وسائل العنف المدمِّر. ليس العقل وحده الذي ينبغي أن يعزم على اللاعنف، بل الجسم أيضًا. فالشخصُ الخائف كائنٌ متجسد، جسدي، بدني. الخوف بدني، وينبغي على المرء، للسيطرة عليه، أن يسيطر على جسمه. إن التقنيات التي تتيح للفرد أن يتعرف إلى جسمه تعرفًا أفضل ويتحكم به خير تحكُّم لهي تقنيات مفيدة جدًّا للمضيِّ قُدُمًا على طريق اللاعنف. إن الجسم، في العمل اللاعنفي، هو الذي يغامر ويبقى في الصف الأول ويتعرض للضربات ويتحدى العنف ويجابه الموت. فإذا أفرط الجسمُ في معاندته، فشلَّه الخوفُ وحَرَن، يصعب على العقل أن يُعقِّله. ينبغي للجسم أن يتهيَّأ ويتربَّى ويتدرب ليتحكَّم بنفسه في انفعالاته ومخاوفه. لكي نتغلب على مخاوفنا، ينبغي أن نتمكن من قولها – "وضعها في كلمات" – لأنفسنا وللآخرين. علينا أن نتعلم سماعَ مخاوف الآخرين والإنصاتَ لها. ومعًا سنتمكن من السيطرة عليها. من هنا ينبغي إيجاد أماكن نستطيع فيها التعبير معًا عن مخاوفنا. وفي المحصلة، بعملنا معًا نستطيع أن نستيقن من أننا تغلَّبنا عليها. يقود العمل اللاعنفي إلى النزول إلى الشارع للتعبير علنًا عن إرادتنا مكافحةَ الظلم. وهو يتطلب عندئذٍ المخاطرة بمواجهة مباشرة، جسمانية، مع الآخرين سواءٌ كانوا خصومًا أم عناصر من الشرطة. وهذه المواجهة مخيفة: نخاف الخروج من منزلنا للقيام خارجه بعمل عام يُعرِّضنا لتهديدات الآخرين. ويُخشى أن يبقينا هذا الخوف حبيسي رغد حياتنا الخاصة. تبتكر الدول، بدرجات متفاوتة، مخاوفَ عديدة وتغذِّيها بين المواطنين بهدف الحصول منهم على خضوعهم وسكوتهم وطاعتهم التي تحتاج إليها هذه الدولُ لضمان سيطرتها. وليس من الضروري، في أغلب الأحيان، أن تلجأ إلى الإرهاب؛ فحسبها أن تمارس تهديدًا ساريًا لتحافظ على خوف سارٍ كافٍ لفرض احترام "القانون والنظام"! وينتهي المواطنون إلى استبطان[1] هذا الخوف. فلِكَيْ يجرؤوا على تحدي الدولة بالانخراط في تظاهرات انشقاق وأعمال عصيان، لا مناص لهم من تعلُّم طرد هذا الخوف. تبدأ حكمة المواطن حين يتوقف عن الخوف من الدَّرَكي. كما قد تتلاعب الدولةُ بمخاوف المواطنين عِبْرَ تصعيد فكرة تهديد خارجي. إن في مستطاع الدولة أن تفرض طاعتها بقدر ما تجيد إقناع رعاياها بأن خطرًا خارجيًّا يهدِّدهم. على المواطنين أن يتحرروا من هذا الخوف المزيف بإحباط الجانب الابتزازي الذي تتضمنه هذه الدعاية الإيديولوجية للدولة.



    العدوانية

    يمكن للإنسان أن يصير كائنًا عقلانيًّا rationnel، لكنه أولاً كائن غرائزي instinctuel وبواعثي pulsionnel. تشكِّل الغرائز حزمة من الطاقات. عندما تكون هذه الحزمة معقودةً عقدًا جيدًا فإنها تُهَيكِلُ شخصيةَ الفرد وتوحِّدها؛ أما عندما تنحل فإن بنية الفرد بكاملها تفقد هيكليتها ووحدتها. والعدوانية هي إحدى هذه الطاقات؛ فهي، كالنار، قد تكون نافعةً أو ضارة، هدامةً أو خلاقة. لذا فإن الغضب الذي يمكن له أن يستبد بالفرد بأن يُفقِدَه كلَّ سيطرة على نفسه هو شطط في العدوانية. الغضب هو الانفعال الذي نستشعره عندما تُعرقَل مشاريعُنا على حين غَرة أو عندما نصطدم بالواقع أو يعترينا شعورٌ عميق بالظلم. من هنا فإن سيادة المرء على غضبه وتحكُّمه به وتحويل العدوانية التي ينطوي عليها إلى طاقة بنَّاءة هي من علامات فطنة انفعالية حقيقية. العدوانية قدرة على القتالية وعلى توكيد الذات الذي هو من مكونات الشخصية. فهي تتيح مجابهة الآخر من غير تهرُّب. أن تكون عدوانيًّا يعني أن تؤكد ذاتك أمام الآخر بـ"السير نحوه". وبالفعل فإن أصل فعل "العدوان" agresser من كلمة aggredi اللاتينية، المشتقة بدورها من كلمة ad-gradi التي تعني "مشى نحو" أو "تقدم نحو"[1]. ولا يكون الفعل "اعتدى" agresser بمعنى "مشى ضد" إلا بمعنى اشتقاقي: وهذا مردُّه إلى أنه في الحرب يصبح معنى "مشى نحو العدو" هو "مشى ضده" أي هاجَمَه. كذا فإن فعل "اعتدى" a-gresser لا ينطوي، في اشتقاقه، على عنف أكثر من فعل "تقدم" pro-gresser الذي يعني "مشى إلى الأمام". فإظهارُ العدوانية يعني قبول النزاع مع الآخر برفض الخضوع لقانونه. من دون عدوانية أكون على الدوام متهربًا من التهديدات التي يتوعدني بها الآخرون؛ ومن دون عدوانية أكون عاجزًا عن التغلب على الخوف الذي يشلُّني بمنعه إياي من مصارعة خصمي والكفاح من أجل حَمْلِه على الاعتراف بحقوقي واحترامها. فمن أجل "الذهاب إلى الآخر" ينبغي إظهار الجرأة والشجاعة، لأنه ذهابٌ إلى المجهول ومُضيٌّ إلى المغامرة. وفي الواقع، تكون السلبية أمام الظلم موقفًا أشيع من العنف. إن قدرة البشر على الاستكانة أكبر بكثير من قدرتهم على التمرد. كذا فإن إحدى أولى مهمات العمل اللاعنفي هي "استنفار" mobiliser أي "تحريك" أولئك المكابدين الظلمَ لإيقاظ عدوانيتهم استعدادًا للصراع ولإثارة النزاع. عندما يخضع العبدُ لسيده لا يكون نزاع ثمة؛ فعلى العكس، يتوطد عندئذٍ "النظام" ويسود "السلام الاجتماعي"، دون أن يبادر أحد أو شيء إلى التشكيك فيهما. لا يقع النزاع إلا اعتبارًا من اللحظة التي يُبدي فيها العبدُ ما يكفي من العدوانية من أجل "التقدم نحو" s’avancer vers (ad-gradi) سيدِه والاجتراء على مواجهته والمطالبة بحقوقه. يستلزم اللاعنف من المرء، قبل كلِّ شيء، أن يكون قادرًا على العدوانية. وبهذا المعنى، يجب التأكيد على أن اللاعنف نقيضُ السلبية والاستكانة أكثر منه نقيضًا للعنف. على الفرد ألا يكبتَ عدوانيتَه، بل أن يتقبلها ويستأنسها بحيث تصير قوةً خلاقة. وبالمثل، على العمل اللاعنفي الجماعي أن يتيح توجيه العدوانية الطبيعية للأفراد بحيث لا تعبِّر عن نفسها عبر وسائل العنف الهدام التي تستجلب المزيد من العنف والمظالم، لكنْ عبر وسائل عادلة وسِلْمية من شأنها بناء مجتمع أعدل وأكثر سلامًا. ليس العنف، في الواقع، سوى انحراف للعدوانية.



    النِّزاع

    في البدء كان النزاع. علاقتي بالآخرين تكوِّن شخصيتي. وجودي ليس "كينونتي للعالم" بل "كينونتي للآخرين". لستُ موجودًا إلا بالعلاقة مع سواي. إلا أنني، في أغلب الأحيان، أختبر لقائي مع الآخر كمحنة أولاً، كمواجهة. فالآخر هو مَن تتعارض رغباتُه مع رغباتي، تصطدم مصالحُه مع مصالحي، تقف مطامحُه في وجه مطامحي، تناوئ مشاريعُه مشاريعي، تهدِّد حريتُه حريتي، وتطغى حقوقُه على حقوقي. قدوم الآخر على مجالي من غير أن أدعوه هو إزعاج لي. الآخر هو اجتياح لنطاق هدوئي؛ وهو يعكر عليَّ صفو راحتي. أدرك اقتحام الآخر عليَّ المساحةَ التي سبق لي أن حزتُ عليها بوصفه تهديدًا لوجودي. إن التنافس على الفوز بالمكان نفسه يولِّد نزاعًا حتمًا. كل امرئ مقتنع بأن الآخر يريد أن "ينتزع منه مكانه". مذَّاك، لا يمكن التغلب على النزاع إلا إذا قرَّر الخصمان، إذ وعيا أن "هناك مكانًا لاثنين"، أن يبتكرا معًا "ترتيبًا للمكان" يتيح لكلٍّ منهما أن "يأخذ مكانه". يغار الفردُ من الآخر الذي يتمتع بملكية شيء لا يملكه هو. وبهذا فإن إحساس الغيرة الذي يجعل المرءَ يشتهي الشيءَ الذي يمتلكه الآخرُ هو واحد من أقوى دوافع النزاعات التي تجعل الأفرادَ يناوئ بعضُهم بعضًا. كلمة "نزاع" بالفرنسية conflit مشتقة من كلمة conflictus اللاتينية، وهي اسم مفعول من فعل confligere الذي يعني "صَدَم". فالنزاع هو "صِدام" بين شخصين، بين مجموعتين، بين طائفتين، بين شعبين، بين أمتين. والدخول في نزاع مع إنسان آخر يعني "الاصطدام" به كما نصطدم بعقبة على الطريق. عندما نرى عقبةً فإننا لا نندفع نحوها، بل على العكس نحاول جهدنا التوقف قبل فوات الأوان لكي لا نتحطم عليها؛ نحاول "مفاوضة" العقبة للتغلب عليها وتجاوُزها. بالمثل، حين نصطدم بإنسان آخر، فلنسعَ إلى تجنُّب الصدمة العنيفة ولنحاول التفاوض معه لكي نجد معًا ترتيبًا يتيح لكلٍّ منا متابعة طريقه. لا يمكن للفرد أن يتهرب من موقف نزاع دون أن يتنازل عن حقوقه. لذا فإن عليه أن يقبله: فمن خلال النزاع، يمكن لكلِّ امرئ أن يحظى باعتراف الآخرين به. ومن خلال قبول "آخَرية" الإنسان الآخر يبني الفردُ نفسَه كشخص. النزاع هو عنصر بنيوي لأية علاقة مع الآخر. ليس ثمة من صداقة، ولا من حبٍّ حتى، إلا وينبغي أن يبقيا متيقظين لنزع فتيل أي نزاع يهدد بتخريب العلاقة. يمكن للنزاع أن يكون هدامًا وقتَّالاً؛ يمكن له أن يسبب الموت. غير أنه يمكن له أن يكون أيضًا بنَّاءًا يتيح تنظيم الحياة. وظيفة النزاع هي إبرام عقد بين المتخاصمَين يكفل لكلٍّ منهما حقوقَه. وعلى هذا الميثاق أن يتيح التوصل إلى بناء علاقات إنصاف وعدل بين الأفراد داخل الجماعة الواحدة أو بين مختلف الجماعات. والمقصود هو "تحويل" النزاع بحيث يغادر نطاق المواجهة بين خصمين، حيث وُلِدَ، لينتقل إلى نطاق التعاون بين شريكين، حيث يجب أن يجد حلاًّ له. غالبًا ما يتيح البحثُ عن تسويةٍ ابتكارَ حلٍّ بنَّاء للنزاع. يوقِف هذا البحثُ العنفَ حينما يكون قد ظهر ويعيد التواصل بين الخصمين. إن كلمة "تسوية" بالفرنسية compromis مشتقة من الفعل اللاتيني compromittere (المؤلَّف من cum بمعنى "معًا" ومن promittere بمعنى "وَعَد")، وتعبِّر عن فكرة تواعُد أو تعاهُد على احترام اتفاق ما من أجل تسوية خلاف. وفي التحليل الأخير، لا ينبغي اعتبار النزاع معيارًا للعلاقة مع الآخر. النزاع يأتي أولاً، لكنه أكثر ما في العلاقة مع الآخر أولية. جُعِلَ النزاعُ أصلاً ليتمَّ التغلب عليه. يجب على المرء، حيال مَن يواجهه، ألا يستقر على علاقة "عداوة" hostilité، حيث يكون كلٌّ منهما عدوًّا للآخر، بل عليه أن يقيم معه علاقة "ضيافة" hospitalité، حيث ينزل كلٌّ منهما ضيفًا على الآخر. (إن لكلمتَي hostilité [عداوة] وhospitalité [ضيافة] الجذرَ الاشتقاقي نفسَه: تدل كلمتا hostes وhospes اللاتينيتان على "الغريب".) كلُّ وضع سياسيٍّ وضعٌ نزاعي، أقلَّه بالقوة. على التعايش بين البشر والشعوب أن يصبح سلميًّا، لكنه سيبقى نزاعيًّا دومًا. لذا فإن من أولويات العمل السياسي البحث عن الحل (كلمة "حل" بالفرنسية résolution آتية من اللاتينية resolutio، "فك العقدة") اللاعنفي للنزاعات. فالعنف "يبتر" عقدة النزاع، بينما يسعى اللاعنف إلى "فكِّها".



    السياسة

    إن الفريضة الأساسية للفلسفة السياسية هي بناء مجتمع متحرر من سطوة العنف. ففي المجتمع، يتحقق العدل والسلام بقدر ما تُلغى مختلفُ أشكال العنف من العلاقات بين الأفراد والجماعات. ينتج عن ذلك أن العنف، الذي يرمي إلى الموت دومًا، يتناقض مع مبدأ العمل السياسي نفسه. السياسة والعنف يتعارضان من حيث طبيعتُهما نفسها. مع ذلك، أكدت الإيديولوجياتُ السائدة العكسَ على الدوام بقولها بأن العنف ملازم للعمل السياسي. فاللجوءُ إلى وسائل العنف بحسب هذه الخطابات أمر لا مفرَّ منه في السياسة، وهو مشروع لأنه هو وحده الذي يتيح الفعالية في العمل. فالتخلي عن العنف هو تخلٍّ عن العمل السياسي نفسه والهروب إلى المثالية. وحتى عندما تسلِّم هذه الإيديولوجيات بأن العنف لا يجوز تبريره من وجهة نظر الأخلاق المحضة، فلكي تؤكد أكثر أنه لا تجوز إدانته من وجهة نظر الواقعية السياسية. في الواقع، في مواجهة كل ما يرتكبه العنفُ مما لا يعوَّض عندما يصير الأداةَ النوعية للعمل السياسي، ليس من الضروري المواربةُ عبر تأملات أخلاقية من أجل الطعن فيه؛ فالواقعية السياسية نفسها تأتي بحجج عديدة للحط من شأن العنف – وهذه الحجج مُلزِمَة. تولد المدينة السياسية حين يقرر نساءٌ ورجال، يُعترَف بتساويهم وتشابُههم، أن يلتقوا للعيش معًا، أي للتكلم معًا واتخاذ القرار معًا والعمل معًا لبناء مستقبل مشترك. إن هذا "التكلم معًا" وذلك "القرار معًا" وذاك "العمل معًا" هو عماد الحياةَ السياسية. فما يفتتح العملَ السياسي ويؤسِّس له هو الكلام المتبادل والنقاش الحر والتحادث بين المواطنين، أي التداول العام والمناقشة الديموقراطية. فتأسيس مجتمع يُختصَر، حرفيًّا، في خلق شراكة. وهذه الشراكة تعبِّر عن نفسها عبر دستور، أي عقد اجتماعي يُقِر من خلاله المواطنون المشروعَ السياسي الذي ينوون تحقيقه معًا. إن ما يؤسِّس للشأن السياسي ليس العنف إذن، بل عكسه مطلقًا: كلام الإنسان. وللمناسبة، فالنظام التوتاليتاري يتميز بإلغاء تام لأي فضاء عام تكون للمواطنين فيه حريةُ التعبير والعمل معًا. إن جوهر الشأن السياسي نفسه هو، إذن، حوار البشر فيما بينهم. وعليه، فإن نجاح الشأن السياسي هو نجاح هذا الحوار. ولأن ظهور العنف بين الناس يعني دائمًا إخفاق حوارهم، فالعنف يعني على الدوام إخفاق الشأن السياسي. جوهر العمل السياسي هو عمل الأفراد بعضهم مع بعض. أما عندما يعمل الأفراد بعضهم ضد بعض، فهم ينسفون أسسَ المدينة السياسية نفسَها. أجل، إن حياة البشر داخل الجماعة الواحدة قد تعكِّر صفوَها في أية لحظة نزاعاتٌ يثيرها أفرادٌ لا يحترمون الميثاقَ المؤسِّس أو التحالف الأصلي. لذا ينبغي حلُّ هذه النزاعات لإعادة إحلال السلام الاجتماعي وجعل الحوار ممكنًا بين المواطنين من جديد. إن حلَّ النزاعات شرط من شروط الحياة السياسية، لكنه لا يؤسِّس لها. فالأفراد الذين يلجئون إلى العنف لتحقيق أهوائهم أو إشباع رغباتهم أو تغليب مصالحهم الخاصة يتركون بذلك المكانَ الذي يصاغ فيه ويتحقق المشروعُ السياسي للجماعة التي ينتمون إليها، فلا يعود عملُهم يندرج ضمن الفضاء العام الذي يؤسِّس للمدينة السياسية. لذا ينبغي أن يقوم "عناصرُ السلام" بتحييدهم. وينبغي على عناصر السلام هؤلاء تفضيل الطرائق السِّلمية وعدم اللجوء إلى العنف إلا في حالة الضرورة القصوى. من الأجدى تعريف الشأن السياسي دائمًا وفقًا للمشروع الذي يحمله؛ وهذا المشروع الذي يرمي إلى جمع الناس في عمل مشترك لا يترك أيَّ مجال للعنف. فالعمل السياسي، سواء في غايته أم في كيفياته، ينسجم عضويًّا مع اللاعنف. إن فلسفة اللاعنف تعيد وضع المدينة السياسية ضمن منظورها الحقيقي وترد إليها أبعادَها الحقيقية. فإذا كان العمل السياسي يتميز في الواقع بكونه لاعنفيًّا، فإن العنف، بطبيعته نفسها، "ضد السياسة" anti-politique، أية كانت ضرورتُه في بعض الأحيان. في أحسن الأحوال، ربما جاز التسليم بأن العنف "قبل سياسي" pré-politique بمقدار ما يسبق العمل السياسي ويعيِّن لنفسه هدفَ الإعداد له وجعله ممكنًا. ينبغي أن يرمي العملُ السياسي إلى إحلال السلام في الحياة الاجتماعية، بحيث يتمتع جميع المواطنين بفضاء يمكن لهم ضمنه أن يعيشوا بكلِّ أمان وبكلِّ حرية. تتطلب السياسةُ إتقان فنِّ الإدارة اللاعنفية للنزاعات التي تطرأ بين المواطنين داخل المدينة. وهذا ينطوي على ترسيخ السلام الاجتماعي بوسائل سِلْمية. وفي هذا المجال، ليس كل شيء ممكنًا، ولكن، في كلِّ مؤسسة، ينبغي على الأشخاص الذين يتبوأون مناصبَ مسؤولية التحلِّي بالإرادة السياسية لاختبار كل ما هو ممكن.



    الشُّرْطة

    ينبغي لكلِّ مجتمع أن يتجهز بجهاز شرطة يكلِّفه مهمةَ "حفظ النظام" و"فرض احترام القانون". إن لكلمة police ["شُرْطة"[1]] الأصلَ الاشتقاقي نفسَه لكلمة politique ["سياسة"]، وهي ذات صلة بحُكْم "المدينة" [polis باليونانية]. فمرمى العمل الشُّرَطي، كمرمى العمل السياسي، هو إحلال السلام في الحياة الاجتماعية، أي بناء مجتمع متحرر من سطوة العنف. وظيفة الشرطة هي المساهمة في ضمانة حريات المواطنين وفرض احترام حقوقهم وضمان أمنهم. ينبغي على عناصر الشرطة أن يكونوا حرفيًّا "عناصر سلام"، أي أنهم ينبغي أن "يصنعوا السلام" بين الأفراد والجماعات التي تعيش في المدينة نفسها. لذا ينبغي على الشرطة تحييدُ مثيري العنف وكفُّ أذاهم. فوظيفة الشرطة هي أساسًا وظيفة "مضادة للعنف". ينبغي إذنْ إعمال الوسائل الأكثر فعالية لبلوغ الغاية المنشودة. والوسائل الأنسب لصنع السلام هي وسائل سلمية. نقع هنا على مبدأ فعالية إستراتيجية العمل اللاعنفي: ينبغي على الوسائل المعمول بها أن تنسجم مع الغاية وأن تتناغم معها. إذًا فالمهمة الرئيسية للشرطة هي درء النزاعات، وحلها عند الاقتضاء، وذلك باللجوء إلى الطرائق اللاعنفية للتوسط والوساطة والمصالحة. لذا فمن الضرورة الماسة أن يتضمن التأهيلُ المقدَّم في مدارس الشرطة تدريبًا على هذه الطرائق كلما كان ذلك ممكنًا. مع ذلك، قد تضطر الشرطة إلى استخدام طرائق "إكراه بدني" – بالمعنى الحرفي لهذه العبارة – بغية تحييد مثيري العنف وكفِّ أذاهم. هناك مواقف بعينها يصعب فيها، من دون اللجوء إلى العنف، تحييدُ فرد أو عدة أفراد مسلحين يهددون حياة الغير. إلا أنه حتى في ظروف كهذه ينبغي فعل كلِّ ما في الوسع لنزع سلاح الجاني أو الجناة وإلقاء القبض عليهم مع تجنُّب جرحهم أو قتلهم. فإذا وقع، على الرغم من كلِّ شيء، موتُ إنسان على أيدي الشرطة، يُعَدُّ ذلك فشلاً يحظر أيَّ "إعلان عن النصر". وإذا أخفقَتِ الشرطةُ في إعادة إحلال السلام الاجتماعي دون استخدام العنف القاتل، فإن المجتمع برمَّته يشترك في المسؤولية عن هذا الإخفاق. عندما ترفض الديموقراطية الاعتراف بعنفها بوصفه فشلاً فإنها تبدأ بنفي نفسها بنفسها. يجدر هنا التساؤل عما إذا كان في الإمكان سَنُّ عُرْف عام يقوم إبانه ممثلٌ عن الدولة، كلما تسبَّب استخدامُ قوى الشرطة في موت إنسان، بالاعتراف بأن ممارسة العنف القاتل، حتى وإن كان ضروريًّا ذلك العنف، هو دائمًا مأساة ومصيبة وفشل – وأنه ينبغي إذن أن يعاش كحالة "حِداد". إن وجود حالات قصوى تُفرَض فيها ضرورةُ اللجوء إلى العنف لا يمكن له أن يفيد ذريعةً لردِّ الاعتبار للعنف كوسيلة اعتيادية وسوية لتأمين النظام العام وإعادة إحلال السلام الاجتماعي. ولكي لا يصير الاستثناءُ قاعدةً، بل يأتي على العكس ليؤكدها، من الضروري أيضًا اعتماد الصرامة في احترام هذه القاعدة. وهذه القاعدة ينبغي أن تكون الحل اللاعنفي للنزاعات. غير أن الواقع هو أن الدول الديموقراطية نفسها تتساهل في العنف الشُّرَطي، حتى فيما يتعدى عتبة الضرورة الصارمة: إذ يتمتع رجالُ الشرطة بالإفلات من القصاص نسبيًّا في ممارسة وظائفهم، سواء في أثناء الاستجوابات في أقسام الشرطة أم إبان تفريق المظاهرات العامة؛ وهو ما قادهم إلى الاعتقاد بأن من المسموح لهم ارتكاب أفعال عنف في حق المواطنين غير ضرورية بتاتًا لحفظ الأمن العام، إذ توجَّه شتائم وتسدَّد ضربات لا يُفترَض التساهلُ فيها في دولة قانون. إن على المواطنين، في هذا الصدد، واجبَ التيقظ الذي ينبغي أن يقودهم إلى شجب هذه المخالفات لمناقب "حراس السلام". إن المشاركين في كفاح لاعنفي، نساءً ورجالاً، مدفوعون دفعًا طبيعيًّا إلى مواجهة رجال الشرطة المكلفين "حفظ النظام" و"فرض احترام القانون". ينبغي أيضًا التفاوض على هذا اللقاء، الحتمي بقدر ما هو غير مرغوب فيه، وذلك بحسب قواعد اللاعنف. وهنا تنضم الحجج ذات الطابع الأخلاقي إلى الحجج ذات الطابع التكتيكي لتبرير اتخاذ موقف تهذيب صارم حيال رجال الشرطة. إن التعبير عن الازدراء في حق أعضاء قوى الأمن، سواء بشتمهم أو برميهم ببلاط الشوارع[2]، هو، أولاً، ظلمٌ في حق أناس لا ترتبط مسؤوليتُهم الشخصية ارتباطًا مباشرًا بقضايا النزاع الجاري. فـ"عدمُ تمييز العدو" خطأ فادح دومًا. فضلاً عن ذلك، فإن كثيرين منهم، على الأرجح، لم "يختاروا" هذه المهنة إلا تحت ضغوط وضعهم الاجتماعي. إن موقف الازدراء حيال رجال الشرطة لا يمكن له أن يثير لديهم سوى النفور من المتظاهرين ويحتجزهم ضمن منطق دورهم كعناصر قمع، في حين أن بعضهم قد يتساءل قطعًا عن شرعية الأوامر التي يتلقاها. فحالما يشعرون أن عنف المتظاهرين يهددهم، سواء ظل كامنًا أو صار فعليًّا، لن يترددوا في اللجوء بأنفسهم إلى العنف، لا لشيء إلا ليدافعوا عن أنفسهم. فرجال الشرطة هم أيضًا بشر يعرفون الخوف. خلاصة القول إنه لدى الخروج من دوامة العنف هذه، تبقى يد القانون هي العليا بالضرورة. على العكس، إذا أظهر المتظاهرون للملأ صراحةً عزمَهم على الحفاظ على موقف لاعنفي، فإن من شأن هذا الموقف أن ينزع فتيل عداوة الشرطة لهم؛ ونتيجة ذلك قد تتغير طبيعة المواجهة نفسُها بين هؤلاء وأولئك تغيرًا عميقًا. ولهذه الغاية، يجدر القيام قبل العمل بحملة إعلامية موجَّهة إلى الشرطة. وإذا أمكن، فمن المفيد أن تتم اتصالات شخصية معهم، سواء مع المنفِّذين البسطاء منهم أم مع المسؤولين، وأن تبيَّن لهم صحةُ الغاية المنشودة والوسائل المستعمَلة على حدٍّ سواء. ينبغي عندئذٍ السعيُ إلى إقناعهم بأنهم سيُحترَمون في وظيفتهم كـ"حراس للسلام" وبأن عمل المتظاهرين لن يهددهم بتاتًا. وبهذا يمكن السعيُ للحصول على تفهُّمهم، وحتى على تعاطفهم ربما. تُظهِر خبرةُ الكفاح اللاعنفي ما يلي: ليس عبثًا حضُّ رجال الشرطة على عصيان الأوامر غير الشرعية، أو على الأقل غير القانونية، التي تأمرهم باللجوء إلى العنف ضد المواطنين في أثناء تأديتهم وظيفتهم. ففي الواقع، ليس للمواطنين ولا للشرطة أي سبب وجيه لكي يعدُّوا بعضهم بعضًا أعداء. لكنْ ما من شيء يضمن أن اللجوء إلى طرائق العمل اللاعنفي سينزع فعليًّا فتيل عملية القمع الشُّرَطية. كما تُظهِر الخبرةُ أيضًا أن خيار اللاعنف لا يكفي لتفادي الضربات والدم المسفوك؛ وقد يكون لا مفرَّ للكفاح اللاعنفي أيضًا من أن يحصيَ جرحاه وقتلاه. ولكنْ عندئذٍ يكون من الواضح جليًّا في نظر الرأي العام أن السلطاتِ العامةَ تتحمل كاملَ المسؤولية عن الفوضى والعنف. وعلى المتظاهرين أن يستعدوا لمواجهة مثل هذا الاحتمال، سواء نفسيًّا أو بدنيًّا. لذا ينبغي على المناضلين، إبان جلسات التدريب، أن يتعلموا كيف يتدبرون ضغطَهم النفسي stress-management ويتَّخذون الوضعيات البدنية التي تتيح لهم أفضل مواجهة لشراسة رجال الشرطة دون أن يلوذوا بالفرار. وبهذا تبقى يدُ القانون هي العليا!



    الإكـراه

    يشكِّل العملُ اللاعنفي رهانًا على قدرة البشر على التعقل، فينهض، في قلب النزاع نفسه، لحمل الخصم على تحكيم عقله بهدف إقناعه بصحة القضية المدافَع عنها. لكن "هداية" الخصم هذه تشكل، بنظر الكفاح اللاعنفي، قصدًا أكثر منه هدفًا. فالهدف المباشر هو إكراه الخصم على الرضوخ دون انتظار اقتناعه. لا يجوز للنضال اللاعنفي أن يقتصر على نقاش فكريٍّ يستهدف إقناع خصمنا بصواب قضيتنا. إذْ يُعتبَر من قبيل الاستخفاف بالواقع السياسي أن يراد اختزالُ العمل اللاعنفي إلى حوار عقلاني يمكن فيه للحق أن يُزهِقَ الباطل بتقديمه برهانًا لا يمكن لأيِّ اعتراض أن يفلح في دحضه. ففي الواقع، لا يندرج الحوارُ الاجتماعي والسياسي ضمن مجال التواصل العقلاني الذي تتنافس فيه المفاهيمُ والأفكار وحدها فيما بينها. فالكلمات نفسها، في أغلب الأحيان، لا تطعن في أفكار بقدر ما تطعن في مصالح، وبهذا فإن قوَّتها على الإقناع تضعف ضعفًا شديدًا. إن العلاقات الاجتماعية والسياسية، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات، هي علاقات سلطة وتقوم على علاقات قوة. ففي مواجهة رهانات السلطة التي تطعن في مصالح متناوئة، لا يتصرف الناسُ، عمومًا، بطريقة عقلانية؛ ولكي يتصرفوا كذلك، لا تكفي مناشدة عقولهم. إن مقتضى العدل وحده، في مواجهة مَن يستفيد من الظلم، من شأنه غالبًا أن ينفِّره من الحوار والمصالحة أكثر من أن يرغِّبه فيهما. إذ إن من طبيعة المطالبة بإحقاق العدل، في البداية، أن تنزع إلى قطع الحوار أكثر منها إلى إقامته: عندما يطالب العبدُ بحريته يقطع متعمدًا الحوارَ الذي كان إذعانُه يجيز له أن يقيمه مع سيده؛ ومن النادر أن يسارع هذا السيد إلى الاقتناع بصواب المطلب المقدَّم له ويقبل بتلبيته على الفور. فقبل أن يقوم حوار جديد ندِّي بين رجلين – إذا اتفق له أن يقوم يومًا – لا بدَّ من مرور وقت طويل. ليس من الميسور، إذن، إظهارُ قوة اللاعنف بمجرد الادعاء أن الحقيقة شاملة وأن الخصم لا مناص له، بالتالي، من رؤيتها والاعتراف بها. فحتى في النزاعات بين شخصين، من الاستهتار المفرط التأكيد على أن أحدَ الخصمين سيسلِّم بالحقيقة حتمًا، شريطة أن يعرف الآخرُ كيف يحترمها في إصرار ومثابرة. ففي هذا المجال، لا شيء محتوم؛ وليست هناك أية حتمية، مؤسَّسة على "قوة الحقيقة"، من شأنها أن تجبر أيًّا كان على الانصياع لحجج المُدافع عن قضية عادلة. لا بل إن المتخاصمين، على مستوى الصراعات الاجتماعية والسياسية، ليسوا أشخاصًا، ولا حتى مجموعات أشخاص، بل مجموعات مصالح؛ ومثل هذه المجموعات لا "تقتنع" عمومًا في سهولة. من هنا، ليس للعمل اللاعنفي من هدف آخر سوى إكراهها. هناك قطعًا بين أعضاء هذه المجموعات بعضُ الأفراد قد يتأثرون بالقضية التي يدافع عنها الخصم؛ وإذ ذاك قد يصبحون المحامين عنها، نوعًا ما، بين شركائهم. إلا أن المرجَّح، في مرحلة أولى على الأقل، ألا يكونوا إلا أقلية ضئيلة، معرضين لخطر أن تدفع بهم جماعتُهم إلى الهامش وتعتبرهم "خونة". غير أن دورهم قد يصير هامًّا، بل حاسم، حين تتغير علاقة القوة في الصراع وتحين بذلك ساعةُ التفتيش عن حلٍّ تفاوضيٍّ للنزاع. كذا فإن الخبرة لا تجيز لنا أن نأملَ أن في إمكان "قوة العدالة" وحدها إقناع مجموعة اجتماعية بوجوب التنازل من تلقاء نفسها عن امتيازاتها والاعتراف بشرعية المطالب التي تقدَّم لها. عندما يتعلق الأمرُ بالكفاح ضد المظالم البنيوية للفوضى القائمة، فإن الإكراه الذي يمارسه العملُ الجماعي، وبخاصة أعمال اللاتعاون والتدخل والمجابهة، هو الحاسم في إنجاح استراتيجيةٍ للعمل اللاعنفي. فالخصمُ يعتبر نفسه مكرَهًا على قبول التفاوض عندما ينفق على متابعة الصراع أكثر مما يستفيد منها، فتكون بذلك متعارضةً مع مصالحه.



    الحوار

    لغةُ العقل هي خاصية الإنسان. فالإنسان يبني شخصيتَه بإقامته مع الإنسان الآخر علاقةً تتأسس على تبادل الكلام. الحوار هو هذه المحادثة بين شخصين أو عدة أشخاص، مع مراعاة الإصغاء إلى خطاب كلٍّ منهم واحترام هذا الخطاب. بين البشر الذين اختاروا العقل، يتم هذا التبادل في منأى عن كلِّ عنف. وعندما يطرأ خلافٌ ما، فإنه قد يؤدي إلى نزاع؛ بيد أنه عبر الحوار أيضًا يجتهد البشرُ العقلاء في إيجاد حلٍّ بنَّاء لهذا النزاع. فالجماعة الاجتماعية والسياسية تتأسس على الحوار الديموقراطي بين المواطنين جميعًا. فهذا "التكلم معًا" هو الذي يشيد بنيان المدينة. تسعى استراتيجيةُ العمل اللاعنفي، في مواجهتها النزاع، إلى إعمال قوة الكلام كلِّها. إنها تصر على استنفاد إمكانات الحوار مع الخصم، من خلال مناشدة عقله في محاولة لإقناعه، بل حتى مناشدة ضميره في محاولة لهدايته. فإذا قَبِلَ النقاشَ، يكون في الإمكان عندئذٍ مباشرةُ تفاوُضٍ معه في سبيل التوصل إلى اتفاق ينصف كلا الطرفين. لسوء الحظ، أمام أفراد يرفضون الإذعان للحق، يتبين أن التماسَ الحوار غير كافٍ للتمكن من فضِّ النزاع. وعلى الأغلب، يتبين أن قوة الكلام، على الرغم من كلِّ شيء، عاجزةٌ عن حَمْلِ المتنفِّذين المدافعين عن امتيازاتهم على التنازل. إن ما يميز عمومًا موقفَ الظلم هو بالدقة تعذُّر الحوار بين المتخاصمين. وعندما يتعذر الحوارُ يتحتم الكفاح. مذ ذاك، لا يمكن للحوار أن يكون وسيلةً لفضِّ النزاع؛ بل إن الكفاح هو الوسيلة لـ"فض" résoudre الحوار، أي لفتحه. ففي حين يخاطر العملُ العنيف بأن يزيد الحوار صعوبةً، من شأن العمل اللاعنفي نفسه أن يعبِّر، طوال فترة النزاع، عن إرادة الحوار. يجب اعتبار الخصم "شريكًا" بالإمكان لا بدِّ من التفاهم معه في المآل. إن وظيفة الكفاح هي إيجاد شروط للحوار عبر إقامة توازُن قوى جديد يجبر صُنَّاعَ القرار على الاعتراف بالفاعلين كمحاورين ضروريين. مذ ذاك، يصبح من الممكن فتحُ باب التفاوض للبحث عن بنود اتفاق يُنهي النزاعَ ويقيم العدل.



    المفاوضات

    في نزاع اجتماعي أو سياسي يختصم فيه الطرفان المتناوئان في قوة على مصالح متناقضة، فإن للطرف الذي يعتقد أنه واقعٌ ضحية ظلم موصوف أن يرى أن لـاختبار قوة وحده أن يتيح له نوالَ الاعتراف بحقوقه. مع ذلك، تقضي مصلحةُ الطرفين المتواجهَين نفسُها أن يلتقيا في محاولةٍ للتحادث بهدف التوصل معًا إلى حلٍّ تفاوضيٍّ للخلاف الذي يختصمان عليه. لذا فإن من حسن التدبير الاستراتيجي، قبل نقل النزاع إلى العلن والشروع في الصراع، اقتراحُ فتح باب المفاوضات. قد يتفق للخصم أن يتأبى من فوره على أي تفاوُض. أما إذا قبل عقد لقاء، فينبغي عندئذٍ إبلاغ ممثلي الطرف الخصم بمطالب الحركة، مع تحديد الهدف المقرَّر بلوغه. وإذا كان ينبغي تجنب أي موقف من شأنه أن يزيد النزاعَ صلابةً من دون جدوى ويعززَ العوائقَ القائمة، مما قد يزيد من صعوبة أيِّ حلٍّ متاح، فمن المناسب إظهار أقصى الحزم والإصرار. وما إنْ تشتبك المفاوضاتُ في توازُن قوى متناوئة مقرَّر في وضوح حتى تجنح هذه المفاوضات إلى التنافس أكثر منها إلى التعاون بكثير. هذا وينبغي للمفاوضات أن تقوم على أساس معايير موضوعية، وليس على معطيات شخصية، كتأكيد حسن النوايا. إن التعبير عن "التفهم" والتأكيد على "دراسة الملف جديًّا" والوعود بـ"فعل كل ما في الإمكان"، التي يمكن للطرف الخصم أن يصوغها، لا يمكن الاكتفاء بها؛ إذ إن القراراتِ وحدَها هي التي يمكن لها أن تقدِّم حلاًّ للنزاع. لذا ينبغي على المتفاوضين أن يجتهدوا معًا في صوغ تسوية من شأنها أن تلبي مصالح كلِّ طرف كأفضل ما تكون التلبية. التسوية الجيدة هي التي تتيح ألا يكون أحدٌ من أركان الصراع خاسرًا، بل أن يكونوا جميعًا رابحين. مع ذلك، فمن النادر التمكن من عقد اتفاق على الفور. فإذا ما وصلت المفاوضاتُ الأولية إلى طريق مسدود، ينبغي تعليقُها، وليس قطعها نهائيًّا، بما أن الهدف من العمل المباشر سيكون استئناف المفاوضات. وقد يكون من المفيد الإبقاء، بقدر ما يكون ذلك ممكنًا، على بعض الاتصالات مع الخصم طوال فترة النزاع. ولعل من الميسور استدعاء وساطة طرف ثالث. وإلا، فإن بمقدور الصراع وحده إتاحة الفرصة لبلوغ اتفاق تفاوضي، وإن كان من شأن المفاوضات الأولية هذه أن تتيح للطرفين إمكانية معرفة أحدهما الآخر معرفةً أفضل وسبر كلٍّ منهما لنوايا الآخر. كما ينبغي لهذا الوقت أن يتيح أيضًا التحضير لاختبار القوة. حالما يتقرر إخفاقُ المحادثات، ينبغي الشروع في الصراع بهدف إيجاد توازُن قوة جديد يجبر الخصمَ ويُكرهُه على استئناف المفاوضات على أسُس جديدة. إنما يُخشى على اختبار القوة أن يطول، لأنه عندما يرفض صُنَّاع القرار أيَّ حلٍّ تفاوضي، لن يقبلوا العدولَ عن موقفهم إلا إذا اقتنعوا بأن مواصلة العداء ستضر بمصالحهم إضرارًا خطيرًا. عندما تبدأ مفاوضات جديدة، حتى وإن استطعنا أن نأمل دون غلوٍّ بأنها ستتيح التوصل إلى اتفاق، تظل هذه المفاوضات اختبارَ قوة بين الخصمين، وليست سلفًا حوارًا بين شريكين. ينبغي إذن "الاحتراس"، وعدم تعليق العمل قبل الأوان، وعدم القيام بشيء وعدم قول شيء من شأنه أن يؤديَ إلى خور استنفار المناضلين والرأي العام؛ إذ إن من الصعب للغاية إعادة استنفارهم من جديد. لا شيء أضَر من "التهليل للنصر" أبكر مما يجب. فقد يكون عرضُ التفاوض فخًّا يُنصَبُ للحركة بهدف كسر عزيمة العمل. ينبغي، إذن، لزوم جانب الحذر. في ظرف خاصٍّ بعينه، ينبغي ربما قبول تسوية ما تتيح للخصم "حفظ ماء وجهه". لكنْ ينبغي عدم التنازل عن شيء من الأساسيات بحجة التوصل إلى تسوية كهذه. فهذه التسوية لا يجوز لها أن تستنكف عن الحكم لضحايا الظلم وللمسؤولين عنه على حدٍّ سواء. إذ ينبغي للنصر أن يكون ملموسًا وغير قابل للجدال فيه. مذ ذاك، يمكن للعيد أن يبدأ...



    القوة

    في معزل عن التمييز الواضح بين "القوة" و"العنف"، فإن استعمال أحد هذين المصطلحين أو كليهما يجازف كثيرًا بمجانبة القصد منهما. فإذا كنا نقصد بـ"القوة" القدرةَ التي تُذِلُّ وتطغى وتعذِّب وتقتل، فسنعدم كلمةً تدل على القوة التي لا تُذِل ولا تطغى ولا تعذب ولا تقتل. فما إن يلتبس مفهوما القوة والعنف واحدها بالآخر حتى يُرتِجَ علينا[1]، فلا يعود في إمكاننا أن نتساءل عما إذا كانت قوةٌ ليست عنيفة موجودةً فعلاً. القوة، بالمعنى الأخلاقي، هي فضيلة الإنسان الذي يتحلى بشجاعة رفض الخضوع لسلطان العنف. الإنسان القوي لا يشهر وسائل الاقتدار والعنف، بل يمتلك حكمة اللاعنف. فمَن يمتلك القوة يسيطر على شهواته ويقاوم إغراء الأهواء الجماعية ويمتلك زمام السيطرة على مصيره. نقيضُ القوة، هاهنا، هو ضعف عدم مقاومة سكرة العنف. لا تستطيع "قوة النفس" هذه، أو هذه القوة الروحية، أن تدعي القدرة بمفردها على مواجهة قوة الظلم التي تؤذي المقهورين مواجهةً فعالة؛ إذْ ليس لكلتيهما المجالُ نفسه. وحدها، في الواقع، القوة المنظَّمة في العمل المعتمِد على العدد تستطيع أن تكون فعالةً في محاربة الظلم واستعادة الحق. من الغلط، إذن، التقليل من شأن القوة باسم الحق، بما أنه لا يمكن، في الواقع، أن يكون للحقِّ من أساس أو ضمان سوى القوة. إن خاصية المثالية هي في كونها تضفي على الحق قوةً مخصوصة تفعل في التاريخ وتكون الأساسَ الحقيقي للتقدم. غير أن كلَّ شيء يبيِّن، على العكس، أن قوة كهذه غير موجودة. بالمثل، فإن من الوهم – كلِّ الوهم – الاعتقادَ بأن هناك "قوة للعدالة" و"قوة للحقيقة" و"قوة للمحبة" تستطيع وحدها أن "تقوى" على المقتدرين لنيل اعترافهم بحقِّ المقهورين. فحتى يستطيع هؤلاء بلوغ الحرية، ينبغي عليهم أن يلموا شملهم ويحشدوا طاقاتِهم وينظمِّوا أنفسَهم ويعملوا. كل صراع فهو امتحان للقوة. وفي سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي معيَّن، تندرج كل علاقة مع الآخرين في علاقة قوة. الظلمُ ينجم عن اختلال في توازُن القوى يسيطر من خلاله الأقوياءُ على المستضعَفين ويقهرونهم. فتكون وظيفةُ الصراع إيجادَ علاقةِ قوة جديدةٍ بهدف إقامة توازُن، بحيث تُحتَرم حقوقُ كلِّ فرد. إذ ذاك، يتمثل العملُ في سبيل العدالة في إعادة توازُن القوى إلى نصابه؛ ولا يتأتى ذلك إلا بإعمال قوة تفرض حدًّا على القوة التي تسبِّب اختلالَ التوازن. من غير الممكن الإزراء بالعنف إلا بردِّ الاعتبار للقوة أولاً، وذلك بمنحها مكانتَها كاملةً والاعتراف بشرعيتها كاملة. ومن الضروري أيضًا، في الوقت نفسه، الطعن في "الواقعية" المزعومة التي تُبرِّر العنفَ بوصفه أساسَ العمل السياسي، وفي "المذهب الروحي" المزعوم الذي يرفض الاعترافَ بالقوة بوصفها ملازِمةً للعمل السياسي. ولمَّا كانت القوة لا وجود لها إلا بالعمل، فمن غير الممكن التنديد بالعنف ومحاربته إلا بتقديم منهج عمل لا يمت بصلة إلى العنف الدامي، بل يكون قادرًا على إقامة علاقات قوة تضمن الحق. ذلكم هو التحدي الذي تريد أن تتصدى له استراتيجيةُ العمل اللاعنفي.



    الكلام

    يتعرف الإنسانُ إلى الإنسان الآخر حين يدخل في محادثة معه. فالتعرف إلى الآخر يعني مكالمتَه. اللغة هي فعل الإنسان العاقل الذي يعزف عن العنف ليدخل في علاقة مع الآخر. إن جوهر الكلام حفاوة ورفق وضيافة وطيبة؛ أما حين يصير الكلامُ عداوةً وعنفًا، فإنه ينفي نفسه بنفسه. جوهر اللغة لاعنف. والتعنيف يعني دومًا إسكاتَ المرء؛ وحرمانُه من كلامه يعني حرمانَه سلفًا من حياته. بما أن الإذعان صامت، وبما أن أول تواطؤ مع الكذب والظلم هو السكوت عنهما، فإن أول عمل لاتعاوني سيكون قطع هذا الصمت بالتكلم جهرًا لإظهار متطلبات الحقيقة ومطالب العدل. وإن أول مقاومة ضد الظلم هي القيام بفضحه على الساحة العامة. واسترداد الحق في الكلام هذا هو سلفًا استردادٌ للسلطة: فبه ينكسر احتكارُ الكلام الذي تدَّعيه لنفسها السلطاتُ القائمةُ التي تتكئ قوَّتُها على إذعان "الأغلبية الصامتة". ولكن حالما يتكلم الفرد استنكارًا للنظام القائم واحتجاجًا على ظلمه، يجازف بالانصياع لمراودة العنف. فبالضبط لأن الكلام العنيف يخرق عمدًا معاييرَ الخطاب التقليدي الذي يدَّعي تبريرَ الظلم، قد يبدو الكلامُ بنظر الإنسان المتمرد استنكارًا جذريًّا للنظام القائم. فلكي يعبِّر الإنسانُ المتمرد عن رفضه تعبيرًا أفضل، يسعى لأن يعبِّر عن نفسه بلغة أخرى غير لغة النظام الذي يستنكره. ففي رأيه أن مراعاة المجاملات اللغوية التي وضعها المجتمع تعني أيضًا قبول الخضوع لقوانينه. ستكون صرخةُ الإنسان المتمرد عندئذٍ تجديفًا، وستنتهك المقدس عمدًا. فعندما يعبِّر تعبيرًا صاخبًا عن غضبه، عن ازدرائه المجتمعَ وحقده عليه، يشعر بالتحرر من القيود التي كانت تريد إرغامَه على السكوت. عنف المضطهَدين والمستبعَدين إنما هو، في الأعم الأغلب، وسيلة تعبير أكثر منها وسيلة عمل. فهو ليس بحثًا عن الفعالية بقدر ما هو مطالبة بهوية: "أنا عنيف، إذن أنا موجود." العنف وسيلة الأشخاص الذين لا يظل وجودهم نفسُه مجهولاً فحسب، بل متجاهَل، لنيل الاعتراف بهم. والعنف إذ ذاك هو وسيلة للتمرد على هذا التجاهل. فلأنه لم يُتَحْ لهم التعبير عن أنفسهم والتواصل عبر الكلام، يحاولون التعبير عن أنفسهم عبر العنف. وهذا العنف يحلُّ محلَّ الكلام الذي أُنكِرَ عليهم. يريد العنف أن يكون لغة، وهو يعبِّر أولاً عن معاناة؛ فهو "نداء استغاثة" ينبغي تأويله بوصفه كذلك. لكن من الوهم الظن بأن قوة الكلام تتناسب طردًا مع عنفه. ففي الواقع، هناك تناقُض جذري بين الكلام والعنف: فالأول يتوقف عندما يبدأ الآخر. كلامٌ يصير عنفًا ينفي نفسه ككلام. فمن فادح الغلط إذنْ الضرب عرض الحائط بفرائض العقل للتنديد بالذرائع الكاذبة التي يتذرع بها الأقوياءُ في محاولة للتمويه عن مظالم النظام القائم. فحين تستسيغ لغةُ التمرد الشتمَ والسبَّ في حقِّ الخصم، فهي لا تُعبِّر سوى عن صرخة، أي عن كلام غير واضح، وبالتالي، غير مسموع وغير مفهوم. فالخطاب العاقل وحدَه قادرٌ على فضح سفسطات الخطابات الرسمية وتناقضاتها وأكاذيبها التي يُطلَبُ من المواطنين تأييدُها صامتين. إنَّ مظاهرة جماهيرية تنظَّم في الشارع هي تحديدًا تكلُّم جماعي يبادر إليه مواطنون ينوون ممارسةَ حقهم في الكلام. ويمكن التعبير عن هذا التكلم العلني بطريقة ملموسة من خلال مناشيرَ وملصقات وكتابات جدارية ("جعْل الجدران تنطق") ولافتات قماشية ويافطات وشعارات وأناشيد. فحتى من أجل فعالية المظاهرة تحديدًا، لا بدَّ من أن يبقى الكلام الذي يرافقها لاعنفيًّا. كما أن الهدف من المظاهرة هو دعوة وسائل الإعلام (صحف، إذاعات، قنوات تلفزيونية) لـ"منح الكلام" للمتظاهرين. ولهذا الغرض يمكن تنظيم مؤتمر صحفي أو أكثر. إن إضفاء المسالمة على الكلام واحدة من فرائض اللاعنف. إذ ينبغي على كلِّ كلام ضد الظلم والعنف والحرب، لكي يكون فعليًّا، أن يكون كلام سلام. فعنفُ الكلمات يساهم في الحرب. إن التربية على الكلام اللاعنفي عمليةٌ أكثر بكثير من التربية على الصرخة العنيفة. فسلطان الكلمة يتأتى من صحتها، لا من عنفها. وبهذا فإن الرأي العام يتجاوب مع الكلمة المسالمة أكثر مما يتجاوب مع الكلام العنيف الذي يأخذ في تعنيفه. فالكلمة العاقلة والعمل اللاعنفي يعزِّز واحدهما الآخر، حيث يشدد الكلام على معنى العمل والعكس بالعكس، بحيث يصير الكلام في معمعة الكفاح عملاً والعمل كلامًا. بذا فإن لطرائقِ العمل اللاعنفي، حيال الجمهور الذي يرى ويسمع، قدرةً تربويةً أقوى بكثير من قوة طرائق العمل العنيف. فبينما يُخشى على المظاهرة العنيفة كثيرًا أن تكون مجرَّد مونولوج صاخب ومشوَّش أمام جمهور يبقى غريبًا عن العمل الذي يجري أمامه، لكنْ من دونه، يمكن للمظاهرة اللاعنفية أن تصبح حوارًا حقيقيًّا مع الجمهور الذي يشارك سلفًا في العمل. في نظام استبدادي، يكون مجرَّد التكلم على الساحة العامة للتنديد بظلم الفوضى القائمة عملاً شديد الخطورة. إذ ينبغي على مَن يتحلَّى بشجاعة الإقدام على هذه المخاطرة أن يتوقع مجابهةَ أسوأ صنوف الاضطهاد. ليس للكلام الصحيح، بمفرده، قوةُ إيقاف الظلم؛ ولكنْ لكلمة حق، بمفردها، القدرةُ على وضع حدٍّ للكذب الذي يغطِّي الظلم – وبهذه المثابة فهي منتصرة سلفًا.



    الحقيقة

    إنسانٌ يصرُّ جهرًا على "امتلاكه" الحقيقةَ إنسانٌ خَطِر. إذ إنه لا يتوانى عن الإغارة على الضلال وعن مطاردة الكافرين والزنادقة والمرتدين. فالإنسان الآخر الذي لا يفكر على شاكلته هو عدوه حتمًا: فهو ضال وتجب هدايتُه؛ وإذا رفض الاقتناع، يجب إكراهه على ذلك. عندما تتجمد الحقيقة في معرفة عقائدية dogmatique تصير عامل تفرقة ونزاع وإقصاء وعنف[1]. فالإيديولوجي العَلماني والأصولي الديني يشنَّان المعركة التفتيشية[2] نفسها ضد المنحرفين والضالين والمنشقين والخونة؛ فكلاهما لا يتورع عن اللجوء إلى العنف لإحقاق الحقيقة. بذا تصير الحقيقةُ لاإنسانيةً وقاتلة: يقتل الإنسانُ باسم الحقيقة. إن الإيديولوجي والأصولي، في الواقع، هما اللذان يضِلان وينحرفان. إذ إن حقيقة الإنسان لا يُكوِّنها مذهبٌ عقائدي يصير سلاحًا لقتال الآخرين من البشر. إنها، قبل كلِّ شيء، محل لبحث وتقبُّل لطلب. تكمن الحقيقة في حكمة عملية تتطلب إعمال العقل والإرادة لبناء علاقة مع البشر الآخرين، عِبْرَ النزاعات نفسها، على أساس الاحترام وحسن النوايا. ومثل هذه العلاقة تستبعد كلَّ سوء نية وكلَّ عنف. إن الإنسان، في طلبه للحقيقة، يصطدم بشكوك كثيرة. لكنه، حتى دون أن يعرف الحقيقة، يتعلم ما هو نقيض الحقيقة: عكس الحقيقة هو العنف الذي يبرِّح بالإنسانية. وبهذا المعنى، يؤسس اللاعنفُ حقيقةَ الإنسان؛ وهذه الحقيقة، ما من أحد يجوز له أن يزعم "امتلاكها"، بل ليس لأحد سوى الاجتهاد للتقرب منها. ما إن تُتصوَّر الحقيقةُ وتُدرَك كإيديولوجيا موجودة خارج الإنسان حتى تصير العلاقة التي يقيمها الفرد مع الحقيقة كالعلاقة التي يعقدها مع غرض تمامًا. إذ ذاك يمتلكها كمن يحتفظ بشيء في حوزته؛ يعدُّ نفسَه مالكًا الحقيقةَ، فيأخذ على عاتقه واجبَ الدفاع عنها كمن يدافع عن ملك له. وهو لن يتورع عن اللجوء إلى العنف، بل القتلُ إذا لزم الأمر، دفاعًا عن الحقيقة. الحقيقةُ ليست خارجةً عن الإنسان. فهي توجد في علاقة الإنسان الحقة مع الإنسان الآخر، أيًّا كان، وإن كان عدوًّا. وهذه الحقيقة تتأسس على الاعتراف بالإنسانية في كلِّ إنسان وعلى احترامها. فهي تريد أن تؤكد نفسها مع الخصم وليس ضده. وبهذا المعنى، يصنع اللاعنف انقلابًا في البحث عن الحقيقة. إن حقيقة اللاعنف تكابَد، تُعاش، وتُبنى ضمن مجتمع البشر. وهذه الحقيقة هي فكر وعمل لا تنفصم عراه: الفكر يوجِّه العمل، والعملُ يمتحن سداد الفكر. وعلى العكس من حقيقة إيديولوجية تتمثل في منظومة أفكار مجردة منغلقة على نفسها، محتجَزة بوضع اليد، وتزعم حيازة تفسير العالم، فإن اللاعنف، في جوهره، مطلب روحي، فريضة وخبرة روحيتان. فما إن تصير الحقيقة في نظرنا فكرةً مجردةً نضفي عليها طابعًا مطلقًا حتى نكون قد دخلنا في منطق عنفي. فإذا كان ادِّعاء اللاعنف لا يهادن، فلأن مهادنة العنف القاتل تبدو له متعذرة؛ وإذا بدا اللاعنف لا يطيق العنف، فلأن العنف في الواقع لا يطاق. إذ كيف تجوز شرعنة اللجوء إلى العنف دفاعًا عن الحقيقة إذا عرفنا أن كلَّ عنف يجرِّح الإنسانية ويبرِّح بها؟ – إنسانيةَ مَن يتكبد العنف، وأكثر من ذلك إنسانية مَن يمارسه أيضًا. العنف شديد الواقعية، فعلي، ملموس، موضوعي في مواقف عديدة، وقد يظهر أحيانًا ضروريًّا، لكنه مع ذلك ليس حقيقيًّا أبدًا. فهو يزيف العلاقةَ مع الآخر دومًا. بذا فإن حقيقة اللاعنف مانعة: إنها تمنع أيةَ خطوة فكرية تهدف إلى شرعنة قتل الإنسان وإلى تبرئة القاتل. ولكن في الوقت الذي يرفض الإنسانُ اللاعنفي أيَّ تنازُل عقلي على صعيد الفكر، قد يضطر إلى قبول تسوية على صعيد العمل. وفي هذا المجال، يكون مجردًا من كلِّ يقين عملي. فالعمل لا يفتأ يدعو إلى التحلِّي بأكبر قدر من التواضع. يجب محبة الإنسانية أكثر من الحقيقة. وهذا يعني أن الحقيقة تبدأ بمحبة الإنسانية. فالتاريخ هنا يشهد – والخبرةُ تؤكد على ذلك كلَّ يوم – أن "الحقيقة" تصير حاملاً للعنف بمجرد أن تَتَمَطْلق [تتخذ صفة الإطلاق] sʼabsolutise ولا تترسَّخ في فريضة اللاعنف. فإذا لم تقضِ الحقيقةُ بنزع شرعية العنف من الجذور، ستأتي لا محالة لحظةٌ يظهر فيها العنفُ بالطبع كوسيلة شرعية للدفاع عن الحقيقة. يتيح الاعتراف بفريضة اللاعنف رفضَ الوهم بتاتًا، ذلك الوهم الذي تحمله الإيديولوجياتُ وجميع الخطابات التي يستوحيها المنطقُ السليم منحرفًا والحماقةُ مستشريةً، وهم أن من الضروري والعادل اللجوءَ إلى العنف دفاعًا عن الحقيقة. إن اللجوء إلى العنف يعني قولاً واحدًا اتخاذ موقع لا يمكن للحقيقة أن تكون فيه. ندَّعي خدمةَ "الحقيقة" والدفاع عنها بالعنف، ولكنَّ "الحقيقة" هي التي تخدم العنف وتدافع عنه في واقع الأمر. وفي هذا التحالف الشاذ، يكون ما يتعزَّز هو العنف، لا الحقيقة. كل شيء يجري وكأن الحقيقة هي التي تحكم لصالح العنف، بحيث يبدو العنف نفسه حقيقيًّا. فالعنف ينتصر سلفًا ويفرض نظامَه مادام حاصلاً على تواطؤ الإنسان فكريًّا. أما في الواقع، فـالعنف ضلالة؛ وضالٌّ كل مذهب يزعم تبرير العنف، أي جعل العنف حقًّا للإنسان. فالعنف يعيق سيرورات الحقيقة التي يمكن لها أن تُخلَق بين البشر. كثيرًا ما يجري الكلام على "قوة الحقيقة". فماذا يمكن أن يكون معنى هذه العبارة؟ يتستر العنف بالكذب دومًا ويتذرَّع به؛ إنه يحتاج إلى پروپاغاندا تفيد مبررًا له لدى مَن يريد العنفُ أن يضعهم تحت تصرُّفه. إن ما يصنع قوةَ العنف هو طاعة الذين يخدمونه للأكاذيب التي يلفِّقها للظهور بمظهر جميل ولضمان سطوته على الأذهان. فجوهر إيديولوجيا العنف هو الكذب. وأول فعل مقاومة يتصدى به الإنسان الحر هو رفض التواطؤ مع الكذب والاجتهاد للحياة في الحقيقة[3]. قوةُ الحقيقة أنها قادرة على فضح كذب العنف؛ وبذا فهي تُضعِفه سلفًا. إذْ إن المنشق، بجرأته على قول الحقيقة، يفتح ثغرةً في الطوق التوتاليتاري للعنف. ليس من العبث أبدًا "قول الحق". فالقول الحق ينطق به إنسان حر يتصادى في ضمائر مَن يعيشون في الكذب، حتى من حيث لا يدرون، وربما أيقظ رغبتهم المكبوتة في حياة كريمة. لكن الحقيقة لا تستطيع إكراه مَن يوصد عقله، مطلِقًا العنان لرغبة العنف لديه. إن قوة الحقيقة قوة بطيئة لا يمكن لها من فورها وقف قوة العنف الوحشية. لذا ينبغي، في النزاعات الاجتماعية والسياسية، أن تُعبِّر الحقيقةُ عن نفسها من خلال العمل. عندئذٍ، تشق الحقيقة لنفسها طريقًا عبر قوة العمل الحقيقي، أي قوة العمل العَدْل، سواء في غايته أم في وسائله. فقوة الإكراه لا تكون سوى ثمرة العمل، وفعاليةُ العمل مشروطة دائمًا، لا يقين فيها، محدودة، نسبية. مع ذلك، حتى عندما تبلغ فعالية العمل اللاعنفي أقصى حدودها، لا يعني ذلك أن العنف يستعيد حقوقَه، بل تبقى فريضة اللاعنف حقيقية. فحتى وإن بدا العنف ضروريًّا، لا يعني هذا أنه شرعي. الضرورة لا تساوي الشرعية. تجرؤ الفلسفة على التأكيد بأن اللاعنف هو التعبير عن حقيقة الإنسان، وعلى التأكيد بالعمل على العالمي في الإنسان. وبتحقيق الإنسان فريضةَ اللاعنف في حياته يحقق إنسانيته حقًّا بصفته كائنًا عاقلاً، ذا ضمير، روحانيًّا.



    الروحانية

    الإنسان حيوان ميتافيزيقي: فيه يكمن طلبُ روحانية حية من شأنها أن ترضي توقَه إلى تجاوُز ذاته؛ روحانية لا تستلبه لمنظومة فكرية جامدة مصنوعة من بُنى ذهنية صنعية، ولا تفصله عن الواقع، بل تفتحه على سر العالم. الإنسان الروحاني، من تلقاء سعيه في طلب المعنى، مقود إلى الانفتاح على الكوني وإلى التساؤل حول الأزلي. إن إحدى العقبات الرئيسية التي ينبغي تفاديها على هذا الدرب هي عقبة الفصل بين التفكير والعمل، بين التأمل والالتزام. لذا يجدر الحفاظ على التوتر بين هذين القطبين: فليكن كل منهما ملتحمًا بالآخر، متثبتًا عليه، متمفصلاً معه. العمل "الصرف" أعمى، إذْ يتعرض لجميع ضلالات الاضطراب؛ والتأمل "الصرف" عاجز، إذْ يخاطر بارتضاء الجمالية والقعود عن العمل. في الإنسان حاجة حيوية إلى التعالي transcendance؛ ولكنْ لا ينبغي البحث عن هذا التعالي حتى أجل غير مسمَّى في السماء: فهو ليس خارج الإنسان. التعالي سرُّ الإنسان. سرُّ الإنسان في الإنسان، لكنه يتعالى عنه. يعاني العيش الذي يطرحه مجتمعُ السوق على الفرد من عوز في المعنى هو نقص روحي. فالمؤسسات التقليدية، السياسية منها والدينية على حدٍّ سواء، فقدت جزءًا كبيرًا من رصيدها. كيف لها، وهي المنشغلة بنفسها وببقائها، كيف لها، وهي الواهنة والفاقدة وجهتَها، أن توفر للبشر القوت الروحي الذي هم في أمسِّ الحاجة إليه؟ لقد هجرتْ دربَ الحكمة الذي يضفي معنًى على الكينونة والوجود والتاريخ. نذير الخطر هو أن عددًا من الشباب كفَّ عن طَرْق أبوابها. فهم يبحثون في جنات مفتعلة عما يشبه المعنى، هربًا من الواقع الذي يصدُّهم وبحثًا عن شعور وهميٍّ بتجاوُز الذات. أما في الواقع، فهم يجدون أنفسهم أمام فراغ وجوديٍّ يضعضعهم ويفكِّكهم. وفي الوقت نفسه، ينتصر العلمُ ويتخذ لنفسه تحدياتٍ جديدة. الثقافة العلمية تلتمع في تطبيقاتها بألقها كله، لكنها تبقى عمياء صماء بكماء أمام تطلعات الإنسان الروحية. إضافةً إلى ذلك، أمست الفلسفةُ علمَ الأساتذة، على شَفا هجران دروب الحكمة – مع أن مهمتها الحقيقية هي الاهتمام لمطالب الإنسان الروحية. لقد انفتح العالم لمرأى الإنسان انفتاحًا غير محدود، وهو يتحداه تحديات غير مسبوقة. وأمام هذا المجتمع المتباهي، بدناءاته وخساساته وإنكاراته وأعمال عنفه، لا ريب أن الإغراء كبير للهروب منه والانكفاء على الذات وزرع أزهار دخيلةٍ لروحانية تتلاشى. إن موقفًا كهذا يقود بعيدًا عن امتحان الواقع والحياة. إنه لَـ"تجديف على الروح" أن نتذرع بإخفاق أعمال البشر، فنذعن لانحطاط العالم وجوره وننغلق في صفائية purisme مستعلية. عندما يرتضي الروحانيون خيبة أمل السياسي، فإنهم أنفسهم يسلكون مسلك الجبناء. فالرجاء الروحي يتشوه إذا لم يتجسد في الزمني. إذ لا يمكن للروحانية أبدًا أن تتملص من المسؤولية السياسية، أي من مسؤولية الإنسان تجاه الإنسان الآخر، خاصةً تجاه مَن يقمعه الظلمُ أو يبرِّح به العنف. تريد الفلسفة، التي تهتم لمطالب الإنسان الروحية، أن تكون حكمة عملية، أي أن تدعو الإنسانَ إلى العمل في بوتقة العالم. ففي مواجهة أزمة المجتمع وفقدان الثقة في الأحزاب التي تحتكر السياسة لنفسها وإفلاس كلِّ مشروع ثوري، يكون الإغراءُ كبيرًا لدى بعضهم بتغذية شعور بالعجز والانكفاء على الذات والعودة إلى الباطن الصرف. غير أن هذا الطريق لا مخرج منه، لأنه يقود البشر في هوامش التاريخ، بعيدًا عن امتحان الواقع، ويجعلهم يقعدون عن أيِّ عمل. قد يكون من شديد الضرر على البشر أن ينقسموا إلى فئتين: أناس يدَّعون تجسيدَ فرائض روحية في حياتهم، مستنكفين اقترافَ "دناءات" السياسة؛ وأناس يطمحون إلى تعاطي السياسة، مستعفين، بحجة "الواقعية"، من إعارة أي اهتمام للفرائض الروحية. وهذا انفصال مرفوض يولِّد، من جهة، مثاليين خالصين، وكلبيين[1] حقيقيين، من جهة أخرى. وما ظلَّت الشقة، لن تنفك "شؤون العالم" تتدهور. ينبغي الإقلاع إقلاعًا نهائيًّا عن فكرة أن التحقق الروحي يمر عِبْرَ التنصل من العمل. فكيف يتأتى للإنسان أن يحقق روحانيته إنْ لم يغامر بنفسه في الساحات العامة للمدن، وإنْ لم يذهب لملاقاة بشر آخرين[2]؟ العمل السياسي ليس لهوًا. إنه لحظة مميَّزة يُمتحَن فيها الصدقُ الروحي. شرف العمل هو نبل روحي. وكل فصل بين السياسة والروحانية لا يمكن إلا أن يؤدي إلى انحراف في كليهما. لا يمكن لأيٍّ من الحدَّين أن يستقل بذاته، ولا أن يتغلب على الحدِّ الآخر. ينبغي على الروحانية والسياسة أن يتحدا من غير أن يمتزجا أبدًا. في الشرق والغرب على حدٍّ سواء، يزعم مشايخ كاذبون أكثر من أن يُعَدوا تعليمَ الروحانية خارج النزاعات، على هوامش التاريخ، في منأى عن المجادلات ومعتركات السياسية، في مأمن من ضوضاء العالم وسورات جنونه. وهناك أناس أكثر من أن يُعَدوا، متذرعين بروحانية متجرِّدة، يحطون من شأن النزاع بحجة أنه يقسِّم البشر بدلاً من أن يوحِّدهم. فغالبًا ما فضلت الروحانيةُ الإحسانَ إلى الفقراء، مُخاطِرةً بإهمال إحقاق العدل للمقموعين. بالمثل، آلت بعض الروحانيات، باسم التناغم، إلى تعليم رفض الانخراط في النزاعات. غير أن تصورًا كهذا عن التناغم إنما هو تصور مغرِّر؛ إذ هو في الواقع يكرس الظلم والفوضى القائمة. فالنزاع لا يكسر التناغمَ، بل يبنيه ويوطِّده. لا، إن ما يفرِّق بين البشرَ ليس النزاع ولا الصراع، بل الظلم واللامبالاة. فوظيفة النزاع إنما هي إيجاد شروط العدل الذي وحده يستطيع توحيد البشر. فـ"الروحانيون"، إذ غابوا عن النزاعات، لم يكن في مستطاعهم سوى تفادي اللاعنف وعدم فهمه حقَّ فهمه. قطعًا لم يقصِّروا، في مناسبات عديدة، في الإسهاب في الكلام على المحبة وفي تمجيد قدرتها الكلِّية، لكن أقوالهم، إذْ كانت مجرَّدة، لم يكن لها من تأثير على الأحداث. وفي غضون ذلك، استمرت النزاعات في التفاقم، موشكةً أن تطلق العنان لأسوأ أعمال العنف. لكنْ بينما كان الروحانيون يتجاهلون النزاعات، لم تكن تلك النزاعاتُ تتجاهلهم: فالروحانيون، إذ كانت النزاعات تلحق بهم، لم يجدوا، في أغلب الأحيان، من حيلة غير اللجوء هم أنفسهم إلى العنف. إذ ذاك ارتضوا العنفَ لأنفسهم، وانتهى بهم الأمر، في الغالب الأعم، إلى شَرعَنَته. لقد أخلى "الروحانيون" الموقع الذي كان ينبغي أن يكون موقعهم، في الصف الأول من مقاومة العنف. وهذا الغياب أقرب ما يكون إلى الفرار. وفي المحصلة، لم يعرفوا العنف حقَّ معرفته. فمعرفة العنف تعني الاعتراف به كإمكان من إمكانات الإنسان الذي يخالف مخالفةً جذريةً الفريضةَ الروحيةَ التي تهيكل إنسانيتَه. العنف موقف ينفي الروحانيةَ كإمكانية في الإنسان بأن يستقبل الإنسان الآخر ضمن إطار احترام "آخرِيته". فطيبُ استقبال الآخر هو الفعل المؤسِّس لهويتي الذاتية: محبة الآخر محبتي لذاتي. فالآخر الذي يظهر في أفقي هو "أنا نفسي" في صورة أخرى؛ والعنف به هو النيل مما يؤسِّسني. مَن يعرف العنفَ يحتقره ويطعن فيه ويطرده، وبالحركة نفسها، يختار اللاعنف. إن جوهر الروحانية هو استبعاد أية صلة ممكنة مع العنف. تدعو روحانيةُ اللاعنف الإنسانَ إلى العمل، في صواب وفعالية، في بوتقة العالم. إن إستراتيجية العمل اللاعنفي تريد التوفيقَ بين فرائض الحياة الروحية وبين قيود العمل السياسي. فاللاَّعنف، كفريضة روحية، هو أيضًا فريضة عملية. إذْ لا يفرض مبدأ اللاعنف الإقلاعَ عن اللجوء إلى العنف ضد الآخرين فحسب، بل ينطوي أيضًا على مكافحة الظلم الذي يبرِّح بالإنسان الآخر. اللاعنف طريقة عمل تتيح لنا وسائلَ عمليةً لمكافحة الظلم مكافحةً فعالة. على أنه بقدر ما يجدر التأكيد على الطابع العالمي للاَّعنف كفريضة روحية ينبغي كذلك الاعتراف بالطابع النسبي للاَّعنف كمنهاج عمل سياسي. إن فريضة اللاعنف الفلسفية، في حدِّ ذاتها، لا تجيب جوابًا مباشرًا وآنيًّا عن سؤال كيفية العمل واقعيًّا في الظرف التاريخي للمكان واللحظة، لكنها تتيح البحث عن الجواب الصحيح. لا يتيح الطابعُ النسبي لفعالية العمل اللاعنفي إضفاءَ النسبية على فريضة اللاعنف الروحية التي تؤسِّس لإنسانية الإنسان وتُهَيكِلُها. فحتى عندما تبلغ فعاليةُ العمل اللاعنفي أقصى مداها، وحتى عندما تبوء بالفشل، تبقى فريضةُ اللاعنف هي هي، ولا يستعيد العنفُ شرعيته من جراء ذلك؛ فحتى وإنْ بدا العنف "ضروريًّا"، فهو لا يعود مشروعًا من جراء ذلك. خيار اللاعنف أصلاً يضفي، في حدِّ ذاته، بُعدًا روحيًّا على عمل الإنسان ويعطي وجودَه معنًى.



    الأصولية

    لقد لعبتِ الأديانُ التاريخية الكبرى، حتى وقتنا الحاضر، دورًا رئيسيًّا في بزوغ الثقافات والحضارات وتركتْ بصمتَها عميقةً في بناء المدن سياسيًّا. غير أنه لا مناص من الاعتراف بأنها، في الأعم الأغلب، تجاهلَتْ فريضةَ اللاعنف الفلسفية وانضمت إلى إيديولوجيات العنف الضروري والشرعي والشريف السائدة. وغالبًا ما هيأتِ الأديانُ البشر، عبر التعليم الجامد لخطاب عقائديٍّ منغلق، للتعصب حيال الآخرين بدلاً من اللطف بهم. وبهذا غذتِ الأديانُ القومياتِ الطائفيةَ التي تجاهر بالتمييز والإقصاء والعنف. لقد تجاهلَتْ، من خلال تحالُفها مع طاغوت العنف، الرهاناتِ الأخلاقيةَ والروحيةَ والميتافيزيقيةَ – وينبغي قطعًا أن نَذكر أيضًا الرهاناتِ اللاهوتيةَ – والسياسيةَ للاعنف. فهي لم تكتَفِ بإقرار أن العنف حق طبيعي للإنسان في إطار الدفاع المشروع عن مصالحه، بل ذهبت في ظروف عديدة إلى تقديس العنف بمنحه مددًا من إلهها. عندما بارك الدينُ العنف، لم يتقدس العنفُ بل تدنَّس الدين. لقد تنجس الدينُ بذلك أيما تنجُّس؛ إلا أن مجرد قبوله التواطؤ مع العنف دليل على أنه كان قد تنجَّس قبلئذٍ. إن الأصولية الدينية هي أقوى حوامل العنف: فما إنْ يستيقن قومٌ أن دينَهم هو وحدَه الدين الصحيح حتى يجيزوا لأنفسهم الادعاء بأنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة، فيقتنعون بأن الله قد أوكل إليهم مهمة الدفاع عنها، وبذلك لا يأخذون على عاتقهم واجب تكفير الزندقات وحسب، بل وواجب قتال الزنادقة أيضًا. الأصولية الدينية – ويعلِّمنا التاريخُ أن الأصولية فخ وقعت فيه جميع الأديان – تولِّد إذًا مباشرةً إيديولوجيا "الجهاد" التي ما انفك لها كل هذا الوزن في تاريخ الأديان. ففي المنطق الأصولي، مادام ليس ثمة قضية أعدل من قضية الله، ليس هناك من عنف أكثر شرعية من عنف الجهاد. هكذا تقدِّس الإيديولوجيا الأصوليةُ العنف. فالقتَلة المتدينون هم من بين أشد القتَلة عتوًّا وأقلهم ندمًا. إن الإنسان الفيلسوف، في بحثه عن الحكمة العالمية – سواء كان مؤمنًا أم لم يكن –، لا يسعه إلا أن يدحض إيديولوجيا الأصوليين ويشجبها ويحاربها. لعل الفلسفة لا تتيح معرفةَ الإله الحق، لكنها تتيح على الأقل التعرف إلى الآلهة الباطلة، من خلال اجتهادها أن تقول عن الله ما ليسه – وهذا حاسم في حدِّ ذاته. الفيلسوف يرفض فكرةَ إلهٍ يأمر المؤمن باللجوء إلى العنف فرضًا لاحترام الإيمان والعقيدة والشرع والنظام. فعند الفيلسوف أن نقيض الإيمان ليس عدم الإيمان بل العنف. ومهما يكن من أمر، فإن الكفر بالله ليس تجاهُل أنه موجود، بل الادعاءُ بأنه يرتضي عنفَ البشر ويبرِّره ويقرهم عليه، والأسوأ من ذلك أنه يمكن أن يأمرهم به. ضمن هذا المنظار، فإن الحقيقة الأولى التي يمكن أن يُعبِّر عنها الإنسانُ العاقل عندما يحاول جاهدًا أن يتفكر في وجود الله هي أن هذا الإله حاشا أن يكون عنيفًا، أن العنف غريب عنه، وأنه متعالٍ عن الغضب والحسد والانتقام. فالله، في كل الاحتمالات، لاعنف محض. ويعلِّمنا العقل، إذن، أن الآلهة التي تتحالف مع عنف البشر وتقرهم عليه وتأمر به أحيانًا تقطن حتمًا في مَجْمع ["پانثيون" panthéon] الآلهة الباطلة. وهكذا فإن "رب الجنود" هو جَزْمًا إله باطل، والإله الحق، بمقدار ما في وسع الإنسان أن يعرفه، لا يمكن إلا أن يكون "إلهًا أعزل". عندما يُقوِّل الإنسانُ إلهًا إنه يقر البشر على عنفهم، فهذا قطعًا ليس كلام الله يعبِّر عن نفسه، بل كلامُ بشر عن الله، وهو كلام بشر مخطئ في كلامه على الله. فالإنسان يحتاج دومًا إلى تبرير عنفه، وعندما يؤمن بإله، فإنه يحتاج إلى إقناع نفسه بأن إلهه يبرر عنفَه. إن ضرورة عزل الله من سلاحه الملحة لهي فريضة فلسفية وثقافية وسياسية. فهي لا تخص المؤمنين فحسب، بل جميع المواطنين الحريصين على بناء عالم مطمئن. إذا كان مبدأ اللاعنف هو أساس الفلسفة حقًّا فمن المناسب التأكيد على أسبقية هذا المبدأ على الاعتبارات "الدينية" كلِّها. ولا يمكن لهذا التأكيد إلا أن يؤدي إلى قطيعة جذرية مع جميع المذاهب الدينية، ليس المتعلق منها بالجهاد وحسب، بل وبالحرب العادلة وبالعنف المشروع. ينبغي على "المتدينين" أنفسهم أن يكونوا في طليعة المتحلِّين بشجاعة القيام بقطيعة كهذه، حتى وإنْ كانت تضع "موروثهم" موضعَ الاتهام. فالإنسان الروحاني – سواء آمن بالله أم لم يؤمن – هو رَجل قطيعة[2]. فهو يحب الأرض حبًّا يجعله غير متعلق بأية أرض بعينها. ليس هناك من تراب مقدس في نظره. فهو مستعد على الدوام أن يترك أرضَه ليمضي سائحًا على دروب العالم، حرًّا في الشمس والمطر والثلج أو الريح. لقد اعتدنا أن نعزو أعمالَ العنف التي ندينها إلى مختلف أنواع التطرف. إلا أن الأصوليات ليست ممكنة إلا عبر الأرثوذكسيات. فهذه تبرِّر سلفًا شطط الأصوليين من خلال بناء مذهبَي العنف المشروع والحرب العادلة ومن خلال تبرير الاستخدام العاقل للعنف؛ إذ إن العنفَ غيرُ عاقل، وهو شطط في حدِّ ذاته. ينبغي، لمحاربة عنف الأصوليات، العمل على مطاردته حتى مخابئه، حيث يحتمي وسط الأرثوذكسيات، وعلى إخراجه منها. الأحرى بالأديان، بدلاً من أن تدعي أنها جميعًا أديان سلام، أن يكون لديها من الشجاعة الروحية والأمانة الفكرية ما يجعلها تقر بأنها جميعًا كانت أيضًا أديان حرب. وهذا ما يضطرها إلى الاعتراف ليس فقط بأخطائها، بل وبغيِّها خصوصًا. وعليه، فإن اعتراف الدين بغيِّه أصعب بكثير من اعترافه بأخطائه، ذلك لأن الأخطاء لا تتهم إلا البشر، بينما الغي يتهم الأديانَ نفسَها مباشرة. من الضروري، بل ويُستحسَن، أن يتوب المرءُ عن أخطائه، لكن الأهم منه أيضًا هو اعترافه بأن أخطاءه هذه قد سبَّبها وبرَّرها الغيُّ – غي في المذهب وغي في التفكير – وبأن الطريقة الوحيدة للرجوع عن غيِّه هو تصحيحه.



    الفلسفة

    الفيلسوف philo-sophe (من اليونانية: فيلو philo، "صداقة" أو "محبة"، وصوفيا sophia، "حكمة") هو الإنسان محب الحكمة بحثًا عن حقيقة الحياة ومعنى الوجود وعقل العالم. لقد تعلَّم أن لا أحدَ يحق له ادعاء امتلاك الحكمة وأن لا نهاية لبحثه. إن مآل الفيلسوف – أي كل إنسان باحث عن المعنى –، في تفكُّره في الوجود، أن يكتشف أن الكائن الإنساني لا يبني نفسه في علاقته مع مطلَقات – الكون، الخير المطلق، الإلهي – بقدر ما يبني نفسه في علاقته مع الإنسان الآخر. فماهية الإنسان الأخيرة ليست "كينونته في العالم" être-au-monde، بل "كينونته في الآخرين" être-aux-autres. إذ تبين الفلسفة أنه بواسطة علاقته مع الإنسان الآخر يستطيع الإنسانُ أن ينفتح على التسامي transcendance. مذ ذاك، ترى نظرةُ الفيلسوف في العنف الذي يُفسِد جذريًّا علاقتَه مع الإنسان الآخر تعبيرًا أساسيًّا عن الشر والشقاء. يخشى الفيلسوفُ العنف: لا العنف الذي قد يتكبده، بل العنف الذي قد يرتكبه. ففي تأمُّل الفيلسوف في فناء الإنسان، يصل إلى التفكير بأن فضيحة الوجود الحقيقية ليست في كون الإنسان فانيًا، بل في إمكانية أن يصير قاتلاً. فهو يريد استئناس الموت، لكنه يرفض أن يرتضي القتل. الحكمة هي خشية القتل أكثر من الموت. ليس اللاعنف فلسفة ممكنة، ولا هو بإمكانية من إمكانيات الفلسفة، بل هو المبدأ الذي يُهيكِل حقلَ التفكير الفلسفي. ما من فلسفة يجوز أن تنتسب إلى الحكمة إنْ لم تُقِرَّ بأن فريضة اللاعنف تندرج كتعبير لا يُدحَض عن إنسانية الإنسان وأنها مكوِّن من مكونات الإنساني في البشري. إن تجاهُلَ هذه الفريضة أو، أسوأ من ذلك، رفضَها، يعني التنازل عن التفكير في العمل البشري وتركه يخوض في أوحال قلاقل التاريخ؛ يعني الحكم على الفكر إما بمثالية عاجزة وإما بواقعية التسلط؛ يعني قبول طلاق لا رجعة فيه بين الفكر والعمل. لقد تقهقرت الفلسفةُ، للأسف، طوال قرون، أمام الإيديولوجيا التي تمجِّد شجاعةَ الأبطال الذين يخاطرون باللجوء إلى العنف لقتال الأعداء والكفار والأشرار من كل صنف. وبهذا توجد فلسفات آثمة عديدة تبرِّر القتل. إن تجاهُلَ فريضة اللاعنف يعني اليأس من التفكير في صلة الأخلاق بالسلوك؛ يعني نفي أن في إمكان الإنسان أن يتحرر، بالفكر والعمل، من نير الضرورة المحتوم؛ يعني الإنكار على الإنسان قدرته على ابتكار حركة حرة يمكن لها أن تعتقه من الحتمية وتتيح له أن يصبح كائنًا عاقلاً. هذا ما تنهض للتأمل فيه فلسفةٌ تكتشف في أساسها مبدأ اللاعنف. هذا المبدأ غير مطروح قبْليًّا، لكنه مطروح للتفكر؛ ولدى التفكر فيه يتبين أنه عالمي. كذلك، قد يكون من قبيل طرد العقل التفكيرُ في الإنسان في علاقته بالعنف دون تصور فريضة اللاعنف والتأكيد عليها. فلأن العنفَ هو نفي الإنسانية من الإنسان، يظهر الخيار اللاعنفي كحدث رئيس يفتتح المعرفةَ الفلسفية. وفي مواجهة نوازع العنف القوية، الحاضرة دومًا، لا يعرف الإنسان شيئًا مادام لم يدمج في فكره وفي موقفه وعيَ الخاصية اللاإنسانية طبعًا للعنف. وفي مواجهة إغراء القتل المهدِّد دائمًا، تمنح فريضةُ اللاعنف حياةَ الإنسان رجاءَ المعنى والتسامي. إن القول بأن مبدأ اللاعنف هو أساس الـفلسفة لا يعني أنه ليس هناك إلا فلسفة واحدة للاَّعنف، بل يعني أن مبدأ اللاعنف موجود في القلب من كل فلسفة تنتسب إلى الحكمة؛ وهذا يعني، في عبارة أخرى، أن مبدأ اللاعنف موجود في ملتقى جميع الفلسفات. إذ توجد قطعًا مقاربات فلسفية عدة لمبدأ اللاعنف. فالفكر الفلسفي يمكن له أن يتطور تبعًا لعدة "بؤر" تفكير: بؤرة المعرفة الحق، بؤرة العمل السليم، بؤرة الرجاء المتاح... ناهيكم أن الفيلسوف الذي يستلهم موروثًا ثقافيًّا شرقيًّا بعينه لا يعتمد المقاربة نفسها التي يعتمدها فيلسوف تغذى بموروث ثقافي غربي بعينه. مع ذلك، فهُما يتفقان على المسائل الجوهرية: يقولان الحكمةَ نفسَها ويعيشانها. حوارهما لن يكون مبارزةً duel، بل تناغم ثنائي duo. إن كل فلسفة لا تنزع عن العنف شرعيته ولا تختار اللاعنف تخطئ هدفَها. إنها تشوِّه نفسَها، بل تمحق نفسها. عجبًا لبعض الفلاسفة يملئون مقالاتٍ كاملةً بأفكار فقيهة، كثيرًا ما تكون مرموقة، حول معنى الوجود الإنساني دون أن يتصدوا أبدًا للسؤال، الأولي، الذي يطرحه العنفُ على العقل والضمير، ودون أن يكتشفوا الحقيقة، البيِّنة، التي مُفادها أن العنفَ الممارَس على الإنسان الآخر يَصِمُ تاريخَ الإنسان باللامعنى! إن العنف – وكله صنيعةُ أيدٍ بشرية – الذي يُراكِمُ في التاريخ دمارًا وآلامًا وفظائع وميتات، هو فضيحة هذا العالم حقًّا؛ وكل فلسفة لا تستنكره استنكارًا جذريًّا تطلق له، في المحصلة، العنان ليتفجر في التاريخ. إذ إنها في الأقل تتواطأ غيابيًّا مع الإيديولوجيات التي تنادي إلى القتل دفاعًا عن قضايا عادلة، تخاطر عندئذٍ بأن تصبح كريهة؛ تصدِّق الپروپاغاندا التي تبرِّر القتلَ بصياغتها لغةً خطابية تقدِّم، من خلال تزويرات الحقيقة الممكنة كلِّها، ذرائع مقنعة لأسوأ الممارسات؛ تكفل المجازرَ التي لا تُحصى والتي تضرِّج على الدوام أرضَ البشر بالدماء. تفتتح الفلسفةُ عصرًا جديدًا بتأكيدها جهرًا على تفوُّق فضيلة اللاعنف.



    اللاعنف

    عندما يتم التطرقُ إلى "اللاعنف"، ينبغي إجراءُ تمييز يسبِّب إغفالُه التباساتٍ كثيرةً والإصرار على هذا التمييز: التمييز بين فريضة اللاعنف الفلسفية وبين استراتيجية العمل اللاعنفي. فهذه وتلك تتموضعان على صعيدين مختلفين يجدر التمييز بينهما، لا للفصل بينهما، بل لتفادي الخلط. فاللاعنف، كمبدأ فلسفي، هو طلب المعنى؛ أما كمنهاج عمل، فهو البحث عن الفعالية. إن المهاتما غاندي هو مَن قدَّم للغرب كلمةَ "لاعنف" nonviolence، مترجِمًا إلى الإنكليزية مصطلحَ ahimsa السنسكريتي، المألوف في نصوص الأدبيات الهندوسية والجَينية والبوذية. وهو يتألف من بادئة النفي a- ومن اسم himsa الذي يعني الرغبة في إيقاع الأذى بكائن حي، في "تعنيفه". الأهِمْشا هي الاعترافُ برغبة العنف الكامنة في الإنسان – تلك الرغبة التي تقوده إلى إرادة إبعاد الآخر وإقصائه وإلغائه والتبريح به – واستئناسُ هذه الرغبة والسيطرةُ عليها وتحويلُها. فإذا أخذنا بالاشتقاق، فإن ترجمةً ممكنةً لـأهِمْشا هي "براءة" in-nocence. إن اشتقاقَي هاتين الكلمتين بالفعل متماثلان: كلمة in-nocent مشتقة من اللاتينية in-nocens، وفعل nocere ("أساء"، "آذى") مشتق هو نفسه من لفظة nex أو necis التي تعني "الموت العنيف" أو "القتل". كذا فالبراءة[1] هي، بالمعنى الدقيق للكلمة، فضيلةُ مَن لا يجعل نفسَه مذنبًا بأيِّ عنف قاتل بحق الآخرين. غير أن كلمة "براءة" تذكِّر بالأحرى، في أيامنا هذه، بالطهارة المشكوك فيها لمن لا يرتكب شرًّا عن جهل وعجز أكثر منه عن فضيلة. فالموقف اللاعنفي لا يجوز الخلط بينه وبين تلك "البراءة". غير أن لهذا الاعوجاج في المعنى دلالتَه: فكأن عدم ارتكاب الشر يشي بضرب من العجز! إن خيار اللاعنف يردُّ الاعتبارَ للبراءة بوصفها فضيلة الإنسان القوي وحكمة الإنسان العادل. عندما يختبر الإنسانُ العنفَ ويباعد بينه وبين انفعالاته من أجل أن يتفكر، فإنه يقر بالعنف انتهاكًا لكرامة الإنسانية، فيه وفي الإنسان الآخر؛ وفي الآن نفسه، يكتشف مطلوب اللاعنف الذي يحمله في داخله. وتكتشف الأنا التجريبيةُ نفسَها عنيفةً وتسمِّي نفسَها كذلك لأنها ترجع إلى أنية داخلية تتطلب اللاعنف. مطلب الضمير هذا متأصل في الإنسان قبل أن يصادف العنف: إذ إن فريضة اللاعنف تسبق رغبة العنف وتعلو عليها؛ فهي أصلية ومبدئية. مع ذلك، لا يعي الإنسانُ لاصوابية العنف ولاإنسانيتَه ولامعناه إلا بعد اختباره. عندئذٍ، يفهم أنه لا يمكن له بناءُ إنسانيته إلا حين يجابه العنف بـ"لا" قطعية تأبى أن تضفي عليه أيةَ شرعية. فقول المرءُ لا للعنف، بجزمه أن فريضة اللاعنف تؤسس لإنسانية الإنسان وتُهيكِلُها، يعني رفضَ الولاء الذي يتطلبه العنفُ من كلِّ أحد. إن التنكر لهذه الفريضة يعني إنكار الإمكانية الإنسانية لكسر قانون الضرورة، يعني أن ننكر على الإنسان حريةَ الانعتاق من القضاء المحتوم ليصبح كائنًا عاقلاً. طموح اللاعنف هو تمدين الحياة. إن مَن يختار اللاعنف هو إنسان مدهوش، يجعله العنفُ مشدوهًا stupéfait بالمعنى الحرفي للكلمة[2]، سواء كان العنف عنفه هو أو عنف سواه. فمن يصمِّم على اللاعنف إنسانٌ يجرِّحه العنف. يظهر له تشويهُ الوجه بالعنف بوصفه ذروة "الخساسة" ab-jection، ويحرض فيه التمرد. إنه يخرج على رتابات العنف التي تستولي على العالم. فليس الموت هو الذي يبدو له إنسان رخيصًا، بل القتل. إنه يرى في عار العنف بداهة اللاعنف. كثيرًا ما قيل إن كلمة "لاعنف"، كونها جاءت في صيغة النفي، أُسيء اختيارُها وتُبقي بذاتها على عدة التباسات. لكن ينبغي التشديد، أولاً، على أن النفي ليس مفردًا بل مثنى، مادمنا نعتبر أن العنف هو انتهاك حرمة الحياة – وهذا يضفي على هذه الكلمة صفةً توكيدية –، خاصةً أن كلمة "لاعنف" حاسمة بسلبيتها عينها، لأنها تتيح – وتتيح وحدها – نزع الشرعية عن العنف. إنها المصطلح الأصح للتعبير عن المقصود: رفض جميع عمليات الشرعنة والتبرير التي تجعل من العنف حقًّا من حقوق الإنسان. وإذا كانت كلمة "لاعنف" صريحةَ النفي من حيث صيغتُها، فإنها لا تعني أن اللاعنف هو نفي العنف، بل تعني أنه يتخذ موقف تصدٍّ حقيقي للعنف؛ أي أن هدفه القضاء على أسبابه ونتائجه. إن لا النافية التي يتصدى بها الـ"لا"عنفُ للعنف هي لاءُ مقاوَمة. وفي المحصلة، ليس اللاعنف رفض العنف بقدر ما هو الكفاح ضد العنف. فهو بالتأكيد امتناع، لكنه امتناع يقتضي في حدِّ ذاته العمل. إذا تصورنا التقارُب بين الكلمتين: "عنف/لاعنف"، رأينا في وضوح أن بنية كلمة "لاعنف" نفسها تكسر حيال العنف كلَّ تناظُر، كلَّ تبادلية، كلَّ محاكاة. إذا كان العنفُ يمارَس دومًا في التبادلية حيال الخصم، فإن اللاعنفُ يمارَس داومًا في اللاتبادلية. إن خيار اللاعنف هو تفعيل فريضة الضمير العقلاني العالمية في حياتنا نفسها، الضمير الذي يعبَّر عنه بالصيغة الآمرة، المنفية هي الأخرى: "لا تقتل". إن تحريم القتل هذا تحريم عالمي شامل؛ وهو جوهري، لأن رغبة القتل كامنة في كلٍّ منا. القتل محرَّم لأنه يبقى ممكنًا دومًا، ولأن هذه الإمكانية تفضي إلى اللاإنسانية. التحريم "مُلزِم" impérative لأن الإغراء "مستبد" impérieuse؛ وبقدر ما يكون الإغراء مستبدًّا يكون التحريمُ مُلزِمًا أكثر. اللاعنف، إذن، فريضةٌ سالبة أولاً؛ وهو يطالب الإنسانَ بنزع سلاح انفعالاته ورغباته ومشاعره وذكائه وذراعيه حتى يستطيع الفكاك من كلِّ "سوء نية" mal-veillance في حقِّ الإنسان الآخر. عندئذٍ، يكون حرًّا في إظهار "حسن نيته" bien-veillance له والتعبير له عن "طيب إرادته" béné-volence. اللاعنف، إذن، قبل أن يكون منهاج عمل، هو أولاً وأساسًا موقف. فهو الموقف الأخلاقي والروحي للإنسان الناهد الذي يقر بالعنف بوصفه نفي الإنسانية – إنسانيته وإنسانية الآخر في آنٍ معًا – والذي يقرر رفض الخضوع لقانونه. اللاعنف هو احترام كرامة إنسانية الإنسان، فيه هو وفي كلِّ إنسان آخر. إن موقفًا كهذا يتأسس على قناعة وجودية هي: اللاعنف أقوى من العنف المضاد مقاومةً للعنف. إن إحدى خصائص العنف أنه يحرض عنفًا آخر: فالعنف مسلسل؛ واللاعنف يريد كسر هذه السلسة. فالعنف المضاد لا يتيح، في المحصلة، مكافحةَ منظومة العنف لأنه هو نفسه في الواقع جزء منها ولا يفتأ يغذِّيها. يظن العنفُ أنه يقضي على الشر، لكنه هو نفسه شر؛ يحسَب أنه يطهِّر العالم، غير أنه هو نفسه نجاسة. العنف المضاد هو جزمًا "عنف معاكس"، لكنه ليس "عكس العنف". فهو ليس العنفَ نفسه، لكنه هو نفسه عنف؛ هو عنف آخر، لكنه عنفٌ هو الآخر. إن اختيار اللاعنف يعني، أمام العنف المكابَد، رفضَ ردِّ الفعل، الذي يعني مقابلةَ العنف بالعنف، بما يكرر الشرَّ المكابَد. إنه، على العكس، اتخاذ قرار التصرف في حرية لقطع مسلسل الثأر والانتقام. الرهان هنا هو على الحرية، ولا شيء أقل من ذلك – حرية فاعل يُجابِه بالقوة والشجاعة عسف الظروف. والمقصود هو القرار. ولكنْ ماذا يحول بيننا واختيار معسكرنا حقًّا ومن الإصرار على اللاعنف؟ أليس لأننا نستسلم في سهولة للإيمان الساذج بالضرورة، ولأننا نأبى الإيمان بحرية الإنسان؟ أليس لأننا نلهو بالفكرة التي مُفادها أن العنف، بحُكْم وراثتنا له عن السلف، شريف ومحترم ومكتوب بمعنًى ما على المصير البشري؟ أليس لأننا نعتبره ميراثًا أو، إذا جاز القول، تقليدًا؟ ألا تغرِّر بنا هذه المقاصد الخفية، فتعطِّل عندنا القدرة على الإرادة؟ ألا تُلغِم هذه النوايا المبيَّتة أرضَ قرارنا؟ فقبل اختيارنا حتى، يتقرر الأمرُ وينتهي، فنوطِّن أنفسنا على الضرورة. إن فريضة اللاعنف هي دعوة إلى "انقلاب" conversion: انقلاب في القلب، في النظرة، في الفطنة. وكل انقلاب هو قطيعة وانشقاق وتجاوُز وزحزحة وإزعاج وبلبلة وتحول وجنوح وارتحال. كل انقلاب فهو شروع في السفر؛ لكن كلَّ "سَفَر" إبداع جديد. فلكي يصمِّم المرء على اللاعنف، ينبغي أن يستيقظ من النوم الوجودي الذي تغفو فيه إنسانيتُه. ففي هذا النوم، يذعن الفرد إذعانًا سلبيًّا لعادات المجتمع القديمة التي لا طاقة له على التشكيك فيها. فماذا ينبغي عليه في النهاية أن يقرر؟ عليه أن يدفع حدود الضرورة بتثقيف نفسه على اللاعنف. يُسفِر اللاعنف، ككلِّ فريضة أخلاقية، عن وجه مزدوج: الأول يدعو إلى عدم التواطؤ مع العنف، والثاني إلى العمل في سبيل العدل. فما إنْ يطعن المرءُ في صحة العنف حتى يتمكن من إنجاز العمل الإيجابي للاعنف وإظهار حسن النية والطيبة نحو الآخر. إن فضيلة اللاعنف هي الفريضة الأولى للفلسفة: إنها بعينه مبدأ الشجاعة والحكمة. اللاعنف هو الفريضة التي تملي نفسَها على المرء في الحال حالما يكشف في نفسه عن ميل للتعنيف. فهو يشترط إمكانيةَ الطيبة. ولهذا تعترف الفلسفة بفريضة اللاعنف كأسمى مصدر لإنسانية الإنسان. ففريضة اللاعنف تُلزِمُ بإحسان التعامل مع الأعداء أساسًا، أي مع العنيفين؛ وعندئذٍ فقط، تتخذ معناها الحقيقي. فما أضيق مداها لو أنها لم تُلزِمْ إلا حيال الأصدقاء! اللاعنف هو الوصيد الذي يفضي بالمرء إلى سبيل الاحترام والرحمة والطيبة والمحبة، وأبعد من ذلك أيضًا، إلى سبيل السمو. أجل، إن اللاعنفُ يقدم نوعًا من التسامي، لكنه لا يفرض أيَّ "مطلق" – وهذا يقي من أيِّ ﭭيروس إيديولوجي. الاحترام والرحمة والطيبة والمحبة لا تدعو الإنسانَ إلى الاعتكاف داخل منزله، بل تُلزِمُه بالعمل نحو الخارج. وإذا كان يجدر التأكيد على الطابع الشمولي للاعنف كفريضة روحية، فإنه ينبغي الاعتراف بالخاصية النسبية للاعنف كعمل سياسي. فريضة اللاعنف لا تقدِّم من تلقاء نفسها جوابًا مباشرًا وعاجلاً عن مسألة معرفة كيفية التصرف عمليًّا في الوضع التاريخي لمكان ووقت بعينه. فعندما يحين أوان العمل، يُخلي اليقينُ المكانَ للايقين: فنحن لا نعرف أبدًا ما هو العمل الأنسب لكي نحسن صنعًا؛ لسنا على يقين أبدًا من عواقب عملنا. ليس هناك أبدًا من موقف ملموس يفرض في جلاء ما ينبغي فعله من أجل إجادة العمل؛ إذ ليس هناك من عمل لا يكتنفه لَبْس. كل عمل فهو تجريب نتائجُه عارِضة واحتمالية. ينبغي دومًا ابتكار العمل، دون التأكد، في أغلب الأحيان، من إيجاد المنهاج الأمثل. العمل هو مدرسة للتواضع. غالبًا ما يُطعَنُ في اللاعنف بوصفه خرافة، بحجة أن "اللاعنف المطلق" غير ممكن. إلا أن هناك سوءَ فهم. فاللاعنفُ لم يَدَّعِ قط أنه مطلق. لا جَرَمَ أن حالة اللاعنف يوطوپيا u-topie في حدِّ ذاتها – أي أنها لا توجد في أي مكان ولا تتحقق في أي محل. هناك قطعًا استخدام حسن لليوطوپيا لتجسيد مثالية تضيء الآتي من الزمان. غير أن حركة تحقيق اللاعنف في المجتمع والتاريخ لا تنطلق من اليوطوپيا لتندرج في الواقع، بل تنطلق من الواقع لإبداع الممكن. إن خيار اللاعنف لا يتأصل في مثالية مجتمع لاعنفي بالكامل ينبغي إعمالُها في الواقع. فالعملية هي عكس ذلك بالتمام: إذ يقوم اللاعنفُ على استيعاء واقع أعمال العنف العديدة الموجودة في المجتمع وعلى إرادة تغيير هذا الواقع ضمن نطاق الممكن. لا، فاللاعنف لا يتطلب المطلق؛ إنه في بساطة يطلب الممكن. عبارة "كل شيء أو لاشيء" غريبة عنه: فبين الكل واللاشيء، يريد تمييزَ الممكن هنا والآن، ولا شيء غير الممكن، ولكنْ كل الممكن – هذا "الممكن" الذي يهجره الناس، هذا إذا لم يستخفُّوا به أصلاً. بذا، ليس اللاعنفُ مذهبًا غير مثالي فحسب، بل يدعو إلى واقعية أكبر في خصوص العنف أيضًا. وفي المحصلة، فإن العنف هو الـيوطوپيا. فالعنف موجود جزمًا في كلِّ مكان، ولكنه لا يَبلغُ أبدًا في أي محل الغايةَ التي يزعم أنه يبررها، ولا يحقِّق أبدًا في أي مكان العدالةَ بين البشر. اللاعنف لا يقدِّم أبدًا في أي مكان حلاًّ إنسانيًّا للنزاعات البشرية الحتمية التي تحوك نسيجَ التاريخ. فيما يتعدى خرافاتِ التفاؤلية وأوهامها وإذعانات التشاؤمية واستقالاتها، يغذِّي اللاعنفُ الرجاءَ الضعيفَ بأن الإنسان يستطيع أن ينمِّي، في نفسه ولدى الآخرين، فضيلةَ الإنسانية. وهذا يضفي المعنى على وجوده وعلى تاريخه؛ يضفيه على حياته، وعلى موته حتى.
                  

العنوان الكاتب Date
دليل اللاعنف ، في مجابهة العنف عادل عبدالرحمن12-14-09, 12:35 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de