د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 10:24 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة يحي ابن عوف(يحي ابن عوف)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-16-2004, 03:49 AM

يحي ابن عوف
<aيحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) (Re: يحي ابن عوف)

    الشرب النقية والطرق ونوع الوقود المستخدم. غاية ما يتمناه المرء هو أن لا تكون الخطة القومية أو العقد الاجتماعي أو سمه ما أردت، ميثاقاً جديداً يتداعى الناس إلى صوغه حيث يتداعون دوماً ويبدأ بـ ''يا جماهير شعبنا'' وينتهي بـ ''عاش كفاح الشعب السوداني''. فلا جماهير شعبنا ولا الشعب السوداني المكافح أصبحوا أسعد حالاً بإشهار مثل تلك المواثيق.
    /////////////////////
    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (9(
    أبيي ... من الذي قطع الخيط؟
    قد يقول قائل بعد توقيع الحركة الشعبية والحكومة في السادس والعشرين من مايو 2004 على البروتوكول المتعلق بمنطقة أبيي فلتطوى الصفحة إذ ''قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان''. ولكن ثمة أسباباً ذاتية وموضوعية تحملني على القول أن لا تطوى الصفحة قبل استعلان الحقائق المقموعة. أقول هذا لأن أُذني لم تتعرض لتلويث سمعي بقدر ذلك الذي تعرضت له مما كان يردد حول هذه القضية خلال مفاوضات نيفاشا. ولئن تجاوز المرء الغلواء التي شابت مواقف عامة الناس من طرفي النزاع فلربما يفعل ذلك لأن القضية بالنسبة لكليهما قضية وجود. الذي لا يغتفر هو اندفاع بعض المعلقين في أجهزة الإعلام، وبعض السياسيين لإصدار أحكام فاصلة حول القضية اعتماداً على المعرفة السماعية، أو البينات الحكائية.anecdotal evidence لا تغتفر أيضاً ولا تجوز الانفعالات الجامحة التي صدرت ممن كان للناس فيهم رَجية، وبخاصة محص الأمور واستداد الأحكام. ولا عذر في الحالتين للخطئ، إذ ليس من بين كل القضايا التي دار حولها النقاش في نيفاشا قضية توفرت حولها الدراسات الأكاديمية، والبحوث العلمية، والوثائق الرسمية مثل قضية أبيي، وكلها في متناول اليد في مراكز التوثيق وعلى رأسها جامعة الخرطوم ودار الوثائق المركزية. لقد صورت الروايات المحكية القضية وكأنها واحدة من تاكتيكات الحركة لإعاقة السلام، أو أحبولة من أحابيلها لمد سلطانها للشمال، أو هي طماعية واشتهاء لبترول المنطقة الذي أخذ يتدفق. ولتأكيد تلك الدعاوى استنجد المعلقون ببروتوكول مشاكوس الذي حسم في ظنهم قضية الجنوب وأقر حدوده فيما كانت عليه حدود المديريات الجنوبية في 1/1/1956، وتلك، في ظنهم أيضاً، لا تشمل أبيي. فما هي حقيقة أبيي؟
    أبيي منطقة يختلف الطرفان في مساحتها، وتحدها شمالاً المناطق التي يسكنها المسيرية والنوبة، وجنوباً بحر العرب الذي يطلق عليه الدينكا اسم كيير. وتقع المنطقة، فيما يقول أهلها على بعد مائة ميل من مناطق استقرار المسيرية، وتفصل بين المنطقتين أرض جرداء. عدد السكان أيضاً فيه خلاف كبير، إذ يرفض الطرفان التقديرات التي بنيت على إحصاء 1955/1956 الذي حدد عدد السكان في ذلك التاريخ على الوجه التالي: 63000 مسيرية حُمر، 59000 مسيرية زرق، 30000 دينكا. ذلك الإحصاء بُني على عينات عشوائية وإن أخذناه معياراً فمن السهل تقدير عدد السكان الحالي على اعتبار أن معدل نمو السكان هو (28%). وعلى أي، لا يعني إحصاء السكان كثيراً اليوم بالنسبة للدينكا إذ أن الغالبية العظمى منهم تعيش بسبب الحرب خارج المنطقة (في الشمال والمناطق المجاورة في بحر الغزال كما في بقية الجنوب والملاجئ). وحسب تقديرات يونيسيف (حملات التطعيم ضد شلل الأطفال) لا يزيد الذين بقوا منهم في المناطق التي تسيطر عليها الحركة عن الخمسين ألفاً. الإحصائيات ليست بذات بال بالنسبة لهذا البحث حيث أن الإحصاء القومي المرتقب الذي سيُجرى بعد عودة أغلب النازحين إلى مناطقهم قد يحسم الأمر.
    بيد أن الأمر الذي أقلقني حقاً إبان التفاوض بشأن أبيي كان هو الجدل الساخن الذي التهب بين الطرفين حول آيالة المنطقة وملكيتها، وما كان أي منهما هَزَالاً في ذلك الجدل. يبعث على الاستهزاء في هذا النوع من المماحكة أن كلا الجماعتين (الدينكا والمسيرية) حديثو عهد نسبياً في المنطقة، فإلى حين حلول هاتين المجموعتين ـ أياً كان التاريخ الذي حلوا فيه ـ كان أهل المنطقة الأصليون هم النوبة والداجو ومجموعة ثالثة تسمى الشات يقال إن لها نسباً بالنوبة في الجبال وبالجور في بحر الغزال. والداجو أنفسهم وافدون إلى المنطقة هربوا إليها من دارفور بعد أن اجلاهم عنها سلاطين الكيرا، من بعد أن كانوا أهل سلطان في دارفور حتى القرن الخامس عشر. وللإداري البريطاني الباحث ك.د.د هندرسون بحث مستفيض حول تاريخ المسيرية وقصة نزوحهم إلى المنطقة التي يقطنون فيها الآن (السودان مذكرات ومدونات، العدد 23، 1939)، كما للانثربولوجي المعروف بول هاول بحث آخر مستفيض عن الدينكا والمسيرية نشره في نفس المصدر (العدد 32، 1951)، ولهاول خبرة مباشرة بالمنطقة إذ عمل فيها كمفتش مركز.
    على أي، يتكون دينكا أبيي من سبع شياخات من قبيلة الدينكا (يطلق على مجموعها دينكا انقوك œ ccNgok نزحوا إلى المنطقة من الجزء الشمالي في بحر الزراف بعد أن أجلاهم عنها النوير في صراعاتهم العديدة مع الدينكا حول الماشية والمراعي في تاريخ يختلف عليه المؤرخون. فحين يرجعه بعض إلى القرن الثامن عشر (1740) يرده آخرون إلى القرن التاسع عشر (1830). والانقوك فرع من قبيلة الدينكا الكبرى التي تمثل في مجموعها قرابة خمسة وثلاثين بالمائة من سكان الجنوب وتنشطر إلى بطون وأفخاذ مثل الاقار في رمبيك، والمالوال في اويل، والعالياب غرب النيل في بور، والتويج والرييق في بور بأعالي النيل وقوقريال ببحر الغزال. في الجانب الآخر، ينتمي المسيرية إلى جماعة أكبر هي البقارة وينقسمون، هم الآخرون، إلى فرعي الحُمر والزُرق، وينقسم هؤلاء، بدورهم إلى عموديات (الحُمر 7 والزُرق 6). وتقول المصادر التاريخية، بل ورواياتهم أنفسهم، أنهم وفدوا إلى المنطقة من وداي عند بحيرة تشاد التي انتقلوا إليها عبر فزان بعد هجرتهم الطويلة من الجزيرة العربية عبر البحر. ولكنهم سرعان ما تركوا المنطقة هرباً من الاتاوات الباهظة التي كان يفرضها سلاطين وداي وانتهوا إلى دارفور في عهد ملوك التُنجر وما زالت منهم مجموعات تعيش في تشاد ودارفور مثل عرب السلامات. مسيرة العرب النازحين غرباً لم توقفها إلا الجبال التي استنجد النوبة بقممها، كما انتهى الداجو إلى سفوح الجبال كرقيق أرض. والداجو ليسوا محاربين كالنوبة، أو رعاة كالعرب ولهذا لازموا الزراعة حتى أصبحوا القوة العاملة الأولى في مزارع القطن.
    هذا هو التاريخ الذي لا يختلف كثيراً عن تاريخ نزوح أغلب القبائل العربية للسودان واستقرارها حيث استقرت. ولكن الذي كان يقلق في الأمر هو تمادي الطرفين في اللجاجة حول أيهما سبق الآخر إلى المنطقة، حتى يصلا عبر الرد على ذلك السؤال إلى استنتاج يؤكد به كل واحد منهما حقه في الأرض أكثر من الآخر. ولو كانت مصائر الشعوب تقرر بمثل هذا التبسيط للأمور لتغيرت خريطة العالم، بل لو طبقنا نفس المعيار على القضية موضع البحث، وأدخلنا القبائل الأخرى في المعادلة، لاجلى النوبة والداجو كلا الجماعتين عن تلك الأرض. فالشعوب ـ في السودان وغيره ـ تهاجر من مكان إلى مكان وحيثما بقعة من بقاع الله ألقت فيها عصا التسيار ثم استقرت وعَمَرت وتناسلت في رحابها أصبحت تلك البقعة وطناً لها. فالذي وفد في القرن السابع عشر إلى سفوح جبال النوبة، كالذي جاء إليها في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ليستقر فيها ويقيم يصبح بالتقادم وطول الأمد صاحب حق فيها.
    لم تكن العلاقة بين المجموعتين في بداهة الأمر، خاصة في فترة الحكم التركي، علاقة مريحة، إذ كان العرب يَستَرقون الدينكا إما لحسابهم (كرقيق أرض)، أو لحساب سلاطين الفور الذين كانوا يؤدون للحكم التركي ما عليهم من ضرائب وجبايات باهظة بالعبيد بدلاً عن المال. وكانت مناطق استقرار القبائل العربية في مبدئها نقاط الارتكاز لغزوات الرقيق. ولكن، لما يَمضِ زمان حتى أدرك الطرفان حاجتهما لبعضهما البعض، وبفضل ذلك الإدراك وحكمة قيادتيهما نمت بينهما علائق جديدة أساسها المصالح المشتركة. تلك العلاقة أنشأها في البدء الناظر اروب بيونق، كبير الدينكا مع كبير المسيرية، الناظر عزوزه حيث قررا التساند لإيقاف الحملات ضد بعضهما البعض. ويروي فرانسيس دينق كيف أدمى عزوزه واروب بيونق يديهما ومزجا دمهما تأكيداً للعلاقة التي أضحت، في تقديرهما، علاقة دم. وبعد عزل الإدارة البريطانية لعزوزه وايلاء السلطة لأحد ملازمي الخليفة، الشيخ علي الجلة، استمرت العلاقة. هذا أيضاً جزء من التاريخ.
    بارتحال المسيرية، وهم رعاة إبل، إلى تلك المنطقة تأقلموا على طبيعتها واستجابوا لظروفها فاستبدلوا الإبل بالأبقار لتصبح عماد الثراء ورمز القوة والجاهة. وكان لطبيعة الأرض أثر في تنسيل قطعان الماشية التي اقتنوها، وحسب ما روى ايان كينيسون العالم الاجتماعي وواحد من أهم الباحثين في شأن البقارة تتميز ابقار المسيرية بالقوة والقدرة على السير في أراضي القوز ولكنها لا تتحمل الأراضي الطينية مثل أبقار الدينكا (السودان مذكرات ومدونات فبراير 1954). لهذا أصبحت المنطقة التي تلتقي فيها الأراضي الطينية بالرملية هي المنطقة الطبيعية الفاصلة بين المجموعتين وهي أرض منبسطة رتيبة لا تحد من رتابتها إلا أشجار من الفصيلة السنطية. وكانت الإدارة البريطانية، بسبب ذلك التقسيم الطبيعي تلزم المسيرية بتعبيد الطريق عبر القوز شمالاً حتى مناطق إقامتهم الدائمة، في حين تلزم الدينكا بالعناية بالطريق إلى نهاية الأرض الطينية عند البحر أو الجرف كما يسميه المسيرية .
    في سعيهم وراء المرعى يرتحل المسيرية جنوباً في بداية فترة الجفاف (أكتوبر/نوفمبر) بعد قضاء فترة الخريف في بابنوسة ليلتقوا مع جموع الدينكا في بحر العرب (الكير). وبذلك يتنقل المسيرية في العام الواحد في أربع مناطق مختلفة المناخ والتربة والنبات: بابنوسة، المجلد، القوز. البحر (بحر العرب). من جانبهم يرتحل الدينكا شمالاً بعد موسم الحصاد في يناير ثم يقفلون راجعين جنوباً لينتهوا في مناطق الدينكا تويج وريك في (منطقة قوقريال) حتى شهر مايو. ورغم تنوع ضروب الترحال وتعددها كانت مسارات الرعي معروفة، كما كانت المداخل والمخارج إلى المنطقتين محددة ومتفقاً عليها. ولم يكن التحرك الموسمي في تلك المسارات طولياً بل دائرياً لا يشارك فيه كل السكان، فالنساء والأطفال والمسنون من الرجال يمكثون في تجمعات شبه مستقرة في حين يرتحل الشباب والرجال القادرون مع قطعان الماشية. وفي نهاية كل رحلة كان الزعماء وكبار القبيلتين يعقدون الندوات لمعالجة المشاكل التي تقع خلال الترحال، ما تعلق منها بأذى للحيوان أو اعتداء على البشر. في تلك الندوات تتم مجالس الصلح لتسوية الخلافات وفق أعراف سائدة مثل الدية في القتل، والتعويض عن الخسائر، ورد المسروق.
    من الجلي، إذن، أن المجموعتين ظلتا تتعايشان في وئام لم تكدره التجارب الأليمة في عهود غزوات الرق، وهي غزوات تعرضت لها كل القبائل غير العربية من القبائل المحادة لها في الشمال، فمن أين إذن جاء المشكل؟ أجاد الأكاديمي محمد عبد الرحيم محمد صالح، وهو أحد أبناء المنطقة، عندما كتب يقول ''الصراعات بين دينكا انقوك والمسيرية ليست حالة منعزلة لصراع إثني ولكنها ذات علاقة أوسع بطبيعة الدولة السودانية، وهياكل السلطة القومية، والتفاوت بين الأقاليم، وهيمنة مستعربة الشمال على القوميات الأخرى غير العربية. كما أن الصراع بين الانقوك والحُمر هو جزء من صراع الجنوبيين من أجل البقاء كمواطنين ذوي حقوق متساوية. لا يمكن أيضاً عزل الصراعات عن الذكريات القبيحة لحملات الخيالة الحُمر ضد قرى الدينكا ومعسكرات ماشيتهم في عهود الاسترقاق، أو عن سياسات الاستعمار في الثلاثينات حينما قُسم القطر إلى شمال وجنوب، أو فقدان الأنظمة الحاكمة في الخرطوم للحساسية'' (فصل عن الصراع بين دينكا أنقوك والحُمر في كتاب الصراع والانهيار: الرعوية في القرن الأفريقي، تحرير جون ماراكاكيس). هذا تلخيص جيد للمشكل، ويعنينا منه في هذا المقال الجانب المعاصر: الصراع بين الفريقين كرد فعل على التفاوت الإقليمي، وكنتيجة للضغوط على الموارد الطبيعية، ثم كمُحصل للسياسات القومية نحو المنطقة، بل ربما لفقدان أنظمة الحكم المتعاقبة في الخرطوم لأية حساسية سياسية تجاهها، إن لم يكن إسهامها في تعميق الأزمة. من جانب آخر نمكث قليلاً عند السياسات الاستعمارية تجاه المنطقة، خاصة تلك التي تتعلق بتبعيتها الإدارية. ومن الطريف أن المتفاوضين من الجانبين لم يجدوا مراجع يلجأون إليها أو يستدلون بها لإفحام الطرف الآخر غير تقارير الإدارة الاستعمارية.
    تقول تقارير الإدارة الاستعمارية أن منطقة أبيي وكل منطقة بحر العرب كانتا حتى عام 1905 جزءاً من بحر الغزال رغم أن المنطقة كانت منطقة رعي مشترك بين الدينكا والقبائل العربية. والمعروف أن الحكم الاستعماري بدأ الهجوم على بحر الغزال فور استيلائه على فاشودة حين تحركت الكتيبة (الفوج) الرابع عشر بقيادة الكولونيل سباركس باشا من مشرع الرق في يوم 12/12/1900 وانتهى بالسيطرة عليها بعد أربع سنوات بإقامة مركز كافيا كنجي والتمكن من ''دار فرتيت''.
    أياً كان الأمر، في عام 1905 ضُمت المنطقة التي يسكنها دينكا انقوك ومنطقة قوقريال (دينكا تويج وروينق) إلى كردفان وظل ذلك هو الحال حتى عام 1931 حين أجرى تعديل إداري أبقى أبيي (دينكا انقوك) في كردفان، وأعاد قوقريال (دينكا تويج) إلى بحر الغزال، كما ضم دينكا روينق إلى أعالي النيل. ما هي الدوافع لتلك الإجراءات؟ الأسباب إدارية بحتة حسبما أوردت التقارير الرسمية، فمثلاً، جاء في واحد من التقارير إن رحلة سلاطين الدينكا في منطقة أبيي أو قوقريال لاقرب مركز في بحر الغزال للشكاة ضد جيرانهم العرب كانت تستغرق ثلاثة وعشرين يوماً ولهذا رؤى ضمهم إلى كردفان (تقرير المخابرات رقم 127، فبراير 1905). وفي تقرير آخر جاء أن السلطان اروب الذي تقع منطقته على نهر كير (سلطان الانقوك) والسلطان ريحان (سلطان التويج) اشتكيا من غزوات عرب جنوب كردفان على منطقتيهما ولذلك أصبح من الحكمة وضع المنطقتين تحت سلطة نفس مدير المديرية الذي يمتد إشرافه على هؤلاء العرب (تقرير المخابرات 128، مارس 1905).
    وعندما قررت الإدارة الاستعمارية إعادة دينكا قوقريال في عام 1930 إلى بحر الغزال كان من رأي مدير كردفان، المستر بروك، أن يعود معهم اخوتهم دينكا انقوك (تقرير المخابرات 1927) إلا أن شيخهم السلطان كوال اروب آثر البقاء في كردفان. نتيجة لهذا الإصرار أصدر السكرتير الإداري، السير هارولد ماكما يكل قراراً بوضع حد إداري فاصل بين القبيلتين (من الشرق إلى الغرب) يتمثل في طريق نيامليل/سفاهة. ويدعي خصوم السلطان كوال من أهله الدينكا أنه لم يوثر البقاء في الشمال إلا ليصبح كبيراً للسلاطين paramount chief في منطقة يسيطر عليها بمفرده بدلاً من أن يذوب في مجموعات الدينكا الأخرى فيذوى سلطانه. خلال هذه الفترة منح ناظر الدينكا سلطة واسعة ولم يكن يخضع لكبير نظار المنطقة (ناظر عموم المسيرية عندما أنشئ ذلك المنصب). كما كانت المنطقة كلها تدار بواسطة مفتش غرب كردفان (النهود) وكان له مساعدان في دار مسيرية أحدهما في لقاوة والثاني في رجل الفولة في حين ظل ناظر الدينكا خاضعاً للإشراف المباشر لمفتش المركز، لا لهذين المساعدين. استمرت تلك الترتيبات حتى قبيل خروج الاستعمار حين تقرر انشاء مجلس ريفي للمنطقة (باعتبارها منطقة قبائل رحل تدار عن طريق مجلس ريفي لا مفتش مركز مثل المراكز الحضرية). أول مجلس ريفي للمنطقة أنشئ في مطلع العام 1954، وافتتحه الحاكم العام، السير روبرت هاو في يوم 14/1/1971، خطاب الحاكم العام الافتتاحي احتشد بالرموز إذ جاء فيه: ''أن هذا المجلس، في وجه ما، يشبه السودان بأعراقه المختلفة التي تتعايش جنباً إلى جنب: العرب، الدينكا، النوبة، الداجو. وحتى عهد قريب كان كل جزء يسير على طريقته أما الآن فعلى اختلاف أصواتكم وأعراقكم وأديانكم وتقاليدكم يضمكم مجلس واحد يعمل لأجل خيركم المشترك''. ''إن التسامح والصبر واحترام وجهة نظر الآخرين صفات مهمة وأنني لكبير الثقة إنكم ستحرصون على هذه الصفات''.
    افتتاح المجلس توفي السلطان كوال اروب وتولى الحكم بعده ابنه دينق ماجوك (والد فرانسيس دينق)، وكان له فضل كبير في تطوير المنطقة خاصة في ميدان التعليم وإدخال المنطقة في الاقتصادي النقدي. وقبيل الاستقلال (1952) عرض عليه مدير كردفان إعادة منطقته إلى بحر الغزال فرفض الرجل ظاناً أن بقاءه في الشمال سيوفر فرصاً أفضل لأبناء المنطقة من أجل التعليم والترقي الاجتماعي. ولكنه قبل اتخاذ القرار قام بجولة في بحر الغزال للتشاور مع إخوته السلاطين، وحسبما روى فرانسيس دينق كان هناك شبه إجماع من سلاطين بحر الغزال على أن يعود أهل أبيي إلى إخوتهم في بحر الغزال، ، بل أن بعضهم حذر من الاطمئنان المفرط في ''الجلابة''. رغم ذلك عقد الرجل العزم على البقاء في الشمال، ولعل للعلاقات الحميمة التي نشأت بينه وبين الناظر بابو نمر أثراً في ذلك. وكان البابو رجلاً عميق الغور، كثيف الحضور، حاضر البديهة. قرار الناظر لم يقابل بالرضا من شباب أبيي فأرسلوا وفداً منهم يضم اثنين من المتعلمين هما جستن دينق بيونق وعثمان كوج لينقلا نيابة عنهم عريضة إلى مركز رجل الفولة تطالب بعودة ابيي لبحر الغزال فالقي القبض على الشابين. قضية الشابين أصبحت مثار اهتمام الرأي العام الكردفاني لدرجة أنها شغلت جريدة كردفان لبضعة أيام إذ حسبوا العريضة بداية لـ ''تمرد انفصالي''. ولم يتم الإفراج عن الشابين إلا بعد توسط الناظر دينق ماجوك.
    ترى ما الذي صنعناه بعد الاستقلال لنولي الرعاية لهذه المنطقة التي كان من الممكن أن تصبح نموذجاً بديعاً للتفاعل بين الشمال والجنوب. فأبيي هي المنطقة الوحيدة في الشمال التي قررت مجموعة مقدرة من أهل الجنوب، بل ومن أكبر قبائله، البقاء فيها طوعاً والانصهار وسط أهلها. هي أيضاً منطقة حبى الله قياداتها الطبيعية بقدر كبير من الحكمة وظفتها للحد من التناشز وتكثيف التعاون. نعم، ما الذي فعلناه بعد الاستقلال في تطوير ما أسماه السير روبرت هاو عند افتتاح مجلس ريفي المسيرية ''العمل من أجل الخير المشترك'' بين العرب والدينكا والنوبة والداجو؟ هنا كانت بدايات المأساة والتي لا أجد وصفاً لها أدق مما قاله، مرة أخرى، الدكتور محمد عبد الرحيم. قال في الكتاب الذي سلفت الإشارة إليه: ''لو كان مسلك الأحزاب السياسية مسلكاً مسئولاً ووجد دينكا انقوك طريقهم إلى مسرح السياسة القومية لهلل الناس للناظر دينق ماجوك باعتباره أب التكامل القومي بين الشمال والجنوب. فبفلسفته السياسية كزعيم جنوبي آثر البقاء في الشمال كان أبعد نظراً من كل قيادات الشمال والجنوب في ذلك الوقت''. كان الناظر دينق يقول: ''أبيي هي الخيط الذي يربط بين الشمال والجنوب''. هل انقطع الخيط؟ وإن حدث هذا فمن الذي قطعه؟
    منذ الاستقلال توالت الأخطاء، فبالرغم من أن دينكا أبيي كانوا يمثلون مجموعة متجانسة وكان من الممكن أن يصبحوا دائرة انتخابية واحدة وزعت جموعهم على دائرتين بالشكل الذي حرمهم من التمثيل في البرلمان. ومنذ أول برلمان (مثل فيه الدائرة المشتركة السيد الفاضل محمود) وحتى آخر انتخابات عام 1986 لم يمثل المنطقة أي واحد من أبنائها، علماً أن اغلب الرعيل الأول من مثقفي الدينكا كانوا إما من بور أو أبيي. هذا الإقصاء (حتى وإن جاء بصورة غير مقصودة) كان له أثره النفسي على أبناء المنطقة، خاصة بعد أن رأوا من هم دونهم تعليماً من دينكا الجنوب يشقون طريقهم إلى مسرح السياسة القومية. المرة الأولى التي أصبح فيها للمنطقة نائب من أبنائها كانت في العام 1968 عندما استقال احمد دينق ماجوك، ابن الناظر، من وظيفته كضابط مجلس ليترشح في الدائرة نائباً عن حزب الأمة.
    في عهد عبود بدأت الأمور تأخذ منحنى آخر، خاصة بعد أن بدأ ذلك العهد حملات الإكراه الديني في الجنوب. فمن بين القرارات التي أصدرها النظام قراره بإغلاق مركز التبشير المسيحي (مركز مادينق) وإغلاق الكنيسة الوحيدة في المنطقة. ومن الغريب أن الدين لم يكن يشكل أية عقبة في التعامل بين العرب المسلمين والدينكا، ولا حتى بين الدينكا أنفسهم إذ كانت جموعهم تضم المسلم وغير المسلم، ويشمل هذا حتى أبناء الناظر دينق ماجوك إذ كان فيهم المسلم، وفيهم المسيحي، وفيهم من بقى على دياناته التقليدية. ومن المفارقات أن احمد دينق ماجوك، ابن الناظر لم يجد بين التنظيمات الشبابية تنظيماً يتجه طوعاً إليه غير الأخوان المسلمين. أو ترى ما تقود إليه رعونات السياسة؟ فما الذي كسبه الإسلام من إغلاق كنيسة في أبيي في الوقت الذي ما انفكت فيه نواقيس الكنائس تدق في العاصمة؟ منذ تلك اللحظة لم تعد النظرة لدينكا أبيي هي نظرة لمواطنين سودانيين ذوي أصل جنوبي وديانات مختلفة أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لمنطقة سودانية تقع في الشمال، وإنما كجنوبيين غير مسلمين ينبغي أن يتمسلموا، ومن لم يقبل الإكراه منهم ينظر إليه بعين الشك في ''دولة الشمال المسـلمة''، ثم امـتـدت الريـب حتــى للمسلم منهم.
    الأمر تجاوز الريب إلى الاستحقار عندما رفضت حكومة عبود اعتماد ناظر الدينكا كعضو في مجلس المديرية ممثلاً عن المنطقة. جاء هذا بعد واقعة غريبة هي انتخاب دينق ماجوك رئيساً لمجلس ريفي المسيرية، ربما لأسباب تتعلق بصراعات المسيرية الداخلية التي دفعت بعض شيوخها لاختيار ناظر الدينكا رئيساً للمجلس بدلاً من ناظر عموم المسيرية، الشيخ بابو. ورغم أن موقعه كرئيس للمجلس يؤهله لعضوية مجلس المديرية إلا أن الحاكم العسكري في الأبيض رفض اعتماد دينق ماجوك وأصر على أن لا يمثل المنطقة غير الشيخ بابو. موقف الحاكم العسكري دفع دينق ماجوك للانتقال بشكاته إلى الخرطوم يطالب بالنصفة. تلك الأزمة لم يعالجها إلا إداري قديم عمل دينق ماجوك تحت إمرته هو المرحوم احمد حسن الضو الذي أفلح، من موقعه كرئيس لديوان الرئاسة، في إقناع عبود باعتماد دينق ماجوك ممثلاً للمنطقة، وتعيين بابو نمر عضواً في المجلس بموجب السلطات التي تخول له ذلك التعيين.
    اتفاقية أديس أبابا 1972 كانت إيذاناً ببداية مرحلة جديدة لأبيي، وإن كان هناك من يظن أن الاتفاق على حدود جنوب السودان في ذلك الاتفاق قد أنهى المشكلة فعليه أن يعيد قراءة الاتفاق. وكما ذكرنا في مقال سابق فإن النص على حدود الإقليم الجنوبي يشير إلى الحدود التي كانت عليها المديريات الثلاث (أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية) في يناير 1956 ويضيف إلى ذلك ''وأية مناطق أخرى تُعتبر ثقافياً أو جغرافياً جزءاً من الجنوب بموجب استفتاء عام. وإن كانت هناك مناطق ينطبق عليها ذلك الوصف فأبيي على رأسها. ولكن، دون إخلال بما جاء به الاتفاق، حرصنا منذ الوهلة الأولى على أن نجعل من أبيي مثالاً للتمازج بين الشمال والجنوب، وليس فقط منطقة تماس كما درجنا على القول. وهنا يجئ ما أسميته الدوافع الذاتية للاهتمام بقضية أبيي.
    لتحقيق الهدف الذي كنا نرمي إليه ابتدع الدكتور جعفر بخيت صيغاً ومؤسسات لتطوير المنطقة فكَوَن في البدء لجنة لإعداد برنامج لتطوير المنطقة ضمت كل الوزراء ذوي الشأن وانتدب لعضويتها الدكتور فرانسيس دينق، وكان وقتها سفيراً للسودان بالسويد. وكان من بين القرارات الأولى التي أصدرها تعيين تسعة إداريين تم انتدابهم من الجنوب للعمل في منطقة أبيي بموافقة ابيل الير، كما قام بتسمية أحد أبناء المنطقة، جستن دينق، نائباً للمحافظ، تلك القرارات لم تُرضِ الإداريين الشماليين فأطلقوا عليها وصف جنوبة أبيي، كما أثار الاهتمام الكبير بالمنطقة غيرة القبائل العربية، خاصة وقد تزامن ذلك الاهتمام مع برنامج تحديث مشروعات زراعة القطن في جبال النوبة والذي تمثل في إنشاء جمعيات زراعية تعاونية، وتوفير البذور المجانية للمزارعين، وإعادة تأهيل المحالج، وكان النوبة والداجو هم وحدهم المنتفعون.
    وفي إطار تحديث منطقة أبيي تبنى الدكتور فرانسيس دينق عقب اتفاق أديس أبابا مشروعاً للتنمية الشاملة للمنطقة بالتعاون مع معهد هارفرد للتنمية الدولية بدأ بإرسال بعثة استكشافية تضم مدير المعهد بروفيسور ليستر قوردون، ورئيس قسم الصحة بالمعهد، الدكتور ستيفن جوزيف. الخبيران الزائران قاما برحلة للمنطقة تبعها إرسال فريق متكامل ضم خبراء في الصحة العامة، التعليم، الزراعة، الانثروبولوجي، كما تأسست لجنة وزارية لمتابعة المشروع تحت اشراف وزير الدولة للزراعة، الدكتور حسين إدريس. ذلك المشروع الرائد لم يُكتب له النجاح بصورة رئيسة للأسباب السياسية التي سنورد. ولكن ثمة أسباباً أخرى أعاقت المشروع مثل غياب المعلومات، صعوبة الاتصالات، اختناقات النقل، تضارب الاختصاصات في نظام للسلطة المركزية فيه رأي، وللحكم الشعبي المحلي رأي، وللاتحاد الاشتراكي آراء، وقلما تتطابق تلك الآراء مع ما يريده أهل المنطقة. ثم هناك أهل المنطقة أنفسهم (العنصر الثقافي)، فقد كان من أكبر المصاعب التي قاسى منها فريق هارفرد إقناع الدينكا باستخدام الأبقار في جر المحاريث، فما لمثل هذا خلق الله البقر في عُرف الدينكا. وحول تضارب الاختصاصات أذكر اتفاقي مع د. فرانسيس دينق (وكنت وقتها برئاسة الجمهورية) على إضافة فقرة إلى خطاب الرئيس نميري في عيد الاستقلال بمدينة كادقلي يوجه فيها الأجهزة بالتنسيق فيما بينها في تنفيذ مشروعات التنمية بجنوب كردفان حتى تصبح التنمية في تلك المنطقة نموذجاً للتكامل القطاعي والإداري والإنساني والثقافي. وما يجعلني استعيد تلك الفقرة الإشارة الخاصة فيها لأبيي على هذا النحو: ''أبيي للسودان كالسودان لأفريقيا'' هذه العبارة تلخص نظرتنا للموضوع كله. أياً كان الأمر، انهار المشروع وصار أثراً بعد عين لهذا لم يجانب رتشارد كول مدير معهد هارفرد، وزميله رتشارد هنتنقتون الحقيقة عندما قالا إن مشكلة أبيي ''ليست مشكلة محلية ذات تداعيات قومية بل مشكلة قومية تُركت لتتقيح على المستوى المحلي''. وقد ألف الأستاذان كتاباً ضخماً حول تلك التجربة أصدره معهد هارفرد للتنمية الدولية في عام 1985 بالعنوان التالي: African Rural Development: Lessons from Abyei, 1985.
    من بين المشاكل ذات الطابع الإداري التي لم يكن يستحيل علاجها لو توفرت الإرادة السياسية الصادقة، تلك المتعلقة بإدارة النزاعات حول الموارد. هذه الصراعات زادت حدة في أواخر السبعينات لأسباب عدة منها تقلص المراعي بسبب الجفاف، مضاعفة قطعان الماشية نتيجة لتحسن الخدمات البيطرية إذ ارتفع عدد الماشية من مليون في نهاية الخمسينات إلى اثنين مليون ونصف المليون في نهاية السبعينيات، زحف الزراعة الآلية مما أدى إلى انتزاع بعض المراعي لتصبح مناطق زراعة، خاصة في المناطق شمال أبيي (لقاوة مثلاً). وكما أبنا في أكثر من موقع فإن الدولة، لا القبائل وزعاماتها، تتحمل النصيب الأكبر من المسئولية عن النزاعات لأنها إما شجعت التوسع الزراعي بأسلوب غير مخطط، أو عجزت عن إدارة الأزمة عند وقوعها لضعف آليات الإدارة التي استحدثتها كبديل لآليات التوسط التقليدية traditional mediation mechanisms. الآليات التقليدية هي الحكم الأهلي الذي ألغى بصدور قانون الحكم المحلي 1971 واستبدل بمجالس الحكم الشعبي المحلي. وفي الوقت الذي انتهت فيه الإدارة المحلية في الشمال بما في ذلك جنوب كردفان، ظلت باقية في جنوب السودان مما خلق حالة من عدم التوازي الإداري ليس فقط في المؤسسات، بل أيضاً في لغة التخاطب. وإن كان بين كل أقاليم السودان إقليماً واحداً لعبت فيه الإدارة المحلية الدور المركزي في الحفاظ على النسيج الاجتماعي والوئام بين القبائل لكان هو إقليم كردفان. صحيح أن الاستعمار جَهِد في الحفاظ على الهويات القبلية في ذلك الإقليم كأداة للتحكم الإداري فيها وذهب في ذلك مذهباً بعيداً (احمد إبراهيم أبو شوك: كردفان من القبائل للنظارات في كتاب Kordofan Invaded, Brill, 1990. إلا أن ذلك الإقليم بتنوع قبائله، وتضارب مصالح أهلها، واختلاف تضاريسه الجغرافية ما كان ليبقى متماسكاً لولا دور قياداته الطبيعية. وفي بحث الدكتور أبو شوك المشار إليه أعلاه تفصيل دقيق لما لحق بأداء الدولة نتيجة لإلغاء النخب الحاكمة في الخرطوم للإدارة الأهلية منذ أول قرار اتخذته حكومة أكتوبر بإلغاء الإدارة الأهلية، ثم تردد حكومة الديمقراطية الثانية في هذا الموضوع حيث كانت بين الكفر والإيمان، هي مع الإدارة الأهلية في الاجتماعات المغلقة مع زعماء القبائل، وضدها في الليالي السياسية، ثم جاءت قوانين نظام مايو التي أجهزت على المؤسسة تماماً. ففي كردفان، مثلاً، أبان كيف انخفض حجم الضرائب المُحَصلة (العشور والقطعان) عن طريق الإدارة الأهلية من 240000 و 338000 جنيهاً في سنتي 1963، 1964 على التوالي إلى 104251 في العام 1965 بعد إلغائها. ولا يقل أهميةً عن التدهور الذي لحق بتحصيل الضرائب موضوعُ إدارة النزاعات، ففي تقرير لحاكم كردفان، الفاتح بشارة (1984) زادت تلك النزاعات بعشرة أضعاف في الفترة 1971 - 1981 عما كانت عليه في الفترة التي سبقت منذ الاستقلال، مما حمل الحاكم على المطالبة كل بإعادة الإدارة الأهلية
    الإدارة الأهلية كانت توفر آلية ناجعة لحل النزاعات ولكنها، بالطبع، لاتغني عن الحل الجذري للمشاكل وهو الحل السياسي / الاقتصادي. وقد أوضحنا كيف عمق نظام عبود من الأزمة باضافة بُعد ديني لها، وكيف ضاعفت الأنظمة المتعاقبة منها إما بتجاهلها أن هناك مشكلاً جديراً بالاهتمام، أو لقلة وعيها بأن منطقة أبيي تمثل تجربة تكاملية فريدة قمينة بالرعاية. خطأنا في مايو كان بالغ الشُنعة، أولاً لأننا أدركنا منذ البداية بما لا يدع مجالاً لأي شك معقول أن هناك مشكلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الجنوب (إثارة الموضوع في محادثات أديس أبابا) وتَعَهدنا بعلاجها. ثانياً لأن رأينا استقر على أن علاج المشكلة يكمن في واحد من شيئين: إما تطوير المنطقة برضا أهلها حتى تصبح منطقة تمازج حقيقي بين الشمال والجنوب، أو ـ إن عجزنا عن ذلك ـ منحهم حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، كما يقول اتفاق أديس أبابا. لم تفلح مايو في الأولى، ولا في الثانية ثم منذ نهاية السبعينات اتجه نميري بالنظام كله اتجاهاً آخر.
    حتى العام 1977 كان نميري مدركاً لما يلزم فعله بموجب اتفاق أديس أبابا. ففي العام 1974 أعلن أبيي منطقة ذات طبيعة خاصة تتبع في إدارتها لرئاسة الجمهورية، وكانت تلك خطوة طيبة في سبيل تحقيق النموذج الذي توهمناه، وبقى وهماً لأن الإعلان لم يلحق به عمل. وفي خطاب له في المجلد في العام 1977 أعلن أن لأهل المنطقة الخيار بين أن يبقوا في كردفان أو ينضموا إلى بحر الغزال، وكان نميري قد تسلم قبيل ذلك عريضة من أبناء المنطقة يطالبون فيها بضم منطقتهم إلى بحر الغزال. هذا الإعلان لم يُرق لبعض المسئولين فسعوا إلى وضع العصى في دولاب الإدارة حتى يحولوا دون تطبيقه. وبخروج أو رحيل جميع الوزراء الشماليين الذين شاركوا في اتفاق أديس أبابا، أو أسهموا في تطوير السياسات حول أبيي، وكانوا بذلك أكثر إدراكاً من غيرهم للنتائج التي قد تترتب على أي نكوص عن الاتفاق أو السياسات، خلا الجو لواضعي العصي. نذكر من هؤلاء محمد الباقر أحمد، جعفر بخيت، عبد الرحمن عبد الله، فرانسيس دينق.
    مهما كان من أمر، لما يمضِ زمن طويل حتى بدأ نميري انزلاقه الذي انتهى به إلى إلغاء اتفاقية أديس أبابا نفسها، في حين بدأت القوى السياسية الجنوبية، من الجانب الآخر، تأخذ زمام المبادرة. ففي العام 1978 أصدر مجلس الشعب الإقليمي بجوبا قراراً يطالب فيه بتنفيذ النص حول منطقة أبيي كما ورد في اتفاقية أديس أبابا (إجراء استفتاء). هذا القرار أكده مجلس الشعب الإقليمي الذي انتخب في العام 1981 ، ولكن نميري لم يكن في عجلة من أمره، ففي محاولة منه للتنصل مما ألزمه به اتفاق أديس أبابا، أو للالتفاف عليه أقدم على أمرين، وفي الحالتين جاءت الريح بما لا يشتهي سفينه. كون نميري لجنة موسعة برئاسة الإداري الشيخ بشير الشيخ وكان وقتها وزيراً للحكم المحلي لتتقدم له بتوصيات حول أبيي. وضمت اللجنة نائب رئيس القضاء دفع الله الرضي وبعض زعماء القبائل وعلى رأسهم الناظر بابو نمر والناظر سرور محمد رملي. اقترحت اللجنة بدائل منها أن تدار المنطقة على الوجه الذي كانت تدار به يومذاك، أو تصبح مجلساً محلياً مستقلاً، أو تعلن كولاية، أو يمنح اهلها الحق في اختيار ما يريدون، والخيار الأخير ابتنى على ما نص عليه اتفاق أديس أبابا وأصر عليه العضو الجنوبي في اللجنة، مارتن ماجير. وحرصت اللجنة على توضيح الايجابيات والسلبيات بالنسبة لكل مقترح، ويبدو أن جميع الخيارات لم تصادف هوى في نفس نميري.
    محاولة الالتفاف الثانية كانت هي تكوين لجنة لتقصي الحقائق برئاسة قاضٍ. تلك كانت هي اللجنة التي ترأسها القاضي خلف الله الرشيد، وأصدرت في 7/1/1981 قراراً حاسماً. يقول القرار:
    (أ) ''تَبَني حدود المديريات الجنوبية كما كانت في اليوم الأول من يناير 1956 وهذا يعني إعادة منطقة حفرة النحاس وكافيا كنجي إلى مديرية بحر الغزال وهي المنطقة التي سبق أن أضيفت إلى مديرية دارفور وفقاً لوصف الحدود المعدلة المنشور في غازيتة جمهورية السودان رقم (947) بتاريخ 15 يوليو 1960 ، وهذا يتفق تماماً واتفاقية أديس أبابا وقانون الحكم الذاتي الإقليمي .''1972
    (ب) ''تخضع منطقة بحر العرب لترتيبات إدارية تأخذ في الاعتبار التكوين الاجتماعي بما في ذلك الحقوق التقليدية للمرعى والصيد وصيد الأسماك التي نظمت بترتيبات إدارية قبل وبعد .''1956
    (ج) إجراء استفتاء في عموديات الدينكا نقوك منطقة أبيي التي تدار الآن من مديرية جنوب كردفان وتلاحظ اللجنة الحاجة لتحديد هذه المنطقة قبل إجراء الاستفتاء. هذا الترتيب هو تطبيق للمادة 32 من قانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية للعام 1972 واستجابة لرغبة سكان المنطقة''.
    (د) ''بالرغم من أن المادة 32 من قانون الحكم الذاتي الإقليمي تنسحب على منطقة شال الفيل التابعة لمديرية النيل الأزرق إلا أن هذه المنطقة لا تمثل مشكلة في حد ذاتها وأن حدودها معروفة وأن سكانها لم يطالبوا بإجراء استفتاء''.
    خلف الله أمسك الوعل من قرنيه وفجر قضايا لم تكن مطروحة، فجميع المناطق التي أشار إليها، وهي مناطق شاسعة، كانت جزءاً من الجنوب في 1/1/1956 ونقلت للشمال في عهد عبود. مع ذلك لم يثر الجنوبيون لا في عهد الحكم الذاتي الإقليمي، ولا في مفاوضات الإيقاد امر هذه المناطق الشاسعة في حين ثابروا على إثارة قضية منطقة أبيي الصغيرة نسبياً مما يعني أن هناك مشكلة حقيقية في هذه المنطقة.
    أراد مثقفو الجنوب تأكيداً لموقفهم حول أبيي أن يبعثوا برسالة واضحة للحكومة بعد رفضها التجاوب مع قرارات المجلس الإقليمي. وكانت الرسالة اختيار أحد أبناء أبيي (الدكتور زكريا بول دينق) نائباً في المجلس الإقليمي عن دوائر الخريجين، مع أن أبيي ليست رسمياً جزءاً من الجنوب. وبتوجه نميري نهائياً لإلغاء الاتفاقية، وتجدد الحرب في الجنوب لم يكن غريباً أن ينحاز أبناء أبيي إلى ''التمرد'' الجديد. ولكن قبل أن يقع هذا قام نميري باعتقال ابن أبيي الذي انتخبه الخريجون وأغلب متعلمي أبيي، كما اغتيل الناظر عبد الله مونياق الذي خلف أباه دينق ماجوك حتى تؤول النظارة إلى أخيه آدم الأكثر طواعية، فيما تردد. أصابع الاتهام حول ذلك الحدث امتدت لمسئولين في بعض الأجهزة الأمنية في المنطقة. مع ذلك أدى ارتفاع حدة التوتر وانفجار الحرب في الجنوب بنميري للقيام بواحد من انقلاباته البهلوانية (somersault)، وفي هذا الانقلاب تفوق على نفسه. الانقلاب هو الموافقة على فتوى خلف الله الرشيد وإعلان أبيي منطقة خاصة. ولكن فات الأوان إذ لم يصدقه أحد بعد أن أعلن نفس الشيء في العام 1974 ثم نكص عنه.
    تلك هي المرحلة التي بدأت فيها الحكومة الاستعانة برجال القبائل لرد هجمات انانيا الثانية، وبوجه خاص الاستعانة بما يعرف بالمرحلين. المرحلون عند المسيرية (ويطلق عليهم الفرسان عند البقارة في دارفور) ليسوا أكثر من مجموعات استطلاعية تسبق الرعاة في مسيرتهم لأجل حمايتهم من الاعتداءات من جانب قاطعي الطرق أو الحيوانات غير الأليفة. وعند نشوب الحرب من جديد في العام 1982 أخذت أنظمة الحكم المتعاقبة تستعين بهذه الجماعات، إما كمجموعات استكشافية أو كفرق مقدمة للاشتباك مع ''المتمردين'' بهدف تحييدهم أو بث الرعب في مناطق عملياتهم. فعل هذا نميري، وفعله المجلس العسكري الانتقالي بعد الانتفاضة، واستمرت عليه حكومة الصادق المهدي إلى حين تولى الفريق عبد الماجد حامد خليل وزارة الدفاع ومطالبته بإيقاف أي نشاط للمليشيات. وعلى نهج عبد الماجد سار القائد العام الفريق فتحي أحمد علي، وكما هو معروف تضمنت المذكرة التي رفعتها قيادات الجيش في عهده لرئيس الوزراء الصادق المهدي بنداً يطالب بحل المليشيات. ذلك لم يحدث إلى حين استيلاء الجبهة القومية على الحكم التي لم تقرر دعم المرحلين فحسب، بل أكسبتهم شرعية بدمجهم في القوات النظامية وإيكال مهام جديدة لهم في دعم المجهود الحربي مثل حماية القطارات التي تنقل الجند والعتاد من بابنوسة إلى واو. ولعل الذي أطلع على تقارير مندوبي لجنة حقوق الإنسان والفريق الدولي للتحقيق حول الرق يجد الكثير حول الأذى الذي ألحقته هذه المجموعات بالدينكا. هذا هو السبب الذي دفع الدكتور توبي مادوت في 1/2/1995 باسم حزب جنوبي مسجل بالخرطوم (سانو) إلى دق نواقيس الخطر والتنبيه إلى الأضرار التي ألحقها المرحلون، ليس فقط بالدينكا، وإنما أيضاً بالسلام الاجتماعي في المنطقة كلها.
    طوال المفاوضات بين الحكومة والحركة في إطار مبادرة الإيقاد ظل موضوع أبيي مطروحاً. وفي المرة الأولى التي اتفق فيها الطرفان على تحديد ما يعنيان بجنوب السودان (قبول صيغة اتفاقية أديس أبابا 1972) ثبتت الحركة عند موقفها باعتبار ابيي جزءاً من الجنوب، وكان ذلك في دورة انعقاد المفاوضات في أديس أبابا (أغسطس 199. بسبب هذا الموقف المبدئي من قضية ابيي كان من الطبيعي أن تثيرها الحركة في لقاءات التجمع إلى أن استقر التجمع على رأي محدد حولها ضَمنه قراراته بشأن القضايا المصيرية. يقول القرار: (إن التعرف على آراء أهل منطقة ابيي فيما يتعلق برغباتهم أما بالبقاء داخل الحدود الإدارية لإقليم جنوب كردفان، أو بالانضمام إلى إقليم بحر الغزال سيتم عبر استفتاء ينظم خلال الفترة الانتقالية ولكن قبل ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير. وإذا ما أظهرت نتيجة الاستفتاء رغبة أكثرية أهل المنطقة في الانضمام إلى إقليم بحر الغزال فإنهم سيمارسون حق تقرير المصير كجزء من شعب جنوب السودان).
    هذا التاريخ المأساوي يؤكد بضع حقائق: أولاً أن موضوع أبيي ليس موضوعاً مفتعلاً من جانب الحركة الشعبية بل هو قضية ذات جذور عميقة تعود في جانب منها لما قبل الاستقلال، وفي جوانب أخرى للفترات التي أعقبته. ثانياً إن عدة عوامل طبيعية وإدارية وسياسية تضافرت على تعميق المشكل إزاء عجز كامل، أو استهانة مفرطة، من جانب السلطة المركزية. ثالثاً أن المشكل ليس هو مشكل محلي ذو تداعيات قومية بل نموذج لمشاكل محلية عديدة تفاقمت بسبب السياسات القومية الخاطئة. رابعاً بالرغم من جهود الحكماء المحليين للتقليل من حدة المشاكل المحلية ودرء مخاطرها سعت الحكومات المركزية لإقحام الجماعات المحلية في الحرب الأهلية بصورة لا تمزق نسيج المجتمعات فحسب بل كادت تقضي على الوئام الوطني. خامساً كغيره من القضايا ذات الصلة بعلاقات الشمال والجنوب، بل أكثر من أي منها، ما حدث في أبيي نموذج صارخ للإخلال بالعهود، وإهدار الفرص لتحقيق الوحدة الطوعية. بسبب من كل هذا فإن تبني المواقف المتشددة التي لا يسندها منطق، أو إطلاق الشعارات الاستفزازية التي تضر بأكثر مما تفيد ـ كما حدث أخيراً ـ لا يقود إلا إلى تمزيق القطر، وربما قاد لنتائج تعسر منها نجاة المتشددين أنفسهم.
    ففي خلال المفاوضات حول أبيي تبين أن هناك موقفين لأبناء المنطقة، موقف لا ينازع في حقوق الجماعات المتساكنة ويقول إن الدينكا والمسيرية تساكنوا في المنطقة بحدود معروفة وفي مناطق معروفة، ولكنه في ذات الوقت يؤكد حقوق المسيرية المشروعة في المرعى التي لا يمكن الإخلال لها بصرف النظر عن التابعية الإدارية للدينكا. ويسعد المرء كثيراً أن يكون أمير المسيرية مختار بابو نمر في هذا الجانب الراشد مما يثبت أنه صاحب عِزوة يلجأ له الناس عند الملمات. رأيه ذلك أدلى به في الندوة التي عقدت بضاحية كارين في العام الماضي للتشاور حول أبيي. موقف آخر عبرت عنه مذكرة وزعت على العالمين ونسبت إلى مجلس شورى المسيرية. لست من الذين يقولون إن المذكرة جاءت بإيعاز من الحكومة رغم أنها اختتمت بالقول: ''نشكر للحكومة عدم استجابتها لضغوط بعض الفئات ذات الأغراض الخاصة ونحن من جانبنا سوف ندعمها في عدم الاستجابة لمثل هذه الضغوط''. المذكرة تحدثت بالأسلوب الذي وصفناه في بدايات هذا المقال بالاندفاع وعدم التروي، خاصة عند إشارتنا للجدل العقيم حول من سبق الآخر إلى تلك الأرض. انتهت المذكرة إلى أن ''دار المسيرية جزء من السودان الموحد منذ أن نشأ السودان الحديث وهي تاريخياً وإدارياً وبيئياً تابعة لكردفان الكبرى. وقد تعايشت القبائل والأعراق فيها بهذا المفهوم، المسيرية والدينكا والنوير والبرقو والفلاتة والنوبة. وتمازجت ثقافياً وعرقياً مما جعل إمكانية تقسيمها أمراً مستحيلاً. ولكن من أراد أن يهاجر من أبناء هذه المنطقة أو ينزح لبقعة أخرى فليفعل ويرحل بماله وأسرته''. الجزء الأول من الفقرة يعبر عن قراءة وتفسير للتاريخ ومن حق أي شخص طالما ملك الأسانيد أن يعبر عن رؤاه ويقدم أسانيده مقطوعة كانت أم موصولة. ولكن ما الذي يعنيه: من شاء فليرحل بماله وأسرته. أضافت المذكرة الغاضبة ''لقد وقفت قبيلة المسيرية بجميع فروعها سداً منيعاً أغلق على التمرد العبور شمالاً وفقد المسيرية في الدفاع عن السودان آلاف الشهداء منذ العام 1964 حتى اليوم، وما وهنوا ولا استكانوا وهذا ديدنهم منذ المهدية''. ما شأن الحرب والشهداء ودحر التمرد بحقوق الرعي والتي نفترض أنها قضية المسيرية، كما هي قضية غيرهم من الرعاة. ثم خُتمت المذكرة بالآتي: ''(أ) '' نؤمن أن قضيتي أبيي وجبال النوبة لا علاقة لهما بقضية جنوب السودان ونرى أنهما قضيتان محليتان لا سبيل إلى تدويلهما ونتمسك بحدود ''1956 و(ب) ''لا نقر ولا نرضى أن يجري استفتاء حول تقرير المصير في هاتين المنطقتين، سواء كان ذلك لكل السودان أم لفئة''.
    ما كنت لأعير البيان اهتماماً لولا أنه تضمن على رأس الموقعين أسماء حريكة عز الدين، فريق مهدي بابو نمر، اللواء فضل الله برمة ناصر، عبد الرسول النور إسماعيل. أثارت اهتمامي هذه الأسماء بوجه خاص، وللحد الذي ظننت معه أن الوثيقة دست عليهم رغم وجود توقيعات عليها منسوبة إليهم. ولكن ظني تبدد عندما التقى ثلاثة من تلك المجموعة الكريمة في نيفاشا زعيم الحركة في اجتماع كانوا حريصين عليه، وكان هو أشد حرصاً منهم على الاجتماع. بدأ الاجتماع بكلمات للفريق مهدي بابو تنذر بذات الصهيل ألا وهي الحرب. قال: ''موقف الحركة في أبيي إشهار للحرب ضد المسيرية''. كان من الممكن أن تنتهي تلك الكلمات بالنقاش إلى طريق مسدود لولا أن زعيم الحركة صب ماءً بارداً على الموقف. قال كل هذا الصراع الدائر لا شأن له بمصالح الدينكا أو المسيرية، فالقبيلتان حكمت عليهما الطبيعة، كما قضت الجغرافيا والتاريخ، أن يعيشا مع بعضهما البعض شأن قبائل عديدة تعيش في خطوط التماس بين الجنوب والشمال. قال أيضاً إن الحرب بالوكالة (proxy war) التي تدور اليوم هي حرب مفروضة على الطرفين ولهذا فمن الخير للطرفين أن يجلسا مع بعضهما البعض للبحث عن أفضل السبل لحماية الحقوق المشروعة لأهليهما في الموارد المشتركة، والبحث عن وسائل للتعايش السلمي بينهما ومع غيرهما من القبائل المجاورة كما فعل دينكا مالوال مع البقارة. والطرفان اللذان عناهما زعيم الحركة هما دينكا أبيي والمسيرية وليس الحركة والحكومة. الذي أومأ إليه زعيم الحركة، وكان ينبغي أن يكون هو غاية أصحاب المذكرة الغاضبة، هو الحيلولة دون خروج القضية من حدودها حتى تصبح ذريعة لصراع أشمل. فلا معنى، مثلاً، لإقحام قضية جبال النوبة في موضوع ابيي، أو الحديث عن حق أهل الجبال في تقرير مصيرهم لأن أبناء الجبال لم يجعلوا ذلك مطلباً في المفاوضات. كما لا معنى للتجاهل الغريب في المذكرة لتاريخ قضية هي قطعاً ليست بنت اليوم، وما نيفاشا إلا محطتها الأخيرة. قد نقول إن أصحاب المذكرة ليسوا على دراية باتفاق أديس أبابا، رغم أن هذا شئ مؤسف إن حدث. وقد نقول إنهم ليسوا على دراية بقرارات مجلس الشعب الإقليمي بشأن أبيي، أو باعتبار نميري لها منطقة ذات وضع خاص في العام 1974 ثم في العام 1983، أو بإعلانه حق أهل أبيي في تقرير مصيرهم بأنفسهم في المجلد وليس في أي مكان آخر في العام 1977، أو بقرار لجنة خلف الله الرشيد في العام 1981، أو بمقررات لجنة الشيخ بشير الشيخ التي كان الناظر بابو نمر عضواً فيها في مطلع الثمانينات. ولكن يصعب علينا كثيراً أن نصدق أن قياديين مهمين في حزب الأمة لم يطلعوا على قرارات التجمع بشأن أبيي والتي كان لحزب الأمة (المرحوم عمر نور الدائم ومبارك المهدي) دور كبير في صياغتها. ولا أظن حزب الأمة من ''ذوي المصالح الخاصة'' في عرف مجلس الشورى، حتى وإن افترضنا أن كل فصائل التجمع الأخرى كانت من ذلك الصنف الردئ.
    أشد وعورة من ذلك التغافل أمران، الأول هو الدعوة لأن تقوم بين الشمال والجنوب حدوداً قاطعة مبنية على الملكية التاريخية للأرض. تلك سابقة خطيرة لأن رسم هذه الحدود القاطعة لن يقف عند المنطقة المجاورة لبحر العرب حتى وإن تنازل عنها الدينكا وارتحلوا جنوباً بأسرهم كما طالبهم مجلس الشورى. فالحدود تمتد من أفريقيا الوسطى إلى إثيوبيا، ويوم أن يقام ذلك الخط الفاصل نتيجة لمواقف غاضبة أو استفزاز غير مبرر فسيلحق الأذى كل القبائل الرعوية التي ظلت تنتقل جنوباً وراء حدود 1956 بحثا عن المرعى في وئام تام مع القبائل الجنوبية المتاخمة، وهو وئام لا تكدره إلا المشاكل التي تنجم من حين لآخر بين القبائل وتحل عبر آليات التوسط التقليدية. مثال ذلك ترحال البقارة بين دارفور وبحر الغزال (مناطق دينكا مالوال)، وترحال أولاد حميد ورفاعة الهوى في منطقة يابوس بأعالي النيل، وترحال عرب سليم والشينخاب ودار محارب في مناطق الدينكا والشلك والنوير بأعالي النيل، وترحال الحوازمة في مناطق الدينكا باريانق.
    الأمر الثاني هو لماذا يريد أي واحد منا ـ أياً كان موقعه ـ أن يثقل كاهل أهله بصخور مرمرية، مثل تحميلهم المسئولية عن حروب السودان الأهلية، حتى وإن إستدرجوا إليها وخاضوها بالوكالة. عامة الناس في السودان لا يطربون أبداً للفتنة، فالفتن يؤججها، عن علم أو جهل، من لا يتدبر عاقبة الأمور. لهذا يعجب المرء أن ينسب هؤلاء الكبار لأهلهم ما أسموه ''دحر التمرد''. أي تمرد هذا بعد اتفاق مشاكوس الذي أبان جذور المشكلة وكان في جوهره اعتذاراً متبادلاً عن الحرب. وأي نظام ذلك الذي حموه في الشمال؟ أهو نظام عبود الذي استنكر أهل الشمال سياسته في الجنوب ولهذا، مع أسباب أخريات، انقضوا عليه في أكتوبر 1964؟ أم هو نظام نميري الأول الذي اعترف بحق ابيي الذي ينكرون؟ أو نميري الثاني الذي أجج نيران الحرب من جديد في 1983 وكان أول مسعى له لإيقافها هو الاعتراف بحق أبيي؟ أم هو نظام الجهاد ضد الشرك في الجنوب بعون من الله تعالى ومن ''المرحلين'' من بعد؟ أو لعله مع نفس النظام الذي وفقه الله لسلام مع المشركين؟ لماذا يريد أي شخص عاقل أن يُحَمل أهله المسئولية عن سياسات حكومات الخرطوم التي تتأرجح سياساتها كما يتأرجح بندول الساعة وتلحق الأذى بالناس أنى اتجهت عقارب الساعة. ليت أهل الشورى اصطحبوا معهم عند وفودهم إلى نيفاشا نصيحة غالية من رجل من ديارهم عركته التجارب، الفريق شرطة عوض سلاطين دارفور (ألوان مارس 2004). كان الرجل نصيحاً في مقاله.
    البروتوكول الذي وقع بين الحركة والحكومة في السادس والعشرين من مايو 2004 حول أبيي قام على أساس مبادئ تقرب بين وجهتي النظر اقترحتها الولايات المتحدة (قدمها السناتور جون دانفورث) واستُهل بالنص على مبادئ هادية، وقواعد ضابطة هي:
    * أبيي جسر بين الشمال والجنوب يربط شعب السودان .
    * إقليم أبيي هو المنطقة التي تقطنها مشيخات دينكا انقوك التسع التي ضمت لكردفان في العام 1905 .
    * يحتفظ المسيرية والجماعات الرعوية الأخرى بحقوقهم التقليدية في الرعي والتحرك عبر أراضي أبيي .
    قررت الاتفاقية منح منطقة أبيي وضعاً إدارياً خاصاً بحيث يصبح أهلها مواطنين في كل من غرب كردفان وبحر الغزال ويكون لهم ممثلوهم في المجالس التشريعية في الولايتين، وهذه عودة للوضع الذي كان يجب أن تكون عليه في العام 1974 عندما أعلن نميري ذلك القرار، مع فارق مهم هذه المرة. الفارق هو التحديد الواضح لمعالم ذلك الوضع الخاص: أن يدير المنطقة مجلس تنفيذي ينتخبه مواطنو أبيي، والى حين إجراء الانتخابات (بعد ثلاث سنوات) تُعين رئاسة الجمهورية أعضاء المجلس على أن يكون مجلساً واسع القاعدة (أي لا تقتصر عضويته على مجموعة معينة من أبناء المنطقة). ويكون للمجلس رئيس ونائب رئيس تعينهم رئاسة الجمهورية بناء على توصيات المجلس. ويشرف المجلس على أمن المنطقة وتنميتها وتقديم الخدمات الأساسية لها. وستقرر رئاسة الجمهورية، آخذة في الاعتبار طبيعة الوضع الخاص للمنطقة، الاختصاصات التنفيذية والتشريعية والمالية والقضائية لسلطات أبيي. كما سيكون للمنطقة مجلس تشريعي يضم ما لا يزيد عن العشرين عضواً تعينهم الرئاسة في فترة السنوات الثلاث الأولى، ويتم انتخابهم مباشرة من جانب أهل المنطقة في الفترة التالية. ويباشر ذلك المجلس سلطة إقرار الميزانية وخطط التنمية والتعمير وسن التشريعات المحلية والمساهمة في جهود المصالحة بالمنطقة والاقتراح لرئاسة الجمهورية بإعفاء الرئيس التنفيذي.
    وكما حدث بالنسبة للجنوب ولكل ولايات السودان أبان الاتفاق مصادر التمويل لحكومة المنطقة حتى لا يترك أمرها للظروف أو لتقدير ـ سوء تقدير ـ سلطة أخرى. وبما أن أبيي واحدة من مناطق إنتاج البترول فقد نص الاتفاق على أن يوزع صافي عوائد إنتاج النفط فيها على الوجه التالي: 50% للحكومة القومية، 42% لحكومة جنوب السودان، 2% لإقليم بحر الغزال، 2% لإقليم غرب كردفان، 2% لدينكا انقوك، 2% لباقي قبائل المديرية. كما ستحصل المنطقة على (1) نصيبها المقرر من الدخل القومي حسب بروتوكول اقتسام الثروة، (2) العائدات من الضرائب المحلية، التي يقررها مجلسها، (3) حصتها من الصندوق القومي للتعمير والتنمية وصندوق تعمير وتنمية الجنوب، (4) المخصصات القومية لإنشاء الإدارة الجديدة وتسييرها. جميع هذه المبالغ ستودع في حسابات خاصة بموافقة الرئاسة. على أن النص على تخصيص أنصبة من عائد النفط لقبائل بعينها فيه إجحاف بغيرهم ولربما كان الأوفق أن تذهب الأنصبة للإقليم لا لجماعة في الإقليم.
    تقرر أيضاً أن تنشئ رئاسة الجمهورية لجنة للحدود لتتولى رسم حدود أبيي (المنطقة التي تحولت إلى كردفان في العام 1905) على أن تفرغ اللجنة من أداء واجبها في العامين الأولين من الفترة الانتقالية، كما سيحدد الإحصاء القومي العدد الفعلي لسكان المنطقة. هاتان العمليتان ستنهيان الجدل حول حدود المنطقة وعدد سكانها. وفي نهاية الفترة الانتقالية يجري استفتاء منفصل عن، ومتزامن مع، استفتاء جنوب السودان. وبصرف النظر عن نتائج استفتاء جنوب السودان يُطرح على أهل أبيي الخيارين التاليين: الاحتفاظ بوضعهم الإداري الخاص في الشمال، أو أن يكونوا جزءاً من بحر الغزال.
    أياً كان الخيار تبقى قائمة قضية حقوق الرعي، ليس فقط في هذه المنطقة بل على طول الشريط الحدودي بين الشمال والجنوب. وإن كان البروتوكول في ديباجته قد قضى في هذا الموضوع فيما يتعلق بالدينكا والمسيرية.
    يفيد أيضاً أن تتجه الحكومة الانتقالية إلى خلق الآليات المناسبة، ووضع الضوابط اللازمة لمعالجة مشاكل المرعى في كل السودان، بين الشمال والجنوب وفي داخل الشمال وداخــــل الجنوب أيضاً. وقبل بضــــــعة أشـــــهر من توقيع الــبروتوكول استضـــافت إثيـوبيا (18/2/2004)، بالتشــــاور مع حكومة السودان والحركة الشعبية، وبــــدعم مالي وتجهـــيزي من برنامج الأمم المتحدة للتنمية ووكالة المعـــــونة الأمريكية، منتدى شــــارك فــــيه ممـــثلون لقبائل الدينكا والمسيرية والرزيقات ولذلك أطلق علــيه اسم DMR، الأحـرف الأولى بالإنجــليزية من أسماء القبائل الثلاث. الاجتماع الـــذي شــارك فيه بعــض أعضـــاء مجلس الشـــورى دون أن يحســــبوه ''تدويلاً'' كان تجـــربة موفـقة لكـيف يمكن للنـاس أن يعالجــوا مشاكلهم بالحكـــمة إن تركوا لأنفسهم وركزوا اهتمامهم في وسائل حماية المصالح الحيوية لأهلهم. وسبق الندوة إعداد فني جيد تمثل في عديد المذكرات حول قضايا الوجود، لا خزعبلات السياسة: البنى التحتية، المراعي ومصادر المياه، مراكز تجمع الماشية، الأســـواق، مسارات الرعي، آليات التوسط التقليدية بما فيها الزعامات القبلية والقيادات الدينية.
    ولعل درجة الحرية التي توفرت لأعضاء المنتدى مكنت المشاركين من النقاش الصريح حتى في الأمور ذات الحساسية مثل دور الأحزاب في تأجيج الصراع، ودور المثقفين في تلويث القضايا الوجودية بإقحام خلافاتهم المذهبية أو طموحاتهم الشخصية. هذه تجربة جيدة وجديرة بالاحتذاء في المناطق الأخرى، كما أن مثل هذا المسار أنبه وأجدى في علاج المشاكل من تبني الثوابت العدوانية، أو الاندفاع في الاستفزازات الإستعدائية.
    ///////////////////
    بروتوكولات نايفاشا .... البدايات والمآلات (10)
    أمتفائل أنت؟ لا، أنا متشائل!
    في المقالات التسع الماضية حاولنا إلقاء اضاءات كاشفة على بروتوكولات نايفاشا الستة وبروتوكول ماشاكوس، الإطار الجامع لها، لنُجلي للقارئ ما توصلت إليه من حلول للمشاكل التي أغرقت السودان في الدماء منذ نصف قرن. وعبر المقالات أبرزنا بقدر ما سمح المجال التراكم التاريخي لتلك المشاكل ليس فقط لتبيان عمقها، وإنما أيضاً لنوازن بين مناهج الإقبال على علاجها في الماضي وفي هذا الاتفاق. من تلك الموازنة خلصنا إلى أن هذه الاتفاقيات في مجملها تخاطب جذور تلك المشاكل التاريخية، أي جذور الأزمة السودانية، للمرة الأولى منذ الاستقلال. وهذا ما أعلن التجمع الوطني الديمقراطي في اجتماعه الأخير باسمرا (بيان هيئة القيادة يوليو 2004)، وكان في ذلك ناضجاً وأميناً. هل يعني هذا أن السودان على موعد مع مستقبل زاهي؟ هذا ما يقوله المتفائلون بعد أن رأوا للمرة الأولى تحديداً واضحاً لتضاريس الأزمة في هذه الاتفاقيات، وتحديد أبعاد الأزمة هو نصف الحل. رأوا أيضاً حكماً شمالياً مهيمناً على المركز يفعل ما لم يسبقه إليه حاكم مركزي: إمتلاك الشجاعة لدفع استحقاقات السلام بالنسبة للجنوب واستحقاقات اللامركزية بالنسبة للأطراف، ولا سلام أو استقرار دون دفع كليهما. وفي ذلك أيضاً نضج وحكمة. أما المتشائمون فسيقولون "هذا أروع مما يصدق" (it is too good to be true). لِمَ التشاؤم يا تُرى؟ اغلب الظن أن الذي لا يريد ان يستبشر بنعمة من الله وفضل آتاهما الله علينا، مازال أسير تجربة خمسة عشر عاماً من الكرب والضيق لم تنمح آثارها بعد، ولسان الآثار بليغ. أنا في حيرة من الأمر بين هذين القطبين، رغم أن التفاؤل ديدني. ما أقبلت على الحياة إلا وكلي ثقة، بعد استقدار الله خيراً، في قدرتي على تجاوز الصعاب. وفي النهاية، لا يُسر، إلا فيما يسر الله. أعجز لهذا تماماً عن إدراك أي دافع ـ مهما كان ـ يجعل أي سوداني لا يستبشر باليُسر القادم لبلاد ابتلاها الزمان بكروب بأكثر مما يستاهل أهلها، لا سيما وقد تطاولت العُسرى وتمدد ضيق الحال. هل يبعث هذا على التشاؤم ؟ تفاؤلي المَرَضي يجعلني أقول لا، ولكنه قطعاً يرمى بي في منزلة بين المنزلتين كما يقول أهل الاعتزال. تلك هي الحالة التي وصفها الكاتب الفلسطيني الراحل اميل حبيبي "التشاؤل". وموجبات التشاؤل عديدة وسأوضحها.
    لكيما أوضح ما أعنيه، ولإجلاء قضايا أخرى في هذا المقال سأبدأ من حيث لا يحتسب القارئ. في العام الماضي سمح الكونقرس الأمريكي لوزير الخارجية بتكوين فريق يقوم ببلورة سياسة أمريكية جديدة تجاه أفريقيا بهدف تطوير العلاقات الأمريكية - الأفريقية في كل المجالات، ومن الواضح أن الكونقرس شهد تخبطاً في سياسات الإدارة الأمريكية نحو القارة. على ذلك الفريق أُطلق اسم المجموعة الاستشارية لوزير الخارجية حول السياسات الأفريقية (Africa Policy Advisory Panel). وفي نهاية العام كلف وزير الخارجية الأمريكي، بالتعاون مع حكومة النرويج، مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بجامعة جون هوبكنز، بما له من خبرة بالسودان، بإعداد تقرير للحكومتين يُقَدم أولاً للمجموعة الاستشارية حول ما ينبغي عمله لتمتين السلام في السودان. كان ذلك بعد الاتفاق الذي توصل له الطرفان بشأن الترتيبات الأمنية التي اعتبرت وقتها إيذاناً بان الاتفاق على الأبواب بعد تجاوز الطرفين عقبة صعبة المرتقي. الحرص على ذلك التقرير يكشف، بلا شك، عن رغبة الدولتين الراعيتين للمفاوضات وللاتفاق على المضي لآخر الشوط مع السودانيين من اجل ترسيخ السلام ودفع التنمية.
    فور تكليفه ابتعث المركز اثنين من خبرائه إلى السودان زارا الخرطوم والجنوب وجبال النوبة ثم عادا إلى واشنطن ليكملا التقرير، والذي رفع لوزير الخارجية في يناير 2004. وصدر التقرير تحت عنوان : "كيف يُضمن السلام، استراتيجية للعمل في سودان ما بعد الحرب." المركز، لمن لا يعرف أو يتذكر ، هو صاحب التقرير الذي أوصي في عام 2001 بقيام دولة واحدة بنظامين، وهو تقرير قابله التجمع بامتعاض لأنه دعا لتركيز كل جهود الولايات المتحدة على إنهاء الحرب ووضع القضايا الأخرى (مثل التحول الديموقراطي) في المضرم الخلفي (back- burner) من الموقد. الحركة أيضاً قابلت ذلك التقرير برد فعل غاضب لأنه اغفل كليةً حق تقرير المصير، في حين استقبلته الحكومة برضى خفي، ربما بسبب دعوته إلى تطبيع العلاقة مع الخرطوم ورفع درجة التمثيل الأمريكي فيها. فما الذي جاء به التقرير الجديد؟ وما هى علاقة ذلك ببواعث التفاؤل والتشاؤم؟
    في بدايته قال التقرير أن أكبر تحدٍ يجابه السودان هو بناء مؤسسات قادرة على صيانة وحدة القطر وحماية حق الجنوب في الإدارة الذاتية، من ناحية، وعلى إنهاء الاختلال في الكفاءات المؤسسية والمهنية بين الشمال والجنوب، من الناحية الأخرى. وكنموذج لهذا الاختلال أشار التقرير إلى انه في الوقت الذي يمثل فيه الجنوب ثلث القطر (أرضا وسكاناً) لا يتجاوز عدد الأطباء فيه الست وثمانين طبيباً، وعدد الممرضين والممرضات الستمائة، كما لا يزيد عدد القضاة عن ثلاث وعشرين قاضياً في درجات القضاء المختلفة. هذه أمور لم تَخفَ على الطرفين، وقد أولياها اهتماماً ملحوظاً في الاتفاقيات التي وقعت بعد صدور التقرير، واستعرضنا جوانب منها في هذه المقالات.
    أقرب لموضوعنا ما أسماه التقرير المخاطر التي تتهدد الاتفاق، وتلك أحصاها في : التخريب من الداخل ، الديون الخارجية ، ضعف الأداء الحكومي، سوء استغلال الموارد، تدخل الجيران. وعند مخاطبة هذه المخاطر أورد التقرير توصيات لعل المراد منها أن تكون أساساً لسياسات الإدارة والدول الراعية للاتفاق تجاه السودان. من ذلك: حث المجتمع الدولي على التعاون مع السودان لضمان عدم العودة إلى العدائيات (توطيد الاجراءات الأمنية)، حث الأمم المتحدة والدول الكبرى على توسيع مبادراتها الاقتصادية والدبلوماسية لدعم عملية البناء (ويفترض، بل لا بد أن يشتمل هذا على حل مشكلة الديون)، الضغط على الطرفين لتوسيع نطاق المشاركة السياسية في الشمال والجنوب (التحول الديموقراطي والوحدة الوطنية)، وتوجيه جهود التعمير والتنمية نحو تكامل حقيقي بين المجموعات السودانية ، وبناء علاقات أفضل بين الجنوب والشمال وبين الجنوبيين والشماليين (ترسيخ وحدة القطر). لست بذي ولع بتقارير ذلك المعهد أولاً لدعواه الكبيرة بأنه سيد العارفين في الشأن السوداني، وثانياً لاختلافي مع النتائج التي توصل إليها في تقريره في عام 2001، والتي أثبتت الأحداث ما شابها من سوء تقدير. ولكني أعترف أن كلا الحكمين انطباعيين وواحداً منهما دوافعه ذاتية. إلا أنني هذه المرة لا املك إلا الاعتراف بحسن تقويم المركز للأوضاع، ولقراءاته الصائبة للمشهد السوداني، ومن ذلك توصيفه للمخاطر الداخلية التي تتهدد الاتفاق.
    في تناوله للمخاطر الداخلية، أو احتمالات التخريب من الداخل، لم يخلُ التقرير من طرافة، خاصة عندما ذهب إلى تسمية من هم أكثر الأطراف انتفاعاً من الاتفاق، وبالتالي أكثر حرصاً على حمايته، ومن الذين سيتضررون من الاتفاق ، وبالتالي هم أقل رغبة في حمايته. وضع التقرير على قائمة المنتفعين الرئيس البشير والدكتور جون قرنق، ومن بعدهما عامة الناس ، فالشباب ، ثم رجال الأعمال . البشير في رأي التقرير لن يضمن فقط دورة حكم كاملة في ظل سلام شامل يُحظى فيها بتأييد الشمال والجنوب، بل سيدخل التاريخ كأول حاكم يعيد للسودان الأمن والاستقرار. هذا تقويم صحيح، ولعل هذا ما عناه الرئيس البشير نفسه عندما قال، بعد أن حمد الله في خطابه في الذكرى الخامسة عشر للإنقاذ : إن السلام مكرمة غالية ادخرها الله لثورة الإنقاذ "ليتحقق على يدها أكبر حدث بعد الاستقلال". أما قرنق ، فيقول التقرير انه سيحقق بالاتفاق عدة أماني: السلام ، حكم الجنوب لنفسه بنفسه ، حل قضايا المناطق المهمشة التي ظل يكافح من أجلها ، لعب دور رئيس على الساحة القومية ، العمل على نشر أفكاره حول السودان الجديد بأسلوب سلمي . عامة الناس لا خلاف في أنهم أصحاب مصلحة مباشرة في إنهاء الحرب، بل هم أصحاب المصلحة الأولى فيها بسبب ما عانوه من ويلاتها ، وكذلك الشباب من الجانبين فقد كانوا دوماً وقود الحرب. أحسنهم حالاً من فر من أخيه وأمه وأبيه بحثاً عن ملجأ آمن. ولا تسألن عن المصلحة التي يترجاها رجال الأعمال في ظل السلام. للحروب تجارها، أما السلام فهو الذي يجعل من السودان بلداً مَتجْرَاً (تروج فيه التجارة) تتاح فيه لرجل الأعمال المستقيم فرص الكسب الوافر بسبب تعدد وتنوع برامج التعمير ، وتوجيه عائدات النفط للإنتاج من بعد أن كان جلها يذهب للمجهود الحربي، وتحسن العلاقات مع الجيران، ورفع الحظر والعقوبات عن السودان. في كل هذا صدق التقرير، في إشارته. مالم يشِر إليه التقرير عند رصده للمنتفعين من السلام هو الجيش في الجانبين. وقد علمتني التجارب، منذ اتفاق أديس أبابا، أن العسكريين دوماً هم الأكثر استجابة لدواعي السلام متى ما توفرت أسبابه. هذا إحساس لم يفارقني إثناء مفاوضات السلام الراهنة.
    إلى جانب المنتفعين بالسلام رصد التقرير العناصر التي يحتمل أن تخرب السلام في الشمال والجنوب. فمن جانب الحكومة، أشار التقرير لغلاة الإسلاميين، والمستمسكين بالسلطة، بعضهم حباً فيها، والبعض الأخر للاحتماء بها من أية محاسبة مرتقبة. كما ذكر من جانب معارضي النظام الطامعين في السلطة من السياسيين القدامى الذين فاتهم "قطار المكاسب" (GRAVEY TRAIN). أما في الجنوب فقد رصد التقرير الانفصاليين الذين لا تروق لهم فكرة الانصهار الوطني الذي قد ينجم عن التطبيق الجاد للاتفاق ، والمثقفين والسياسيين الطامعين في السلطة. إلى جانب هؤلاء، أضاف التقرير أن اكبر المخاطر، في حالتي الجنوب والشمال، ستجئ من الميليشيات العسكرية إما بسبب التفلت أو التحريض. هذه أيضاً قراءة صحيحة للمشهد، ولعل المرء يرى ملامحها والاتفاق لما يكتمل بعد. ومبلغ الظن أن احتمالات التخريب السياسي في الجنوب (إن استثنينا ما قد ينجم من المليشيات العسكرية) لن تستعصى على التحييد لأنها تتعلق بطموحات سياسية لأفراد أو جماعات يمكن احتواؤها مهما كانت درجة مشروعية الطموح. أما في الشمال فيَعوِّص الأمر اختلاط السياسة بالايديولوجيا من ناحية، "وبالحق التاريخي" في الحكم عند البعض، من ناحية أخرى.
    دعنا ننظر في الشمال إلى الشق الحاكم حيث يستشف المرء من الحملات المستترة دوماً والجهيرة في بعض الأحيان ضد الذين جنحوا للسلم من قيادات النظام وثبتوا عند ما تعاهدوا عليه، ما هو اخطر من الرغبة في تقويض الاتفاق. فأخطر من الرغبة في التقويض الرغبة عن السلام نفسه. ليس كل هؤلاء ممن عناهم الأمين العام للمؤتمر الوطني الدكتور إبراهيم احمد عمر بالشموليين في التنظيم ، فالمخربون الافتراضيون فِرَق . فريق يعرف جيداً أن الصلح خير وأن للسلام ثمناً مستحقاً إلا أنه يطمع في أن لا يكون هذا الثمن على حسابه. يقول الرواة، مثلاً، أن أحد مفاوضي الحكومة قال لوفد حزب الأمة في جيبوتي (25 نوفمبر 1999) عندما أثير موضوع المحاسبة: "أتريدون منا أن نعطيكم حبلاً تشنقوننا به؟" نتيجة لذلك انتهى اتفاق جيبوتي إلى النص على ما يلي : "النظر في كافة المظالم وإنصاف المظلومين". موقف ذلك المفاوض يعكس رد فعل طبيعي وبشري ، فقلما يُقبِل إنسان على الانتحار في سبيل آخر إرضاءً له إلا إن كان عاشقاً له ، وبه مستهاماً. ومفاوضات السلام لا تدور بين عنتر وعبلة. هذه قضية لم تشغل بال المتفاوضين طويلاً في نايفاشا إلا في إطار الحديث عن لجنة الحقيقة والمصالحة من أجل تطهير النفوس والأجواء لأن مفاوضي الحركة كانوا يعرفون جيداً أن المفاوض الذي يجلس قبالتهم لم يجلس للتوقيع على وثيقة الاستسلام. ولكن بين النظام ومعارضيه في الشمال ثارات كليب، وفي الساحة ألف مهلهل يطلب ثأره، لا في ساحة الوغى ولكن ساحة الصلح. رغم خداع النفس هذا أمر يستلزم العلاج، وأحسب أن الرئيس البشير في خطابه في العيد الخامس عشر قد أوجد للناس مخرجاً عندما قال : " أوجه جميع أجهزة الدولة لتراجع الإجراءات الاستثنائية القائمة التي اقتضتها الضرورة ، ولما لم يكن الظلم مقصداً للدولة أو نهجا لها فإننا نعلن براءتنا من كل ظلم أو تجاوز وقع في حق أحد ونعلن التزامنا بدفع الظلم ورد الحقوق إلى أهلها متى ما ثبت الحق لهم " . فلتكن هذه نقطة البداية للحوار فيما أسماه بروتوكول اقتسام السلطة "عملية المصالحة الوطنية الشاملة". وفي ظل المصالحة لا تهدف المحاسبة لإغاظة قلوب ، أو شفاء أخرى ، وإنما لإحقاق الحق ورفع الظلم حتى ينصرف الناس ، جميع الناس ، لما ينفع البلاد والعباد .
    الفريق الثاني هو فريق "الكنكشة" في السلطة من حيث هي سلطة. هؤلاء أمرهم عسير لأن الذين لا يهطعون إلا لداعي السلطان لن يدركوا أن رد المظالم الذي تتحدث عنه ماشاكوس ، واقتسام السلطة الذي أقرته نايفاشا، سيترجمان في نهاية الأمر إلى مراكز ومواقع ، ووزارات (نعم وزارات). ما يتوجب إقحامه في رؤوس هؤلاء هو أن اتفاق السلام، على المستوى الوطني، اتفاق لا خاسر فيه، ولكن للوصول إلى ذلك لابد من أن يكون على المستوى الشخصي خاسرون. الخيار، إذن، خيار بين الخسارة الشخصية والخسارة الوطنية، بين خيرات السياسة واحتياجات الوطن. هذا امتحان لوطنية الرجال، وامتحان أيضاً لحديث مجته الإسماع عن أن المواقع تكليف لا تشريف. الفريق الثالث هو الأهم، أصحاب الإيديولوجيات والذين مقصدهم فيما يعتقدون هو الله. لقضية هؤلاء جانبان ، جانب رؤيوي، والثاني سياسي بحت. فمن الجانب الرؤيوي نحسب أنه لم يعد في عالم اليوم من يؤمن أنه من حق أي بشر، أو في مقدوره، احتكار الحقيقة، أو قسر الآخرين على الامتثال لرؤية أحادية لها، أو التظني أن يقينيات فرد أو مجموعة يمكن أن تكون هي ثوابت الأمة كلها. ولكن يبدو أن في السودان قوماً لم يسمعوا بعد بما أصاب أهل الحتميات التاريخية الميكانيكية. من أولئك دولة هي دولة لينين كانت تملك عند سقوطها ترسانة من الأسلحة النووية تكفي لتدمير العالم ست مرات. ما من عاقل أيضا يملك أن يرتهن الوطن كله لفكرة تلبسته، ثم يُدخِل الوطن بسبب من ذلك في صراع مفتعل مع الدين. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً إن لم يكن أهل هذا الوطن ملةً واحدة، أو إن كان أهل الملة الواحدة فيه شيعاً وطوائف. في مثل هذه الحالة لا تصبح الحتميات فكراً انغلاقياً بل تتحول إلى يقينيات عدوانية. فإن كانت هناك لازمة واحدة من لوازم ممارسة الحرية الفكرية، فتلك هي حق الاختلاف. للأستاذ الراحل خالد محمد خالد مقالة في خلافه مع الشيخ حسن الهضيبي يفيد أن نستذكرها. قال: " وُجد الوطن في التاريخ قبل أن يوجد الدين، وكل ولاء للدين لا يسبقه ولاء للوطن هو ولاء زائف وليس من روح الله ، فالوطن وعاء الدين وسناده ". هل نقول من هنا نبدأ؟ نعم من حق الإنسان أن يضحي بروحه من أجل فكرته، ونعرف أن من أنصار النظام كما من مناصري خصومه من ضحوا بأرواحهم في سبيل ما يعتقدون. نعرف أيضاً في التاريخ من أقدم على التضحيه بابنه في سبيل الله (إبراهيم واسحق) وهو قرير العين. ولكن الوطن ليس ملكاً لأحد حتى يضحي به في سبيل ما يعتقد. الوطن لكل أهله، وينبغي أن يتسع لهم جميعاً. يتسع للمسلم وللمسيحي ولأهل المعتقدات التقليدية. وليس الدين وحده هو الذي يجمع بين المواطنين، فبين أهل السودان من يختزل الوطن كله في الهلال والمريخ، ولا يشغله سواهما. هذا أيضاً من حقه أن يستمتع بوطنه على الوجه الذي يراه. يتمنى المرء أن تكون الرسالة التي بعث بها النائب الأول في خطابه أمام مجلس التعايش الديني (3/8/2004) قد وصلت إلى الجميع. قال: "إن محتوى الاتفاقيات يخلق واقعاً تسقط فيه الحواجز وتنفتح المسلمات ليتقارب الناس وليكتشفوا بعضهم وليؤسسوا على ما يجمع بينهم على أساس التعايش والاحترام المتبادل. إن التسامح هو خصيصة في قلب كل السودانيين، مسلمين أو مسيحيين أو أصحاب معتقدات عرفية أو على ديانة أخرى". لو وصلت الرسالة ووعيها كل من وجهت إليهم ، قلت درجة التشاؤم .
    من الجانب السياسي، يظن المرء أن التحولات البارزة التي طرأت على العالم بعد زلزال 11 سبتمبر قد تركت أثراً على المفاهيم، لا سيما وتوابع الزلزال ما زالت تتردد، وغمامتها ما فتئت تُكدر السموات. وان كان هناك خطاً فضياً واحداً تحت تلك الغمامة فهو أنها جعلت الكثيرين يعيدون حساباتهم، ولم يكن السودان بعيدا عن هؤلاء. ولئن واتت النظام الفرصة، بسبب من هذا، ليخرج من عزلته الخانقة، ثم واتت الحركة الإسلامية الفرصة لتسترد مكانها كعنصر فاعل في السياسة الوطنية على قدم المساواة مع الآخرين أولاً بسبب الاتفاق مع أكثر معارضيها لدداً، وثانياً برضى كل أهل السودان بمن فيهم من اقتلعت منهم السلطة، أو لا يرى المعاندون في هذا مكسباً للتوجه الإسلامي ؟ ثم أو لم يفطنوا بعد إلى أن الاستئثار بالسلطة، أو أن شئت التمكين المطلق فيها، قد حول السلطة إلى طيلسان مسموم؟ لقد أجاد د. الطيب زين العابدين عند ما دعي لتشكيل " كتلة إسلامية مؤثرة واعية من قلب النظام تنبذ الأوهام وتعقل الحقائق الكبرى المحدقة بالوطن وتدرك أن الجبهة الداخلية لا تبني بلا استحقاقات غالية ينبغي أن تدفع". أن تفكيك الإنقاذ لا يعني نهاية الدين في السودان بل، حسب رأيه، "يصح القول أن استمرار الإنقاذ بحالتها الراهنة فيه إضعاف للدين في السودان". (الصحافة 15/8/2004). هذا رأي جدير بالاستماع ، وقد خاطر من استغنى برأيه. ومقال د. الطيب فيه شئ من أدب أهل التصوف، قال الجنيد: "أتخذ لنفسك مرآتين، أنظر في أحدهما عيب نفسك، وفي الثانية محاسن الناس".
    نجئ على مخربي السلام من الجانب الآخر أي على الذين معضتهم ثنائية الاتفاق. الامتعاض من الاتفاق الثنائي شعور طبيعي، لاسيما وقد ذهب الاتفاق بعيداً، ولربما أبعد بكثير مما ظن الطرفان عندما جلسا للتفاوض. فالاتفاق يمثل أعادة صياغة كاملة للسودان: سياسياً وإدارياً واقتصادياً، وبهذا هو عودة بالقطر لمنصة التأسيس (back to the drawing-board). ورغم أن في ذلك العود خير لأنه خاطب المشاكل التي ظلت تؤرق البلاد منذ الاستقلال، إلا أن اتفاقاً كهذا لن تكتب له الديمومة إن لم تشارك في صوغه كل القوى السودانية، السياسية والاجتماعية. في هذا لا خلاف بين طرفي الاتفاق كما أكدا بعد توقيعه، وها هو الحوار سيبدأ بين التجمع والحكومة غداً، وبمشاركة من الحركة الشعبية، باعتبارها عضواً أصيلا في التجمع. وبدهي أن يكون الحوار بُناءً على ما تم، لا نقضاً له، كما ينبغي أن يتسع ليشمل أطرافاً أخرى غابت عنه مثل حزب الأمة. هذا هو الطريق الأوفق، وليس الدعوة لقيام منابر جديدة للحوار، أو السعي لإغراق اتفاقيات السلام في قضايا أخرى، إلا إن كانت الغاية هي إرضاء الخيلاء الشخصية. وعلى وجه التحديد لن يكون هناك تراجع في أساسيات الاتفاق: وضع الجنوب، وضع المناطق المهمشة، اللامركزية وسلطة الولايات، أسس اقتسام الثروة وضرورة ضبط توزيعها، إعلان الحقوق واستغلال القضاء وسيادة حكم القانون، العاصمة، الدستور والقوانين إلا فيما ستتوافق عليه الأطراف في المؤتمر القومي الدستوري. ولئن قال قائل أن في هذا إجحاف بحق الآخرين يكون مخطئاً، فما إشادة التجمع بالاتفاق لأنه خاطب جذور الأزمة إلا لأنه تناول هذه القضايا بالذات وتوصل إلى حلول بشأنها. وقد بقيت تلك المشاكل إما لأنها استعصت على الحل، أو لأنها لم تكن تحتل المكان اللائق بها في هرم الأولويات، أو لأي سبب آخر. فكما يقول هيقل حتى الوقائع اللاعقلانية في التاريخ هي عقلانية، لأنها تصدر عن سبب موضوعي. ولكن أن ظن البعض، بعد كل الذي تحقق في ساحة السلام، أن لليلى المريضة بالعراق طبيباً مداوياً واحداً لا بد من إخضاعها لتطبيبه حتى وان أبلت ليلى من دائها، فذلك أمر يتعسر عقله. ولعله تعبير عن الظاهرة التي أسلفت الإشارة إليها: ظاهرة الطبيب الذي أصبح عند فئة من السودانيين أهم من المريض.
    ما الذي ينبغي، إذن، أن يكون محط الاهتمام من جانب الذين لم يشاركوا في صوغ اتفاقيات السلام؟ الاتفاقيات، في جوهرها،هي خارطة طريق لتحول ديمقراطي يبدأ ببداية الفترة قبل الانتقالية، وينتهي بإجراء الانتخابات في بداية النصف الثاني من تلك الفترة. ومنذ ماشاكوس أقر الطرفان تكوين لجنة قومية لمراجعة الدستور خلال الفترة الانتقالية وأجبها الأساس وضع إطار دستوري وقانوني. هذا النص طور في بروتوكول اقتسام السلطة ليتحدث عن إنشاء لجنة قومية لمراجعة الدستور تتكون من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وممثلين للقوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني حسبما يتفق عليه الطرفان ، وعلى هذه اللجنة أن تكمل واجبها في خلال ستة أسابيع من إنشائها. لهذا، يصبح من أولى المهام التي يتوجب حسمها بين طرفي الاتفاق والقوى السياسية الأخرى في الحوار المرتقب مع التجمع التواطؤ على كيفية تشكيل هذه اللجنة. ويوجه البروتوكول أن تعتمد اللجنة في إعدادها للإطار الدستوري الجديد على اتفاقية السلام والدستور القائم مع الاستفادة من أي تجارب ووثائق متلازمة يطرحها الطرفان " .
    اعتماد الاتفاق والدستور القائم كوثيقتين أساسيين لعمل اللجنة صحبه تمحك من جانب البعض في الشمال، ربما لما فيه من مظنة الاعتراف بذلك الدستور، رغم ما يتيحه الاتفاق للجنة من فرص للاستفادة من أي وثائق أخرى. هذا محك لا معنى له ، بل هو مغالطة . فالنظام الذي يفاوض التجمع يحكم بهذا الدستور ويحتكم إليه. واتفاق السلام عندما يكتمل سيقره المجلس الوطني وهو مجلس قائم على هذا الدستور، بل أن الدستور التي ستضعه اللجنة لن يصبح دستوراً للسودان إلا بعد إقراره من جانب المجلس الوطني، والمجلس الوطني للحركة. هذا النوع من المحك يدعو للتشاؤم لما فيه من عجز عن التمييز بين الشجيرات والأكمة. أنا من الناقدين لهذا الدستور وقد أوسعته نقداً في ما كتبت، ومنه هذه المقالات. بيد أنا جميعاً، حكومة ومعارضة، نسعى للعبور لمرحلة جديدة، فبماذا يفيد شق الشعيرات.
    التحول الديموقراطي يتطلب في البدء إجراءات لتهيئة المناخ ، وللتجمع آراء في هذا الشأن سبقت التحضير للمفاوضات تحت ظل المبادرة المشتركة (المصرية-الليبية). وبلا شك ستكون تلك الآراء، وما سيلحق بها من تعديلات اقتضتها التطورات، على رأس أوراق عمل المنتدى التفاوضي. ومما يجدر ذكره أن تقرير معهد الدراسات أولى هذا الموضوع اهتماماً خاصا إذ وردت فيه توصيات محددة بشأن تهيئة المناخ هي : إلغاء حالة الطوارئ ، وضع جدول محدد للانتخابات ، توفير الحريات المدنية مثل حرية العقيدة ، التنظيم، الاجتماع ، التحرك، الشفافية في أداء الأجهزة العامة وضبط اليات الرقابة، إلغاء القوانين المقيدة للحريات بما فيها قانون الأمن القومي وقانون الإجراءات الجنائية 1991 وبخاصة المواد المتعلقة بالتحقيق والاعتقال والحجز التحفظي ، إعادة تنظيم أجهزة الأمن والتي أسماها التقرير الثعبان الأسطوري ذا الرؤوس المتعددة (multi-headed hydra). جميع هذه الموضوعات تناولها بروتوكول اقتسام السلطة إما بالتفصيل، أو بإقرار مبادئ موجهة للجنة مراجعة الدستور أو الحكومة الانتقالية. مع هذا تظل هي من بين القضايا الهامة التي ستعني بها الأطراف الأخرى في المفاوضات المرتقبة لانها تدخل في صميم عملية التحول الديمقراطي.
    توفير المناخ ليس هدفاً في حد ذاته وإنما هو ضرورى لكيما تستطيع القوى السياسية والاجتماعية أن تلعب دورها بفعالية بحسبانها الحاضنة الاجتماعية للديموقراطية ، فلا ديموقراطية بلا أوعية سياسية واجتماعية تحضنها. وبعد عقد ونصف عقد من الزمان كانت فيه الأحزاب في حالة بيات شتوي لا تستطيع الأحزاب أو المنظمات المُعارِضة أن تقول "جاهزين، جاهزين " لحماية أي شئ . الحرية والمناخ الصحي مطلوبان أولاً لتمكين الأحزاب من ترتيب بيوتها الداخلية. إن الانطباع الذي يعطيه بعض السياسيين الحزبيين في تصريحاتهم بأن القضية الأولى هي السلطة، والسلطة المركزية على وجه التحديد، مؤشر لا ينبئ بخير ويضعف من التفاؤل. لماذا؟ أولاً لأنه يكشف عن عدم استيعاب، أو انعدام الرغبة في استيعاب، دلالات التحول الذي فرضته اتفاقيات السلام. ثانياً لان الاشتهاء العارم للسلطة دون أن يصحبه سعي ملحوظ لتحديد رؤى وبرامج حول ما ستفرضه الاتفاقيات على كل السودان يوحي بان السلطة في حد ذاتها هي الهدف، وهذا عود لما هو غير حميد في تجاربنا السابقة. فالاتفاق قد منح الولايات سلطات لم تملكها من قبل، ووفر لها موارد فوق ما كانت تطمح فيه بسبب تجاربها مع هيمنة المركز في الماضي. أو ليس من واجب الأحزاب التي درجت على اعتبار أن تلك الولايات / الأقاليم طوع بنانها أو رهن إشارتها أن يكون لها تصور حول تطوير هذه المناطق وتنميتها على المدى القريب وللمستقبل. ثالثاً ترتكب الأحزاب جناية كبرى في حق نفسها إن سلكت هذا المسلك لأن التحول الذي سيطرأ على موازين القوى بين المركز والأقاليم قد يقود إلى بروز تنظيمات سياسية إقليمية أكثر قربي بمصالح أهلها. وبالرغم من أن هذه الظاهرة معروفة في بلاد أخرى كالهند مثلاً أو حتى بريطانيا (الحزب القومي الاسكتلندي، والحزب البروتستانتي الايرلندي) إلا أن الأحزاب القومية في هذه الدول ظلت هي صمام الأمان للوحدة الوطنية، ولهذا يظل دور هذه الأحزاب في السودان هاماً وضرورياً. هذا هو الدور الذي ينبغي أن تستمر الأحزاب القومية في أدائه، ولكن فعاليتها ستضعف كثيراً إن استمرت في الظن أن دور ممثليها في الأطراف هو دور متعهد توريد للناخبين في فترات الانتخابات.
    يقودني هذا إلى الحديث عن تشويش لا يفيد فيما يتعلق بموضوعي السلطة والثروة، وأشير إلى الحديث الذي يلخص الأول منهما في النسب التي حُظي بها كل من الطرفين المتفاوضين وضازا بها حق الآخرين، ويلخص الثاني في نسب توزيع البترول بين الشمال والجنوب. الأمر الأول لا مُشاحة فيه، فتلك قسمة ضيزى فرضها توازن القوى كما قلنا في أكثر من موقع، كما فرضها حرص الطرفين على الإمساك بدفة الأمور في المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية. تلك هي فترة البناء أو الانهيار (make or break). على أن هذه الأرقام لم تُسبك من حديد ولهذا فمن حق القوى السياسية الشمالية، كما من حق القوى السياسية الجنوبية بالنسبة لحكومة الجنوب، أن تتفاوض مع الطرف المعني للوصول إلى معادلة مناسبة تمكنها من أن يكون لها وجود فاعل، كان ذلك على مستوى الحكم المركزي أو الولايات. وفي هذا الشأن، لن يفيد كثيراً الارتكان إلى معادلات ستاتيكية مثل النسب في الانتخابات السابقة كمعيار لموازين القوى، فالسياسة فعل متحرك. ولو صحت مقولة العودة إلى نسب الانتخابات الأخيرة ـ والتي كثيراً ما رددها رئيس الوزراء السابق ـ أو أمكن الارتكان إليها لَسُهل الحل. الحل يصبح بسيطاً: تخلي الرئيس البشير عن موقعه لرئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء السابقين. إن لم يحدث هذا، فلان هناك معطيات موضوعية يجب أن يتعامل معها الناس برشد.
    أياً كان الأمر، الذي نتمناه هو أن لا تُحمل الأطراف على اللجوء إلى سياسات الترضية بخلق مواقع تشريفية وزارية لاستيعاب من فاتهم قطار المكاسب، كما أسماهم مركز الدراسات، لأن في هذا إجهاض للاتفاق نفسه. فالاتفاق أولاً آلية لخلق لامركزية حقيقية تتطلب، ضرورة، إنهاء هيمنة المركز على الأطراف بتقليص سلطاته وتوسيع سلطاتها. ثانياً يهدف الاتفاق إلى توزيع عادل للموارد وتوجيه رشيد لها للارتقاء بالوطن: رفع مستوى المناطق الأقل نموا إلى أعلى متوسط نمو في بقية أنحاء القطر، إعادة تشييد البنى التحتية المادية والاجتماعية، إزالة آثار الحرب. هذا امتحان لجدية الذين وقعوا الاتفاق في الانتقال بالسودان من دولة الرعاية للنخب إلى دولة الرعاية للمواطن. وعلى المستوى الشخصي، سأكون من أكثر الناس شقاءً لو شهدتُ في الخرطوم حكومة مركزية يتجاوز وزراؤها العشرين بالكاد. بل يكون من الخير أن لا تنشأ، بعد الاستقرار على العدد من الوزارات المركزية التي تقتضيها الحاجة، أي وزارات جديدة إلا بقانون تجيزه السلطة التشريعية.
    فيما قرأت حول هذه النسب، من جهة أخرى، ما يوحي بخلط للأوراق، فالنسب التي أشار إليها الاتفاق تتناول البرلمان والحكومة ولا شأن لها بالخدمة العامة، أو اللجان القومية، أو الأجهزة العامة. وحيثما وردت إشارة لمثل هذه النسب في الحديث عن الخدمة العامة أو أجهزة الأمن كان ذلك بالنسبة للجنوبيين (وليس للحركة الشعبية) بهدف إعادة التوازن في هذه الأجهزة التي حُرم منها الجنوبيون زماناً. هذا جزء من رد المظالم الذي نتحدث عنه دوماً ونكاد نرفض تنزيله على أرض الواقع. أما اللجان مثل لجنة الانتخابات أو لجنة حقوق الإنسان، أو المؤسسات مثل القضاء وأجهزة الأمن فهذه، بطبيعتها، أجهزة يفترض فيها الحيدة، ولهذا يكون الاختيار لشاغلي المناصب فيها قائماً على الكفاءة والأمانة والقدارة المهنية مع مراعاة التعدد والتنوع في السودان.
    نفس خلط الأوراق حدث في بعض الإشارات لاقتسام الثروة (بروتوكول اقتسام الثروة) والذي صُور وكأنه توزيع إهتبالي. هذه قراءة مجحفة للبروتوكول حتى فيما يتعلق بتوزيع عوائد البترول. فنحن، مثلاً، لا نستطيع الحديث عن إعادة بناء ما خربته الحرب في الجنوب دون أن نفترض أن لذلك ثمناً. ولا يمكن أن نتحدث عن الخراب الذي أوقعه إنتاج البترول بذلك الإقليم (اجتماعياً وبيئياً) دون أن نحسب أن لذلك ثمناً. ولا يمكن أن نتحدث عن الارتقاء بإقليم بحجم يوغندا ورواندا وكينيا وليس به كيلومتراً واحداً من الطرق المرصوفة ولا نحسب أن لذلك تكلفة. ينص الاتفاق أيضاً على أن يكون لأي منطقة ينتج فيها النفط نسبة محددة من عائداته وهذا ينطبق على كل إقليم ينتج نفطاً، في الشمال أو الجنوب. الذي يمكن المطالبة به، مثلاً، هو أن تتخذ حكومة الوحدة الوطنية من تلك الصيغة نموذجاً لتوزيع الموارد الأخرى غير المتجددة في مناطق إنتاجها (الذهب في شرق السودان مثلاً)، أو أن تقرر نسباً لكل ولاية من عائد النفط لأهداف التنمية حسب حاجتها. وفي المقال حول الاقتصاد أشرت للتجربة الكندية حول التكافؤ بين الولايات، وهي نموذج جدير بالاحتذاء.
    رغم كل هذه المخاطر توفرت لاتفاق السلام هذه المرة ضمانات لم تتوفر لاتفاق أديس أبابا. فالاتفاق أولاً يتمتع بضمانات عضوية (organic guarantees) على رأسها حكم ذاتي قوي في الجنوب، وموارد مستقرة ومضمونة (أي لا تخضع لتقدير ـ إن لم نقل لأهواء ـ طرف آخر)، وقوة عسكرية للحماية الذاتية. جميع هذه الضمانات لم تتوفر لاتفاق أديس أبابا إذ كان الحكم الذاتي هشاً واعتمدت استمراريته على حسن نوايا نظام شمولي انتهى إلى نظام فرد نزوي، والموارد المالية (بما في ذلك ما حدده الاتفاق) شحت وعسرت ،أما الجيش والذي تم الاتفاق على تكوينه في الجنوب بانصهار عناصر الانانيا فيه شريطة أن يقوم على معادلة محسوبة: جندي جنوبي مقابل كل جندي شمالي فقد أنتهي إلى جيش يهيمن عليه الشماليون مما أدى في النهاية إلى الانفجار. الإختلاف الآخر هو أن هذا الاتفاق يتم في ظل تحول ديمقراطي تتوفر فيه وسائل الكبح والتوازن في الأجهزة (مجلس الولايات)، والصحافة الحرة، ومنظمات المجتمع المدني، وكل ذلك يجعل الخروج عن الاتفاق أمراً عسيراً على أية حكومة في الخرطوم، لا سيما أن كانت نتيجة الخروج هي العودة للحرب، أو كان ثمنه هو تمزق القطر وانفراط عقد وحدته. ولمجلس الولايات أهمية خاصة إذ أنه لا يُعين فقط على تقليص الهيمنة المركزية على الأطراف، وإنما أيضاً يستبدل الاستقطاب التقليدي (الشمال / الجنوب) بعلاقة متعددة الأقطاب حيث يصبح المركز في جانب، والولايات (شمالية / جنوبية) في جانب آخر. هذه العلاقة المحورية الجديدة تدعم الوحدة إلا عند الذين لا يريدونها إلا وحدة يهيمن عليها المركز.
    توفرت للاتفاق أيضا ضمانات خارجية لم تكن موجودة في اتفاق أديس أبابا، والذي كان الاهتمام الدولي به جد محدود. ذلك الاهتمام كان نتيجة لجهد دبلوماسي مكثف بعد توقيع الاتفاق، أولاً على المستوى الأفريقي والعربي ثم الدولي، عندما سعينا لاستصدار قرارات من مؤتمر القمة الأفريقي، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، ثم الجمعية العامة تشيد بالاتفاق وتوجه الدول بتقديم يد العون للسودان لإنفاذ برامجه التنموية في الجنوب. أما في حالة هذا الاتفاق فقد استقر الرأي منذ البروتوكول الإطاري على تكوين آلية للمراقبة والتقويم على أساس التمثيل المتساوي للطرفين إضافة إلى ممثلين لا يزيد عددهم على اثنين لكل جهة للدول الآتية: دول الايقاد (إثيوبيا، إرتريا، جيبوتي، كينيا، يوغندا) الرقباء (إيطاليا، الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج) وأي دول أخرى أو هيئات إقليمية أو دولية يتفق عليها الطرفان. والنص الأخير قصد منه إتاحة الفرصة لبعض دول الجوار المؤثرة والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية للمشاركة في رعاية السلام.
    من بين المخاطر التي نبه إليها التقرير تلك التي قد تنجم عن انفراط عقد الأمن وسط المليشيات أما بسبب التفلت، أو الخطأ العفوي، أو التحريض. تناول هذا الموضوع بروتوكول الترتيبات الأمنية الذي وقع في نايفاشا (25 سبتمبر 2003) ليكون أساساً لوقف إطلاق النار الشامل والمراقب دولياً، والذي يبدأ فور التوقيع على اتفاق السلام الشامل. وتضمن البروتوكول إجراءات غير مسبوقة مثل وجود قوتين نظاميتين يكَوِّنان معاً جيش السودان. وكما أبنا هذا واحد من أهم الضمانات العضوية بالنسبة للحركة، وقد أقره الطرف الآخر كواحد من إجراءات بناء الثقة، بل كأهم إجراء فيها. ينص الاتفاق في مبادئه على:
    · في إطار السودان الموحد، وحتى تكون الوحدة خياراً جاذباً عند الاستفتاء وتقرير المصير، يتفق الطرفان على تشكيل الجيش السوداني الذي سيتكون من القوات المسلحة والجيش الشعبي لتحرير السودان.
    · كجزء من اتفاقية السلام، ومن أجل إنهاء الحرب تبقى القوات السودانية والجيش الشعبي منفصلين خلال الفترة الانتقالية ويتفقان على أن يتلقيا، وعلى قدم المساواة، نفس الاعتبار باعتبارهما مُقَوِّمين للقوات المسلحة القومية، آخذين في الاعتبار ضرورة التخفيض النسبي في القوات من جانب الطرفين إثر انتهاء ترتيبات وقف إطلاق النار.
    · تنشأ تحت مؤسسة الرئاسة لجنة دفاع مشترك (Joint Defence Board) تتكون من رئيسي الأركان للقوتين ونائبيهما وعدد من الضباط يتفق عليه للتنسيق بين القوتين وتكون قراراتها بالتراضي
    وتأكيداً للوحدة اتفق الطرفان على تكوين قوات خاصة من الجيشين اقترحت الحركة أن تسمى قوات موحدة (integrated) وفضلت الحكومة أن تكون مشتركة (joint) ولهذا أطلق عليها اسم القوات المشتركة / الموحدة. هذه القوات تتكون من عدد متساو من الجيشين خلال الفترة الانتقالية وتكون نواة لجيش السودان بعد الاستفتاء (إن كان الخيار هو الوحدة) توزع على الوجه التالي: 24 ألفاً في الجنوب (اتفاق أديس أبابا نص على وجود 12 ألفاً في الجنوب نصفهم من الجنوب والنصف الآخر من الشمال)، 6 ألاف في جبال النوبة، 6 ألاف جنوب النيل الأزرق، 3 ألاف في الخرطوم. وحددت لهذه القوات الواجبات التالية: أن تكون رمزاً للوحدة الوطنية خلال الفترة الانتقالية، أن تكون رمزاً للسيادة، المساهمة في الدفاع عن الوطن، المشاركة في البناء والتعمير. ومن بين أهم الأشياء التي اتفق عليها تطوير عقيدة عسكرية مشتركة لهذه القوات تصبح هي عقيدة الجيش السوداني الجديد.
    نص الاتفاق، إلى جانب ذلك، على أن تستوعب الحركة الشعبية الجنود الجنوبيين المسرحين من القوات المسلحة في العمل في المؤسسات المختلفة لحكومة جنوب السودان جنباً إلى جنب مع المسرحين من الجيش الشعبي، وتعهد الطرفان، بمساعدة المجتمع الدولي، على إعداد برنامج مشترك لنزع السلاح والتسريح وإعادة الاستيعاب في الحياة العامة سُمي اختصاراً DDR (Demobilization, Disarmament and Reintegration). قرر الطرفان أيضاً أن لا يسمح لأي مجموعة مسلحة للعمل خارج القوتين المتفق عليهما على أن يعمل الطرفان على ما يلي:
    أ. استيعاب المؤهلين من الجماعات المسلحة في القوات النظامية لأي من الطرفين (الجيش والبوليس، والسجون)، بجانب الخدمة المدنية والمؤسسات العامة الأخرى. وهذه بلا ريب يعني إشارة للمليشيات.
    ب. معالجة وضع المجموعات المسلحة الأخرى في القطر بهدف تحقيق سلام واستقرار شاملين وهذه الإشارة قد تستوعب العمل المسلح في دارفور وشرق السودان خاصة وفي الاتفاق نص صريح حول قوات الجيش الشعبي في شرق السودان والتي ستشملها قرارات إعادة الانتشار جنوباً إلى جنوب حدود الشمال/ الجنوب (1/1/1956) في خلال عام من بداية مرحلة ما قبل الفترة الانتقالية.
    القراءة المتانية لهذا الاتفاق، والذي أبدى العسكريون من الطرفين إدراكاً واضحاً لضروراته، تُبين أنه كان السبيل الوحيد للوصول إلى صيغة توفق بين احترام القواعد المرعية في تنظيم وقيادة الجيوش، وبين ضرورة إزالة مخاوف كل الأطراف بما في ذلك المليشيات. كما أن البروتوكول يمهد تدريجياً لبناء جيش وطني جديد بعد تقليص القوات الحالية مع مراعاة حقوق المسرحين، على أن يدرب ويسلح ويجهز ذلك الجيش على منوال واحد وتحت إشراف قيادة مشتركة. وسيكون التدريب على أساس عقيدة عسكرية مشتركة غايتها حماية الوطن. وكان النائب الأول واضحاً في حديثه المطول لتلفزيون السودان في 26/7/2004 عندما أوضح إن تلك العقيدة القتالية هي حماية الوطن ولا شأن لها بنوايا المقاتل الداخلية أو تدينه، وعلى ذلك بين الطرفين وفاق.
    نجئ هنا إلى الجانب الأكثر تعقيداً، خاصة إزاء التجربة الراهنة في دارفور. ففي تقرير المركز توصيات يفيد أن نتوقف عندها. من هذه التوصيات دعوة دول الترويكا + 1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج، ايطاليا) بالتعاون مع الأمم المتحدة على تبني برنامج للـ DDR يجئ تحت الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ذلك الباب من الميثاق يتناول الاعتداءات ومهددات وانتهاكات السلام الدولي ويمنح مجلس الأمن سلطات واسعة (المواد 39- 42) تتيح له التدخل إما عسكرياً أو بإجراءات غير عسكرية مثل قطع العلاقات الدبلوماسية، والحظر، ومنع الاتصالات، والعقوبات الاقتصادية. ولحسن الحظ اتفق الطرفان على أن يكون اسهام الأمم المتحدة في حفظ السلام بموجب الباب السادس والذي يتناول الحل السلمي للنزاعات، ويشير في المادة 36 (2) منه إلى أن مجلس الأمن يمكن أن يأخذ في الاعتبار إجراءات التسوية التي اتفق عليها الطرفان. وتحت هذا الباب لا يسمح للقوات الدولية باستخدام السلاح إلا في حالات الدفاع عن النفس.
    وعلى أي، اقترح التقرير تكوين قوة احتياطية من 500 إلى 600 تُستدعي عند الضرورة وتوفر لها وسائل النقل السريع (براً وجواً) وتستخدم ريثما تقوم بتدريب القوات السودانية المشتركة على عمليات مقاومة التمرد (counter insurgency). وفي هذا المجال هناك قائمة من الدول الأكثر استعداداً للإسهام في هذه القوات مثل أسبانيا، فرنسا، الأرجنتين، الهند، الأردن، نيجيريا. وفي تقديرنا، لا ضير في ما اقترحه تقرير المركز على أن لا يقتصر دور الأمم المتحدة على إجراءات المراقبة والحيلولة دون تجدد الصراع بل يجب أن يشمل تدريب/ إعادة تدريب الجيش على ضوء العقيدة العسكرية الجديدة، وتقوية هياكله بالصورة التي تحقق الانصهار بين القوات وتوفر لها القدرة على التحرك السريع مع توحيد اللبس والتسليح. وكان التقرير بارعاً في إشارته إلى أن السودان بحسبانه أكبر دولة أفريقية، وقطراً تحده ثمانية دول، في حاجة إلى الدفاع عن حدوده إلا أن خط الدفاع الأول بالنسبة له ينبغي أن يكون تحسين علاقاته مع جيرانه.
    التدخل الخارجي دالة على ظاهرة داخلية، وليس سبباً لها، إلا في حالات الدول الكبرى ذات الأطماع التوسعية. فالتدخل غير الحميد من جانب الجيران هو دوماً إما رد بالمثل، أي رد فعل على تدخل، أو حماية للنفس من تداعيات مشكل تسرب من دول الجوار، أو استجابة لايعاز داخلي. ومتى ما تصالحت الدول في داخلها مع نفسها، والتزمت مبادئ حسن الجوار، واعتمدت التعايش السلمي والعمل المشترك منهجاً للتعامل مع جيرانها، كان وئام. فالدول التي تغرق في مستنقع الصراعات الداخلية تفتح الباب واسعاً للتدخل، خاصة إن هددت تلك الصراعات، بشكل مباشر أو غير مباشر، دول الجوار. هذه سنة الحياة منذ حروب المدن الإغريقية. كما أن الدول التي تفترض لنفسها رسالة في الحياة تتجاوز حدودها، أو تسعى لتصدير نماذجها في الحكم، أو تعمل، بطريق مباشر أو غير مباشر، على إملائه على الآخرين، عليها أن لا تدهش من ردود فعل الآخرين. من جهة أخرى، يعرف الحاكم والمعارض في السودان أنه متى ما ملأ نظام حاكم حياة المواطنين ضيقاً حتى استحاروا في أمرهم، أضطر هؤلاء إما للاستنجاد بالآخر الأجنبي بحثاً عن المساندة أو الملجأ الآمن، ولنا في هذا تاريخ يعود للقرن التاسع عشر. العلاج لكل هذه الأدواء هو التصالح مع النفس والعيش في وئام مع بعضنا البعض، ومتى ما تحقق ذلك سددنا باب ذرائع التدخل. هذه هي الروح التي أملت على الطرفين في نايفاشا الاتفاق على مناهج للعمل الخارجي منها عدم التدخل في شئون الدول الأخرى، ورعاية علاقات حسن الجوار، والتعاون المتبادل مع كل الجيران، ومكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي، وتحقيق التكامل الأفريقي والعربي في إطار الخطط القائمة.
    منذ بداية الحديث عن إرسال قوات دولية للسودان (تصريح كولن باول بإرسال ثلاثين ألف جندياً)، انبرى الكثيرون ـ كل من منطلقه ـ لإثارة المخاوف. لهذا فإن اتفاق الطرفين على طبيعة الدور الأممي أمر مشجع. فدور الأمم المتحدة في الإطار الذي سيرسمه الطرفان دور ضروري ليس فقط في المراقبة (كما هو الحال في جبال النوبة والجنوب الآن) إنما أيضاً في نزع السلاح، نزع الألغام، وحشد الدعم الدولي للتدريب والتأهيل للقوات المسلحة والبوليس. وللبوليس دور هام يجب أن لا يغفل أبداً لأن حفظ الأمن في النهاية هو مسئولية البوليس وليس الجيش.
    للأمم المتحدة تاريخ طويل في حفظ السلام بدأ في عامي 1948 و 1949 (الحالة الأولى هي مراقبة بعد الحرب العربية الإسرائيلية والثانية لمراقبة الحدود الهندية ـ الباكستانية عقب اندلاع أزمة كشمير). ومنذ ذلك التاريخ شملت جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام كل المعمورة، فما من قارة إلا وكان لها فيها نشاط. هذا أمر تفيد الإشارة إليه لأن بعض ما يتردد حول دور المنظمة الدولية يوحي أن في السودان نفراً يفترض أن بلادنا ليست جزءاً من الكون، رغم تعرضها مرتين خلال العشر سنوات الماضية لعقوبات مجلس الأمن. وبتلخيص مفيد شملت قرارات حفظ الأمن، أو المراقبة، أو بعثات التحقيق في الوطن العربي وأفريقيا وحدهما: مصر (لجنة المراقبة 1982)، لبنان (يونيفيل منذ 197، الصحراء الغربية (منذ 1991)، سيراليون (1999)، إثيوبيا ـ إرتريا (منذ 1999)، ساحل العاج (2003)، الكنغو (2003)، ليبريا (2003)، اليمن (1963 - 1964)، إيران ـ العراق (1988 - 1991)، أنقولا (1989 ـ 1997)، موزمبيق (1994 ـ 1994)، رواندا (1993 ـ 1996)، تشاد ـ ليبيا (1994)، وكان عدد القوات في هذه العمليات يتراوح بين العشرات في حالة المراقبة، إلى الآلاف في حالة التدخل العسكري لحفظ السلام.
    السودانيون حسموا أمرهم حول طبيعة التدخل، وهذا بدوره سيحسم موضوع حجم القوات. هذا أمر لن تحدده فقط طبيعة الواجبات ومساحة الرقعة من الأرض التي ستكلف البعثة بمراقبتها، إنما أيضاً حجم الأصول (Assets) التي ستسخرها لمهمتها، والتي تحتاج، هي الأخرى، إلى فرق حماية.

    بعيداً عن التفاؤل والتشاؤم والتشاؤل نقول إن الفشل ينبغي أن يكون حافزاً على تصحيح المسار. ولئن تواتر الفشل تم وفقنا الله إلى مخرج صدق فاستدبرناه أو لا يحسب هذا من الجنون؟
                  

العنوان الكاتب Date
د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:31 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:34 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:37 AM
      Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:42 AM
        Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:49 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) اسامة الخاتم09-25-04, 11:54 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) nadus200009-30-04, 04:04 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de