د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 06:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة يحي ابن عوف(يحي ابن عوف)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-16-2004, 03:42 AM

يحي ابن عوف
<aيحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) (Re: يحي ابن عوف)

    ''. وأورد في المادة (113): ''الشريعة هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة''. كما جاء في المادة (114): ''يعتبر باطلاً كل نص في أي قانون يصدر بعد إجازة هذا الدستور ويكون مخالفاً لأي حكم من أحكام الكتاب والسنة إلا إذا كانت تلك المخالفة قائمة في جوهرها قبل إجازة الدستور''.
    هذه النصوص الدستورية أوقدت نائرة سجال سياسي / ديني أثبتت التجارب اللاحقة عبثيته، خاصة بعد صدور دستور 1998 ''الإسلامي'' ونصوص بروتوكول ماشاكوس حول الدين والسياسة. ولعل أجواء التوجس والتحرش والتربص التي كانت سائدة عند إعداد مشروع دستور 1968 (تهم الإلحاد) أضفت على الصراع بشأنه أبعاداً افتقدت أدنى حدود العقلانية. فأولاً لم يكن هناك أي وعي، أو رغبة في الوعي، بأن التعدد الديني في السودان يقتضي أن يعالج موضوع الدين والسياسة بصورة تأخذ في الاعتبار ذلك التعدد. هذا الأمر لم يكن في الحسبان إذ ذهب المشرع على التو لنقل تجارب الدول العربية ـ الإسلامية المجاورة، والتي ليس من بينها واحدة بها ما بالسودان من تعدد ديني، بل من تعددات متقاطعة. وتكاد كل دساتير الدول العربية الإسلامية تتضمن نصوصاً حول دين الدولة، وذهب بعضها إلى ما هو أبعد من ذلك. فالدستور المغربي، مثلاً، ينص في المادة 19 ''الملك أمير المؤمنين والممثل الأعلى للأمة ويكفل تطبيق الإسلام''. حتى الدستور التونسي (وتونس دولة كان رئيسها المؤسس، الحبيب بورقيبة يجاهر بعلمانيته) يقول في مادته الأولى: ''تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها''. كما تنص المادة 38 من نفس الدستور: ''رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام''. مع ذلك، لو جاءت نصوص مشروع دستور 1968 في إطار نظام للحكم ضمن لغير المسلمين حقوقهم المدنية كما أقر دستور 1998، أو اتفاق ماشاكوس، فلربما لم تكن لهؤلاء ردة فعل عنيفة ضد تلك النصوص، بل ربما لما جاز لهم ذلك. لهذا لم يكن غريباً إن ارتفعت أصوات الجنوبيين عالية، تماماً كأصوات بعض الشماليين، ضد ذلك الدستور. عن الجنوبيين عبر ابيل الير باسمهم جميعاً بكلمات منذرات ليتنا وعيناها يومذاك، فلو فعلنا لما استفحل الأمر. قال أن مشكلة الجنوب لم تتخذ حتى الآن طابعاً دينياً ولكن الإشارات للدين في مشروع الدستور ستنحو بها إلى ذلك الاتجاه. أما الشماليون فقد لخص رأيهم عبد الخالق محجوب بقوله أن اعتراضه على الإشارة للدين في الدستور يقوم على اعتبارين أولهما تهديدها لوحدة البلاد، والثاني الخوف من الفتن التي قد يقود إليها اختلاف المذاهب في تفسير الدين.
    ثم جاء نظام مايو وكان إقباله على قضية الدين والسياسة عند وضع دستور 1973 إقبالاً وسطياً. ويفيد أن نذكر أنه تماماً كما كانت قرارات لجنة ألاثني عشر أساساً لاتفاق الحكم الذاتي الإقليمي لعام 1972، كان مشروع دستور 1968 هو الأساس لدستور .1973 من ذلك الدستور أُزيلت أية إشارة لدين الدولة، رغم أن البعض كان يرغب في إدخالها. ولم يكن الدافع على رفضها جحوداً بالدين وإنما للاقتناع بأن الإشارة لدين الدولة في الدستور إعلان بلا جوهر. ففي رده على المطالبين بإدراج النص قال الراحل جعفر بخيت ''نحن لسنا بملحدين، ولسنا حرباً على الإسلام ولا على دعوته. إن الاقتراح المقدم مظهري إعلامي ليس في جوهره أية دلالات فعلية، فالدولة كائن معنوي يفقد صفة الانتماء الديني القائم أساساً على وجود ضمير فردي يتعبد ويتعامل''. في ذات الوقت أبقى دستور 1973 النص على مصادر التشريع وجاء على النحو التالي: ''الشريعة والعرف مصدران من مصادر التشريع''. هذا النص أقرب إلى الواقع من ذلك الذي اعتبر ''الشريعة ''مصدراً أساسياً'' للتشريع، إذ لو بقى ذلك النص لحق لأي قانوني مبتدئ يُلم بقوانين السودان القول أن الجزء الغالب من تلك القوانين غير دستوري لأنه لم يُستمد من المصدر الأساس.
    وأذكر خلال مناقشة دستور 1973، أن نائباً جنوبياً اعترض على تضمين الدستور النص الذي يشير للشريعة كمصدر للتشريع، وكان الرد عليه أن تلك الإشارة تؤكد حقيقة قائمة إذ أن في السودان قوانين عديدة مستمدة من الشريعة، كما أن المحاكم السودانية استلهمت الكثير من أحكامها من الشريعة. وعلى أي، قلنا أن الذي يشرع هو البرلمان، وما الإشارة للشريعة كمصدر، محددة كانت الإشارة أو مطلقة، إلا توجيه للمشرع باستلهام مبادئ الشريعة عند وضع القوانين، وليست أمراً للمحاكم لكيما تطبقها وفق اجتهاد القاضي. لهذا الرأي ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر (1985) التي يعتبر دستورها (المادة الثانية من دستور 1980) ''مبادئ الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً'' للتشريع. قررت المحكمة في دعوى رفعت لها أن النص ''يستهدف توجيه الشارع إلى استلهام قواعد التشريع من مبادئ الشريعة الغراء بصفة رئيسية لكنه لا يطلب من المحاكم أن تطبق مباشرة مبادئ الشريعة وتغفل ما لا يتفق معها من نصوص تشريعية قائمة''.
    على أن أهم نص أورده دستور 1973 هو المادة 16 والتي أرست، للمرة أولى في دساتير السودان بوجه لا لُبس فيه، مبادئ هامة: الأول الاعتراف بالتعدد الديني في السودان، والثاني تعهد الدولة باحترام كل الأديان وحماية معتنقيها، والثالث تحريم استغلال الدين لإشعال الفتن. تقول المادة:
    أ. في جمهورية السودان الديمقراطية الدينُ الإسلام ويهتدي المجتمع بهدي الإسلام دين الغالبية وتسعى الدولة للتعبير عن قيمه.
    ب. والدين المسيحية في جمهورية السودان الديمقراطية لعدد كبير من المواطنين ويهتدون بهديها وتسعى الدولة للتعبير عن قيمها.
    ج. الأديان السماوية وكريم المعتقدات الروحية ï noble spiritual beliefs لا يجوز الإساءة إليها أو تحقيرها
    د. تعامل الدولة معتنقي الديانات وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دونما تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم في الدستور كمواطنين، ولا يحق للدولة فرض أية موانع على المواطنين أو على مجموعات منهم على أساس العقيدة الدينية.
    هـ. يحرم الاستخدام المسئ للأديان وكريم المعنقدات الروحية بقصد الاستغلال السياسي وكل فعل يقصد به أو يحتمل أن يؤدي إلى تنمية مشاعر الكراهية أو العداوة أو الشقاق بين المجموعات الدينية يعتبر مخالفاً لهذا الدستور ويعاقب قانوناً.
    أخطر ما وقع بعد ذلك أمران، الأول هو الإلغاء الفعلي لدستور 1973 في العاشر من يوليو 1984 عندما استذرع الدكتور الترابي بالمادة التاسعة من دستور 1973 (الشريعة مصدر التشريع) لإجراء تعديلات عن ذلك الدستور. تلك كانت حيلة قانونية غير بارعة لجأ لها الدكتور، وكان يومها مساعداً لرئيس الجمهورية لأنها أغفلت المواد المتعلقة بكيفية تعديل الدستور وحددت الإجراءات اللازم إتباعها، وما وضعت مثل تلك الإجراءات إلا لحماية الدستور من التغول. والثاني هو إصدار قوانين سبتمبر .1983 الموضوعان تناولناهما بإفاضة في كتاب كامل (الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة) لهذا لنا عن العود إليهما فسحة. رغم هذا، ستكون لنا لُبثة عند أمرين مما وقع يومذاك لتعلقهما بهذا المقال. الأمر الأول هو أثر التعديلات الجذرية للدستور على الأوضاع السياسية بوجه عام، وعلى الجنوب بوجه خاص. كان على رأس التعديلات، مثلاً، إلغاء المادة 8 التي تضمنت حماية اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي، واستبدال المادة التاسعة حول الشريعة والعرف كمصدرين رئيسيين للتشريع بنص جعل الشريعة مصدراً أوحداً، وإضافة نص في المادة 14 (المسئوليات العامة للدولة) يجعل للدولة دوراً في رعاية حقوق الأقليات، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يطلق فيها على مجموعة من المواطنين الأصليين وصف الأقليات، كما حُذفت المادة 16 حول الأديان حذفاً تاماً رغم أنها واحدة من ابرع ما ابتدعه الفقه السوداني الدستوري. تلك لم تكن ضربة قاضية على اتفاقية أديس أبابا فحسب، بل وعلى مقومات التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين في السودان.
    الموضوع الثاني هو التأييد المطلق الذي حظيت به قرارات نميري في سبتمبر 1983 من تأييد من جانب الأخوان المسلمين. نميري، فيما نُقَدر، لم يكن يبتغي من إصدار تلك القوانين غير سحب البساط من تحت أقدام كل من كان يدعو لتطبيق الشريعة، أو إقامة شرع الله، أو للصحوة الإسلامية. ولو كان الدين بغيته لما قال في لقائه بالجالية السودانية في أبي ظبي منذ بضع سنوات: ''الشريعة دي خازوق أنا غزيته وأنا براي البقدر أقلعه''. تأييد الأخوان المسلمين يومذاك لنميري وقوانينه مفهوم من ناحية النفعية السياسية political expediency البحتة، ولكن الأخوان لم يكونوا يقدمون أنفسهم كسياسيين فحسب، بل قدموها أيضاً كأصحاب رسالة تتجاوز حدود الأوطان، وكمجتهدة يمتلكون ادوات المعرفة الحديثة التي تمكنهم من الخروج بالدين من المدار المغلق الذي حشره فيه تحجر الفقه. وبهاتين الصفتين كان يعنيهم أن يكون النموذج الإسلامي العملي الذي يطرحون أسمى وأرفع مما عداه حتى يُغري من لهم الخيرة في اتخاذ الإسلام ديناً، وأجدر من يكونون بالإغراء المواطنون السودانيون من غير المسلمين. ذلك أمر فطن له الدكتور الترابي جيداً قبل قوانين سبتمبر، وقبل تعديلاته للدستور التي ضيقت واسعاً في الدين.
    فقبيل إصدار نميري لقراراته قام الترابي بوصفه نائباً عاماً بمراجعة شاملة لقوانين السودان (المجلدات التسع والتي تضمنت آنذاك 286 قانوناً) انتهى منها إلى أن ثمان وثلاثين قانوناً فقط من تلك القوانين تخالف الشريعة. وللوصول إلى ذلك الحكم استعان بلجنة ضمت نخبة من القانونيين وأهل الفكر: حسن عمر، عون الشريف، علي شمو، سيد أمين، ميرغني النصري، على محمد العوض، صديق الضرير، على عبد الرحمن الأمين الضرير، محمد الجزولي، اميل قرنفلي، جمال بسيوني (مصري)، محمد الفاتح حامد. واقترح الأخير ضم جنوبيين للجنة فاستجاب نميري للاقتراح وأصدر قراراً بإضافة فرانسيس دينق، امبروز ريني، اكولدا امانتير، ودفع الله الحاج يوسف إلى اللجنة. وحول الحدود على وجه التدقيق كان للترابي اجتهاد أحسب أنه وفق فيه، ومن ذلك التدرج في تطبيق الحدود مثل حد الشرب (والذي ألحقه الترابي بالتعزيرات وليس الحدود) حيث ترك لحكام الولايات حرية تطبيقه بعد أمد محدد، وأباح الشرب للأجانب والبعثات الدبلوماسية (أو بالاصح قضى بعدم تجريمه)، كما وجه أن لا يطبق الجلد إلا على الشارب. ولكن ما أن أصدر نميري قراراته حتى انتهى الشيخ المجتهد إلى رأي نقيض حول تطبيق الحدود بما فيها تلك التي لم يدرجها في منظومة الحدود. مثلاً، أقر تطبيق القطع في السرقة فوراً لأنه، كما قال، ''قطع لكل الارتياب والانهزام الثقافي'' (الأيام 19/1/1984)، كما أيد تطبيق ''حد الشرب'' على غير المسلمين وعلى الأجانب الذين استثناهم في حكمه الأول مبرراً ذلك، هذه المرة، بالقول ''لا استثناء للأجانب وغير المسلمين من حدود الله وخاصة الشرب فالاستثناءات تقود للتلاعب'' (الأيام 3/10/1983).
    قضيتنا ليست مع التأييد السياسي لقرارات نميري، فللسياسة أحكام. وليست حول الاتفاق أو الاختلاف معه إن كان الذي طبقه يمت بسبب إلى شرع الله أولا يمت. القضايا التي نوليها اهتماماً في هذا المقال هي أولاً اختزال شرع الله كله في العقوبات المقدرة، خاصة وقد بقيت من هذه النظرة ظلال خلال المفاوضات الأخيرة حول تطبيق الحدود في العاصمة. ثانياً حق المجتهد الذي ينقض في الصباح ما أبرمه في العشية في أن يُضفي، أو تُضفي، أي قدسية على إجتهاداته بحيث يصبح الدين والاجتهاد البشري بشأن الدين سيان، ويصبح الاختلاف مع الاجتهاد البشري كفر وارتداد عن الدين. ثالثاً الإساءة البالغة التي لحقت بالدين ليس فقط باختزاله في الحدود بمعنى العقوبات المقدرة، وإنما أيضاً على وجهين آخرين. الوجه الأول هو الإيحاء أن تلك العقوبات هي جوهر الدين، علماً أن حدود الله ليست وحدها العقوبات التي وردت خمساً، كل واحدة منها في آية واحدة: السرقة (المائدة 3، القذف (النور 4)، الحرابة (المائدة 33)، القصاص (البقرة 17، الزنا (النور 2)، وليس من بينها ما يعرف بحد الردة أو حد الشرب. هذه الحدود هي جزء صغير من باب أكبر هو العقوبات، في حين تستوعب حدود الله ما هو أشد خطراً من العقوبات. ففي العبادات حدود (البقرة 187)، وفي الفروض حدود (النساء 13)، وفي الزواج والطلاق حدود (البقرة 229)، وفي الأخلاق حدود (التوبة 97)، وفي الوفاء بالعهود حدود (التوبة 112)، وكل ذلك يدخل في مجال تهذيب النفوس وضبط العادات والمعاملات. لا نقول هذا تقليلاً من أهميتها، وإنما تبياناً لخطل الرأي الذي يختزل حدود الله كلها في خمس آيات. الوجه الثاني هو أن الحدود لم تفرض لكيما تصبح سلاحاً لابتزاز الخصوم. ولربما كان نميري أصدق مع النفس إن ظن هذا، بعد أن أطلق على ''الشريعة'' وصفاً خرج به عن الجادة، وجاوز به حدود الأدب: أسماها ''القانون البطال''. قال في خطابه بمناسبة الذكرى السنوية لمايو: ''كل بيت ندخله ونفتشه .. من يشرب في الخفاء .. من يزني نفتشه لأن الإسلام أمرنا بذلك. أيوه سنحاكمهم بالقانون البطال ده'' (الصحافة 25/5/1984). تلك زلة فرويدية أبانت ما يدور في أعماق الرجل، ولكن ما بال أهل الحجى ذوي الحِجر يَلبَسون الدين، كما قال الإمام علي، كما يُلبس الفروُ مقلوباً.
    لقد فرض الدين قيوداً صارمة في تطبيق الحدود (بمعنى العقوبات المقدرة) أهونها قيد الإثبات والبينة. فالحدود تدرء، وفي قول عائشة عن رسول الله صلعم '' إدرأوا الحدود عن المسلم ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فلئن يخطئ الأمام في العفو خيراً من أن يخطئ في العقوبة'' رواه الترمذي والحاكم البيهقي بسند صحيح. والحدود فيها الستر، روى مالك عن سعيد بن المسيب أن رجلاً جاء لأبي بكر وقال أن فلاناً قد زنى. قال أبو بكر ''هل ذكرت هذا لأحد غيري''. قال لا: قال له'' ''تب إلى الله واستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة من عباده''. والحدود ـ وهذا هو أكثر ما يعنينا في هذا المقام ـ لا تقام بشهادة الإمام، ويروي أن عمر الفاروق شهد رجلاً يزني فشاور علياً: ''ما قولك في أمير المؤمنين شهد رجلاً يزني'' قال علي ''عليه أن يأت بأربعة شهود أو يقام عليه الحد''، أي يقام حد القذف على أمير المؤمنين. كما أن علم القاضي ليس بحجة فيها، أما في السودان فقد أصبحت الحدود في عهد نميري هي ''القانون البطال'' الذي يبث به الحاكم الرعب، وانتهت في العهود التي تلته إلى أداة الحاكم الفاعلة للابتزاز والإذلال والإساءة للخصوم.
    على صعيد الجنوب لم يكن لقوانين سبتمبر صله مباشرة باندلاع الحرب، أولاً لأن القرارات السياسية المدمرة (الإلغاء الفعلي لقانون الحكم الذاتي الإقليمي)، والإجراءات الإدارية والعسكرية الخاطئة (نقل القوات الجنوبية للشمال) التي أشعلت الفتيل سبقت قوانين سبتمبر. ثانياً لأن تلك القوانين لم تمس الجنوب رغم انطباقها عليه نظرياً، باعتبار أن القانون لم يَعفِ أحداً من أهل السودان في الشمال والجنوب. على أن الهوس الذي صَحِب اندلاع الحرب من جديد (تصوير البيانات الرسمية للحرب باعتبارها حرباً ضد الكافرين، اتخاذ الجهاد في سبيل الله شعاراً للجيش، إضفاء طابع ديني على الجيش) أكسب الصراع، بالضرورة، بُعداً دينياً. لهذا لم يكن غريباً أن تطالب الحركة بإلغاء تلك القوانين وتجعل إلغاءها شرطاً من شروط إنهاء الحرب والمشاركة في الحكم، خاصة ولم يكن خيار الانفصال أو حتى حق تقرير المصير مطروحاً يومذاك بالنسبة للجنوب.
    وعلى سقوط نظام مايو أخذت المواقف تميل للتشدد لأسباب لا علاقة لها بالدين. فمن جانب إتخذ التجمع النقابي موقفاً معادياً للأخوان المسلمين (قبل أن يصبحوا جبهة قومية إسلامية) لا بسبب تأييدهم لقوانين سبتمبر وإنما لتأييدهم لنظام مايو في مرحلته الأخيرة ومن ثَمَ تحميلهم كل أوزار النظام. هذا الموقف دفع الاخوان للاستمساك بتلك القوانين تماكراً وكيداً ''إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً''. لهذا أصبح من العسير على السياسة الشمالية أن تتخذ موقــــفاً سيـــــاســــياً راشداً في قضية الدين والسياسة يأخذ في الاعتبار هموم غير المسلمين، كما يكفل المطامح المشروعة للمسلمين، على أن يكون ذلــــــك عبر القنوات الديمقراطية بحيث يكون القرار في النهاية معبراً عن إرادة الشعب تعبيراً حقيقياً.
    وعند توسد الإسلاميين السلطة ومباشرتهم الحوار مع الحركة الشعبية تقدموا بإقتراح لا يخلو من الجرأة ألا وهو استفتاء الشعب حول الشريعة، وكان ذلك رداً على قول الحركة أن تلك القوانين لم تصدر بإرادة شعبية بل أصدرها حاكم فرد.
    الحوار في هذا الشأن لم يقطع شوطاً بعيداً لعدم وصول الطرفين في المفاوضات الأولى التي دارت بينهما (خاصة في أديس أبابا ونيروبي في عام 1989) لاتفاق حول القضايا الأخرى المطروحة: الديمقراطية، حكومة الوحدة الوطنية الخ. وبانتقال الحوار إلى منابر أخرى (أبوجا ثم الايقاد) وطرح موضوع الانفصال كخيار (انشقاق رياك مشار وانشائه لحركة استقلال جنوب السودان)، ثم التقاء الجنوبيين جميعاً على حق تقرير المصير كحد أدنى لأي وفاق، أصبحت قضية قوانين سبتمبر أمراً غير ذي موضوع في رأي دعاة الانفصال، إلا أنها ظلت تؤرق بال الوحدويين في الحركة. تلك هي المرحلة التي ارتفعت فيها النبرة في الحديث عن علمانية الدولة إن كان للسودان أن يبقى موحداً بصفة دائمة، أو حتى خلال الفترة الانتقالية. ومنذ المفاوضات الأولى، اتضح أن ذلك أمر دونه خرط القتاد بالنسبة لمفاوضي الحكومة، خاصة وقد أصبح تعبير العلمانية تعبيراً رجيماً.
    الجدل حول العلمانية في السودان نموذج بليغ لغباء الحوار عندما لا يتفق المتحاورون على المصطلحات، علماً أن الناس تعلموا منذ سقراط أن الحكمة تبدأ بتحديد معاني الكلمات. فحين لم ير البعض في العلمانية غير نفي الدين عن الحياة مما لا يرضاه من يقول الإسلام دين ودولة، أو دين وحياة، كان كل ما يعنيه التعبير للبعض الآخر هو أن تبقى الدولة محايدة تجاه أصحاب الديانات المختلفة في ممارستهم لواجباتهم، واستمتاعهم بحقوقهم، وأدائهم لمسئولياتهم المدنية. فلم يكن من خطة دعاة العلمانية السودانية، فيما نعلم، أن يَهجِر المسلم نفسه وينخلع عن ثقافته، أو في وهمها أن تُلغى الأديان، الكتابي منها والتقليدي، حتى في المناطق التي يسيطر عليها ''علمانيو'' الجنوب. العلمانية، كالديمقراطية، ظاهرة طارئة أصبحت تمثل في المجتمع المعاصر، مجتمع أنسنة الحقوق الأساسية المدني منها والسياسي، تَحدٍ لا يمكن الهروب منه. ولعل فكرة الهروب نفسها لا تساور إلا الذين أرادوا وضع الإسلام في مجابهة مع الآخر علماً أن الإسلام دين، كما هو حضارة تاريخية. وكحضارة، أسهم الإسلام إسهاماً مشهوداً في تطور الإنسانية إلى المستويات التي بلغتها، ولهذا فإن أي رهان إسلامي استراتيجي سيكون رهاناً خاسراً إن قام على رفض مكاسب العقل الحديث ومنها العقلانية والموضوعية والإنسانية. تلك المجابهة موقف تفتعله جماعات، لم تستنفد بعد إمكانياتها للتخريب والتدمير، ولا ترى الهوية الإسلامية إلا هوية منغلقة وممتلئة بالكراهية للآخر، وكأن تلك الهوية لم تتغذَ بحكمة الهند وعرفانية الفرس وفلسفة يونان. نقول مفتعلاً لأن ليس في العالم كله مجتمع إسلامي واحد يُحكَم بوجه مطلق اعتماداً على الدين، لا في أنظمة الحكم، ولا في السياقات القانونية، ولا في العلاقات مع الأمم، ولا في الاقتصاد والتجارة، ناهيك عن العلوم والفنون والصناعات.
    مهما
    حديثنا هذا عن الانغلاق، وقبل هنيهة تحدثنا عن التواضع المعرفي يستدعي للذاكرة كلمات للرئيس محمد خاتمي. خاتمي مفكر إسلامي مستنير قضت السياسة أن ترمي به إلى حيث ما كان يجب أن يكون فتقل سماحته. قال في مقدمة لمحاضرة له عن الدين والدولة بتواضع العَالِم والحس التاريخي للمفكر: ''أرجو أن لا تنتظروا مني أطروحة ما، فأنا أعترف بعجزي الفكري والعلمي عن مثل ذلك. ناهيك أن حياة الإنسان لا يتم إصلاحها بأطروحة. فمثلاً، كانت أطروحات ماركس وانجلز هي الأكثر فاعلية ذات حين، ولكنكم وقفتم على النتيجة رغم مما للرجلين من مزايا تحمد. فماركس، للإنصاف، كان رجلاً فطناً وأحد أبرز الخبراء في اكتشاف معايب الرأسمالية. ولكن نتيجة ما فعله بارزة للعيان. فلنعترف بكل صدق أن الحياة إن هي إلا جهود ومساع عامة ومتواضعة، ولا نتقدم إلا بالتعاون وتضافر الجهود وتبادل الآراء وتلاقح الأفكار والتذكير دوماً بمحدودية ما يطرحه الإنسان من آراء وأفكار ووجهات نظر'' (الدين والدولة، الدار العلمية للكتب والنشر 199.
    مهما يكن من أمر، فإن وجوه التعبير عن العلمانية تختلف من مكان لآخر. ففي الهند مثلاً ارتكزت العلمانية على مبادئ ثلاثة: المساواة في احترام الأديان، واعتبار سلطة الدولة في كل القضايا المدنية سلطة نهائية، واقتصار دور الدولة في واجب أساس هو تحقيق رفاهية المواطن وخيره المعنوي. ولو لم تفعل الهند هذا وتجعل من المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، أو لو طبقت مبدأ سيطرة دين الأغلبية على الأقليات الدينية لأصبح مسلموها في وضع لا يُرضي مسلم. ففي الهند 690 مليون هندوسي مقابل 120 مليون مسلم (مما يجعل الهند ثاني دولة إسلامية في العالم بعد اندونيسيا من ناحية عدد السكان). كما أنه رغم التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي صدر في عام 1791 والذي ينص على الفصل بين الدولة والكنيسة لم يقتلع ذلك التعديل الثقافة الأمريكية الغالبة من جذورها الدينية البروتستانتية. هذه الحقيقة تصدق على كل الدول التي ذهبت إلى الفصل الدستوري بين الدين والدولة، فالمادة الثانية من الدستور الفرنسي لم تَقضِ على الكاثوليكية أو البروتستانتية في فرنسا، كما لم تُضعف المادة الثانية في الدستور التشيكي (دستور هافل) التي تنص على ''تأسيس الدولة على القيم الديمقراطية ولا يجوز ربطها بأيدلوجية خاصة أو بدين معين'' (والنص كما هو جلي ردة فعل على الهيمنة الماركسية) أي أثر على الكاثوليكية في المجتمع التشيكي.
    دستور 1998 يمثل، بلا شك، ثورة حقيقية في نظرة الإسلام السياسي لقضية الدين والسياسة. ولولا غلبة الهيجان على الخطاب السياسي، والاستمرار في استخدام العنف العاري ضد الخصوم، لصدق الناس أن ذلك الدستور يعني ما يقول. كانوا سيصدقون ما جاء به الدستور أيضاً إن لم تصبح برامج الإعلام في الراديو والتلفزيون الرسميين، وتصبح مناهج التعليم في مدارس الدولة، برامج تبشيرية لا يري المواطن غير المسلم وجهه فيها، ولا يرى وجه فيها أيضاً المواطن المسلم صاحب الرؤية المغايرة للدين. هذه هي الأسباب التي جعلت أغلب خصوم النظام يقرأون الأحرف الدقيقة fine prints لا النصوص الواضحة في الدستور، ويتمهلون في الإطلاع على ما بين السطور، في الوقت الذي لا يلقون فيه إلا النظرة العجلى على السطور. وعلنا لا نتوقف عند النصوص التهيمة في ذلك الدستور مثل تلك بشأن الحريات، التي ما وردت إلا وتبعها تعبير كابح. وبالقطع لا نتوقف كثيراً عند المادة 26 (1) حرية التوالي والتنظيم لأن الحرية تتألق فيها بغيابها. بخلاف ذلك، نشير إلى المادة الأولى حول طبيعة الدولة: '' السودان وطن جامع تتآلف فيه الأعراق والثقافات وتتسامح الديانات. والإسلام دين غالب السكان وللمسيحية والمعتقدات العرفية أتباع كثيرون''. هذا نص سليم وهو ذو قربى بالمادة 16 من دستور 1973 التي أزاحها الترابي عند تعديل ذلك الدستور في العام 1984، كما يبتعد النص عن الإشارات التقليدية في الدساتير العربية لدين الدولة. وحَسَن أن يشير الدستور إلى التسامح لأنه مقوم أساس للاستقرار في الدول متعددة الديانات، ولكن كيف يكون هناك تسامح في وجود أحكام مثل حكم الردة هي ظنينة أصل حتى في الفقه الذي يستند عليه الدستور. ذلك النص تسرب إلى قوانين السودان في قوانين سبتمبر 1983، والردة مصادرة لحق الاختلاف والمغايرة في الاجتهاد، إذ حيثما طبقت لم تطبق ضد مجاهر بالكفر، بل دوماً ضد مناقض لاجتهاد، أو مستنكر لحكم. وعندما يكون هذا الاستنكار أو المناقضة في بلد تترجرج فيه الأحكام بحيث ينقض مجتهدوه، كما قلنا، في الصباح حكماً ابرموه في المساء، لا تتقلقل الثوابت فحسب، بل يصبح الزعم بقدسية الاجتهادات جناية في حق دين أبى حتى على الرسول الكريم قهر البشر وإكراههم على رأي بعينه بمن فيهم من أعرض عنه ونأي بجانبه ''وإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ''. من جانب آخر فإن التسامح في فقه الحقوق الإنسانية لا يعني عدم المبالاة بالآخر، لا تعبأ به ولا تكترث، وإنما هو قبول الآخر لحد المعاناة. وأصل كلمة تسامح tolerance في الإنجليزية هو كلمة tolere اللاتينية وتعني ''يَشِق على أو يُعاني''.
    وفي الباب الرابع (سلطة التشريع) حددت المادة 65 مصادر التشريع على الوجه التالي: ''الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاء ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول، ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة أمرها''. الجانب الإيجابي في النص هو أنه تطور لما جاء في مشروع دستور 1968 الذي جعل الشريعة المصدر الأساس للتشريع، وهي نظرة أثبتنا بطلانها، كما هو تطور كبير للنص الذي اقترحه الترابي كتعديل للمادة 9 من دستور 1973، في معرض تعديلاته لذلك الدستور في العام 1984، وعلى أي فإن فكرة النص على مصادر التشريع في دساتير الدول العربية بدعة لا تعرفها دساتير العالم، أدخلها الدكتور عبد الرازق السنهوري الذي أشرف على صياغة أكثرها. دساتير العالم أجمع تفترض أن الأمة هي مصدر السلطات ولهذا يصبح حكم الأمة، إما مباشرة في استفتاء أو عبر ممثليها، هو مصدر التشريع. وجميع الأمم لا تصدر أحكامها من فراغ، بل تصدرها ابتناء على أصول تستلهمها من الأديان والعادات والتقاليد وشرائع من قبلها، كما من التجارب الإنسانية التي عَبَرت بها، أو تنامت إليها. ليس أدل على ذلك من أن المائتين وينيف من قوانين السودان السارية حتى اليوم مستمدة من التجارب الإنسانية، فلا مصدرها الدين ولا العرف.
    ثم جاءت مشاكوس، وتناول بروتوكولها قضية الدين والسياسة بصورة خلقت كثيراً من الالتباس بقدر ما أرضت طرفي النزاع إلى حد. ففي البدء ظل موضوع الحقوق التي تكفلها المواطنة محل شك عند غير المسلمين رغم ما أشار إليه دستور 1998، خاصة في المادة 21 حول الحرية والحق في التساوي. قالت المادة: ''جميع الناس متساوون أمام القضاء، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة، ولا يجوز التمييز بينهم فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية، وهم متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة ولا يتمايزون بالمال''. هذا نص واضح وصريح، ولكن عندما نرى أن بعض هذه الحقوق التي كفلها الدستور بموجب هذه المادة لكل إنسان سوداني دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو الملة تُصادر، مثلاً، بالنسبة للنساء (حق المرأة في الشهادة) اعتماداً على نص آخر في الدستور (المادة 65 مصادر التشريع) يصبح الخوف مشروعاً. وطالما كانت المصادر التي تستنفج منها هذه الأحكام هي موروثات الفقه القديم، فلماذا لا يتخوف البعض من أن ينبري فقيه قروسطي اعتماداً على تلك الموروثات ويطالب بحرمان ''الكافر''، مثلاً، من الولاية على المسلمين بموجب قوله تعالى ''ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا''. أوليس ذلك هو النص الذي ارتكز عليه جميع الفقهاء لحرمان الكافر من ولاية القضاء على المسلم إلا الحنفية الذين أجازوها على أهله ؟ أو أسوأ من ذلك ما الذي يمنع فقيهاً آخر من الدعوة لحرمان العبد من الولاية انطلاقاً من أحكام الفقه العتيق مثل قولهم: ''إن كان الرق مانعاً من ولاية العبد على نفسه فأحرى من ولايته على غيره''، فالعبد في عرفهم مشغول بحق سيده ولهذا لا يولي (الماوردي). في مكان غير السودان مثل هذه الحكايات قد تكون أساطير، ولكن طالما أثبتت التجارب منذ أن أصدر نميري قوانينه، وانبرى بعض الفقهاء لتسويغها فأي شيء محتمل في السودان، خاصة إن ظللنا نبتني الأحكام الراهنة على اجتهادات صيغت في قرون سحيقة، وعجزنا، بالغوص الجريء في الأصول، عن إيجاد حلول عملية لمشاكلنا المعاصرة التي لم يعرفها فقهاء الماضي. فبصرف النظر عن استغلال الدين لأغراض السياسة، ما زال هناك فقهاء يرفضون إعادة قراءة الأصول، بل يلحون على النظر إلى الأصول من حيث انتهى القدامى إلى قراءتها.
    لهذا جاء التنصيص في الفقرة المتعلقة بالدين والدولة في اتفاق مشاكوس واضحاً وجلياً في أمرين: الأول هو إيضاح معنى احترام التعدد الديني بما يمنع اللبس، والثاني إبانة ما نعنيه بإنشاء الحقوق على المواطنة وبصورة واضحة. وقدم البروتوكول لتلك الفقرة بالاعتراف أن السودان بلد متعدد الثقافات والأعراق والاثنيات والأديان واللغات، وحض على عدم استخدام الدين كعامل للتفرقة. وتضمنت الفقرة المبادئ التالية:
    * الاعتراف بكل الأديان والأعراف والمعتقدات كمصدر قوة روحية والهام للشعب السوداني (وهذا تأكيد لعدم نفي الدين عن الحياة).
    * إقرار حرية المعتقد والعبادة والوجدان لأتباع كل الأديان والمعتقدات والأعراف ولا يجوز التمييز ضد أي إنسان على هذه الأسس.
    * الحق في تولي جميع المناصب بما فيها رئاسة الدولة، ووظائف الخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو الأعراف.
    * تنظيم الأحوال الشخصية ومن ضمنها الزواج والطلاق والميراث وفق القوانين السائدة بما فيها الشريعة أو القوانين الدينية الأخرى أو الأعراف الخاصة بمن يعنيهم الأمر
    * احترم الحقوق التالية: حرية العبادة والتجمع من أجل أداء الممارسات الدينية أو تلك المتعلقة بالمعتقدات وتأسيس وحماية الأماكن التي تؤدى فيها هذه الشعائر، إنشاء المؤسسات الخيرية والإنسانية حسب الحاجة، صناعة وحيازة كل المواد والأدوات المتعلقة بأداء الشعائر أو العادات بصور تحقق أداء الغرض المطلوب منها، تأليف وإصدار وتوزيع المطبوعات الخاصة بالشعائر المختلفة، تدريس الديانات والمعتقدات في الأماكن المناسبة لهذه الأهداف، السعي للحصول على المساهمات النقدية وغيرها من الأفراد والمؤسسات وتسلم هذه المساهمات، تدريب وتعيين وانتخاب القيادات التي يتطلبها الدين أو المعتقد المعين، التمتع بالعطلات والاحتفالات الدينية وفق التعاليم والمبادئ التي ينص عليها الدين الذي يدين به الشخص المعين، إقامة العلاقات والاتصالات مع الأفراد والجماعات فيما يتعلق بالشئون المعتقدية على المستويين الداخلي والخارجي.
    وكأن كل ذلك لا يكفي أضيف نص يقول: ''لإزالة أي شك حول القضية لا يسمح بالتمييز من قبل الحكومة أو الدولة أو المؤسسات القومية ضد أي فرد أو مجموعة على أساس الدين أو المعتقد''. وقد يرى البعض أن هناك مبالغة في التفصيلات وتأكيد الضمانات، ولكن أية قراءة أمينة للحدود التي وصل إليها الاستقطاب الديني في السودان يدرك دواعي ذلك التفصيل.
    بروتوكول مشاكوس تضمن نصوصاً أخرى تتعلق بالقوانين التي ستسود خلال الفترة الانتقالية، خاصة في الشمال، أثارت ثائرة بعض القوى الشمالية، وكان لنا تعليق على ذلك إبان صدورها. يقول البروتوكول في الفقرة حول الحكومة القومية:
    * يتفق الطرفان على تكوين حكومة قومية تمارس السلطة وتجيز القوانين التي تجاز من قِبل سلطة عليا ذات سيادة على المستوى القومي. وستأخذ الحكومة في الاعتبار عند إجازتها للقوانين الطبيعة التعددية للشعب السوداني ديناً وثقافة.
    * التشريعات التي تُسَن على المستوى القومي وتطبق على الولايات خارج جنوب السودان يكون مصدرها التشريعي الشريعة وإجماع الشعب.
    * التشريعات التي تُسَن على المستوى القومي وتُطبق على الولايات الجنوبية (أو الإقليم الجنوبي) يكون مصدرها التشريعي الإجماع الشعبي وقيم وعادات الشعب السوداني ومن بينها تقاليده ومعتقداته الدينية مع أخذ التعددية السودانية في الاعتبار.
    * في حالة ما إذا كانت التشريعات القومية المعمول بها الآن أو المطبقة وكان مصدرها الدين أو العرف وكانت أغلبية سكان الولاية أو الإقليم لا يمارسون شعائر ذلك الدين أو يلتزمون بالأعراف المعنية يكون هناك خياران: الأول هو استبدال القوانين أو المؤسسات بما يتماشى مع الدين والأعراف المعنية أو عرض القانون على مجلس الولايات لإقراره بأغلبية الثلثين.
    وبقدر ما ابتهج المناصرون للنظام والمعارضون له بالاختراق الذي وقع في مفاوضات السلام، بقدر ما غُم بعضُ المعارضين لتنازل الحركة الشعبية عن إصرارها على أن يكون دستور السودان كله علمانياً، بل قبولها (غير المشروع) استمرار تطبيق الشريعة على الشماليين. حقيقة الأمر، لم تك تلك هي المرة الأولى التي قبلت فيها الحركة التنازل عن الطرح العلماني من أجل الوفاق مع القوى الشمالية، فقد فعلت ذلك في اتفاق الميرغني ـ قرنق (16/11/198 عندما قبلت مبدأ تجميد قوانين سبتمبر لحين البت في علاقة الدين بالدولة في مؤتمر قومي دستوري، وفعلته عندما اتفقت مع فصائل التجمع الشمالية في نيروبي (17/4/1993) على صيغة حول علاقة الدين بالسياسة أصبحت أساساً لقرارات التجمع في اسمرا (يونيو 1995) حول ذلك الموضوع. وتنص الصيغة على: كفالة المساواة تأسيساً على حق المواطنة، تحريم إنشاء الأحزاب على أساس ديني، الاعتراف بتعدد الأديان وكريم المعتقدات والعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي بينهما، منع الإكراه، تأسيس البرامج الإعلامية والثقافية القومية على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الإنسان. تلك الصيغة لا تشير بحال إلى إلغاء القوانين القائمة ذات الأصل الديني، أو تعترض على النص الذي جعل الشريعة مصدراً للتشريع. ليس هذا فقط، بل أن التنصيص على مصادر التشريع، وبخاصة النص على أن تكون الشريعة مصدراً للتشريع، والذي لم يرد مطلقاً في دستور 1956 أو دستور 1956 تعديل 1964 أضيف للمرة الأولى لذلك الدستور في دستور انتفاضة أبريل. وتقول المادة (4) من ذلك الدستور ''الشريعة والعرف مصدران أساسيان للتشريع والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم''.
    الاتهام الثاني والقائل إن الحركة لا تملك تفويضاً من الشمال لتقرر نيابة عنه القانون الذي يحتكم إليه قد يكون صحيحاً من الناحية الشكلية. نقول شكلية لأن هذه القوانين، وافقت الحركة أم لم توافق، هي القوانين التي كانت سارية عند التوقيع، وقبل التوقيع، وبعد التوقيع على بروتوكول مشاكوس. كانت القوانين قائمة أيضاً حتى في ظل الديمقراطية التي كان للتجمع الحزبي فيها أغلبية صريحة (حكومة الديمقراطية الثالثة)، وكان للتجمع النقابي فيها حكومة لها مطلق الحرية في النقض والإبرام (حكومة الانتفاضة 1985-1986). ثمة خيارات محلية كانت مطروحة أمام الحركة، وثمة ضغوط خارجية كانت عليها. من بين الخيارات الاستمرار في الحرب حتى تُقام الدولة العلمانية في السودان كله، ولربما كان هذا هو الخيار الذي طمع البعض أن تتخذه الحركة. الخيار الثاني هو أن تترك الحركة ''ما لا يعنيها'' إلى أن يصل طرفا النزاع الشماليان (الحكومة والتجمع) إلى اتفاق بشأنه، أي أن يُجمد الاتفاق إلى حينٍ لا يعرف إلا الله مداه. أما الثالث فهو أن تكون اليد العليا للتيار الانفصالي في الحركة، بل وتيار الوطنية الصغرى في الجنوب كله، والذي يقول يكفي ما حققناه لأهلنا ولنذهب مباشرة إلى ممارسة حق تقرير المصير تاركين الشمال ليسوى أموره بنفسه متى ما تيسر له ذلك. تلك كلها كانت خيارات مستحيلة، فأولاً، لا تستطيع قيادة الحركة، حتى وإن رغبت في ذلك، أن تحمل الجنوب كله على حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. ولربما كان في مقدورها أن تغامر بخيار كهذا لو كانت قوات التجمع تتأهب للانقضاض على الخرطوم، أو كانت قوى الانتفاضة تحيط بالنظام احاطة السوار بالمعصم. الخيار الثاني محكوم بقدرة المعارضة الشمالية على أن تقتسر أي شيء من النظام في الأفق المنظور، ففي النهاية كلنا ميتون. ولم يكن في الافق المنظور ما يشير إلى أن النظام أوشك أن ينهار ويولي الأدبار، أو أن مبادرات السلام الأخرى (المبادرة المشتركة) كانت معنية بقضية الدين والسياسة لحد أكثر مما جاء في قرارات نيروبي 1993، أما الخيار الثالث فلا ينبغي أن يُسعد أي شمالي، كما أنه لم يكن بالخيار الذي تفضله الحركة.
    من جانب آخر لعبت الضغوط الخارجية دوراً مهماً بدد أوهاماً كثيرة غلبت على عقول كل الأطراف: الحكومة، الحركة، الفصائل الشمالية المعارضة. من تلك الاوهام أن الوسطاء والرقباء ورعاة التفاوض ـ وكلهم منسوب للمسيحية أو العلمانية ـ سيمضون إلى النهاية في دعم التوجه العلماني للحركة، أو سيفعلون كلما في وسعهم ، كما يظن بعض أهل التجمع، لإزاحة ''الدولة الدينية'' في الخرطوم. كما ساد عقول أغلب مناصري النظام وَهم قارب اليقين بأن ليس لأمريكا وبريطانيا من غرض تطلبه وتحتال عليه غير تدمير المشروع الحضاري وتحطيم دولته. نِذارة الوسطاء والرقباء والرعاة جميعهم للحركة كانت: ''لقد حصلتم على كل ما تريدون للجنوب: السلطة والثروة والحفاظ على خصائصكم الثقافية، فما شأنكم بالشمال إن كان أهله يريدون أن يحكموا عبر الدين؟ أما للقوى السياسية الشمالية فكان قولهم عبر مبعوثيهم الكثر: ''هذه القوانين ظلت معكم منذ أن كان لكم حكم ديمقراطي وبرلمان حر عجز عن إلغائها، ولم نَرَ حتى الآن ـ حتى بعد مشاكوس ـ تظاهرة واحدة في الخرطوم تطالب بإلغائها، فما الذي نستنتج من ذلك؟ ولعل الرقباء والرعاة انتهوا إلى أن مناهضي القوانين الدينية في الشمال كانوا يتمنون اجتثاثها بسيف مستعار، فسعوا للحيلولة دون ذلك.
    قضية الدين والدولة عادت إلى السطح مرة أخرى عند تداول موضوع العاصمة القومية والقوانين التي تحكمها. الحوار حول العاصمة لم يبدأ في نيفاشا كما يزعم البعض، بل ظل مطروحاً منذ مفاوضات مشاكوس حيث أُطلق عدد من بالونات الاختبار للالتفاف حول الموضوع. من ذلك أن تكون للسودان عاصمتان (جوبا والخرطوم)، أو إن تنشأ عاصمة جديدة في منطقة محايدة، أو أن يُقتطع جزء من الخرطوم ليصبح عاصمة لا تسري عليها القوانين الدينية. كل تلك الخيارات سقطت لعدم معقوليتها. مع ذلك شاء البعض أن يصور القضية وكأنها أمر افتعلته الحركة، كما ذهب آخرون إلى تلقيح فتنة دينية واستثارة من تسهل استثارتهم لكي يقفوا إلباً واحداً ضد الاقتراح لما ليس فيه: الدعوة للفجور والرذيلة واباحة الخمر والميسر في عاصمة الدولة الإسلامية. ومرة أخرى أُختزل الدين من أصله ليختصر في الحدود. ومن المدهش أن الذين أثاروا ذلك النقع من الإرجاف لم يتدبروا أن الدستور الذي تحكم به الدولة ''الإسلامية'' (دستور 199 يبيح للناس ما هو اكثر من هذا، إن كانت نصوصه تعني ما تقول. ذلك الدستور يبيح (ربما نظرياً) حتى للمسلم إنكار الشعائر مع العلم بها. فالمادة 24 من الدستور حول حرية العقيدة والعبادة تنص: ''لكل إنسان الحق في حرية الوجدان والعقيدة الدينية وله حق إظهار دينه أو معتقده ونشره عن طريق التعبد أو التعليم أو الممارسة أو أداء الشعائر أو الطقوس، ولا يُكره أحد على عقيدة لا يؤمن بها أو شعائر أو عبادات لا يرضاها طوعاً، وذلك دون إضرار بحرية الاختيار للدين أو ايذاء لمشاعر الآخرين أو للنظام العام، وذلك كما يفصله القانون'' هذا النص، بلا مرية، لا يلزم المسلم بأداء شعائر دينه إلا طوعاً، علماً أن في الفقه الذي يستمسكون بتطبيقه انتقاءً أحكاماً صريحة حول تخلي المسلم عن أداء شعائر دينه لا فجوة فيها للتحفظ. فأداء الشعائر لا يخضع للرضى الطوعي عندهم، فمثلاً، يستتاب تارك الصلاة عمداً فإن استكبر وأنكر وجوبها قُتل ولا يدفن في مقابر المسلمين.
    الفقرة حول العاصمة القومية في بروتوكول مشاكوس غطت إلى حد كبير أربع قضايا: الأولى هي احترام التنوع السوداني والتأكيد على أن تكون العاصمة رمزاً للوحدة الوطنية وعاكسة لكل وجوه ذلك التنوع. والثانية احترام حقوق الإنسان والحريات كما هي موضحة في بروتوكول مشاكوس (الحريات الدينية) وبروتوكول نيفاشا (جميع الحريات الأساسية). والثالثة هي حماية غير المسلمين من تطبيق القوانين السارية ذات الأصل الديني ووضع ضمانات كافية لتحقيق ذلك الغرض. أما الرابعة فهي عدم الإخلال بحق الأمة في إعادة النظر في التشريعات القائمة (الفقرة 2-4-5).
    قضية الدين والسياسة، كمثيلاتها الأُخر: نظام الحكم، الحقوق الأساسية، التمكين السياسي، وقعت ضحية تزيد تجاوزنا فيه ما ينبغي فانتهينا إلى حروب وقودها الناس والحجارة. وإن كانت هناك دروس نتعلمها من تلك التجارب فهي، أولاً ضرورة الكف عن التزيد في الأمور أو الظن أن للحقيقة وجهاً واحداً، خاصة في شأن الدين. فما أكثر الأحكام التي أصدرنا منذ الستينات في قضايا الدين ثم ارتددنا عنها، وكثيراً ما كان ذلك بلا حجة شافية أو بلاغ مبين في الحالتين. الأمر الثاني هو الاعتراف أن الله خلق الناس على فِطر مختلفة، ولو شاء أن يجعل منهم أمة واحدة لفعل.
    فالحياة كلها قائمة على الاختلاف كما أراد الله لها ''ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم''. من يقول غير هذا يلج بالجهل. الأمر الثالث هو أنه لا يستطيع بشر أن يحمل أهل أية ملة خطم أنوفهم ليهجروا أنفسهم، أو يخالفوا عقيدتهم فإن رأى المسلمون تطبيق القوانين الدينية عليهم فذلك حقهم، شريطة أن يكون القرار بإرادتهم الحرة ، لا بالإكراه أو ادعاء الوصاية عليهم. الأمر الرابع هو ترقية أدب الخلاف بعد أن بلغ الاختلاف في أمور الدين حداً لا أناة فيه ولا تواضع.
    أوهل هذا حقاً هو الدين الذي أوصى الله نبيه بالحلم حتى مع المُعرضين ''وإن كان كَبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين'' (الأنعام 35)، والمــراد بالجــهل هــنا ما يضــــاد الحــلم لا ما يضاد العلم. والأمر الخامس والأخير هو أن نخفض قليلاً من سقف مطامحنا، أي أن نسخر الدين والسياسة لإصلاح حال السودان بدلاً من أن نجعل لنا دوراً أممياً نجمع به أهل الأرض كلهم على الهدى، فهذا هو الحمق بعينه.
    ///////////////////////////
    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (8(
    الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا
    لا يقل عمق الآثار التي ستترتب علي بروتوكول اقتسام الثروة عن ذلك الذي سينبني ويستقر على بروتوكول اقتسام السلطة. وإن كان أصل المشكل السوداني هو التهميش بشقيه، السياسي والاقتصادي، فإن الحل يكمن في التمكين بشقيه، السياسي والاقتصادي، ولن يستقيم سلام في السودان أو يستدام دون تحقيق كليهما. وكثيراً ما نقول ويقول غيرنا، أن الحرب لعبت دوراً كبيراً في تعميق الفقر في السودان حتى انتهى إلى حيث يجب أن لا يكون: دول القاع في منظومة الدول النامية. ولكن، لاعتبارات خارجية وداخلية تفشى الفقر في كل دول القارة الأفريقية، ولم تنج منه حتى الدول ذات الثروات الطبيعية الوفيرة مثل نيجيريا. ففي نهاية القرن (1999) أعدت اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة بأفريقيا (ECA) تقريراً لا تبعث قراءته على البهجة حول الفقر في أفريقيا أشرف على إعداده اقتصادي سوداني ذو قدارة (علي عبد القادر علي). يقول التقرير أن 44% من الافارقة يعيشون تحت خط الفقر (حُدد خط الفقر بدخل لا يقل عن تسع وثلاثين دولاراً في الشهر حسب قيمة الدولار في التسعينيات). وقبل خمس سنوات من ذلك التقرير (1994) أصدر البنك الدولي تقريراً عن الفقر في القارة انتهى فيه إلى وصف عقد الثمانينيات بعقد التنمية الضائع، وعقد مقارنات مذهلة عن الأداء الاقتصادي في أفريقيا وآسيا تكشف عن التردي الكبير الذي انتهت إليه قارتنا. فمثلاً، حين ظلت معدلات الفقر تتزايد في أفريقيا انخفض عدد الفقراء في الصين خلال عشر سنوات من 33 % من السكان إلى 10% (وسكان الصين يزيدون عن البليون نسمة)، وفي كوريا وماليزيا انخفضت النسبة على التوالي (خلال عشر سنوات أيضاً) من 23% و18% إلى 5% في كليهما. في أفريقيا، ومنها السودان، كانت الصراعات الداخلية على راس العوامل التي قادت إلى تدهور الاقتصاد وعمقت من الفقر. ويقدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقريره السنوي (2003 - 2004) إنفاق السودان السنوي على الحرب بقرابة 5% من الناتج القومي الإجمالي، وهذا رقم عالٍ إن أخذنا في الاعتبار أن الإنفاق عن الصحة والتعليم مجتمعين يبلغ بالكاد 2% من الناتج القومي الإجمالي. هذا القدر من الإنفاق لا يأخذ في الاعتبار الخسائر البشرية، وإهدار الموارد الطبيعية، وفرص التنمية الضائعة، كما لا يتضمن ما تنفقه الأطراف الأخرى في الحرب.
    وإن تركنا الصراعات والانفاق الضخم عليها وذهبنا مباشرة إلى المشاكل الجذرية التي قادت للصراع (التهميش) نقول أننا فَطِنا منذ أكتوبر 1964 إلى أن جذر المشكل على المستوى الاقتصادي هو نهج التنمية اللا متكافئة وما قاد إليه من تكريس للتركيب الاجتماعي والاقتصادي الموروث من عهد الاستعمار. السمة الرئيسية لللاتكافؤ هي التركيز الجغرافي للثروة في الشمال النيلي من جانب، والإقصاء المترتب على ذلك التركيز للأطراف من فيض تلك الثروة، من الجانب الآخر. وبدوره، كرس الإقصاء تفاوتات اجتماعية واقتصادية ترسخت جذورها. على مر العهود من أكتوبر 1964 إلى ابريل 1985 فَطِنا أيضاً إلى أن العلاج هو التنمية المتوازنة، إلا أن تلك الفطنة لم تجاوز النظرية إلى الفاعلية، لماذا؟ في زعم هذا الكاتب، كَمُنت المشكلة في أن الطبيب أصبح أهم من المريض. فثمة يقين واثق عند الأطباء المتعاقبين أن هناك بلسماً شافياً لكل داء أغناهم أجمعين عن تقصي طبيعة الداء. وبدهي، لا يفيد الجراحُ المريضَ في شيء إن أعمل مبضعه في العضو السليم وأخطأ المعطوب. ماذا نعني بهذا؟
    طوال تلك الفترات، خاصة فترتي الستينيات والسبعينيات، كان الإقبال على علاج المشكل الاقتصادي إقبالاً أيديولوجياً. فاليسار الاكتوبري، مثلاً، لخص المشكل الاقتصادي كله في الإصلاح الزراعي ومراجعة علاقات الإنتاج، وإنهاء ''سياسة التبعية للمعونة الأمريكية والاحتكارات الألمانية والإنجليزية التي جعلت التطور مستحيلاً وانتقصت من ذلك التطور بسبب الحجر على حرية التعامل مع دول المعسكر ''الاشتراكي'' (مجلة الكادر 1961). أما الأحزاب ''التقليدية'' فقد استهيم فؤادها بذلك الطِرز (الموضة) الاقتصادي فَرقَع كل واحد منها برامجه برقعة اشتراكية، وأبدع في ذلك: اشتراكية عربية، اشتراكية إسلامية، اشتراكية أفريقية. والرُقعة إن لم تكن من جنس الثوب شانته. ثم جاء نظام مايو في مرحلته الأولى ليعلن في ميثاقه التأسيسي أن رغبة الجماهير منذ ثورة أكتوبر هي ''السير على طريقة التنمية غير الرأسمالية حتى تقف على آفاق الاشتراكية حيث الحرية الاجتماعية التي ننشدها بالسيطرة على وسائل الإنتاج، وتوسيع قاعدة قطاع عام قادر على قيادة التقدم الاقتصادي، وتوجيه القطاع الخاص ليشارك في خطة التنمية''. لاحظ: ''رغبة الجماهير''، وليس رأينا. ولم يترك الميثاق مجالاً للتخمين حول المراد بالاشتراكية التي ترغب فيها الجماهير إذ أضاف ''الاشتراكية العلمية المطبقة على واقعنا السوداني، والمرتكزة على تاريخنا وتراثنا الحضاري وعلى عقائدنا وتقاليدنا التي تهدف إلى تحرير الإنسان السوداني من قيود الحاجة وتحقق له حريته كإنسان لهي المرشد الذي تهتدي به ثورتنا في نقل الجماهير من حياة البؤس إلى الحياة الرغدة''. عن ذلك التوجه إرتدت مايو بعد حركة يوليو 19 1971 ولكنها لم تبطئ في التلفع تلفعت بثوب آخر من ذات الطِرز ''الاشتراكي'' بعد أن نزعت عنه صفة ''العلمية'' وحددت له مواصفات. من تلك المواصفات: ''يكون القطاع العام قائداً ورائداً للتنمية الاقتصادية والعلاقات الإنتاجية الجديدة يساعده القطاع التعاوني والقطاع المختلط والقطاع الخاص''، وكل ذلك لتحقيق ''الكفاية والعدل'' من أجل ''أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة''. أهو نزار قباني الذي نظم، أم هي ماجدة الرومي التي تتغنى: كلمات، كلمات، كلمات.
    ذلك الهوس بالإيديولوجيات في فترتي الستينيات والسبعينيات أمر مفهوم لأن انكار ''الاشتراكية'' أو ''القومية العربية'' في ذلك الزمان كان ضرباً من قلة الأدب. ولكن الذي حدث بعد سقوط نظام مايو يدعو حقاً للدهشة، خاصة بعد سقوط المسلمات الأيديولوجية وانهيار نماذجها من (A) إلى (Z)، والـ (A) هي انقولا، والـ (Z) زمبابوي، أو إن أردت زامبيا. في زمان سقوط النماذج هذه أطل علينا ميثاق انتفاضة ابريل ليحدد في فقرته الرابعة مهمة إستراتيجية للاقتصاد الوطني هي: ''التحرر من التبعية الاقتصادية للإمبريالية العالمية وخلق بنية اقتصادية اجتماعية تحقق الكفاية والعدل وذلك بالتصدي الجاد والحاسم للازمة الاقتصادية عن طريق تنمية الثروات والموارد الوطنية وتعبئة الموارد القومية لمواجهة الجفاف والمجاعات والغلاء وشح المواد ''التموينية''. لا شك في أن الذين وضعوا ذلك النص كانوا موقنين تمام اليقين أن الإطاحة بنميري هي نهاية التاريخ، فبسقوطه تُحلُ مشكلة السودان السياسية ولا يبقى غير أمرين: الأول هو الاتفاق مع ''الجنوب'' بإعادة الحياة إلى اتفاقية أديس أبابا، والثاني عقد مؤتمر اقتصادي لوضع السياسة الاقتصادية التي تحرر السودان من التبعية للإمبريالية فتتحقق بذلك الكفاية والعدل. لن نتلبث كثيراً أو قليلاً عند ذلك الشعار، شعار التحرر من التبعية للإمبريالية المحتشد بالدلالات الأيديولوجية، لأنه لا صلة له كما لا صلة لمن صاغه بالواقع. وليس أدل على ذلك من أن الخطوة الأولى للسيد عوض عبد المجيد، أول وزير مالية لحكومة الانتفاضة، كانت البحث عن رقم تلفون صندوق النقد الدولي للاستئناس برأيه في كيف يستنقذ البلاد اقتصادياً، لا كيف يحررها من الإمبريالية العالمية. فلو كان للإمبريالية العالمية عنوان فعنوانها في واشنطون هو St 1818 H مقر البنك والصندوق. لذلك، فإن ما نتوقف عنده هو التركيز في اولويات البرنامج الاقتصادي على مواجهة الغلاء وشح المواد التموينية. ذلك، بلا ريب، يعني السكر والشاي والأرز وزيت الطعام وحليب الأطفال، وكلها من السلع التي تعني أهل الحاضرة. هذا أمر مهم بلا شك، وواجب أساس لأي حاكم يأنس في نفسه القدرة على الحكم، ولكنها ليست وحدها القضايا التي تستلزم حلاً عاجلاً، كما ليست هي بالقطع القضايا التي كانت تهجس في رؤوس من حملوا السلاح في جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق من ولايات الشمال، من قبل أن يلحق بهم أهل شرق السودان ودارفور. لهؤلاء جميعاً قضايا أُخر تتطلب علاجاً سريعاً ومباشراً لا يقل ضرورة عن حل ضائقة أهلنا في المدينة.
    وفي فترة الإنقاذ لم ينجُ الاقتصاد من التديين الشعاراتي. فبالرغم من انتهاج النظام لسياسات براقماتية في تعامله مع العالم الخارجي، أبى إلا أن يضيف للاقتصاد في دستور 1998 أبعاداً يصعب حسابها وإحصاءها، لا سيما في غيبة البرامج التي تحقق، والموارد التي تتحقق عبرها، الأهداف الذي تغيأها المشرع. فالدستور يقول في الفقرة عن الاقتصاد القومي: ''تدفع الدولة نمو الاقتصاد الوطني وتهديه بالتخطيط على أساس العمل والإنتاج والسوق الحر منعاً للاحتكار والربا والغش، وسعياً للاكتفاء الوطني، وتحقيقاً للفيض والبركة، وسعياً نحو العدل بين الولايات والأقاليم''. لقد تعاقب على السودان في عهد ''الإنقاذ'' عدد من وزراء المالية ولا أحسب أن وأحداً منهم أدرك ما الذي يعنيه تعبير ''البركة'' بلغة الإحصاء الاقتصادي ناهيك عن أن يجد سبيلاً لتحقيقها في الموازنات التي يعدها. وفي مادته 11 (العدالة والمكافلة الاجتماعية) يقول الدستور: ''تراعي الدولة العدالة والمكافلة الاجتماعية لبناء مقومات المجتمع الأساسية توفيراً لأبلغ مستوى العيش الكريم لكل مواطن توزيعاً للدخل القومي عدلاً بما يمنع التباين الفاحش في الدخول، والفتن، والاستغلال للمستضعفين وبما يرعي المسنين والمعوقين''. ''الاكتفاء الوطني''، ''العدل بين الولايات والأقاليم''، ''توزيع الدخل القومي بما يمنع التباين الفاحش''، ثم من بعد يحمل أهل دارفور السلاح، كما يقولون لإيقاف، ''التباين الفاحش''. ودارفور ليست ولاية أو إقليماً عادياً يترجى العدل والفيض والبركة من الله، بل هي الإقليم الذي يضم اكبر رصيد استراتيجي للحركة الإسلامية، والذي أنجب بعضاً من خيرة أبنائها. ثمة خطأ ما، في مكان ما! أو هل هو الاختلال في فقه الاولويات.
    إن أهم الواجبات التي تجابه الدولة والمجتمع في الفترة الانتقالية هي تحقيق العبور من التهميش إلى التمكين في أربعة محاور. ففي المحور السياسي عبور من الإقصاء إلى المشاركة، وفي المحور الاقتصادي عبور من الفقر الشامل إلى الإيفاء بالاحتياجات الأساسية والتأهيل للنمو والانطلاق، وفي المحور الثقافي / الاجتماعي عبور من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام، ومن غلواء التعصب إلى رحابة التسامح. ولقد تناولنا في المقالات السابقة كيف يكون التحول في المحور السياسي، فما الذي جاء به بروتوكول اقتسام الثروة لتحقيق العبور المطلوب في المحور الاقتصادي.
    بدأ البروتوكول بإرساء مبادئ هادية للتحول الاقتصادي ستكون هي المرتكز والأساس لكل الخطط والبرامج التي ستتخذها الدولة على المستوي القومي والولائي، وتلتزم بها كل مستويات الحكم الأخرى
    × اقتسام وتوزيع الثروة الناجمة من موارد السودان لضمان ترقية نوعية الحياة وكرامة المواطن وتحسين ظروف المعيشة دون تفرقة على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء السياسي أو اللغة أو الإقليم. وان يُنطَلق في تقسيم وتخصيص الثروة من أن التنمية حق لكل أجزاء السودان.
    × يتفق الطرفان على أن جنوب السودان يواجه احتياجات خطيرة لكيما يكون قادراً على، أولاً أداء وظائف الحكم الملقاة على عاتقه، وثانياً تأسيس إدارة مدنية فاعلة، وثالثاً إعادة تأهيل وتعمير البنية الأساسية والاجتماعية في مرحلة ما بعد الصراع.
    × يتفق الطرفان على أن جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وابيي وغيرها من المناطق التي تأثرت بالحرب تواجه حاجة عاجلة أولاً للقيام بالوظائف الأساسية للحكم وثانياً لتشييد الإدارة المدنية، وثالثاً لإعادة تأهيل وتعمير البنية الأساسية والاجتماعية في سودان ما بعد الصراع.
    × يتعهد الطرفان برفع متوسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المناطق لنفس متوسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في الولايات الشمالية، وبما أن هذا يتطلب وقتاً وجهداً يُؤسس صندوقان خاصان لهذا الغرض.
    × عند اقتسام وتخصيص الثروة يلتزم الطرفان باللامركزية ونقل سلطة صنع القرار فيما يتعلق بالتنمية والخدمات لمستويات الحكم المختلفة
    × يُراعي عند توزيع الموارد أن يتم ذلك في شفافية وفي ظل إدارة مسئولة، كما يُراعي حسن استخدام الموارد واستغلال الموارد الطبيعة على وجه يضمن تجددها.
    × تتعهد الحكومة القومية بعدم حجز أي اعتمادات مخصصة لحكومة جنوب السودان، أو لحكومات الولايات، ويحق لأي مستوى من مستويات الحكم يُحرمُ من نصيبه المقدر له اللجوء للمحكمة الدستورية.
    من بين القضايا التي تناولها البروتوكول قضية الأرض والموارد الطبيعية تحت سطحها. تلك قضايا ذات جذور عميقة منذ إلغاء الحكم الاستعماري لنظام حيازة الأراضي الموروث من الممالك السودانية الأولى (وثائق التمليك في مملكة الفونج، اقتطاع الحواكير في سلطنة دارفور). ونسبة لطبيعة السودان الجغرافية والأيكولوجية فإن أهم مناطق الإنتاج الزراعي والرعي تقع في ما بين خطي العرض 7 - 15 شمالاً، وهي نفسها المنطقة التي تدور فيها الحروب والصراعات الآن: أعالي النيل، جبال النوبة، دارفور، جنوب النيل الأزرق. وزاد اكتشاف البترول من تعقيد الأمور إذ أن أهم حقوله الحالية تقع أيضاً في هذه المنطقة.
    قضية ملكية الأرض في حد ذاتها لم تُفجر المواقف، بل فجرها أمران. الأول هو كيفية استغلال هذه الأراضي منذ عهد عبود، وبصورة أكثر كثافة منذ عهد مايو بعد صدور قانون الأراضي الجديد (1970) والذي اعتبر كل الأراضي غير المسجلة في السودان ملكاً للدولة. الأمر الثاني هو انهيار البيئة الطبيعية ليس فقط بسبب عوامل طبيعية (الجفاف)، وإنما أيضاً بسبب الاستغلال السئ من جانب البشر للموارد الطبيعية، خاصة الرعي الجائر والتطور غير المخطط في الزراعة الآلية المطرية. تعبير البشر هنا يشمل الدولة باعتبارها الفاعل الأساس في عملية الإنتاج؛ فالدولة هي التي تضع السياسات، وهي التي تمنح التراخيص، وهي التي تنظم وتضبط استخدام وسائل الإنتاج، وهي التي يُفترض أن ترعى حقوق المستضعفين. ويروي الدكتور محمد سليمان في مؤلفه القيم (السودان، حروب الموارد والهوية) أن مساحة الرقعة التي تتمتع بتراخيص الزراعة الآلية المطرية بلغت أكثر من 7 مليون هكتار (أكثر من 18 مليون فدان) وبهذا تجاوزت مناطق الزراعة التقليدية البالغة مساحتها 4 مليون هكتار (9 مليون فدان)، كما ذكر أن ثمانية ألف أسرة فقط (أغلب أفرادها من أصحاب التراخيص المتغيبين) تسيطر على الزراعة الآلية في حين يعتمد على الزراعة التقليدية أربعة ملاين من فقراء المزارعين. تلك كانت هي السياسة منذ عهد عبود، كما قلنا، واستمرت بعد سقوط نظامه في الديمقراطية الثانية، كما في عهد مايو بتمويل مكثف من البنك الدولي، بهدف التوسع في الإنتاج الزراعي. ذلك هدف مشروع شريطة أن تؤخذ في الاعتبار الآثار السلبية لذلك التوسع وكيف تُعالج. وفي تقرير أعدته منظمة الحقوق الأفريقية حول جبال النوبة (1995) ورد إحصاء مدهش حول توزيع مشروعات الزراعة الآلية في منطقة هبيلا. فمن بين مائتي مشروع لم يُحظ أهالي المنطقة إلا بأربع مشروعات مُنحت لتعاونيات زراعية ومشروع واحد لبعض التجار المحليين. جميع المشروعات الأخرى وزعت على مزارعين غائبين وكلهم من التجار والمتقاعدين من الموظفين وضباط الجيش الشماليين. حكومة ''الإنقاذ'' أكدت تلك السياسات التوسعية في استراتيجيتها الشاملة التي أُعلنت في مايو 1992 حين قررت زيادة مشروعات الزراعة الآلية ثلاثة أضعاف والمطرية عشرة أضعاف لأجل ''احياء الموات وعمارة الأرض''، هذا غرض نبيل، ولكن الدين الذي يحث على عمارة الأرض لا يُلغي حقوق العباد، بل يقول ان الأرض لا تُملك إلا بإرادة ظاهرة وأن والملكية حق واستخدامها رخصة. وان أدركنا أن أغلب مناطق الزراعة الآلية تقع في جبال النوبة (هبيلا)، أعالي النيل (القيقر)، النيل الأزرق (اقدي والقرابين)، شرق السودان (القضارف)، وان أغلب المنتفعين من المشروعات الزراعية، كما قلنا منذ هنيهة، هم المتقاعدون من رجال الخدمة العامة والجيش والتجار وكلهم من أهل الشمال النيلي، وان عائد الاستثمار في هذه المناطق يعود دوماً للخرطوم ليستثمر في الصناعات الناشئة والعقارات والإنفاق البذخي، تبينت لنا العلاقة العضوية بين الثروة والثورة، كما تبين لنا البون الشاسع بين المشاكل الحقيقية (التشخيص العملي للمشكلة) وبين الحلول المقترحة، جاءت تلك الحلول في الدساتير أو في السياسات والبرامج.
    ومن المؤسف أن أنظمة الحكم المتعاقبة بوصفاتها العلاجية المتنوعة بدءاً من الاشتراكية العلمية، إلى الاشتراكية العربية، فالاشتراكية المايوية ''النابعة من تراثنا''، ثم سياسات التحرر من الإمبريالية العالمية في عهد ابريل، وأخيراً سياسات عمارة الأرض لم تُعنَ حتى بتوفير المسكنات اللازمة كجزء من سياسة التوسع الزراعي، كما فعل الاستعمار. فلو فعلت ما فعله الاستعمار في مشروع الجزيرة لأسهمت في ترطيب الأجواء أو تهدئة الخواطر إلى حين. الاستعمار ابتدع طريقة لتوزيع عائد المشروع إلى ثلاثة أنصبة: نصيب للحكومة، ونصيب للمزارع، ونصيب للرعاية الاجتماعية للمنطقة. لو حدث هذا لما وقع الاختلال الذي تعانيه هذه المناطق حتى الآن في الخدمات الاجتماعية. فمثلاً، تشمل خدمات الصحة العامة 58% من سكان السودان منهم 87% في المراكز الحضرية و48% فقط في الريف، كما يبلغ عدد السكان الذين تتوفر لهم مياه الشرب الصالحة للبشر 67% من السكان منهم 86% في المدن و60% في الريف (إحصائيات البنك الدولي، 2000). أما الصراع على الموارد المنهارة فلعل أصدق مثال معاصر له هو دارفور حيث تحولت الحرب حول الموارد من نزاع منخفض الوتيرة Iow-intensity conflict حتى وان أسميناه نهباً مسلحاً ـ إلى تمرد عالي الوتيرة high-intensity rebellion، رغم كل ما قال به دستور 1998 في مادتة الحادية عشر، ورغم ما تمناه لها الدكتور غازي صلاح الدين إبان عمله بوازرة الخارجية: ''ستكون دارفور في القريب العاجل من أميز ولايات السودان مما يجعل خيراتها تقيض عليها وعلى الدول المجاورة'' (الإنقاذ الوطني 30/11/1992).
    تَناولُ بروتوكول اقتسام الثروة لقضية الأرض له، إذن، دواعيه. اتفق الطرفان أولاً على أن هناك قضية تستلزم العلاج، كان ذلك فيما يتعلق بحيازة الأرض أو الثروات التي في باطنها، وعلى العمل لإيجاد حل حاسم لها. كما اتفقا على أن تُمارس ضوابط الانتفاع والاستخدام للأراضي على مستويات الحكم المختلفة. وكخطوة أولى قررا إنشاء هيئة قومية مستقلة للأراضي، وأخرى للجنوب تكون سلطاتهما متطابقة على أن يتعاونا مع بعضهما في أداء الواجبات الملقاة عليهما، وينسقا فيما بينهما. كما ستقوم في الولايات لجان للأراضي تحت إشراف الهيئة القومية مما يضمن مراعاة مصالح أهل الولايات عند تخصيص الأرض للاستغلال. وسيعمل الطرفان على إعادة النظر في كل قوانين الأراضي تدريجياً بما يضمن مراعاة الأعراف والممارسات والمواريث المحلية والتجارب الدولية. وكُلفت الهيئة بالتحكيم في قضايا الأراضي دون إخلال بسلطات القضاء، وضماناً لاستغلالها كما تقرر وضع الهيئة تحت الإشراف المباشر لرئيس الدولة. ومن بين واجبات الهيئة إسداء النصح لمستويات الحكم المختلفة حول إصلاح الأراضي، التعويضات، تنسيق السياسات المتعلقة باستخدام واستغلال الأراضي، تسجيل الممارسات المتبعة في استغلال الموارد الطبيعية. ووُجهت الهيئتان لاستخدام مواردهما وخبراتهما بكفاءة، خاصة فيما يتعلق بالبحوث والمعلومات والإجراءات. وفي حالة أي نزاع بين الهيئتين يحال الأمر للمحكمة الدستورية.
    وحول الثروات في باطن الأرض اتفق الطرفان على أن يكون استخدام الموارد غير المتجددة (أي التي ستنضب نتيجة لاستغلالها مثل المحروقات الحجرية fossil fuels) للمصلحة العامة والخير العام، ولمصلحة المنطقة التي تنتج فيها مع مراعاة حماية البيئة، وصيانة التراث، والحفاظ على التنوع البيئي (biological diversity). وبالإضافة لحماية البيئة المحلية، الطبيعية والاجتماعية، أولى الطرفان اهتماًما للبيئة الخارجية واتفقا على توفير المناخ السياسي المناسب لضمان تدفق الاستثمارات المالية المباشرة عبر تقليص المخاوف التي قد ترتبط في الأذهان بالنتائج المترتبة على ممارسة حق تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية حتى يتوفر الاستقرار المرغوب في قطاع النفط. تَم الاتفاقُ أيضاً على إشراك أهل المناطق التي يُنتج فيها النفط، عبر حكوماتهم، في أي مفاوضات تتم بشأن النفط المستخرج من المنطقة، وتعويضهم على أية خسائر تلحق بهم بسبب إتاحة. تقرر أيضاً إنشاء هيئة قومية للبترول يرأسها رئيس الدولة ونائبه الأول رئاسة مشتركة وتضم كأعضاء دائمين أربعة ممثلين للحكومة القومية، وأربعة لحكومة الجنوب كما تضم كأعضاء غير دائمين ما لا يقل عن ثلاثة ممثلين للمناطق التي ينتح فيها البترول. ويضمن البروتوكول لممثلي تلك المناطق الحق في الاعتراض على أي عقد يتعلق بإنتاج النفط في مناطقهم إن لمسوا فيه إضراراً بمصالحهم. وفي حالة الاختلاف بين أهل المنطقة المعينة وهيئة البترول حول العقد المقترح يحال الأمر إلى مجلس الولايات فإن رفض المجلس اعتراض أهل المنطقة يتم توقيع العقد، وان أيده بأغلبية الثلثين يحال الأمر إلى لجنة تحكيم يكون قراراها نهائياً. وبوجه عام، أوكل البروتوكول للهيئة القومية للبترول وضع الاستراتيجيات والسياسات لتطوير وإدارة قطاع البترول، ومراقبة تنفيذ سياسات القطاع. في ذات الوقت اتفق الطرفان على إتاحة الفرصة لمجموعة صغيرة تحددها الحركة لمراجعة العقود القائمة، ودون إعادة النظر في تلك العقود، تُقرر اللجنة عما إذا كانت تلك العقود قد ألحقت أضراراً اجتماعية أو بيئية بالمجموعات المعنية، وتحدد طبيعة وحجم هذه الأضرار بهدف معالجتها من جانب طرفي العقد.
    بيد أن من أهم ما أورده البروتوكول حول النفط بنوداً ثلاثة: الأول يتعلق بإنشاء حساب خاص لتركيز صافي عوائد البترول لحماية الدخل العام من التقلبات العالمية في أسعار النفط على أساس سعر قياسي متفق عليه يحدد سنوياً. والثاني يتعلق بإنشاء صندوق للأجيال القادمة متى ما بلغ إنتاج البترول السوداني 2 مليون برميلاً في اليوم، وقد يخفض هذا الحجم إلى مليون برميل في اليوم. الثالث هو أن تُضَمن جميع الحسابات المتعلقة بالبترول في الموازنة العامة، لا سيما وقد دار لغط كبير، خاصة في صفوف المعارضين، حول عدم إدراج عوائد بعض الموارد في الميزانية العامة.
    ومن بين القضايا التي أثارت جدلاً كبيراً تخصيص 50% من صافي إيرادات النفط للجنوب. هذا النص يتعلق أولاً بالبترول المُنتج في الجنوب، وكان من رأي الحركة أن يتوصل الطرفان لاتفاق يتم بموجبه توزيع نسب معينة من صافي إيرادات البترول السوداني الذي ينتج في الشمال والجنوب معاً على كل ولايات القطر وأقاليمه حسب احتياجاتها الخدمية والتنموية، مع الإبقاء على نسبة معينة للحكومة القومية لمجابهة واجباتها الإدارية والأعباء التنموية والخدمية الموكلة لها عبر القطر. هذا الاقتراح لم يجد قبولاً من جانب الطرف الحكومي المفاوض. ثانياً بروتوكول نايفاشا ليس هو الاتفاق الأول الذي تعهدت فيه الحكومة باقتسام بترول الجنوب مع طرف جنوبي، ففي اتفاقية الخرطوم 21/4/1997 (اتفاقية السلام من الداخل) وافقت الحكومة على تخصيص 75% من عائد بترول الجنوب للجنوب. ونذكر أن تلك النسبة (75%) هي النسبة التي اقترحتها ابتداءً الحركة كنصيب للجنوب، ومن الواضح أن ذلك الرقم لم يجئ من فراغ. ثمة احتمالان، إما أن الذين يدقون الطبول اليوم من بين أنصار النظام ضد من وصفوهم بـ ''المتنازلين'' لا يستذكرون ما جاء في اتفاقية الخرطوم، ولهذا من حقهم علينا أن نُذَكرهم به، وإما أنهم يعرفون أن اتفاق السلام من الداخل كان وعداً كاذباً، أي أنه كان إعادة تدوير لكل وعود الشماليين للجنوب منذ ديسمبر .1955 وإن كان ذلك هو الحال فيجب أن لا يُدهش أحد لإصرار الحركة ـ في هذا الشأن وفي غيره ـ على أن لا تترك أي شئ للفرص. فعلى سبيل المثال تقول المبادئ الهادية لبروتوكول اقتسام السلطة أن من أهم واجبات الحكومة القومية في الفترة الانتقالية (ونكرر أن توزيع هذه الأنصبة يتعلق بالفترة الانتقالية لتحقيق أهداف معينة) الارتقاء بمستوى الجنوب للمستوى الذي عليه ولايات الشمال، وتعترف تلك المبادئ أن هذا يتطلب جهداً ومالاً، فمن أين سيجيء المال إن لم يكن من المورد الوحيد المضمون؟ وليس صحيحاً البتة ما أورد د. فاروق كدوده في منتدى الأضواء (الأضواء 27/12/2003) أن المتفاوضين استهديا في توزيع النسب بالتجربة النيجيرية لأن نيجيريا لا توزع بترولها على هذا الوجه. نيجيريا هي التي ستستهدي بتجربة السودان إذ طلب الرئيس النيجيري، بعد إطلاعه على البروتوكول، من أحد مبعوثي الحركة إليه (دينق الور) أن يسلم نسخة من البروتوكول لوزيرة ماليته ويوجه انتباهها، بوجه خاص، للنص حول ميزانية الأجيال القادمة، وحول إشراك الولايات في التفاوض حول عقود الإنتاج.
    زأمر آخر لا يقل في أهميته عن تحديد الأنصبة من عائد البترول للولايات المنتجة هو النص على التكافؤ في توزيع العائدات القومية كلها وليس البترول وحده. ذلك النص يقضي أن تودع جميع العائدات القومية (بما فيها إيرادات البترول) في صندوق خاص يسمى صندوق العائدات القومية (National Revenue Fund) تديره الخزانة ويتضمن كل الحسابات والمودعات على أن يُشهر في الميزانية العامة المعلنة. وينص البروتوكول على إنشاء لجنة مسئولة عن تحديد وتوزيع المخصصات المالية ومراقبتها، وذلك، كما يقول النص، ''لضمان الشفافية والعدالة فيما يتعلق بتخصيص هذه الموارد لمستويات الحكم المختلفة''. وقضية التكافؤ أو الموازنة أمر ضَمنته بعض الدول في مواثيق الحقوق مثل ميثاق الحقوق والحريات الكندي الذي أصبح جزءً من الدستور في العام .1982 فالباب الثالث من ذلك الميثاق يشير إلى الموازنة أو التكافؤ والتباينات الإقليمية (يEqualization and Regional Disparities). في ذلك الباب يُلزم الدستور البرلمان والحكومة الكندية وحكومات الولايات بتوفير الفرص المتكافئة لكل كندي لتحقيق الرفاهية، والتنمية الاقتصادية بهدف تقليص التباينات، وتوفير الخدمات الاجتماعية بمستوى معقول لكل مواطن. كما يلزم البرلمان والحكومة الكندية بتوفير الاعتمادات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.
    أنشأ بروتوكول نيفاشا، إلى جانب ذلك، لجنة لمراقبة وتحديد المخصصات المالية ''Fiscal and Financial Allocation and Monitoring Commission تتكون من ثلاثة ممثلين للحكومة القومية، وثلاثة لحكومة الجنوب، وجميع وزراء مالية الولايات. قيام هذه اللجنة سينهي هيمنة الترسانات المسلحة بالخرطوم على المال وسيُمكن ولايات السودان كلها (وليس الجنوب فقط) من أن يكون لها رأي في كيف تُنفق أموال السودان التي نعرف جميعاً أن مصدرها ليس هو شارع النيل بالخرطوم، بل ـ قبل أن يكون للجنوب بترول ـ مصدرها هو قطن الجزيرة، وسكر كنانة، وصمغ كردفان، وماشية دارفور، وسمسم القضارف الذي كثيراً ما نظمنا فيه الأغاني. أو يدخل هدم هذه الهيمنة الاقتصادية المركزية في باب ما أسماه الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر الهدم الخلاق constructive destruction؟
    أما وقد وصلنا إلى الذي انتهى إليه بروتوكول نيفاشا من ثورة حقيقية في الاقتصاد السوداني، ليس فقط في وضع المؤشرات والمبادئ الموجهة للاقتصاد، وتحديد أولويات الإنفاق في الفترة الانتقالية، بل أيضاً في خلق الأُطر لإعادة توزيع الثروة ووضع القوانين التي تضبط ذلك، نعجز حقيقة عن إدراك ما ذهب إليه المحلل المدقق د. حيدر إبراهيم علي عندما كتب لمجلة المصور (18/6/2004) يقول ''الحركة الشعبية ذات الخلفية الماركسية كان من المتوقع أن تتقدم للمفاوضات بخريطة سلام وتنمية مستقلة عادلة لكل الوطن وليس كشف مطالب ملئ بالإحصائيات والنسب وان تتحدث عن إنتاج وتنمية وزيادة الثروة وليس عن كيفية تقسيمها فقط. وأخشى أن تكون الحركة الشعبية قد اختزلت نفسها في حركة أثنية أو جهوية أصبحت تحكمها الجغرافيا والعرق وليس السياسة والفكر في مستواها القومي''. نخشى أن يكون المحلل السياسي والاجتماعي ظلم نفسه وظلم القارئ ثم ظلم الحركة. الموضوع الذي يحلله الكاتب اتفاق بين طرفين لم يجلسا لوضع خطة لتنمية السودان وإنما لتحقيق السلام في السودان بمعالجة الجذور التي قادت للحرب. واتفق الطرفان منذ مشاكوس على تسمية الجذور السياسية والاقتصادية للحرب ومنها التهميش الاقتصادي، كما اتفقا على أن العلاج هو التمكين، ويتطلب تحقيقه شيئين، الأول تحديد أبعاد التهميش والتوافق على طرائق الخروج منه وهذا ما فعلته المبادئ. والثاني هو تحديد الموارد المتوفرة والإجراءات اللازمة للعبور من التهميش إلى التمكين وهذا ما فعله البروتوكول. وظلم الكاتب القارئ عندما صور له أن كل الذي جاء به الاتفاق هو إحصائيات، نعم الإحصائيات كانت هناك، وهي ضرورية في الشأن الاقتصادي لأن الاقتصاد علم عدد وأرقام. على أن الذي فصلناه في هذا المقال عما جاء به البروتوكول يزيل أي لُبس حول طبيعته الإحصائية المفترضة. أما ظلم الحركة فهو في وصفها باختزال نفسها في ''حركة أثنية أو جهوية تحكمها الجغرافيا والعِرق''. ولعل المعنى بالأثنية هنا هو عناية الحركة، بوجه خاص، بالجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. هذه هي المناطق التي ظلت تجري فيها الحرب الساخنة وما انعقدت المفاوضات إلا لإيقاف تلك الحرب. ثم ما الذي يعنيه تعبير ''المستوى القومي'' إن كان سكان هذه المناطق الذين يبلغ عددهم ما يزيد عن الإثني عشر مليوناً من البشر، أي ما يقارب نصف سكان السودان، وتبلغ مساحة الأرض التي يحتلونها مليون كيلومتر مربع أي ما يزيد عن ثلث مساحة السودان هم شيء أدنى من قومي. القضية ليست قضية سيمانطيقية بل أهم من ذلك، ترى لو كان هذا الحل يتعلق بمشاكل نظيرة تدور في محافظات النيل الأبيض وسنار والجزيرة، أسنصف الحل بالحل الإثني؟ على كل، اتهام الحركة بتقاصر النظرة القومية اتهام يفتقد الإنصاف. فالحركة ظلت تلهث منذ مشاكوس وراء تبني إعلان حقوق Bill of Rights لكل السودان، وتدعو لتحول ديمقراطي لا يقتصر فيضه على الأثنيات التي تعنيها، وتطالب بحق كل الولايات في السيطرة على مواردها المالية وتفلح في ذلك، وتعمل على تمكين الولايات في جميع السودان من القدرة على كبح جماح سيطرة المركز عليها (مجلس الولايات)، وتدعو لإنشاء صندوق من عوائد النفط لمصلحة الأجيال السودانية القادمة، وتوصل لاتفاق حول معالجة قضية الأرض في السودان كله. هذا الإنجاز لم يكن نتيجة جهد رجل أو رجلين، أو وفد أو وفدين، بل أسهم فيه عدد من السودانيين العاملين في حقل الاقتصاد من أبناء هذا الوطن، جنوبيين وشماليين، ومن حقنا عليهم تقدير ما أنجزوه.
    نظرة الحركة القومية ربما تجافت، ولا نقول تقاصرت عن السقوف التي كنا نضعها للحلول ''القومية'' في الزمن الغابر. تلك سقوف تقاصرت عن معالجة مشاكل الأرض، وعن التوزيع المتكافئ للموارد على الولايات وليس فقط على مجموعات ''أثنية'' بعينها، وعن الضمان الدستوري لحق الولايات في الحصول على، والتصرف في، تلك الموارد، وعن اعتبار قضايا الحكم الصالح (الشفافية والمحاسبة) والحفاظ على البيئة الطبيعية جزءاً لا يتجزأ من خطط التنمية وتضمينها كمبادئ دستورية.
    أما الحديث عن الخلفية الماركسية فلا مكان له من الإعراب، وهو أمر سبق الدكتور حيدر للإشارة إليه آخرون. مثال ذلك السيد الصادق المهدي عندما تحدث عن ''قرنق واشتراكيته العلمية ذات الأصل الزنجي''. نستذكر ذلك الحديث فقط لنستعيد رد زعيم الحركة عليه. قال قرنق: ''أنا لا أعرف ما تعنيه الاشتراكية للبعض. أما الرأسمالية التي درستها لمدة تسع سنوات، ما زلت حتى الآن أجهل كنهها. وعندما نجعل من الاشتراكية اشتراكية علمية زنجية يصبح الأمر أكثر تعقيداً. ثم ما هو الأصل العربي، والأصل الزنجي؟ نحن خليط بديع. دعنا نجعل من هذا الكوكتيل بلداً قوياً. أما بالنسبة للاشتراكية أو الشيوعية أو أمثالها من الإيات ،isms أقول إن المرء لا يستطيع أن يكون شيوعياً أو رأسمالياً دون أن يكون موجوداً في الأصل. فعلينا إذن أن نكون سودانيين وأن نؤسس سوداناً جديداً. نقطة انطلاقنا، إذن، هي السودانوية، لا الرأسمالية، أو الاشتراكية أو أي شيء من هذا القبيل''. هذا ما قاله الرجل عن نفسه وعن الحركة التي يقودها دون أي إيحاء من جانبه أن في الانتماء للماركسية ما تلزم منه سُبة. وعلى كل فإن صاحب ''الخلفية الماركسية'' هذا يعرف بضع حقائق لأنها في علم الكافة. يعرف، مثلاً، أن الاستعمار الكوكلي cocacolanization ـ نسبة إلى كوكاكولا ـ قد غزا كل الدول التي اقيمت على هدى مبادئ ماركس بما فيها الاتحاد السوفيتي. ويعرف أن ليونيد بريزنيف لم يعد هو سيد الكرملين. لهذا، فإن تذكرته ''بخلفيته الماركسية'' في معرض الحديث عن مشروعه الافتراضي لتنمية السودان يصبح أكثر غرابة من تذكرة بوريس يلتسن عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، أو فيلاديمير بوتين الذي نشأ وترعرع في الــــكرملين (كان والده كبيراً للطهاة في عهد ستالين) بماركسيتهما التي نسياها عند وضع الخطة الاقتصادية الروسية الراهنة.
    بروتوكولات نيفاشا لم تخترع العجلة من جديد، ولكن الجديد الذي فعلته هو أنها حققت التحول الضروري في النموذج المثال Paradigm Shift، كان ذلك على صعيد الإدارة والسياسة، أو الاقتصاد. وبدون ذلك التحول في الاقتصاد على وجه الخصوص يصبح الحديث عن التنمية المتوازنة حرثاً في البحر. هذا إنجاز ليس باليسير بل هو رؤية جديدة، وبدون الرؤية تصبح الخطط الاقتصادية خبط عشواء. على أن تحديد الموجهات، وخلق الأطر التنظيمية، بل وضع القوانين (باعتبار أن كل هذه الاتفاقيات ستصبح دستوراً حاكماً في الفترة الانتقالية) لا يغني عن بلورة خطة متكاملة للإصلاح الاقتصادي يتفق عليها الجميع حتى تصبح عقداً اجتماعياً أو برنامجاً وطنياً متفقاً عليه. فلئن كان الهدف الأساس للتنمية هو القضاء على الفقر، فذلك لا يتحقق بتخصيص أموال للفقراء أو للمناطق التي تعاني من الفقر أكثر من غيرها، وإنما عبر تحولات كلية تشمل التعليم والصحة وتوفير فرص العمل المنتج للفقراء بما يتناسب وقدراتهم وبما يعين على زيادة الأصول الإنتاجية المتوفرة لهم. وعلى المستوى القومي لن يتحقق الهدف المرغوب إلا بتنمية وتطوير رأس المال البشري ومضاعفة المدخرات الوطنية وتوجيه السائل منها نحو الإنتاج وتطوير المهارات العالية والبحوث العلمية. هذه كلها أمور لم تَغِب عن إدراك المتفاوضين ولهذا اتفقا على تكوين فريق مشترك لتقويم الاحتياجات للفترة الانتقالية.Joint Assessment Mission وسيركز الفريق اهتمامه في ثمانية موضوعات هي الإصلاح المؤسسي وتأهيل الكوادر، السياسات الاقتصادية وإدارة الاقتصاد، القطاعات الإنتاجية، الخدمات الاجتماعية الضرورية، الحكم وسيادة حكم القانون، المعيشة والحماية الاجتماعية (للمجموعات الأكثر تأثراً بالآثار السلبية للسياسات الاقتصادية)، البنيات التحتية، المعلوماتية والإحصاء. كما سيضم الفريق خبراء سودانيين لمعالجة قضايا نوعية مثل قضايا المرأة، الاحتياجات العاجلة (البرامج الاسعافية)، الأمن وصيانة القانون. وبالرغم من أن هذه الدراسات ستتم بدعم من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية إلا أن قائدي فريق الاستطلاع سودانيان يلمان بطبيعة المشكل السوداني وبدروب المنظمات الدولية المتعرجة: الدكتور إبراهيم البدوي والدكتور يونقو بوري. نتائج هذه الدراسات ستكون هي الأساس الذي تحدد على ضوئه نوعية وحجم المعونات الخارجية لبرنامج الإصلاح السوداني، ولكن قبل أن يحدث هذا ينبغي أن يكون للاقتصاديين السودانيين وللقوى السودانية المختلفة دور في تشكيل الرؤية الوطنية ابتناء على المعطيات الموضوعية وبعد التخفف من الأحمال الأيديولوجية. في خطابه عند التوقيع على إعلان نيروبي دعا قائد الحركة إلى عقد اجتماعي قال عنه: ''اقترحنا وضع عقد اجتماعي جديد ينعقد عليه وفاق شامل، ويكون ملتزماً باتفاقيات السلام، كما يوضح بجلاء محددات الحكم الصالح، وأهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية خلال الفترة الانتقالية. يتضمن العقد أيضاً التزاماً أخلاقياً ببعض القيم التي لا يستقيم الحكم دون الالتزام بها واقترح في سبيل هذا وضع مدونة سلوك تضبط عمل اللاعبين السياسيين''. يقف المرء عند الإشارة الأخيرة في خطاب قائد الحركة لأن نجاح التحول الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي يتطلب منظومة جديدة للسلوك على مستوى القيادات، السياسي منها والمهني. ولعل ترداد تعبيرات مثل المحاسبة والشفافية في أكثر من موقع في بروتوكولي اقتسام السلطة والثروة يعني اقتناع الطرفين بالحاجة إلى قواعد ومدونات سلوك تضبط الرجل العام وتحمي من، أو تحول دون، الفساد. العجز عن إيلاء هذا الموضوع ما هو قمين به من اهتمام سيجعل كل جهودنا تذهب هدراً. بيد أن الفساد حيوان أخطبوطي يعسر اجتثاثه بالقانون وحده. فالفساد قد ينجم على المستويات الدنيا من الفقر والحاجة، وفي هذه الحالة ليس هو فقط تعبيراً عن نقص في النفس البشرية، وإنما يتحول إلى آلية لإعادة توزيع الثروة خاصة بالنسبة للموظف الذي لا يعرف كيف يوائم بين دخله وإنفاقه. هذا بالضرورة يعني أن يذهب الإصلاح الاقتصادي إلى توفير الأجر المجزي للعامل بالقدر الذي يمكنه من العيش الكريمliving wage ويمنعه من الولوغ في الفساد. أما في المستويات العليا فالفساد نتاج طبيعي لعوامل عديدة منها المحاباة أو الرعاية السياسية political patronage، وعدم احترام القانون (التدخل السياسي غير المشروع في اتخاذ القرارات الإدارية). وانعدام الشفافية في اتخاذ القرارات المالية (وهذا هو الجانب الذي أولاه بروتوكول اقتسام الثروة اهتماماً خاصاً). في الجانب الآخر خلقت بعض السياسات الاقتصادية في السودان (كما في غيره من الدول) بيئة مناسبة لنمو الفساد، مثال ذلك انهماك الدولة في ميادين الإنتاج والتوزيع وتنظيمregulation المناشط الاقتصادية، مثل تراخيص التجارة أو تلك التي ينبغي خضوعها لأحكام السوق مثل ضبط الأسعار. هذه مغريات تقلصت بزوال أسبابها: هيمنة القطاع العام على الاقتصاد. هناك بلا شك ضرورة لوضع مدونات لسلوك الشخص العام بدءاً من الوزراء والوكلاء (إقرارات الذمة) إلى صغار الموظفين، ولمراجعة كاملة للقوانين التي تحكم استخدام الموارد العامة، والأنظمة المحاسبية، وقواعد الإمداد والتدبير supply and procurement، وضوابط التعيين والترقي. بل ونذهب للدعوة لخلق مركز على المستوى القومي ومستوى الولايات للإشراف على الاستقامة في العمل العامIntegrity Centre كما ذهبت لذلك بعض الدول. ولا يكتمل أداء هذا الواجب إلا بأن تقوم منظمات للمجتمع المدني ذوات أنياب، ولن تكون لها أنياب إن لم تبدأ بضبط نفسها. من ذلك أن تجعل تلك المنظمات على رأس واجباتها وضع، والالتزام بقواعد تضبط أخلاقيات المهن المختلفة. كما للصحافة دور كبير متى ما حددت لنفسها، هي الأخرى، ضوابط مهنية تحول دون انحدارها إلى أدوات للتشهير أو إرضاء شهوات نوع من القراء الذين لا يستطعم غير الغوص في أسرار الناس الشخصية. هذه مقدمة ضرورية كيما نؤكد ليس فقط أهمية حرية الصحافة، فهذا أمر نص عليه بروتوكول اقتسام السلطة، وإنما أيضاً لندعو لحقها الكامل والمشروع في حرية الحصول على المعلومات. فالصحافة هي الأقدر، من بين كل مؤسسات المجتمع المدني، على الكشف عن مواطن الفساد.
    في أكثر من موقع أشار البروتوكول لحماية البيئة الطبيعية وَوَجه بحسن استغلالها، تلك إشارات لابد أن تجد طريقها ليس فقط إلى القوانين، بل والى الدستور أيضاً. ومن المؤسف إغفال الدساتير السودانية، خاصة تلك التي صدرت بعد منتصف السبعينات عند ما أصبحت حماية البيئة شرط وجوب لاستدامة التنمية، لأي نص حول حماية البيئة. ذلك أمر معيب، لاسيما وفي بعض ما قدمنا في هذا المقال ما يكشف عن الإضرار الفادحة التي لحقت بالاقتصاد الوطني وبالمواطن بسبب استباحة البيئة الطبيعية. الاستثناء الوحيد هو دستور 1998 الذي أورد في المادة 13 تحت عنوان ''الصحة العامة والرياضة والبيئة'' ما يلي: ''تعمل الدولة على ترقية صحة المجتمع ورعاية الرياضة وعلى حماية البيئة وطُهرها وتوازنها الطبيعي تحقيقاً للسلامة والتنمية المستدامة لصالح الأجيال''. بيد أن قضية البيئة تستوجب اهتماماً أكثر دقة وتحديداً بحيث تفرض واجبات معينة على الدولة ومسئوليات واضحة على المواطن. وهناك قرابة الخمسين دستوراً في عالم اليوم تلزم الدولة بواجبات محددة، كما تفرض على المواطنين مسئوليات واضحة نحو حماية البيئة الطبيعية. ومن هذه الدساتير ما ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مثل الدستور الإيراني الذي تُحرم المادة الخمسون منه أي نشاط اقتصادي يضر بالبيئة الطبيعية. حماية البيئة أيضاً تبدأ من المدرسة، فتلك هي المرحلة التي تُغرس فيها المعاني في الوعي، ولهذا يتوجب أن يكون تطوير التعليم البيئي جزءاً لا يتجزأ من تطوير مناهج التعليم.
    في مطلع هذا المقال اشرنا إلى غلبة الأيديولوجية على الخطاب الاقتصادي منذ الستينات بل استمرارها حتى انتفاضة ابريل 1985، يتمنى المرء، بعد كل التجارب المريرة التي عبرناها، أن يستقر بنا الرأي على أن الخيار الاستراتيجي الوحيد للسودان هو التنمية الشاملة، وهذا خيار ينطلق من فرضيات الواقع ولا ينبثق من أية حتميات أيديولوجية أو يمكن مخاطبته عبر الواحديات العقائدية. هو أيضاً الخيار الوحيد الذي سيجعل الغد خيراً من اليوم. وإن كنا حقاً صادقين في إجماعنا على انتهاج طريق الاقتصاد الحر، علينا أن ندرك أن ذلك منهج له قواعده وشرائطه، كما فيه مزالق ومطبات. هو منهج لا يعرف نصف الحِمل، ولا يقبل الخنثوية الاقتصادية الكامنة في نظريات مثل ''اتاحة الفرصة للرأسمالية الوطنية التي يقودها القطاع العام'' (مايو السبعينات والثمانينات)، أو تلك التي يعبر عنها أدب انتفاضة ابريل (السوق الحر مع محاربة الإمبريالية العالمية). ولكن، مما لا شك فيه أن فتح الباب على مصراعيه لأيدي السوق الخفية ستترتب عليه أعباء قد تجهض كل سياساتنا من أجل تحقيق أهدافنا المرحلية مثل القضاء على الفقر، أو على وجه الدقة الحد من معدلاته. مثال ذلك الآثار الاجتماعية الضارة التي ستنجم عن الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد، أو تلك التي تتبع الانصهار في السوق العالمي المتوحش، وما توحشه إلا بسبب القوانين المجحفة لمنظمة التجارة العالمية، ولما أسمى اتفاق واشنطون Washington Consensus، ذلك الاتفاق المُقتَسر يفرض على الدول النامية تحرير السوق، وخفض الحواجز الجمركية، وتحرير سعر العملة، والتغييرات الهيكلية في الاقتصاد، والخصخصة، دون أن يوفر للشرائح الاجتماعية غير المحصنة في هذه الدول الحماية اللازمة ضد النتائج السلبية المترتبة على تلك الضوابط. هذه مشكلة حقيقية تستوجب العلاج إلا أن علاجها لن يكون بتسريب الأفكار الأيديولوجية المُعلبة. فالإصلاحات الهيكلية للاقتصاد دواء ضروري رغم مرارته، والانصهار في السوق العالمي مصير محتوم، لا سيما ونحن نعرف أن لا طريق للسودان لبلوغ الكتلة الحرجة التي تمكنه من الانطلاق الاقتصادي مالم يعالج مشكلة ديونه الخارجية التي تزيد في جملتها عن حجم الناتج القومي الإجمالي. كل هذا يتطلب أسلوباً للتعامل مع الخارج يختلف عن ذلك الذي لا يحقق غير إرضاء الخيلاء الفكرية لأرباب العقائد، فالعولمة وتوابعها ظواهر مركبة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية تقتضي المخاطبة لا السباب أو الإدانات الشعاراتية.
    ولعله من حسن الطالع أن البنك الدولي (وهو مؤسسة قل أن تعتذر عن خطأ) أقر في تقريره الأخير للتنمية (2004) أن الخصخصة ليست هي السبيل الوحيد (ليت التقرير لم يضف كلمة الوحيد) لتقديم الخدمات الأساسية للفقراء مثل الصحة والتعليم. لهذا فإن كان هناك من يتظنى أن في مقدور الدولة أن ترفع يدها عن هذه المناشط آملة في أن تجد أيادي السوق الخفية علاجاً لها، فهاهو شاهد من أهلها يقول غير ذلك. فالتعليم والصحة واجبات لا تستطيع الدولة أن تستقيل عن أدائها لأنهما الأساس لتطوير قدرات الإنسان الإنتاجية والإبداعية، والإنسان هو رأس المال الحقيقي، وهو ركيزة التنمية. . نحن أيضاً لا يمكن أن نكون بمعزل عن الأسواق التجارية الخارجية، أو بمعزل عن أسواق رأس المال، أو بمعزل عن شركات الاستثمار. ولكن، من حسن الطالع أننا اليوم جزء من منظومات دولية عديدة لها منابر متعددة للدفاع عن مصالحنا. فهناك مجموعة السبعة وسبعين في الأمم المتحدة التي ما فتئت تلعب دوراً مهماً في بلورة مواقف الدول النامية بشأن الديون والتجارة، والتكتلات الاقتصادية مثل الاتحاد الأفريقي والذي أصبح له برنامجه التنموي القاري واستراتجياته للتعاون مع الخارج مثل نيباد New Partnership for African Development، أو مجموعة دول عدم الانحياز بعد أن أعلت القضايا الاقتصادية على القضايا السياسية في برامجها (قمة كوالالمبور فبراير، 2003). وفي مجموعها تقود هذه التنظيمات حوار الجنوب ـ الجنوب الكوني للدفاع عن، وحماية مصالح، المستضعفين. وبصورة أشد حدة برز المنتدى الاجتماعي العالمي البديل (منتدى بورتو اليقري بالبرازيل) كمعادل موضوعي لمنتدى الأغنياء في دافوس (سويسرا)، وأفلح في تعبئة عدد كبير من التنظيمات الغربية التي تعارض الوجه القبيح للعولمة، أو الجانب المتوحش من الرأسمالية مثل منظمات حقوق الإنسان، رعاية البيئة، أو تلك المهتمة بالقضايا النوعية مثل محاربة الإيدز، استغلال الأطفال، الدفاع عن حقوق المرأة العاملة. هذه التنظيمات قامت بتشبيك networking جهودها تحت مظلة تنظيم لإسمه دلالات لا تخفى على لبيب: ''عالمنا ليس للبيع''. هذا التحالف العالمثالثي لم يعد وقفاً على الدول النامية وقياداتها إذ انضم إليه أيضاً الخيرون من الدول الصناعية، ومنهم من يُدهش المرء لانحيازه إلى الساخطين على الوجه المتوحش للعولمة. مثال ذلك جوزيف ستيقليتز، استاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل قبل بضعة أعوام، فكتابه ''العولمة والساخطون عليها'' صار انجيلاً لخصوم العولمة. مصدر الدهشة أن ستيقليتز عمل أولاً كمستشار اقتصادي للرئيس كلينتون، ثم كبيراً للاقتصاديين بالبنك الدولي.
    دال الجنوب، على أية حال، ليست بالضعف الذي نتخيله، ولا يحملنا على استضعاف أنفسنا غير الهوان الذي عليه الدول العربية والأفريقية. فمن بين دول الجنوب الفاعلة ثلاثة ستخترق الحاجز الصوتي للتنمية لتتصدر قائمة أغنى دول العالم حسب تقرير للمصرفيين الاستثماريين قولدمان ساكس صدر في مطلع هذا العام. يقول التقرير إن البرازيل، روسيا، الهند، الصين، أسُميت دولBRIC اختصاراً للحرف الأول من اسم كل دولة) ستحتل مواقع متقدمة في سلم النمو الاقتصادي العالمي بحيث تصبح الصين أغنى دول العالم في العام 2050 وستليها الولايات المتحدة ثم تجئ الهند من بعد، فاليابان، والبرازيل، وروسيا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وايطاليا. ففي حين ستسبق الصين أمريكا في حجم ناتجها القومي الإجمالي، تسبق الهند اليابان وبريطانيا وألمانيا وفرنسا كما ستسبقهم أيضاً البرازيل. صحيح أن ارتفاع الناتج القومي الإجمالي لا يعني أن مستوى دخل أو معيشة الفرد في هذه الدول سيكون بمستوى ذلك الذي ينعم به الفرد حتى في الدول التي ستسبقها. فرغم أن الهند ستتجاوز بريطانيا في حجم ناتجها القومي الإجمالي في العام 2050 إلا أن مستوى دخل وحياة الفرد الهندي لن يكون حينذاك أكثر مما عليه مستوى الفرد في البرتغال اليوم. مع ذلك فإن هذه الدول ستصبح أرقاماً يحسب حسابها ولا يمكن تجاوزها ولهذا اسماهم التقرير العمالقة الجدد. ومن حسن الطالع أن اثنين من هذه الدول، ومعهما ماليزيا التي تلعب هي الأخرى دوراً قيادياً في دول الجنوب الكوني، أصبحت شريكة للسودان في التنمية بحكم دورها في إنتاج وصناعة البترول. تلك العلائق ينبغي أن تتوثق ليس فقط دعماً للمصالح المشتركة، وإنما أيضاً لبلورة المواقف على صعيد التعاون الدولي.
    السودان مساحة هو الدولة التاسعة في العالم (يجئ بعد، على التوالي: روسيا، كندا، الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، البرازيل، استراليا، الهند، الأرجنتين، كزاكستان). وإن تركنا لحالها الدول العظمى في هذه المجموعة، فما الذي يحول بينا وبين أن نكون كالهند والبرازيل والأرجنتين. الهند كاد أن يحكم عليها بالإعدام الاقتصادي المعروف قونار ميردال في الستينات فأين هي الآن؟ والأرجنتين والبرازيل عانيا من الفقر بقدر ما عانينا، ومن الدكتاتوريات بأكثر مما عانينا، كما ليس لهما من الموارد نسبياً أكثر مما نملك. وقد جاء إنقاذ الأخيرة (البرازيل) على يد رئيسها الحالي لويس إناســــيو لولا داسيلفا وهو عامل نقابي بدأ حيـــاته كماسح أحذية في سان باولو، لمـاذا يفلحـــون؟ ولمـاذا نفــشل؟ يفلحون لأنــهم معــنيون بـ ''صُغريـــات'' الأمور: تشـــييد البنــى التحــتية، تعـليم المواطــن وصحــته وتطــوير قدراته الإنـــتاجية، تقليص الفجوة المعــرفية، الأمــن الغـــذائي. أما نحن فمـــهمومون بالغايات الكبرى، بل بالكلام الكبير: توحيد الأمة العربية، القضاء على الإمبريالية، إعادة صياغة الإنسان السوداني. ''خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود''.
    أما وقد توفرت لنا الآن رؤية جديدة لبناء السودان، وعزم على إصلاح حالنا، ورغبة من المجتمع الدولي في عوننا للعبور من الحرب للسلام ومن الصراع للتآخي، أفلا يليق بنا أن نُهَون الأمور على أنفسنا قليلاً لتحقيق ما هو أدنى من تلك الغايات الكبرى خلال الفترة الانتقالية. مثلاً أن نرتقي بالخدمات التعليمية في المناطق التي تأثرت بالحرب مباشرة أو بصورة غير مباشرة إلى مستواها الحالي في مناطق الجزيرة، وأن نوفر لهذه المناطق نفس النسبة من الأطباء وعدد الأسرة في المستشفيات التي تتوفر الآن في المناقل، وأن نقضي خلال تلك الفترة على الأمراض الستة القاتلة للأطفال (التيفويد، التيتانوس، السعال الديكي، السل، شلل الأطفال، الحصبة) بتطعيم الأطفال دون الخامسة في كل السودان، وان نخفض مستوى الاعتماد على الوقود التقليدي في كل السودان من النسبة التي هو عليها الآن «75%» إلى نصف ذلك المستوى بعد أن توفر لنا البترول والغاز وبعد أن كادت إزالة الغطاء النباتي فقدان والكتلة الحيوية تحيل شمال السودان إلى صحراء، وأن نرتفع بنسبة الإنفاق على التعليم والصحة من تلك التي هي عليها الآن («2%» من الناتج القومي الإجمالي لكليهما) إلى «3%» لكل واحد منهما (تبلغ نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج الإجمالي «55%» جنوب أفريقيا، «62%» ماليزيا، «41%» الهند، «53%» الجزائر)، وأن نخفض عدد المحرومين من مياه الشرب النقية أو من خدمات الصحة العامة في الريف السوداني وهم أكثر من ثلثي أهل الريف بنسبة النصف، وأن نضاعف نسبة الطرق المرصوفة لكل مليون شخص عما هي عليه الآن ونلزم كل ولاية بتعبيد الطرق الرئيسة التي تصل مناطق الإنتاج بالطرق القومية العابرة، وأن نوسع من نطاق الإنجاز المقدر في خدمة الاتصالات ليشمل القطر ليس فقط لتحسين وسائل الاتصال للمواطنين، وإنما أيضاً كمنصة لتقديم الخدمات المعلوماتية خاصة بالنسبة للتعليم. هذه مؤشرات يصدق مثلها على أشياء أخرى تقع كلها في حيز الممكن.
    فعدم المساواة الذي نتحدث عنه له مؤشرات اجتماعية تنعكس على وجه التحديد في خدمات مثل الصحة والتعليم ومياه
                  

العنوان الكاتب Date
د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:31 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:34 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:37 AM
      Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:42 AM
        Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:49 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) اسامة الخاتم09-25-04, 11:54 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) nadus200009-30-04, 04:04 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de