د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 01:02 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة يحي ابن عوف(يحي ابن عوف)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-16-2004, 03:37 AM

يحي ابن عوف
<aيحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) (Re: يحي ابن عوف)

    مفهوم الشرعية نفسه يحوطه الكثير من اللبس، خاصة في التعبير العربي. فللشرعية وجهان، وجه إجرائي والثاني جوهري، يعبر عنهما في اللغات غير العربية بمفردتين مختلفتين. فالشرعية بمعنى legality تشير إلى قيام النظام على قواعد قانونية (دستورية) متفق عليها مسبقاً، ومتى ما توفرت تلك القواعد اكتسب النظام شرعيته. مثال ذلك أن يحكم النظام وفق دستور متفق عليه، وأن يصل إلى الحكم عبر أسلوب مقنن ومتفق عليه أيضاً مثل الانتخابات. المعنى الثاني legitimacy يشير إلى شرعية أخلاقية لا تُستمَد من الدستور أو القانون فحسب، وإنما أيضاً من الالتزام بقيم إنسانية، سياسية واجتماعية اتسمت بالعالمية، أو بقواعد سلوكية أجمع عليها الناس. من ذلك احترام حقوق الإنسان بمعناها الواسع، سيادة حكم القانون، التزام قواعد الحكم الصالح good governance ومنها الصدق والشفافية. فعندما يقول المحللون السياسيون في بريطانيا اليوم أن توني بلير فقد شرعيته فإن هذا لا يعني مطلقاً فقدانه الشرعية بالمعنى الإجرائي legality وإنما بالمعنى الأخلاقي legitimacy لأنه قاد بلاده لحرب لم تكن في حاجة لخوضها، ولم يكن صادقاً، في تقدير شعبه، في تبريره تلك الحرب حتى ألصق به بعضهم تهمة المخادعة وتزييف الحقائق.
    الفشل التاريخي للديمقراطية في السودان كان بسبب اختزالها في المعنى الإجرائي، دون أدنى اعتبار للجانب الجوهري أو المعنوي الأخلاقي. فقد ظن ديمقراطيو السودان أنه ما أن وصل الواحد منهم إلى سدة الحكم عبر الانتخابات ووفق نظرية الحشاش يملأ شبكته أُضفيت عليه شرعية لا تنزع ولسان حاله يقول: كيف أنزع قميصاً ألبسنيه الشعب. لا يهمه كثيراً إن عجز عن حسم قضايا البناء الوطني (والتي هي في حالة السودان قضايا وجود) رغم أن المزية الكبرى للديمقراطية هي ما توفره من ميكانيزمات لحل الصراعات سلمياً. ولا يهمه أن تجاوز أحكام اللعبة بخرق الدستور، بوجه أو آخر، رغم أن الالتزام بهذه الأحكام هو وحده الذي يعين على ترسيخ الديمقراطية واستدامتها. وقلما يفكر الحاكم الديمقراطي في أن مثل هذه الانتهاكات الجوهرية للنظام الديمقراطي تخدش مشروعيته، وتمهد الطريق للانقلابات أو للتمرد عليه. وإن كان الانقلاب العسكري خروجاً على الشرعية فإن التمرد إنكار لها.
    مع تواتر التجارب مازال الديمقراطيون ينكفون أنَفة أو استكباراً عن الوعي بالدرس المستفاد من هذه اللعبة السخيفة (حكم مدني ـ انقلاب ـ حكم مدني ـ انقلاب). لم يفعلوا ذلك حتى دَبَرياً (أي بعد فوات الأوان)، رغم معاينتهم للجماهير التي انتخبتهم تستقبل بعض الانقلابات العسكرية برضى أو استكانة. الانقلابات العسكرية، بلا أدنى شك، تمثل خروجاً عن الشرعية، ولكن ألا يشي رضى الناس بها، أو استكانتهم لها، باهتزاز تلك الشرعية؟ فالجيوش تستولي على الحكم بحد السيف، إلا أن قدرتها على السيطرة على الحكم رهينة أبداً بحد أدنى من قبول الناس لها. هذه الظاهرة في السودان كادت أن تحوله إلى مسرح للامعقول إذ أن نفس الجماهير التي تستقبل الحاكم العسكري بالرضا ـ حتى وان كان سلبياً ـ تودعه بعد فترة باللعنات، ولأهل السودان في هذا تجارب. فالجماهير التي ودعت حكومة عبود بأكثر الهتافات بذاءة: إلى الثكنات يا ......، هي نفسها التي استقبلت عبود في سوق الخرطوم بـ ضيعناك يا عبود، وضعنا معاك يا عبود. والجماهير التي خرجت بنقاباتها العمالية والمهنية تهتف لنميري في الثاني من يونيو 1969 بالروح بالدم نفديك يا نميري هي نفس الجماهير التي خرجت بعد أقل من عقد من الزمان تهتف الأحزاب ولا العذاب وجميع هذه الانقلابات تستهل بيانها رقم (1) بشيئين: إنهاء الحرب ورفع المعاناة عن الجماهير مما يدل على أن الانقلابيين يعرفون جيداً المدخل لقلوب الجماهير.
    سبب آخر أدى لانهاك الديمقراطية داخلياً هو عدم الالتزام بأحكام اللعبة الديمقراطية. ولا يقود الخروج على أحكام اللعبة إلا إلى رد فعل مماثل موازٍ له في الحجم ومضاد في الاتجاه. لا يستطيع أحد أن ينكر، مثلاً، أن هناك علاقة سببيه بين حل الحزب الشيوعي ومعاضدة ذلك الحزب لانقلاب مايو. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك صلة مباشرة بين استقالة رئيس القضاء بابكر عوض الله احتجاجاً على موقف الحكومة (حكومة محجوب) ومجلس السيادة من الهيئة القضائية عقب الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا تدين فيه قانونياً طرد النواب الشيوعيين، وبين قبول ذلك الرجل الذي قضى عمره كله في رحاب الديمقراطية والعدالة رئيساً لأول برلمان ثم رئيساً للقضاء، أن يصبح نائباً للرئيس في حكم انقلابي.
    مشاكل السودان أعمق كثيراً من أن تحل عبر الديمقراطية الإجرائية، أو عبر المغامرات العسكرية، أو عبر الشمولية ودعاواها الفارغة لتحقيق الوحدة الوطنية والتناغم الاجتماعي قسراً. وستظل الديمقراطية، رغم كل معايبها، هي الخيار الأمثل لأنها، على خلاف كل الأنظمة، تتيح الفرصة للبحث الدائم عن خيارات أفضل وللتطور والتعديل. على أن ذلك يستدعي ابتداءً إدراك ما هو المطلوب لتحقيق حكم مستقر؟ وما هي الخيارات المتوفرة لتحقيق الاستقرار؟ ثم ما هي التجارب التي يمكن لنا الاستهداء بها؟ وعبر تاريخنا السياسي منذ الاستقلال، بل منذ الحكم الذاتي، كنا نعرف جيداً ما هو المطلوب، وكانت الخيارات مطروحة أمامنا إلا أنا ظللنا نتجاهلها، وفي بعض الأحيان نتمنى زوال العوامل wishing away التي قادت إليها. كما لم يكن العلاج عسيراً اذ كانت أمامنا تجارب عديدة يمكن الاهتداء بها أو استلهامها.
    بروتوكولات نيفاشا هي المحاولة الأولى لمخاطبة جذور المشكل السوداني مباشرة، لهذا فهي تمهد الطريق لديمقراطية مستدامة بصورة غير مسبوقة. وقد كان التجمع الوطني الديمقراطي أميناً وشجاعاً عند ما قرر في الاجتماع الأخير لهيئة قيادته 14-22 يوليو 2004 أن بروتوكولات السلام الموقعة بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية ... توفر أساساً لإعادة هيكلة البناء الوطني الواحد على أسس جديدة تختلف عن الأسس القائمة منذ فجر الاستقلال. أسس تراعي الاستجابة الواسعة لمتطلبات الإقليم في الحكم اللامركزي، والمشاركة في السلطة والتنمية. كما لم يُجافِ زعيم الحركة الشعبية الحقيقة قيد انملة عندما قال عقب توقيع بروتوكول اقتسام السلطة في 26/5/2004: يستحيل أن يبقى السودان كما كان بعد هذا الاتفاق Sudan shall never be the same again ما أراد قوله هو أن التحول الذي سينجم عن هذا الاتفاق ليس تحولاً نمطياً، لا في نظام الحكم، ولا في توزيع الثورة، ولا في مقومات الوحدة.
    فما هي معالم هذا التحول غير النمطي الذي استعصى علينا منذ الاستقلال؟ وما هي تجاربنا في الماضي في تلك التحولات النمطية؟
    على رأس التحولات، تلك المتعلقة بنظام الحكم، خاصة وقد طَالَ التغييرُ كل السودان، ولم يقتصر على الجنوب. ونستذكر أن الخلاف، بالنسبة للجنوب ومكانه في نظام الحكم، يعود إلى مشارف الاستقلال، وعلى وجه التحديد إلى يوم 12/12/1955 عندما تقدم بنجامين لوكي باقتراحه حول الفيدرالية لاجتماع مشترك لممثلين من مجلس النواب والشيوخ من كل الأحزاب. لا نطمع في الغوص في جدل فقهي حول الفيدرالية، بل سنذهب، كما ذهبت البروتوكولات، للحديث عن حكم لا مركزي، أي حكم يتم فيه اقتسام دستوري للسلطة بين حكومة مركزية (قومية) تبسط سلطانها على امتداد الوطن، وحكومات أخرى تمارس السلطة في أقاليم معينة من ذلك الوطن في استقلال autonomy دون جَور على السلطات المحتجزة للمركز، ودون تَعَدٍ من جانب المركز على السلطات المقررة للحكومة المعينة. بهذا المعنى تهدف اللامركزية إلى تحقيق هدفين، الأول هو ضمان سلامة وحدة الوطن، وفي ذات الوقت صيانة استقلالية الوحدات المكونة له، أو بعبارة أخرى إقامة وحدة غير قابلة للتخريب ووحدات غير قابلة للإئتلاف indestructible union of indestructible units . والفيدرالية، إن شئت أن تسميها هكذا، هي محاولة لتوحيد الوطن، إما بضم كيانات مستقلة قائمة لتصبح دولة (اتحاد الولايات الثلاث عشر التي تكونت منها الولايات المتحدة الأمريكية عند إنشائها، أو يوغسلافيا على عهد تيتو)، أو بالحفاظ على وحدة وطن قائم بتمكين كل وحدة من الوحدات المكونة له من الحفاظ على خصائصها وإدارة نفسها. الهدف الثاني من اللامركزية أو الفيدرالية هو التدني بسلطة اتخاذ القرار السياسي والإداري إلى مستويات اقرب للمواطن بحيث يكون القرار أكثر تعبيراً عن رغائبه ومطامحه واحتياجاته. وفي كلا الحالين لا تتحقق اللامركزية على وجهها الصحيح إلا في ظل نظام ديمقراطي وحكم تمثيلي.
    بعد كل محاولات الهروب من المشكل منذ الاستقلال، أو التعامل معه بالتي هي أخشن (عهد عبود) ساد العقل، وكانت أولى المحاولات الحكيمة لمعالجة مشكلة الجنوب هي تلك التي قامت بها حكومة الأستاذ سر الختم الخليفة في أكتوبر 1964 تلك المحاولة الرائدة والجادة لم يُقَدر لها النجاح كما أبنا في مقال سابق، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ توجيهات مؤتمر المائدة المستديرة وقرارات لجنة ألاثني عشر. وعقب فترة أكتوبر الانتقالية بدأت الديمقراطية الثانية أولى محاولاتها لإقامة نظام لا مركزي أخذ شكله النهائي في مشروع دستور 1968 ذلك المشروع اقترح نظاماً لا مركزياً للحكم يرتكز على مديريات السودان التسع (ست منها في الشمال هي الشمالية، الخرطوم، كسلا، الجزيرة، كردفان، دارفور وثلاث في الجنوب هي أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية)، كما أوصى بإنشاء مجلس تشريعي لكل إقليم ينتخب انتخاباً مباشراً، ومجلس تنفيذي يرأسه محافظ يعين مركزياً. وحسب المشروع يباشر المجلسان السلطات التالية: الإدارة المحلية، التعليم حتى المستوى الثانوي مع الالتزام بالسياسات القومية، الصحة العامة، الصناعات المحلية، الطرق المحلية، تطوير اللغات المحلية، على أن تحتجز أية مهمة أخرى لم ينص عليها صراحة للحكومة المركزية.
    في ذلك المشروع كانت هناك ثلاث مثالب: الأولى هي أن السلطات التي مُنحت للإقاليم لم تتجاوز كثيراً تلك التي كان يمارسها مديرو المديريات في الماضي. والثانية هي إغراقها لقضية الجنوب بطابعها المميز في نظام حكم لا يُداني حتى الفيدرالية التي طالب بها بنجامين لوكي في 1955، ناهيك عن تلك التي دعا لها في مؤتمر المائدة المستديرة وليام دينق (والد كبير مفاوضي الحركة في نيفاشا، نيهال دينق نيهال). هذه الحقيقة لا يبدل منها في كثير أو قليل التحوط الذي تضمنته المادة 179 من مشروع الدستور، التي تبيح لأي إقليمين أو أكثر التوحد. هذا النص قد يمكن الجنوبيين من توحيد المديريات الثلاث في إقليم واحد ولكنه لا يعالج قضية السلطات، وتلك هي المثلبة الثالثة.
    جاء من بَعد نظامُ مايو ليتبنى مقترحات لجنة ألاثني عشر ويطورها لتصبح أساساً لقانون الحكم الذاتي الإقليمي 1972 وعلى خلاف مشروع دستور 1968 اعترف قانون الحكم الذاتي بخصوصية الجنوب، وأقر اعتباره إقليماً واحداً، وحدد له واجبات تستقل بها أجهزته الحاكمة تشمل الزراعة، الصناعة، الصحة، التعليم حتى المستوى الثانوي، التجارة الداخلية، صحة الحيوان، حماية البيئة، السياحة، الإدارة والحكم المحلي. اعتُبر قانون الحكم الذاتي الإقليمي أيضاً قانوناً أساسياًorganic law لا يُعَدل إلا بقرار يتخذه مجلس الشعب القومي بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه وموافقة ثلثي الناخبين في الجنوب في استفتاء عام.
    هذا النوع من القوانين يسمي في الفقه الدستوري الفرنسي القوانين المكملة للدستور، وقد ضمن النص على ذلك في المادة الثامنة من الدستور الدائم لعام 1983، رغم ذلك، وبعد عشر سنوات عم فيها السلام أرجاء القطر وبخاصة الجنوب، أصدر الرئيس نميري أمراً جمهورياً في عام 1983 قَسَم فيه الإقليم إلى ثلاثة أقاليم جُعل لكل واحد منها مجلس تشريعي، ومجلس تنفيذي، وحاكم، وعاصمة. قرار نميري كان خرقاً للاتفاقية على ثلاثة وجوه: الوجه الأول هو خرق عدد من بنود الاتفاقية مثل المادة 303 (تعريفات) والمادة 4 من الاتفاقية وكلاهما تُعَرِفان الجنوب كوحدة متكاملة، والمادة 34 التي تحدد عاصمة واحدة للإقليم (جوبا) تكون مقراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، والوجه الثاني والأهم هو عدم إتباع نميري للقواعد التي حددتها الاتفاقية، بل حددها الدستور، لتعديل نصوصها. أما الوجه الثالث والخطير أيضاً هو منح الرئيس نفسه الحق في تعيين 10% من أعضاء مجلس الشعب، بالإضافة إلى خمسة أعضاء آخرين يختارهم القائد العام لتمثيل القوات المسلحة، وكان ذلك خرقاً فاضحاً للمادة الثامنة من الاتفاقية التي تنص على انتخاب أعضاء مجلس الشعب الإقليمي انتخاباً حراً مباشراً بواسطة المواطنين المقيمين بالإقليم. وتعبير المواطن المقيم يشمل الجنوبي والشمالي على السواء.
    فيما يتعلق بتطبيق النظام المايوي للامركزية في بقية أجزاء القطر فقد أشرنا في مقال سابق إلى قانون الحكم الإقليمي 1980 الذي قُسِم السودان الشمالي بموجبه إلى خمسة أقاليم: الشرقي ويشمل مديريتي كسلا والبحر الأحمر، والشمالي ويشمل مديريات النيل الأزرق، النيل الأبيض، الجزيرة، كردفان ويشمل شمال وجنوب كردفان، دارفور ويشمل شمال وجنوب دارفور. وبموجب ذلك القانون أصبح لكل إقليم برلمان (مجلس شعب إقليمي) وحاكم يُعينه رئيس الجمهورية، ومجلس تنفيذي يضم عدداً من الوزراء كما خُصصت للمجلس وحكام الإقاليم واجبات لا تختلف كثيراً عن تلك التي جاءت في مشروع دستور 1968 وقد حظر ذلك القانون على السلطات الإقليمية تناول موضوعات بعينها هي الدفاع، الأمن القومي، العلاقات الخارجية، المراجعة العامة، الجنسية والجوازات والهجرة، القضاء والنيابة العامة، الاتصالات والنقل العابر، موارد المياه العابرة، شبكة الكهرباء القومية، العملة والنقد، تجارة الصادر والوارد، الموارد الطبيعية والثروات بباطن الأرض، تخطيط التعليم.
    وبسقوط نظام مايو تبنت قوى الانتفاضة في ميثاقها ثلاث قضايا ذات صلة بنظام الحكم والدستور هي تمثيل القوى الحديثة في مؤسسات الحكم، الجنوب، الحكم المركزي. ولكن حين أورد الميثاق في بنده الأول نصاً صريحاً حول الموضوع الأول هو مراعاة تمثيل القوى الحديثة في المؤسسات الدستورية عن طريق تنظيماتها الديمقراطية، اكتفى بالنسبة لقضية الحكم اللامركزي بإشارة في البند السابع من الميثاق نصها: تأكيد مبدأ الحكم اللامركزي وتقويمه على أسس ديمقراطية سليمة. أما قضية الجنوب فقد جاءت الإشارة إليها في البند الثالث من الميثاق كما يلي: حل قضية الجنوب في إطار حكم ذاتي إقليمي يقوم على أسس ديمقراطية. وتكشف الطريقة التي صيغ بها الميثاق وتدرجت به القضايا التي تناولها، فيما نقدر، عن مكان هذه القضايا في هرم الاهتمامات. كما توحي الإشارة المتكررة للديمقراطية مثلما ورد في الإشارة للحكم الذاتي الإقليمي (يقوم على أسس ديمقراطية)، وللحكم اللامركزي (تقويمه على أسس ديمقراطية) أن هناك ثمة ظناً أن هذه المؤسسات ستفي بالغرض متى ما استُردت الديمقراطية بصورتها القديمة. الأمر العُجاب هو أنه رغم ما قال به الميثاق عن محو آثار مايو لم يُقَصر دستور الديمقراطية الثالثة الذي صدر في 6/10/1985 في اقتفاء آثار مايو، فالنصان اللذان وردا حول الموضوعين هما إعادة تدوير للقوانين المايوية. مثلاً تقول المادة 16 (1): تُدار الأقاليم الخمسة الشمالية كما تُدار العاصمة القومية على أساس الحكم اللامركزي وفقاً لاحكام القانون. وفي عام 1985 أصدر الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء، وبحسبانه أيضاً الوزير المسئول عن الحكم المحلي قراراً بتعديل القانون المايوي بما يتمشى مع الديمقراطية، ولربما لم يسعفه الوقت لتحقيق ذلك. وعقب الفترة الانتقالية عين رئيس الوزراء الصادق المهدي بموجب نفس قانون الحكم المحلي المايوي الذي لم تمسسه يد التعديل لجاناً إدارية لتتولى سلطات المجالس، وحسب تقديرنا المتواضع، لا يمنح ذلك القانون حقاً لأي سلطة لاختيار اللجان بل ينص على الانتخاب.
    أما المادة 16 (2) حول الحكم الإقليمي فقد نصت على أن يقوم نظام الحكم الذاتي الإقليمي في الإقليم الجنوبي على أساس السودان الموحد وفقاً لقانون الحكم الذاتي للإقليم للمديريات الجنوبية لسنة 1972 أو أي تعديلات يجيزها ثلثا أعضاء المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء في اجتماع مشترك على أن يخضع أي تعديل للاستفتاء المشار إليه في قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي متى ما كان ذلك ممكناً. ورغم الاحتراس الأخير يُعتبر القرار عوداً إلى اتفاق 1972 قبل أن يمسخه نميري. نقطة الضعف القاتلة في تبني قانون الحكم الذاتي الإقليمي كانت هي تجاهله لموقف الذين حملوا السلاح في الجنوب ضد نميري، وبوجه خاص ضد اتفاق أديس أبابا بسبب التداعيات التي ترتبت على خرقه. ولا شك في أن الإدراك للموقف الجديد حول قضية الجنوب هو الذي دفع أهم قاعدة لحكومة الانتفاضة (التجمع الحزبي والنقابي) للاتفاق مع الحركة في كوكادام (24 مارس 196 على قيام مؤتمر دستوري للتداول في عدد من الموضوعات وعلى رأسها: مسألة القوميات، المسألة الدينية، الحقوق الأساسية للإنسان، نظام الحكم، التنمية غير المتوازنة، المسألة الثقافية، الموارد الطبيعية. هذه الأجندة تلخص نفس القضايا التي ظلت معلقة دون حل منذ الاستقلال وعجزت كل الحلول المهدئة عن التخفيف منها بعد أن أصبح الداء يجري في الدم.
    ثم استولت الجبهة القومية الإسلامية على الحكم وعقب استيلائها وقع حدثان مهمان: الأول هو مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، والثاني إصدار حكومة الإنقاذ لدستور .1998 إقبال التجمع على قضية نظام الحكم كان جريئاً، وكما قلنا ربما أرادت فصائله أن تُصلح مجتمعه ما ارتكبته فرادى من أخطاء. قدم التجمع للقرار حول نظام الحكم بما يلي:
    × بما أن تواصل الحرب خلق قدراً كبيراً من عدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد
    × وبما أن الهيمنة المركزية على أقاليم السودان المختلفة أدت إلى تكريس التخلف في هذه الأقاليم وتهميش بعضها
    × وبما أن التجمع الوطني الديمقراطي، ممثلاً لأهل السودان في الجنوب والشمال والشرق والغرب، قد عقد العزم على إزالة كل المظالم الموروثة والقضاء على أسباب الحرب وتهيئة الظروف الملائمة لخلق سودان جديد ينعم فيه كل مواطن بالأمن والسلام والرفاهية في ظل وحدة حقيقية مستمدة من الارادة الحرة لشعبنا
    ولم تكن الطبقة السياسية السودانية منذ ديسمبر 1955، وفي مارس 1965، وأكتوبر 1968، وسبتمبر 1983، وابريل 1985، تجهل بما أن، وبما أن، وبما أن. تجاهل هذه البما أنات في الماضي هو الذي أوردنا موارد الهلاك. وعلى أي يحمد للتجمع إقراره في النهاية بالحقيقة، وإقدامه على اقتراح اقتسام للسلطة بين الحكومة المركزية والكيانات الشمالية، وبينها وبين الكيان الجنوبي بصورة تجاوزت الوضع القائم، وذلك الذي اقتُرح في مشروع دستور 1968، بل وفي اتفاق أديس أبابا.
    أما دستور 1998 الذي أصدرته حكومة الإنقاذ فقد كان، من جانب، نقلة بالنسبة لولايات الشمال لما تبعه من توسع في إنشائها بحجة تقليص الظل الإداري. فأقاليم الشمال الخمسة أصبحت 16 ولاية هي: البحر الأحمر، الجزيرة، جنوب دارفور، جنوب كردفان، الخرطوم، سنار، شمال دارفور، شمال كردفان، الشمالية، غرب دار فور، غرب كردفان، القضارف، كسلا، نهر النيل، النيل الأبيض، النيل الأزرق. كما تحولت مديريات الجنوب الثلاث إلى 10 ولايات هي أعالي النيل، بحر الجبل، البحيرات، جونقلي، شرق الاستوائية، شمال بحر الغزال، غرب الاستوائية، غرب بحر الغزال، واراب، الوحدة. كعب أخيل بالنسبة لتلك اللامركزية هو أنها، تماما كاللامركزية في نظام مايو، قد استحدثت في ظل نظام شمولي.
    من الجانب الآخر أغرق دستور 1998 القضايا في حشو لفظي لا نور عليه. فالمادة الثانية من الدستور تقول السودان جمهورية اتحادية تُحكم في سلطانها الأعلى على أساس النظام الاتحادي الذي يرسمه الدستور مركزاً قومياً وأطرا ولائية وتدار في قاعدتها بالحكم المحلي. وحول الوحدة الوطنية نصت المادة السادسة على: الوطن توحده روح الولاء تصافياً بين أهله كافة وتعاوناً على اقتسام السلطات والثروات القومية بعدالة دون مظلمة، وتعمل الدولة والمجتمع على توطيد روح الوفاق والوحدة الوطنية بين السودانيين جميعاً إتقاءً لعصبيات الملل الدينية والحزبية والطائفية وقضاء على النعرات العنصرية. وعندما نأتي للتفصيل حول ما أسماه الدستور الأطر الولائية، خاصة فيما يتعلق بالسلطات، نجد أنها لا تتجاوز تلك التي جاء بها قانون الحكم الإقليمي 1980: حكم الولاية وحسن إدارتها، الموارد المالية الولائية، التجارة والتموين، الأراضي والموارد الطبيعية الولائية، المياه والطاقة غير العابرة، الطرق ووسائل النقل الولائية، تسجيل المواليد والوفيات ووثائق الزواج، الشئون التبشيرية والخيرية. حدد دستور 1998 أيضاً طريقة معقدة لاختيار الولاة : كلية انتخابية ترشح لمنصب الوالي تتكون من أعضاء المجلس الوطني وأعضاء مجلس الولاية ورؤساء المحليات، وتختار الكلية ستة أشخاص ليختار منهم رئيس الجمهورية ثلاثة يقدمون للانتخابات. وقد امتدت سلطات المركز حتى لاختيار الوزراء الولائيين، فهؤلاء يعينهم الوالي بالتشاور مع رئيس الجمهورية.
    في كل هذه التجارب ظلت الخرطوم هي التي تهيمن على صنع القرار، حتى في ظل النظام الحالي، رغم نعت نظام الحكم اللامركزي بالاتحادية (الفيدرالية)، والفيدرالية كلمة ذات دلالات ومعان معروفة، كما تنبثق عنها سلطات يعرفها القاصي والداني. هذه السلطات تشمل السلطة التشريعية القائمة على الانتخاب الحر المباشر، والسلطة التنفيذية (الحاكم) التي يختارها الشعب أيضاً انتخاباً حراً، والسلطة القضائية في كل الأمور ذات الطابع الولائي، والسلطة على الأموال جلباً وجبياً وانفاقاً. ولعل أضعف الحلقات في كل هذه الأنظمة منذ مشروع دستور 1968، إلى قوانين الحكم الإقليمي في عهد مايو، والنظام الذي تلاه وتقفي أثره رغم الحديث المكرور عن دمقرطة اللامركزية، وأخيراً دستور 1998، هي حرمان الولايات من السلطة على الأموال. وكما قال، بحق، الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه المال هو عصب اللامركزية. فاللامركزية لا تنشأ بمجرد إصدار القوانين وخلق الأجهزة وتحديد المهام وإنما بالاستقلال المالي. وبالطبع لا يتوقع أحد أن تباشر الوحدات اللامركزية المهام المنوطة بها بمواردها الذاتية، ولكن الاعتماد الكلي على الحكومة المركزية يجردها من الاستقلال وينفي عنها صفة اللامركزية (السودانيون والبحث عن حل لأزمة الحكم، مركز عبد الكريم ميرغني). ولعل الذي أطلع على تطور النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة يدرك أن الذي ثَبَت اقدام ذلك النظام في سنيه الأولى، أكثر من نصوص الدستور والأفكار النيرة في أوراق الفيدراليين Federalist Papers، هو قرار وزير المالية الاسكندر هاملتون بتولي الحكومة الفيدرالية كل الأعباء المالية للولايات الثلاث عشر بما فيها الديون. حقيقة الأمر أجلاها المحافظ مختار الطيب في خطاب له إبان عهد مايو، قال إن الذي يحول دون تطور وانطلاق الحكم اللامركزي في السودان هو الترسانات المسلحة القابعة عند شاطئ النيل بالخرطوم. ويذهب بي الظن إلى أن أكبر تلك الترسانات التي كانت تؤرق بال المحافظ وزارة عتيدة تسمى يوماً وزارة المالية، ويوماً آخر وزارة الخزانة، ويوماً ثالثاً وزارة المالية والتخطيط والاقتصاد والخزانة.
    بروتوكول نيفاشا لم يضف جديداً إلى القديم بل قلبه رأساً على عقب حتى يحقق أولاً وحدة طوعية قائمة على الرضا، وثانياً لا مركزية حقيقية مبنية على التراضي. وتنص المبادئ التي ارتكز عليها البروتوكول حول اقتسام السلطة على ما يلي :
    × الاعتراف بان السيادة مناطةvested بالأمة، وبضرورة ممارسة الحكم الذاتي autonomy من جانب حكومة جنوب السودان وحكومات كل الولايات عبر القطر.
    × الاعتراف بالحاجة لمعايير قومية وولائية تؤكد الوحدة، وتعبر عن التنوع.
    × العمل على رفاهية الشعب وحماية حقوقه الإنسانية وحرياته الأساسية.
    × ضرورة تضمين جنوب السودان في كل مستويات الحكم والمؤسسات القومية تعبيراً عن وحدة الوطن.
    × السعي وراء حكم صالح يلتزم الشفافية والمحاسبة والديمقراطية وسيادة حكم القانون في كل مستويات الحكم لكيما يتحقق سلام دائم.
    × اعترافاً بالحاجة لتقنيين هذه الترتيبات (أي إكسابها الشرعية) تُجرى انتخابات عادلة على كل مستويات الحكم، وتوفر الحرية للتعددية الحزبية.
    × ضرورة الترابط بين كل مستويات الحكم مع تخويل سلطات واسعة للجنوب، والولايات، والحكم المحلي.
    × الالتزام من جانب كل مستوى من مستويات الحكم باحترام استقلال بعضها عن بعض، والتعاون فيما بينها بدلاً من التنافس، وعدم تعدي البعض على سلطات البعض الآخر، وعدم افتراض اية سلطات لا يمنحها الدستور، والتنسيق والتفاعل فيما بينها، والتسوية السلمية للنزاعات.
    على ضوء هذه المبادئ أقر البروتوكول ثلاثة مستويات للحكم: قومي، جنوبي، وولائي. على المستوي القومي تتكون أجهزة الحكم من هيئة تشريعية من مجلسين (برلمان يُنتخب أعضاؤه انتخاباً حراً مباشراً ومجلس أعلى للولايات يضم عضوين عن كل ولاية بصرف النظر عن حجم الولاية). هذا هو النمط المرعي في بعض الدول الفيدرالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث يضم مجلس النواب أعضاء يمثلون دوائر جغرافية يُحدد عددها حسب نسبة السكان مما يعني أن بعض الولايات قد تحظى بعدد أكبر من النواب باعتبار تعداد سكانها. اما مجلس الشيوخ فيضم عضوين من كل ولاية بصرف النظر عن عدد سكان الولاية، وفي هذا تستوي ولاية حافلة بالسكان مثل تكساس أو كاليفورنيا مع ولاية صغيرة مثل ميريلاند أو فيرمونت. ويقوم المجلسان سوياً بالتشريع، على أن الغرفة العليا المستحدثة على النظام السوداني (مجلس الولايات) سيكون واجبها الأساس هو حماية حقوق الولايات (الشمالية والجنوبية معاً) من أي تغول من جانب السلطة المركزية. لهذا ينص البروتوكول على أن أي قانون أو إجراء يؤثر على مصالح الولايات لا يجاز إلا بأغلبية 66% من أعضاء مجلس الولايات، وفيما عدا ذلك تجاز التشريعات بأغلبية بسيطة.
    أما السلطة التنفيذية على المستوى القومي فتتكون مما يسمى مؤسسة الرئاسة (رئيس، نائب أول، نائب) وتكون القرارات فيها جماعية بين الرئيس ونائبه الأول في قضايا محددة مثل إعلان حالة الطوارئ، وإعلان الحرب، واستدعاء أو حل البرلمان، التعيينات للوظائف المطلوب إقرارها من الرئاسة بموجب اتفاقية السلام. هذه الوظائف ستحدد في الاجتماع المرتقب للتداول بين الطرفين حول آليات تنفيذ الاتفاق. والى أن تتم الانتخابات يتولى الرئيس الحالي رئاسة الجمهورية ويكون قائداً أعلى للقوات المسلحة، في حين يصبح رئيس الحركة الشعبية رئيساً للجنوب، ونائباً أول للرئيس، وقائداً للجيش الشعبي. ووضع البروتوكول القواعد اللازم إتباعها في حالة تخلي، أو تعرض الرئيس ونائبه لطارئ في الفترة السابقة للانتخابات، كما حدد الإجراءات الواجب إتباعها بعد الانتخابات.
    أسمى البروتوكول الحكومة القومية حكومة الوحدة الوطنية، ونص على أن تكون رمزاً للوحدة الوطنية وتعكس تنوع البلاد وحاجتها للمشاركة العريضة في الحكم، كما ألزم تلك الحكومة باحترام اتفاق السلام على أن يكون طرفا الاتفاق ممثلين في الحكومة بشكل كاف. وبوجه خاص أشار الاتفاق إلى مسئولية حكومة الوحدة الوطنية عن وضع سياسات عادلة للقبول في الجامعات والمعاهد العليا وتحقيق تساوي الفرص، والتوزيع العادل والشفاف للموارد التي ستوفر للتنمية. إلى جانب ذلك وجه البروتوكول أن يتم توزيع المناصب الوزارية بكل أشكالها، بما في ذلك الوزارات السيادية القومية، والخدمة العامة القومية، خاصة في المستويات العليا والوسيطة، على وجه عادل وتمثيل أهل السودان تمثيلاً منصفاً. ولتحقيق هذا الغرض نبه إلى ضرورة مراجعة عدم التوازن الراهن في الخدمة العامة مع الاهتمام بالتدريب والتأهيل وعدم التمييز في الاختيار للوظائف على أساس الدين أو العرق أو الإقليم أو النوع أو المعتقد السياسي، والالتزام بالانحياز القصدي affirmative action . وكي لا يترك البروتوكول الأمر لأي جنوح في الاجتهاد، نص على أن يصبح ما لا يقل عن 20 % من شاغلي الوظائف العليا أو الوسيطة في الخدمة العامة (بما في ذلك وكلاء الوزارات) من الأشخاص المؤهلين من جنوب السودان خلال السنوات الثلاث الأولى، على أن يرتفع العدد إلى 25% خلال خمس سنوات. والهــــــــدف النهائي، كما حدد البروتوكول، هو أن تضم الخدمة العامة القومية ما بين 20 إلى 30 % من أبناء الجنوب حسب ما سيتمخض عنه الإحصاء السكاني المرتقب.
    الموضوع الآخر المهم الذي أغُفل في كل تجارب اللامركزية (من مشروع 1968 إلى دستور انتفاضة أبريل 1985) هو قضية العاصمة القومية. يقول البروتوكول إن العاصمة القومية، لكيما تصبح رمزاً للوحدة الوطنية لابد أن تعكس تنوع السودان في إدارتها. ولا شك في أن اللامركزية الراديكالية التي ستتم نتيجة لتطبيق بروتوكول اقتسام السلطة ستجعل من الصراع حول اقتسام السلطة المركزية، بالمفهوم القديم لتلك السلطة، عراكاً في غير معترك. أدهشتني بالغ الدهشة التعليقات التي تصور تقليص الترسانات المسلحة في الخرطوم بأنه تمزيق للسودان، ليس فقط لأن الخرطوم لن تُمسح من الخارطة السياسية بل ستصبح عاصمة إدارية مثل اتاوا، أو كانبرا، أو نيودلهي، وإنما أيضاً لما فيه من وصائية غريبة. فما الذي يغضب أي سوداني منصف من أهل الشمال في أن يملك أهل كردفان، أو أهل دنقلا، أو أهل سنار أمر نفسهم، يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ويدبرون أمورهم، ويجبون وينفقون أموالهم على الوجه الذي يريدون لا على الوجه الذي يريده موظفو الخرطوم.
    المستويان الآخران للحكم هما مستوى الجنوب ومستوى الولايات وتندرج في المستوى الأخير المناطق التي درجنا على تسميتها خلال التفاوض المناطق المهمشة، وعلى وجه التحديد مناطق جبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق، ابيي. في تجارب الأمم هناك وسائل عديدة لاقتسام وحصر السلطات في الأنظمة اللامركزية. فكندا مثلاً تحدد سلطات الولايات حصراً على أن يؤول ما تبقى من السلطات للسلطة المركزية. كما يمنح الدستور الكندي السلطة المركزية الحق في رفض (فيتو) أو إيقاف أي تشريع ولائي في حالات الطوارئ حسب تقدير تلك السلطة. أما الهند فُيفَصل دستورها السلطات في قوائم ثلاث تتضمن سلطات الاتحاد، سلطات الولايات، السلطات المتطابقة concurrent . في السودان تقفت بروتوكولات نايفاشا، بقصد أو بدون قصد لا يهم، النموذج الهندي.
    وفي هذا الإطار تعتبر السلطات التي مُنِحت للجنوب، بجانب تلك التي مُنِحت للولايات، هي الأولى من نوعها منذ الاستقلال. ففي البدء سيكون للجنوب، كما للولايات، دستورها الخاص شريطة أن لا يتعارض ذلك الدستور مع اتفاقيات السلام أو الدستور القومي. وفي إطار الدساتير الولائية تصبح شعوب الأقاليم أو الولايات هي مصدر السلطة (انتخاب البرلمان، انتخاب رئيس الإقليم أو الولاية)، كما ستكون لها الولاية التامة على الأمن الداخلي (الأمن داخل الولاية بما في ذلك الإشراف على الشرطة)، الخدمة العامة الولائية، القضاء والإدارة العدلية على مستوى الولاية، الزراعة، الصحة، الصناعة، التعليم حتى المرحلة الثانوية، الموارد الطبيعية (الغابات والمراعي)، الطرق الولائية، تخطيط المدن داخل الولاية، إقامة وصيانة المطارات المحلية (الفرعية)، تطوير الثقافات واللغات المحلية، إدارة الأراضي، التجارة، حماية البيئة، فرض الضرائب، الاستدانة بضمانة الولاية ووفق الضوابط التي يضعها البنك المركزي. منح هذه السلطات للجنوب أو الولايات يقلص من سلطات المركز إلى حد كبير بحيث يقتصر دوره على الواجبات ذات الطابع السيادي، ووضع السياسات العامة، والتنسيق بين الولايات. من ذلك الدفاع والأمن القومي، الشرطة القومية والتحقيقات الجنائية بموجب القوانين القومية أو الدولية (الانتربول)، الخدمة العامة القومية، العلاقات الخارجية والمعاهدات الدولية، الهجرة والجنسية، البنك المركزي والنقد والديون القومية، الطيران المدني (سلطة متطابقة في حالة الجنوب)، النقل البحري، الموازين والمكائيل والتواريخ، الارصاد الجوي، الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، الإحصاء القومي، المراجعة العامة، الميزانية والضرائب القومية والجمارك، الاتصالات (سلطة متطابقة في حالة الجنوب)، الشبكة القومية للكهرباء، الطرق القومية والعابرة، التعليم العالي والبحث العلمي، مياه النيل والاتفاقات الدولية بشأنها، المحكمة الدستورية للحسم في كل القضايا المتعلقة بدستورية القوانين أياً كان منشؤها، وفي حماية وصيانة حقوق الإنسان، وفي الفصل في النزاعات بين مستويات السلطة المختلفة، تنظيم المهن القانونية والمهن الأخرى، القضاء في مستوى النقض والإبرام في القضايا التي تقع تحت طائلة القوانين الاتحادية (المحكمة القومية العليا).
    كثيرون يظنون أن اتفاقيات نيفاشا تمهد للانفصال أكثر مما تمهد للوحدة لأنها تمنح الجنوب سلطات واسعة، وجيشاً خاصاً به، ونظاماً مصرفياً يختلف عن النظام السائد في الشمال، ونصيباً من عائد الثروة البترولية يُغري الجنوبيين بالقول: هل من مزيد. ولكن أهل هذه الظنون لا يتساءلون لماذا ظل مفاوضو الحركة يفاوضون على مدى عامين بعد ماشاكوس حول أمور لا تعني الجنوب في شيء: الإصرار على إعلان لحقوق الإنسان Bill of Rights لكل أهل السودان، التمثيل العادل للجنوب في كل مستويات الحكم القومي وبتفصيل يدعو للإملال، الإصرار على الاستجابة لمطالب أهل الجبال وجنوب النيل الأزرق ثم الدعوة لتطبيق النظام الذي أتفق عليه لإدارة تلك المناطق على كل الولايات الشمالية. هذا هو الوجه الآخر للقضية الذي لا يتدبره أهل الظنون، لهذا كثيراً ما تساءلت إن كانت الظنون تعبيراً عن الخوف من انفصال الجنوب، أو استكثاراً للثمن الذي ندفعه لتحقيق وحدة السودان التي نحبها حباً جماً.
    هذا الثمن الذي يدفعه الشمال للوحدة والسلام ليس مقتطعاً من حقوق مشروعة للشمال حتى نسميه تنازلات، وإنما هو رد لحقوق مشروعة للجنوب حُجبت منه منذ الاستقلال ويستحقها بحكم ثقله السكاني. فمنذا الذي يملك صادقاً أن يدعي أن الجنوبي غير مؤهل لأي موقع وزاري غير الأشغال والنقل الميكانيكي والثروة الحيوانية وأضيف لها أخيراً الطيران المدني، وهي وزارة لا يزيد عدد العاملين فيها عن 5% من موظفي مطار اوهارا بشيكاغو؟ ومنذا الذي يملك صادقاً أن ينكر حق الجنوب الذي يمثل سكانه قرابة ثلث سكان السودان وتبلغ مساحته ثلث مساحة القطر في أن يتوافق حجم وجود أبنائه وبناته في الخدمة العامة مع وزنه في التركيبة السكانية للسودان؟ ومنذا الذي لا يرى وجه الغبن في حرمان الجنوبيين منذ الاستقلال وحتى اليوم من تولي منصب الوكيل في أية وزارة، والمدير العام في أية مؤسسة عامة حتى يرى في الحديث عن تقدير النِسَب في الوظائف العامة تفصيلا لا معنى له؟ هذه التفصيلات يا صحاب هي الرد على السؤال السخيف الذي ما فتئنا نردده: الجنوبيين دايرين شنو؟ الرد على ذلك السؤال بعد اتفاقيات السلام هو بعربي جوبا: ياهو دي!
    هذا التحول الديمقراطي آتٍ آتٍ وفي تجارب الأمم هناك طرائق عدة للتحول من الأنظمة الشمولية للديمقراطية.
    فالتحول قد يتم من داخل النظام كما فعل الجنرال عبد السلام أبوبكر في نيجيريا عقب رحيل ساني أباشا، أو عبر الانتفاضة الشعبية كما وقع في الفلبين، أو عبر التفاوض كما علمتنا تجربة جنوب أفريقيا. ومن حسن حظ السودان أن يكون على رأس المفاوضين الذين نهدوا للدفاع عن حقوق الجنوب سياسي جنوبي ما ضلت بصيرته يوماً عن الطابع القومي لمشكل الجنوب، وما كف يوماً عن القول إنه يريد سوداناً موحداً على أسس يتراضى عليها أهل السودان حتى لا يحس أي سوداني أنه هضيم حق.
    ولئن آتى الله، من الجانب الآخر، حاكماً شمالياً الحكمة (والحكمة من منائح الله) كي يدرك أن للسلام والوحدة ثمناً مستحق الدفع، ثم يحمل أهله على ذلك وبعضهم يصرخ ويرفس بقدميهKicking and Crying فذلك أيضاً أمر يُغتبط له. يتبقى لنا من بعد أن ندرك أن عافية الوليد الجديد وقدرته على أن ينمو ويفرهد هي مسئوليتنا جميعاً.
    ///////////////////////
    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (6(
    إعداد الدستور ... أي دستور؟
    اي نظام للحكم يضبطه قانون أساس هو مجموعة القوانين والقواعد والمبادئ التي تحدد تخوم المسئوليات والسلطات والواجبات والحقوق. بهذا المعنى لكل أنظمة الحكم، بما في ذلك الأنظمة الشمولية وتلك التي تنسب لنفسها حقاً الهياً في الحكم، دساتير تنظم الحكم. في هذا المقال نتحدث عن الدستور بالمعنى الذي ألفناه منذ الاستقلال، ثم أخذنا نستدعيه ونستظل به عقب كل انتفاضة. وبما أن مدركاتنا السياسية كلها قامت على اعتبار ذلك الدستور، أو النمط الدستوري الذي بُني عليه، هو طوق الأمان والسبيل الوحيد للحكم الصالح وللاستقرار السياسي، يفيد أن نتناول ذلك الدستور بالفحص منذ منشئه لنرى إن كان العطب السياسي الذي لحق بنا بسبب نصوص الدستور، أو عدم صلاحية التربة التي غرس فيها، أو لحاجة الدستور إلى تأصيل كما يزعم البعض، أو لأنا، ابتداءً، تعاملنا مع ذلك الدستور كشكل دون محتوى، وعَرض بلا جوهر، وإجراءات بلا معانٍ.
    دستور السودان الذي ظل يحكم به منذ الاستقلال دستور ديمقراطي ليبرالي. وان كانت الديمقراطية هي نمط للحكم، فإن الليبرالية نظام سياسي يهدف لحماية حرية الإنسان، وبوجه خاص حقوقه الطبيعية والإنسانية. ذلك لا يتم إلا بالحد من سلطان الدولة على المواطنين طالما ارتضى المواطنون وامتثلوا لحاكم (دولة) يدبر شئونهم. ذلك الحد من السلطان يتحقق إما بتقليص نطاق ممارسة الدولة له، أو ضبط تلك الممارسة وكبح جماحها. وبما أن الدولة هي التي تضع القوانين يصبح مشروعاً السؤال عما هو الضمان في أن تحد الدولة سلطانها من تلقاء نفسها؟ لا ضمان مطلقاً، لهذا ابتدعت الدساتير الليبرالية مبادئ وضوابط تُعَزز obe entrenched في الدستور بحيث لا يمكن التحايل عليها، أو الإخلال بمعانيها، أو تعديلها إلا وفق ضوابط صارمة. على رأس هذه المبادئ تأمين الحقوق الإنسانية الأساسية للمواطن التي انضافت إليها في الجيل الثاني من حقوق الإنسان، حقوق الشعوب، كحقوق مقدسة لا يمكن التصرف فيها inalienable، ولا تنتهك حرمتها inviolable. وعلى رأس الضوابط المُعَززة سيادة حكم القانون، ولعلها أهم آليات الكبح والتوازن في الدساتير. لذلك، تمنح الكثير من الدساتير سلطة دستورية للقضاء لحماة الدستور، مثال ذلك سلطته في الفصل في دستورية القوانين، أي التقرير في إن كانت القوانين خارجة عن، أو مطابقة لأحكام الدستور. هذه السلطة تتمتع بها، على سبيل المثال، المحكمة العليا في الولايات المتحدة وفي الهند، كما كانت تتمتع بها حتى العام 1949 اللجنة القانونية للمجلس الملكي سPrivy Council بالنسبة للدستور الكندي. هناك دساتير أخرى، مثل دستور نيوزيلندا، تمنع المحاكم صراحة من ممارسة هذه السلطة، ولربما أعتمد الدستور النيوزيلندي المكتوب المبدأ الذي سار عليه الدستور الإنجليزي غير المكتوب والقائل أن البرلمان سيد قراره. فكما يقول المثل السائر، يملك البرلمان الإنجليزي أن يقرر بشأن أي موضوع تشريعياً وتعديلاً وإلغاءً باستثناء أمر واحد هو أن يجعل الذكر أنثى والأنثى ذكراً. حتى هذا الاستثناء كاد أن يبطل في زمن العجائب الذي نحن فيه إذ يتداول بعض البرلمانيين اليوم في إباحة زواج المثليين. بنبرة أكثر جدية، نقول إن هذا الحق الذي يوفره الدستور الإنجليزي للبرلمان ليس حقاً مطلقاً إذ أن ذلك البرلمان محكوم بقيد حديد هو التقاليد البرلمانيةparliamentary conventions التي لم تسمح له طوال تاريخه منذ إعلان الميثاق الأعظم (ماقنا كارتا) بالخروج عن المبادئ المُعَززة entrenched في الدستور.
    هذه مقدمة ضرورية لمخاطبة قضية التطور الدستوري في السودان، فتاريخ الدستور في السودان، كتاريخ السياسة، تاريخ موئس وبائس. ليس أدل على ذلك من عجز السودانيين عن الاتفاق على دستور تُحكم به البلاد منذ الحكم الذاتي. الدستوران الوحيدان اللذان خرجا عن المألوف صدرا في ظل نظامين شموليين: دستور السودان الدائم 1973 (عهد مايو)، ودستور جمهورية السودان 1998 (عهد ''الإنقاذ''). في جميع فترات الحكم الأخرى حُكم السودان بموجب دستور أعده البريطانيون، في الأساس، لإدارة فترة انتقالية هي فترة الحكم الذاتي (دستور ستانلي بيكر). ومن سخريات القدر أن يكون ذلك الدستور وليداً طبيعياً لمؤسسات قالت عنها الحركة الوطنية السودانية، على لسان الزعيم إسماعيل الأزهري، ''لن ندخلها وإن جاءت مبرأة من كل عيب''. ذلك الدستور أصبح دستوراً للسودان المستقل في 1/1/1956، ودستوراً للديمقراطية الثانية بعد أكتوبر 1964 (دستور 1956 معدل 1964)، ودستوراً للديمقراطية الثالثة بعد مايو.
    ما هو مصدر العجز؟ السياسيون الذين لم يُمَتعهم الله بفضيلة التواضع ومزية نقد الذات ليس لهم ما يردون به على هذا السؤال غير: ''العساكر ما أدونا فرصة''. هذا إرهاف بالقول دون تروٍ لأن أصل الأزمة يعود إلى ما قبل الاستقلال، وقبل أن يصبح للعسكر شأن في السياسة. بمفردات اليوم نلخص الأزمة في: نظام الحكم، الهُوية، حقوق الإنسان، التهميش السياسي والاقتصادي. وبالطبع لم تكن مظاهر الأزمة قد تبلورت على هذا النحو قبيل الحكم الذاتي، إلا أن جوهرها كان واضحاً للعيان على المستوى السياسي، كما كان ينبغي أن يكون الحل لها واضحاً على مستوى الرؤية لجيل مؤتمر الخريجين الذي كان يحسب غاندي ونهرو أنبياء للوطنية. ولهذا السبب سأصطحب الهند معي كل ما كان ذلك ضرورياً في هذه المقالات. ولن نفلح في التحليل السليم لمشاكلنا إن أصبح الهروب من التاريخ عادة لنا ودأباً.
    مشروع دستور الحكم الذاتي ـ الذي أصبح فيما بعد دستوراً للاستقلال ـ تضمن مادتين حول الجنوب (وكان موضوع الجنوب هو الأكثر بروزاً يومذاك في قضايا نظام الحكم (الفيدرالية)، والهُوية (الدين)، والتهميش السياسي (وضع الجنوبيين في حكم وإدارة الدولة الجديدة). كان ذلك هو الحال قبل أن يتفاقم المشكل وينضم لأهل الجنوب من انضم إليهم من أقوام السودان. هاتان المادتان تناولتا هذه القضايا بصورة لم يكن يكلفنا إتباعها مشقة أو عناء إذ نصتا على أمرين: الأول هو طمأنة الجنوبيين على مستقبلهم، والثاني إرضاء طموح نخبهم. وعلى وجه التحديد تعلقت الأولى بضرورة تعيين جنوبيين اثنين على الأقل في مجلس الوزراء، والثانية بمسئولية الحاكم العام عن ضمان أن يلقى الجنوب معاملة منصفة. هاتان المادتان أُلغيتا عقب زيارة صلاح سالم للجنوب ولقائه مع قيادات الشمال حيث اتفق مع هذه القيادات على إزاحة النصين من مشروع الدستور، ثم أبلغ البريطانيين من بعد أن أحزاب الشمال لا تمثل الشمال وحده بل الجنوب أيضاً لأن تلك الأحزاب جميعاً تضم جنوبيين. ذلك رأي لم يعترض عليه من بين ساسة الشمال إلا رجل واحد هو إبراهيم بدري. تلك كانت هي الدرجة من الاستهانة والتسطيح الفكري التي تعامل بها صلاح سالم مع القضية، وارتضاها ساسة الشمال. ومن المذهل أن الأحزاب الشمالية التي اجتمعت في السابع من يناير 1953 مع صلاح سالم لتقرر في أمر الجنوب في غيبة أهله ضمت ممثلين لحزب ربما لا يزيد أعضاؤه عن الرجلين اللذين وقعا نيابة عن ذلك الحزب الاتفاق مع سالم، ذلكم هو الحزب الوطني الذي مثَله الأستاذ يحي عبد القادر والدكتور عبد القادر مشعال.
    مع ذلك نحسن الظن ونقول إن ساسة الشمال كانوا يخشون من استغلال الحاكم العام لذلك النص لتعويق مسيرة السودان نحو الحكم الذاتي. ونحسن الظن أيضاً ونقول إنهم كانوا عازمين على الأخذ بيد الجنوبيين والاعتراف لهم بحقوقهم المشروعة في الوطن الواحد، خاصة وقد اتفقوا جميعاً مع صلاح سالم، واقنعوا البريطانيين بذلك، أن البرلمان المنتخب سيضع بديلاً لهذا النص يُرضي الجنوب. ولكن، ما الذي وقع فيما بعد؟ لم يضع البرلمان بأية صورة من الصور، بديلاً لتلك المادة التي ضُمنت في مشروع الدستور لحماية حقوق الجنوب وطمأنة أهله، بل لم يحترم حتى ما تعهد به للجنوبيين حول الفيدرالية كما أسلف الذكر. وهكذا أصبح ذلك الدستور بقصوره العضوى ـ على الأقل فيما يتعلق بنظام الحكم ـ عاجزاً عن تلبية حاجات كل أهل الوطن الواحد، وبالتالي ما كان ليصلح أساساً لحكم مستقر، طالما لم يكن هناك تراض عليه بين أهل السودان.
    ولئن تقاصرنا في موضوع نظام الحكم، كَفاً أو عجزاً، عن إرساء القواعد لبيت يتفيأ أهل السودان جميعاً ظلاله عن اليمين والشمائل، فقد كنا أقل تقصيراً في التوافق على فكرة المواطنة والتبعات المترتبة عليها. والمواطنة مفهوم عابر للفوارق الدينية، والثقافية، واللغوية، إن لم ندركه على هذا الوجه فلن ندرك المغزى الحقيقي لحقوق الإنسان والمواطن. ومن الطريف أن هذا هو الاسم الذي كان يطلق على تلك الحقوق عند منشئها في الثورة الفرنسية، أول عهد الإنسانية بتلك الحقوق. وفي اللحظة التي أخذنا نقسم فيها أهل الوطن إلى أغلبية وأقلية، ضللنا الدرب وذهبنا حيارى في مفازة لا دليل فيها ولا علامة. لاشك في أن في كل بلاد الله هناك أغلبية وأقلية عددية. ولاشك في أن الحظوظ السياسية في هذه البلاد تقدر بميزان العدد. كما لاشك أيضاً في أن الأمم درجت، أو بالأحرى درج العنصر أو الجماعة الغالبة فيها، على السعي لاستيعاب الجماعات الأقل عدداً في السياق العام، كان ذلك في اللغة أو الثقافة أو الدين، ويُبرر ذلك دوماً بأنه تحقيق لإرادة الأغلبية. بيد أن هذه النظرة الآلية للأغلبية والأقلية في الأنظمة الديمقراطية تنتهك أهم مبدأين فيها، ألا وهما المساواة في الحقوق والواجبات والمساواة أمام القانون. ولئن نزعم إن لم يكن لنا عن ذلك الأمر حَدَد أو بُد، نكون غير صادقين. كانت أمامنا تجربة الهند التي نعرفها حق المعرفة أو بهذا ظللنا نوحي شعراً ونثراً وغناءً. يعرفها السياسيون الذين كانوا يطالعون ويتدارسون أفكار ساستها (أقرأ كفاح جيل لأحمد خير، والديمقراطية في الميزان لمحمد أحمد محجوب)، تماماً مثل الذي كانوا يُحَلون جدران منازلهم بصور زعمائها الهندوس، غاندي ونهرو لا المسلمين منهم، مثل محمد علي جناح (أقرأ مذكرات أحمد محمد يس). إضافة إلى ذلك يعرفها رجال القانون الذين أصبح لهم كتاب العلامة راتنلال انجيلاً في الفقه، وأهل الفن الذين طالما تهدج صوت حاديهم وهو يغني لوجه غاندي ولصوت طاغور وصدى الهند العميقة. نحن حقيقة لا نعاني فقط من ضعف في الذاكرة، وإنما أيضاً من فقدان تام للبؤرة التي يتركز فيها الاهتمام بأي شيء، فكل حدث مرجع لذاته.
    أياً كان الحال، تلك الرؤى والممارسات التي ظلت سائدة حتى الستينات فقدت معناها إن كان لها حقاً معنى، كما فقدت شرعيتها إن ظننا أبداً أن لها شرعية. فمنذ ذلك التاريخ تبدلت الأمور على وجهتين، الوجهة الأولى هي صدور الجيل الثاني من العهود الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أصبح الخروج عنها خروجاً عن الشرعية الدولية. أما الوجهة الثانية فهي نسف القانون الإنساني الجديد لكل المفاهيم السائدة حول الأقليات. فالقانون الآن يميز بين الجماعات الأصلية indigenous والأقلياتminorities في داخل الدول (الاتفاقية الدولية بشأن الشعوب الأصلية والقَبلية 1989). فالأكراد في العراق، والأقباط في مصر، والامازيغ في الجزائر والمغرب، لا تطلق عليهم صفة الأقلية لأنهم أصحاب حقوق تاريخية ثابتة في أوطانهم. ويُعَرف القانون هؤلاء بـ ''المجموعات التي استقرت تاريخياً في أرض معينة ولها علاقة سلفية أو قَبلية ئancestral بتلك الأرض، وتواصل وجودها في تلك الأرض قبل نزوح جماعات أخرى لها، أو غزوها من جانب الاستعمار''. هذه الإشارة مهمة لكيما نزيح من أذهاننا المفاهيم التي تقسم المواطنين إلى أغلبية وأقلية وفق معايير محددة بطريقة ذاتية لنصل بها إلى نتائج معينة. فالذي يقول إن أغلبية أهل السودان مسلمون لا يقول إلا حقاً، ولكنه لا يصبح محقاً عندما يريد أن يبتني حكماً سياسياً على هذه المُسَلمة يترتب عليه حرمان مواطنين مهما كان عددهم من حقوقهم الأساسية مثل إعلان السودان دولة مسلمة. والذي يقول إن أغلبية أهل السودان من الرجال قد يكون صادقاً، ولكنه يفتقد الصدقية إن أراد التوسل بتلك الحقيقة لإصدار حكم يترتب عليه حرمان النساء من حقوق أساسية يستأهلنها بحكم إنسانيتهن لا بحكم الجنس أو النوع.
    على المستوى العملي، ورغم دعاوى الأغلبية والأقلية، لم تبدأ هذه التفريقات الزائفة في إفراز أية ظواهر سلبية أو عدائية، كان ذلك بالنسبة للدين أو اللغة، إلا في الستينات عندما تحول الدين إلى منتوج سياسي محض، وأصبحت اللغة تعبيراً عن وطنية اثنية. وبتدافع الفعل ورد الفعل، خرجت قضيتا اللغة والدين عن حجمهما الطبيعي. فمثلاً، منذ بدايات الحكم الذاتي تقبل الجنوبيون بلا عناء الإصلاحات التي أدخلها وزير المعارف عبد الرحمن على طه على التعليم في الجنوب عام 1949، ففي خطابه أمام الجمعية التشريعية (1/11/1949) أعلن الأستاذ المعلم ''بما أن السودان قطر واحد تشترك جميع أجزائه في مؤسسات سياسية واحدة فإن أول ما يجب تحقيقه هو أن تكون للبلاد لغة واحدة يفهمها ويتحدث بها جميع أبنائها ولا يمكن أن تكون هذه اللغة غير العربية''. وذهب واحد من قادة الجنوب يومذاك (بوث ديو) إلى مطالبة الحكومة بالإسراع في تعليم الجنوبيين اللغة العربية حتى يلحقوا بإخوتهم في الشمال، ولم يكن بوث ينظر للغة إلا بحسبانها وسيطاً للمخاطبة والمعرفة والتعلم. وكان لبعض الأساتذة الأجلاء مثل سر الختم الخليفة وأحمد حسن فضل السيد ومصطفى أبو شرف دور مهم في أداء هذه المهمة في الجنوب أقبلوا عليها بحنو الأب، وموضوعية المعلم. في ذات الوقت ظلت اللغة الإنجليزية لغة عمل معترف بها في البرلمان وفي دوائر الحكومة في الجنوب. نفس الشيء يصدق على الدين حيث لم تجعل منه الدولة ولا أهل السياسة عظمة نزاع حتى قيام نظام عبود. ذلك النظام الذي لم يُعَرف بتدين أهله بادر باتخاذ إجراءات عبثية آذت السياسة ولم تَفِد الدين مثل استبدال عطلة الأحد بعطلة الجمعة في الجنوب، واستبدال الأسماء المحلية أو المسيحية بأسماء عربية أو إسلامية. وكان الجنوبي يطلق على تلك الأسماء التي فُرضت عليه ''اسم بتاع حكومة''. ولعلنا نترك قضية الدين لنعالجها بإفاضة في المقال التالي ونقتصر الحديث في هذا المقال على تداعيات قضية الهوية الثقافية منذ الستينات.
    بدأت الأزمة عندما أخذت القضية تأخذ بعداً شوفينياً من جهة، وازدرائياً من جهة أخرى. وفي المقالات السابقة ألمحنا إلى نماذج عديدة من هذه الشوفينية التي ترَد في أغلب الأحوال، إما لرغبة شرائح معينة من الجماعات المستعربة لإدامة الهيمنة السياسية أو الاقتصادية، أو لغلواء بعض النخب ذات المصلحة في الإبقاء على هذه الهيمنة. والمؤسي حقاً أن هذه الجماعات تتحدث دوماً عن الحفاظ على الهُوية العربية / الإسلامية بصورة وضعت الدين حيث لا ينبغي أن يكون. فالفهم الملتبس للهوية جعل من الإسلام والعروبة آليتين متصادمتين، بحيث أصبحت الأولى (العروبة من منظور عرقي) هي آلية الإقصاء، في حين ظلت الثانية (الإسلام) هي آلية الاحتواء بامتياز لأن الإسلام لا يميز بين الناس على أساس أعراقهم وأصولهم. وحقيقة كان الإسلام هو المفاعل الأهم في توحيد أهل السودان مما يعني أن المسلمين العروبيين (بالمعنى العرقي للكلمة) لم يستبطنوا أبداً روح الدين الذي يرفعون راياته. ''قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم''. غفر الله لنا ولهم. أما الازدرائية، او إن أردت الوصائية، فقد عَبَرت عنها جميع المدارس والاتجاهات الفكرية (منذ مدرسة أبروف الى كل مدارس القومية العربية)، والتي لم تكن ترى في الثقافات المحلية ما هو جدير بالاحتفاء.
    أياً كان الأمر، تولدت عن هذه التوجهات غير الرشيدة تيارات مناهضة للثقافة العربية ككل باعتبارها واحدة من أدوات هيمنة الشمال المستعرب على الجنوب غير العربي بحيث أصبحت اللغة والثقافة العربية مدانتين بالتداعي وتوقفت السيرورة الطبيعية للغة العربية. هذه الحقيقة البسيطة افتطن إليها البريطانيون بعد أن أعيتهم الحيل لمحو اللغة العربية في الجنوب. فمثلاً، كتب حاكم عام السودان، السير جون مافي في تقرير له يقول ''أينما ذهبت، سواء في أعالي الاماتونج أو عند حدود الكنغو البلجيكية، أجد الجميع يتحدث اللغة العربية بمن فيهم الناطقون الرسميون باسم القبائل. ازاء هذه الحقيقة أو لا يجب أن نتملى جيداً فيما نبذله من جهد ومال لقمع اللغة العربية. وبالفعل، أو لا يجب أن نتفكر كيف يمكن أن تصبح هي الأداة الفعالة لتنفيذ سياستنا''. (تقرير الحاكم العام 12/7/1927). وعبر السنين لم تنتشر اللغة والثقافة العربية في جميع أرجاء السودان عن طريق الأوامر والنواهي والنصوص الدستورية وإنما تم عبر التنافذ أو التناضحosmosis الاجتماعي الذي كان من أدواته التساكن، والمتاجرة، والتزاوج، والتعليم، والفن، والموسيقى. أو ليس من المدهش أن يكون السوداني الوحيد الذي وجه له زعيم الحركة الشعبية الدعوة عبر النائب الأول للمشاركة في توقيع بروتوكول السلام في نيفاشا هو الأستاذ محمد وردي، نوبي من أقصى الشمال جاء ليغني لأهل الجنوب بلغة لا هي لغته الأم ولا لغتهم: ''أنت يا أكتوبر الاخضر''. هذه هي ظلال الصورة التي لا يبصرها ولن يبصرها الشوفينيون الذين أغشى الله أبصارهم.
    اللغة في حد ذاتها ليست مشكلة بالضرورة، فهناك بلاد كثيرة لا ينص دستورها على لغة رسمية مثل كينيا ويوغندا اللتين تستخدمان الإنجليزية والسواحيلية حسب الحاجة والضرورة إليهما، في حين اعتمدت جارتهما تنزانيا السواحيلية لغة رسمية. وفي نيجيريا لا ترد إشارة للغة الرسمية للدولة في الدستور النيجيري باستثناء الإشارة في المادة 55 منه للغة العمل في البرلمان، وتقرأ: ''أعمال الجمعية الوطنية تتم باللغات الإنجليزية، الهوسا، الأيبو، اليوروبا وعلى الدولة توفير الإمكانات اللازمة لتحقيق هذا''. أيضاً، رغم اعتماد اللغة الإنجليزية عُرفاً لغةً رسمية للولايات المتحدة لا يتضمن دستورها أي نص حول لغة الدولة. المشكلة تبدأ دوماً عند ما تصبح اللغة، كما قلنا، تعبيراً عن وطنية اثنية. ونعرف من التاريخ إلى ماذا قادت رحلة الوطنية الإثنية، من خطاب يوهان فيخته (رسالة إلى الأمة الألمانية) في 1807 إلى خطب النقاش البافاري ادولف هتلر في مدينة ميونخ. ولحسن الحظ لم تبلغ الشوفينية التي عمقت من مشاعر الجفوة عند بعض الجنوبيين نحو اللغة العربية، وحملت آخرين منهم على الاستدعاء القسري لثقافاتهم المحلية ذلك الحد من الفُحش. بل أضيف أنه رغم كل مآسي الحرب الأخيرة فإن الدور الذي لعبته الحركة الشعبية في توسيع نطاق التعامل باللغة العربية، لم تلعبه أية حركة ذات منشأ جنوبي من قبل، ولأسباب عملية وظروف موضوعية بحتة. فالحركة تضم عناصر تنتمي لأقوام وجماعات تتواصل فيما بينها باللغة العربية، لسان التخاطب المشترك الوحيد. كما تسعى لأن تلعب دوراً سياسياً في كل أرجاء القطر، بما في ذلك الشمال. والحركة على مستوى قياداتها بنت، ومازالت تبني جسوراً عديدة للتفاعل مع القوى السياسية والاجتماعية في شمال السودان، ومع دول عربية خارج السودان.
    نعود على بدء لنقول إن اتخاذ الأغلبية والأقلية معياراً عند تأسيس الحقوق التي ترتكز على المواطنة مثل حق الأقوام التي يجمعها وطن واحد في الاحتفاظ بخصائصها الثقافية وتطويرها إن أرادت، ينسف فكرة المواطنة من أساسها. فالمواطنة تعني أن يكون الوطن دوماً هو نقطة التوجه الأساس primary point of orientation عند إقرار الحقوق والواجبات، لا العرق ولا الدين ولا النوع. هذا ما ذهبت إليه الدول التي كان في مقدورنا الاستئناس بتجاربها. من ذلك تجربتان جديرتان بالتملي لتناقضهما، الأولى تجربة سيريلانكا، والثانية تجربة الهند. سيريلانكا دولة صغيرة لكنها تتمتع بما لا تتمتع به جاراتها: التجانس بين أهلها، وفرة مواردها، علاقاتها الطيبة مع كل جاراتها، انعدام الفوارق الدينية الحادة بين مواطنيها، مستوى التعليم العالي الذي حظي به مواطنوها (90% من الرجال و80% من الإناث). رغم هذا أشعل قرار واحد أصدرته رئيسة الوزراء باندرنايكه في عام 1956 بعد اثني عشر عاماً من استقلال جزيرة سيلان (الاسم القديم لسيريلانكا) ناراً لم تخمد بعد. فلدوافع وطنية مقدرة قررت باندرنايكه أن تصبح اللغة السينهالية Sinhalese اللغة الرسمية للدولة الجديدة وعلى كل المستويات بعد أن ظلت الإنجليزية لغة رسمية لسيلان طوال مائتي عام، مع الاعتراف للغة التاميل (لا يزيد عدد التاميل عن ربع سكان الجزيرة) بالموقع الثاني. ذلك القرار الوطني لم يُرض التاميل الذين يفاخرون، هم الآخرون، بلغتهم، فكانت الحرب التي ظلت مشتعلة طوال أربع عقود من الزمان. ومن الطريف أن دولة النرويج التي ترعى مفاوضات الإيقاد هي نفسها التي ترعى أيضاً المفاوضات لإنهاء الاحتراب في سيريلانكا.
    التجربة الثانية هي تجربة الهند، وليس للهند مثيل في التنوع اللغوي والديني. ورغبة من آباء الاستقلال في الحفاظ على وحدة الهند السياسية، ومراعاة الخصائص الثقافية لشعوبها المختلفة، وتحقيق التفاعل الخلاق بين ثقافاتها، ابتدعوا صيغاً دستورية رائعة لتحقيق هذه الأغراض. مثلاً، نصت المادة 343 من الدستور الهندي على أن اللغة الهندية Hindiهي اللغة الرسمية للهند مع السماح باستخدام اللغة الإنجليزية لمدة 15 عاماً بعد الاستقلال. كما نصت المادة 345 على حق الولايات في استخدام الهندية أو أية لغة أو أكثر كلغات رسمية حسبما يقرر برلمان الولاية. ووجهت المادة 350 (أ) بتوفير التعليم الأولي باللغة الأم لأبناء وبنات الولايات المختلفة، والمادة 350 (ب) بتعيين معتمد خاص لشئون الأقليات اللغوية لدراسة المشاكل الناجمة عن التعدد اللغوي في الهند وتقديم النصح للحكومة الاتحادية عن وسائل معالجتها. أما المادة 351 فقد نصت على مسئولية حكومة الاتحاد في تطوير استخدام اللغة الهندية حتى تصبح وسيطاً للتواصل بين أهل الهند جميعا
    على أن تُثرى بأساليب وأنواع التعبير الموجودة في اللغات الهندية الأخرى حتى تعكس عبقرية اللغات وتنوع الثقافات الهندية. وفي جميع هذه النصوص لم يستخدم الدستور تعبير الأقليات في وصفه لشعوب وأقوام الهند.
    اتفاقيات نيفاشا ترك السودان بشكل قاطع هذه القضايا وراء ظهره، فتماماً كما حُسمت قضية نظام الحكم، تم حسم قضايا اللغة والثقافة، والحقوق الأساسية وطرائق حمايتها. فحول اللغة وردت الإشارات التالية:
    * جميع اللغات المحلية لغات قومية يجب احترامها.
    * اللغة العربية هي اللغة الأوسع انتشاراً في السودان (إشارة وتنبيه إلى أنها لغة التواصل).
    * اللغة العربية لغة رئيسة على المستوى القومي وستكون، مع الإنجليزية، اللغتين الرسميتين في الحكومة القومية ولغتي التدريس في التعليم العالي.
    * بالإضافة إلى العربية والإنجليزية للمشرع في أي مستوى فرعي من الحكم استخدام أية لغة أو لغات أخرى على نطاق مستواه.
    * لا يجوز التمييز ضد استخدام أي من اللغتين على أي مستوى حكومي أو تعليمي.
    عند مضاهاة هذا النص بما ورد في مشروعات الدساتير أو الدساتير السابقة نجد فروقاً عديدة. فمشروع دستور 1968، مثلاً، كان واضحاً عندما حدد للدولة لغة رسمية واحدة هي العربية (المادة3). ورغم كفالة ذلك الدستور حرية استعمال اللغات وتطوير الثقافات بالنسبة إلى ما أسماه ''الأقليات'' (المادة 39)، أخضع التمتع بتلك الحرية لشرط قامع هو ''دون المساس بحق الدولة في فرض استعمال لغة البلاد الرسمية في معاهد الدولة ودواوين الحكومة''. وحين ضمنت اتفاقية أديس أبابا للجنوبيين حق تطوير لغاتهم وثقافاتهم واستخدام اللغة الإنجليزية متى ما كان ذلك ضرورياً لأداء عمل تنفيذي أو إداري (المادة 6 من الباب الثالث في الاتفاقية) أزال نميري في تعديلاته الهوجاء للاتفاق ذلك النص. أما دستور 1998 فقد أورد في المادة الثالثة من الدستور مايلي حول اللغة: ''اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جمهورية السودان وتسمح الدولة بتطوير اللغات المحلية والعالمية الأخرى''، وما هكذا تكفل الحقوق الأساسية، فهي ليست حقوقاً تسمح (أو لا تسمح) بها الدولة، وإنما هي حقوق تُلزم الدول باحترامها.
    الاعتراف باللغات المحلية كلغات قومية يتماشى مع الاتجاه السائد اليوم في كل بلاد العالم بما في ذلك البلاد العربية التي ينطق بعض أهلها بلغات غير العربية. مثال ذلك الامازيغ في الجزائر التي اعترف بها الدستور الجزائري أخيراً (ابريل 2002) كلغة قومية، واللغة الكردية في العراق. وحول الأخيرة تناول الدستور العراقي الجديد (قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية) هذا الموضوع في المادة التاسعة التي جاء فيها: ''اللغتان الرسميتان للعراق هما العربية والكردية'' مع الاعتراف بحق التركمان، السريان، الأرمن في التعليم بلغتهم الأم في المؤسسات الحكومية. كما أباحت الفقرة السادسة من نفس المادة للمؤسسات والأجهزة الاتحادية في إقليم كردستان استخدام اللغتين.
    من بعد الحديث عن الحقوق الثقافية نجئ إلى حقوق الإنسان بوجه عام. وبما أن هذه الحقوق تحكمها الآن قواعد عالمية ثابتة تتضمنها عهود دولية تعلو في حجتها على القوانين المحلية كان من الضروري أن يستلهم المتفاوضون في نيفاشا هذه القواعد والأحكام. لهذا، استناداً على، واستلهاماً للإعلان الدولي والعهود الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، أقر بروتوكول نيفاشا حول السلطة ما يلي:
    * تفي حكومة السودان تماماً على كل مستويات الحكم، وفي كل أنحاء القطر بالتزاماتها وفق العهود الدولية لحقوق الإنسان التي هي ، أو ستكون، طرفاً فيها. وتشمل هذه العهود العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966، العهد الدولي حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، العهد الدولي لإزالة أشكال التمييز العنصري كافة 1965، إعلان حقوق الطفل 1959، الاتفاقية الخاصة بالرق 1929 وتعديلاتها، الميثاق الأفريقي حول حقوق الإنسان والشعوب وعلى حكومة السودان المصادقة على العهود الأخرى لحقوق الإنسان التي وقعت عليها.
    ولمزيد من التفصيل ذهب البروتوكول إلى تحديد بعض هذه الحقوق بدءاً بحق الحياة (كل إنسان له الحق في الحياة ويحمي هذا الحق بالقانون، ولا يُحرم أي إنسان قسراً من حياته أو حريته الشخصية)، الحق في الحرية والأمن الشخصي، تحريم العبودية والاتجار بالبشر والاسترقاق بجميع أنواعه، حظر التعذيب والمعاملة القاسية، المحاكمة العادلة والعلنية، براءة المتهم حتى تثبت إدانته أمام محكمة ذات كفاءة، عدم التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقد السياسي أو الأصل العرقي أو الوضع الاجتماعي، حرية التنقل واختيار السكن، المساواة بين الرجال والنساء حسبما هو مبين في العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية. ولضمان احترام هذه الحقوق اتفق الطرفان على النص عليها كاملة في الدستور، كما اتفقا على إنشاء مفوضية لحقوق الإنسان لتتابع التزام الدولة بهذه العهود والمواثيق التي ستصبح جزءاً لا يتجزأ من القوانين الوطنية. ولعله سيكون من بين واجبات هذه اللجنة مراقبة أداء العدالة الجنائية في كل ما يمس حقوق الإنسان، خاصة حماية المحتجزين، والانتصاف والجبر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. ولربما لا نعود لدساتير الستينات والسبعينات لأنا لن نجد فيها إضاءة حول الالتزام بهذه الحقوق على هذا الوجه التفصيلي، ولكن ما باله دستور 1985 توقف عند الجيل الأول من قوانين حقوق الإنسان؟ وحتى في هذه الحالة، ما باله توقف عند الحقوق المدنية والسياسية التي لا تعني، بصورة مباشرة، غير أهل الحاضرة؟

    بروتوكول اقتسام السلطة أيضاً أفرد مكانا خاصاً لدور القضاء في حماية الدستور. ولقد حُظي السودان منذ استقلاله بخدمة قضائية متميزة أرسى قواعدها رجال أفذاذ. وستظل أسماء رجال مثل محمد أحمد أبو رنات، احمد متولي العتباني، محمد إبراهيم النور، بابكر عوض الله، عبد المجيد إمام، عثمان الطيب، محمد يوسف مضوي تماماً مثل أحمد خير، محمد أحمد محجوب، عابدين إسماعيل، مبارك زروق، إميل قرنفلي من رجالات القضاء الواقف، درراً مضيئة في تاج العدالة والفكر القانوني السوداني. ولكن القضاء، مثل غيره من المؤسسات، تعرض لهزتين. الأولى كانت بسبب الاستهانة التي لقيها في ظل الديمقراطية نتيجة الفهم الخاطئ لمبدأ الفصل بين السلطات، الذي ربما زين للحكام يومذاك أنه طالما جاءوا بإرادة جموع الناخبين فلا حق لموظف غير منتخب أن يحول دون ممارستهم للسلطة الأميرية، حتى وإن بلغت تلك الممارسة حد الإخلال بالدستور نفسه. أبلغ مثال عن ذلك كان هو موقف رئاسة الدولة من القضاء في عام .1986 والثاني هو تدجين القضاء في مراحل الحكم الشمولي، وذلك إفراز لنظرية مدمرة هي نظرية الشرعية الثورية التي نشأت على يد المدعي العام الروسي فشنسكي في العهد الاستاليني، وامتدت عدواها إلينا عبر النظام الناصري. إقتداءً بتلك النظرية لم يجد النظام الناصري أدنى غضاضة في تحقير القضاء بالإساءة إلى أكبر رموزه (الاعتداء على رئيس مجلس الدولة، عبد الرازق السنهوري)، كما لم يستح بعض كباره من وصف نظرية استقلال القضاء بأنها شعار منقول ومستورد (خطاب علي صبري في مارس 1961). مع هذا، لم يبلغ التدجين للقضاء، أو قل الاستيلاف له، في الأنظمة الشمولية السودانية ما بلغه في ظل نظام ''الإنقاذ''.
    هذا زمان ولى، فكما أصبحت لحقوق الإنسان عهود تجاوزت الإعلانات، أصبحت أيضاً هناك قواعد دولية ملزمة لحماية المؤسسات العدلية. من ذلك الإعلان العالمي حول استقلال القضاء، مونتريال (1983)، وقرارات المؤتمر السابع للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين، ميلانو .1985 الإعلان العالمي كان واضحاً في تأكيده على مبدأ حرية القضاة في الفصل في الدعاوى دون خضوع لأي ضغوط، استقلالهم تجاه زملائهم ورؤسائهم، استقلالهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولايتهم القضاء في المنازعات كافة، حظر إنشاء المحاكم الاستثنائية، حصر صلاحيات المحاكم العسكرية في الجرائم التي تقترفها عناصر القوات المسلحة، تحريم انتساب القضاة للأحزاب السياسية.. الخ.
    وبما أن الذي يعنينا هنا هو سلطة القضاة في الأمور المتعلقة بالحقوق الأساسية وصيانة الدستور نكتفي بالإشارة لما أورده البروتوكول حول المحكمة الدستورية. ينص البروتوكول على قيام محكمة دستورية مستقلة عن السلطة القضائية يرأسها رئيس تعينه رئاسة الجمهورية (الرئيس بموافقة النائب الأول)، وتتمتع المحكمة بسلطات لفض النزاعات التي تنشأ حول، أو بموجب، الدستور القومي ودساتير الولايات الشمالية بطلب من الأفراد أو الأجهزة الرسمية. أما حول القضايا المتعلقة بدستور الجنوب فيكون لها حق النقض أو الإبرام لقرارات المحكمة العليا لجنوب السودان عند رفع الأمر إليها استئنافاً. تصدر المحكمة أيضاً الأحكام حول دستورية القوانين وتوجه بإلغاء أي قوانين تتعارض مع الدستور القومي، دستور الجنوب، أو دساتير الولايات، كما تنظر في النزاعات الدستورية بين الأجهزة والمستويات الحكومية المختلفة، وفي جميع القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي كل هذه الحالات تعتبر قراراتها قاطعة ونهائية وملزمة. ولعل هذا يُنهي التعابث بأحكام القضاء الذي عرفناه في الماضي مثل الجدل حول إن كانت أحكامه تقديريه declaratoryأو ملزمة، فحكم القضاء بموجب الدستور الجديد سيكون بلا مرية، هو عين الحقيقة.
    وينص البروتوكول على أن يمثل الجنوب تمثيلاً كافياً في المحكمة الدستورية والمحكمة القومية العليا وبقية محاكم الاستئناف القومية بقانونيين أكفاء. ولضمان سلامة عملية تعيين وعزل القضاة تنشأ هيئة للخدمة القضائية National Judicial Commission تتولى تعيين القضاة كما توصي بفصلهم في حالات سوء السلوك الفاضح أو عدم الكفاءة. وتضم اللجنة، إلى جانب رئيسها (رئيس القضاة)، وزير العدل وأكاديميين وقانونيين ضالعين.
    نقطة أخيرة جديرة بالاهتمام هي نسف الوهم الذي أشعناه، وربما أيضاً اقتفينا فيه أثر التجارب الشمولية العربية، ألا وهو دور القوات المسلحة في حماية الدستور أو النظام السياسي. فالمادة 15 من دستور 1985 (دستور الديمقراطية الثالثة) تنص على ما يلي : ''قوات الشعب المسلحة جزء لا يتجزأ من الشعب ومهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها وحماية أهداف ومكتسبات ثورة رجب الشعبية''. كما نص ميثاق الدفاع عن الديمقراطية (17/11/1985) على الاعتراف بدور القوات المسلحة في ''حماية الديمقراطية''. النصان، بلا ريب، مستوردان من دستور مايو 1973 الذي كلف قوات الشعب المسلحة بحماية ''مكتسبات ثورة مايو الاشتراكية''. القوات المسلحة مؤسسة قومية وهكذا ينبغي أن تكون وأن تظل. واجبها الأسمى والأوحد هو الدفاع عن سيادة الوطن وسلامة أراضيه تحت إمرة السلطة المدنية الشرعية. وما ايكال أمر حماية ''المكاسب الثورية'' أو ''الدستور'' أو ''الديمقراطية'' لها إلا بدعة دستورية تفتح الباب للمغامرات لأنها تفتح الباب للاجتهادات، ولكل مجتهد نصيب. وعلنا نعرف جيداً وبعد تجارب مُرة إلى أين يمكن أن تقود هذه الاجتهادات.
    الجوانب التي تطرقنا إليها في البروتوكول في هذا المقال والمقال السابق تمثل في مجملها أهم عناصر الدستور، فما هو السبيل لوضع هذا الدستور؟. تقول بروتوكولات السلام انه حال التوقيع على اتفاق السلام النهائي يُرفع الاتفاق إلى المجلس الوطني والمجلس الوطني للحركة الشعبية لاعتماده دون تعديل. ومتى تم ذلك تُدعى اللجنة القومية للدستور لوضع إطار قانوني دستوري لحمته وسداه اتفاقيات السلام. هذه اللجنة تتكون من ممثلين من الطرفين إلى جانب ''ممثلين للقوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني'' حسبما أورد البروتوكول. ويكلف البروتوكول لجنة الدستور أيضاً بوضع دساتير نموذجية للولايات تتماشى مع الدستور القومي ومتى ما اكتمل إعداد تلك الدساتير (أي دساتير الولايات) واقتنع وزير العدل بملاءمتها للاتفاقية وللدستور القومي تُعلن كقوانين. وقد يكون موضوع تكوين لجنة الدستور واللجان القومية على رأس الموضوعات التي تعالج في المفاوضات التي ستدور بين التجمع الوطني والحكومة من جانب، وبين طرفي الاتفاق من جانب، ثم بين الأطراف الثلاثة وأي طرف آخر في منبر يتفق عليه إن رأت الأطراف ذلك. على أن الذي يجب أن يكون واضحاً للجميع هو أن نصوص الاتفاق تُقدم ـ للمرة الأولى ـ حلا شاملاً لداء السودان السياسي المتوطن وأساساً لدستور يضمن الوحدة والسلام والاستقرار بعد نصف قرن من عدم الاستقرار. هذا لا يعني أنها لم تترك زيادة لمستزيد، وإنما يعني أن أية محاولة للإخلال بنص الاتفاق أو روحه بدافع التزيد أو المكايدة أو التشاطر سيكون، أولاً، جهداً بلا طائل، وثانياً عملاً ضاراً. وعندما أقول ضاراً، أعني الضرر والأذى الذي يصيب السودان في الخاصرة وقد يمزقه إرباً. فهل هذه هي الغاية التي يبتغيها المتزيدون؟
    //////////////////
    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (7 (
    الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن
    احتل موضوع الدين والسياسة، أو الدين والدولة، حيزاً كبيراً في الجدل السياسي منذ الستينيات. وفي جانب منه، كان امتداداً لجدل أوسع على نطاق الأمة الإسلامية كلها حول الحفاظ على الهوية في سياق عالم تعددي. إلا أن دعاوى الحفاظ على الهوية تحولت عند البعض إلى ذريعة للالتفاف على قيم ومعايير تراضت عليها الإنسانية لضبط سلوك الأنظمة والمجموعات البشرية. ونفصل في السودان بين ثلاث حقب اختلفت فيها طبيعة الجدل ومحتواه ومناهجه التي تراوحت بين الخطاب التهييجي والقمع. الحقبة الأولى هي تلك التي شملت كل الفترة من الستينيات حتى السبعينيات، والثانية هي فترة الحكم المايوي، أما الثالثة فهي التي أعقبت ذلك الحكم وإلى نهاية القرن. هذا التحقيب لا يُسقِط دور المفاعل الخارجي في تغذية الجدل والصراع على امتداد تلك الحقب، إذ تداخلت الصراعات المحلية مع الصراع الإقليمي (فترة النهوض القومي)، والأممي (فترة الحرب الباردة) وتقاطعت المصالح للحد الذي لم يعد واضحاً فيه مَن يستغل مَن. وعلنا في هذا المقال نتناول سبل الإقبال على قضية الدين والدولة في السودان طوال هذا الحقب، وما قادت إليه من ضغائن وإحن انتهت إلى كروب ومحن. وهذا حصاد مر لا تستريح له نفس ولا يستطيبه ذوق.
    ولكن قبل تفصيل الحقب نبسط بضع حقائق قد تعين القارئ على إدراك الأسباب التي أحالت الجدل بشأن الدين والسياسة من خلاف فكري إلى فتن. أولاً كانت صراعات الستينيات جزءاً من الصراعات النخبوية (طلاب الجامعات، النقابات المهنية) في إطار الإيديولوجيات السائدة: الأممية (الشيوعية)، القومية (بمدارسها العروبية المختلفة)، (الإسلامية). وكان الجدل حول الدين والسياسة وسط تلك الجماعات يدور بمعزل عن ذلك الذي يدور في مدارس الإسلام الشعبي، المُسَيس منه (الأحزاب ذات القاعدة الدينية) وغير المُسَيس (الطرق الصوفية). بل ربما اتخذت تلك النخب موقفاً غير ودي من تلك المدارس، وإن تصالحت معها لم تكُ تفعل ذلك إلا اغتناماً لفرصة دنت. لهذا يقال أن الإسلام السياسي في السودان لم يتسم بتسامح إسلام أهل السودان.
    هذه الأيديولوجيات المتصارعة ـ شأن كل الأفكار الجزمية ـ كانت تعاني من خصيصتين عاطبتين. الأولى هي قصورها الذاتي عن التشكك في صدقية دعاواها، بل ظنها الواثق أن دعاواها هي الحق المحض. والثانية هي جنوح أرباب العقائد، على المستوى العملياتي، إلى اختزال الحل لكل المشاكل الإنسانية في فكرة واحدة، وفي أغلب الأحيان في مصطلح واحد يسهل الارتكان إليه مثل ''الإسلام هو الحل'' أو ''وحدة الأمة هي الحل'' أو ''إنتصار الطبقة العاملة'' هو الحل. هذه النظرة أدت إلى ترخص كبير في الإقبال على معالجة أخطر القضايا. ثانياً، ولربما بسبب من اليقين الكامل بصدق أطروحاتها إن لم يكن تنزيه الاطروحات عن كل نقص، أصبحت هذه الجماعات النخبوية شمولية التوجه، وأخذت، على تباين توجهاتها، تستسلف من بعضها التجارب، خاصة فيما يتعلق بالتنظيم. وبسبب من نظرتها الشمولية أيضاً صار إيمانها بالديمقراطية ملتبساً، هي مع الديمقراطية متى ما وفرت لها مساحة للتنفس والحركة، وهي ضدها متى ما تمكنت من السلطان المطلق. وحينذاك ''لا صوت يعلو على صوت المعركة''، ''ولا حرية لأعداء الحرية''، و ''من تحزب خان''، ولا حزب إلا حزب الله ''ألا أن حزب الله هم المفلحون''.
    في كل هذه الصراعات غاب أمران: الغائب الأول هو السودان: مشاكله الوجودية، تركيبته التعددية، قضاياه المعقدة بتعقيد تركيبته. الغياب هنا معنوي، فلاشك في أن أهل العقائد هؤلاء كانوا من أكثر أبناء جيلهم اهتماماً بقضايا وطنهم، وانهماكاً فيها، وتضحية من أجلها، كما كانوا على ثقة تامة بقدرتهم التامة على المعالجة الناجعة لها. ولكن، من طبائع الأشياء أن الطبيب الذي يَدوي من نزل به الداء، ظاهراً أو باطناً، يبدأ بتشخيص الداء ليميزه مما سواه. بهذا وحده يمكن للطبيب أن يتعهد المريض بما يشفيه. أرباب العقائد السياسية بما فيها الدين المُسَيس كان لهم دواء واحد لا يعرفون غيره، وليس في اعتقادهم غيره في الوجود دواء. ولتعارض الأدوية وتضاربها ـ رغم أن الداء واحد ـ تحول المريض الذي هو السودان خنزيراً غينياً لاغُرم على ما لحق به من جراح. وكما يقول الفقهاء ''جُرح العجماء جُبار''، أي هَدَر.
    الغائب الثاني هو التواضع المعرفي، والذي هو سمة المجتهد الذي يحترم مرجعيات المعرفة، لا سيما إن كان المجتهد ينتمي إلى دين يقول فقهاؤه: ''من قال لا أعلم فقد أفتى''. المجتهد الصادق تَحَتكُ الأمور في صدره لهذا يظل وقافاً عند الشك، أما أرباب العقائد في السودان، وعلى اختلاف مدارسهم، فلم يكن عندهم موقع للآخر المخالف لهم إلا بين قطبين: الخيانة في حالة، والكفر في الحالة الثانية، تهم الانتهازية والعمالة في حالة، والأبلسة في الحالة الأخرى. الغائب الثالث هو انسداد الأفق الإنساني نتيجة التعامل غير المعافى مع الآخر المخالف، مرة بالعنف ومرة بالإكراه، وأخرى بالاغتيال المعنوي. هذه ممارسات تلغي الحرية، وإلغاء الحرية إلغاء للإنسانية. كما هي ممارسات تفقد الأديان والنظريات البشرية الطامحة للرقي بالإنسان من أي مضمون قيمي. هذه مقدمة إدراكها ضروري حتى لا تختلط الأمور، وحتى ننأى بالدين عن الخطايا التي اجترحت باسمه، كما ننأى بالأفكار الطامحة عن الجنايات التي لحقت بها.
    أبنا في المقالات السابقة كيف أخذت الطبقة السياسية السودانية تستظل دوماً (يوم لا ظل إلا ظله) بدستور ستانلي بيكر ''الاستعماري''، وكيف أن ذلك الدستور كان محايداً في موضوع الدين، لكيما لا نقول علمانياً. المرة الأولى التي احتل فيه الدين (ونقصد الإسلام) موقعاً في الدستور كان في مشروع دستور .1968 ومن الواضح أن الذين ذهبوا إلى التنصيص على الإسلام والشريعة في ذلك المشروع كانوا ينطلقون من نظرية سيادة ثقافة أو دين الأغلبية. فما الذي جاء به مشروع الدستور؟ أورد في مادته الأولى: ''السودان جمهورية ديمقراطية اشتراكية تقوم على هدى الإسلام
                  

العنوان الكاتب Date
د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:31 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:34 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:37 AM
      Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:42 AM
        Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:49 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) اسامة الخاتم09-25-04, 11:54 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) nadus200009-30-04, 04:04 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de