د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:47 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة يحي ابن عوف(يحي ابن عوف)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-16-2004, 03:34 AM

يحي ابن عوف
<aيحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) (Re: يحي ابن عوف)

    أو استحطاط لآخر. مثال ذلك تعديل الدستور الكندي (1982) لحماية حقوق ومصالح النونافوت (فرع من الاسكيمو). هذه الجماعة لا يزيد عددها عن الثلاثين ألفاً إلا أنها تحتل اقليماً تبلغ مساحته 2 مليون كيلومتر مربع. ودستور كولومبيا (1991) الذي وفر للأقوام الأصلية حقوقاً تراوحت بين الحكم الذاتي المحلي، وتطبيق القوانين العرفية، وحماية الملكية الجماعية للأرض. ويمثل هؤلاء في كولومبيا واحداً وثمانين مجموعة أصلية متميزة يكونون 3% من السكان، ويتحدثون 64 لغة. وعلى نفس النهج سار دستور باراقواي (1992) لتوفير حقوق نظيرة للمجموعات الأصلية التي تمثل 4% من السكان في ذلك القطر، كما طرأت تعديلات على دساتير دول أخرى مثل البرازيل (199، والارجنتين (1994) لتحقيق نفس الهدف.
    تلك الذرائع والحيل القانونية، على أية حال، لم تعد ذات معنى بعد أن استمد منح حق تقرير المصير لجنوب السودان شرعيته من تراضي كل الأطراف السودانية عليه بما في ذلك (كما اتظنى) جماعة ''الأرض والعرض''.
    ما الذي جاءت به ماشاكوس في هذا الشأن؟ في البدء جاءت بما أسميناه في المقال الأول تطابق الرؤى حول جذور المشكل حتى لا يصبح الحوار حوار طرشان. ففي ديباجة الاتفاق أكد الطرفان ''حرصهما على حل النزاع السوداني بصورة عادلة ومستدامة بمخاطبة جذور المشكلة وخلق اطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الانسان''. ثم نبهت الديباجة ''إلى أن النزاع السوداني هو أطول النزاعات الحالية في كل أفريقيا، وأنه حصد أرواح الملايين، ودمر البنيات التحتية للبلاد، وأهدر الموارد الاقتصادية، وتسبب في معاناة تفوق الوصف خاصة بالنسبة لشعب جنوب السودان''. وضعت الديباجة أيضاً في الاعتبار ما أسمته ''المظالم التاريخية والتنمية غير المتوازنة بين أجزاء السودان المختلفة والتي تستوجب المعالجة''. قد تقول أن ليس في هذا التشخيص شئ جديد، ونقول نعم. ولكن الذي يسترجع ما كانت صحافتنا في الشمال تردده عن ''الخوارج'' و''المتمردين''، وما كان بعض ساساتنا يجوبون العواصم العربية لاشاعته حول الهجمة الشرسة على العروبة من ''بوابة الجنوب''، وما كان التلفاز يجليه على الناس عشية كل جمعة عبر برامج (في ساحات الفداء) حتى كدنا نظن أن مشركي مكة قد رُدوا أحياءً في توريت ولافون وخور انجليز. من حق الذي يسترجع كل هذا أن يتساءل إن كان هذا التشخيص هو تشخيص لمشكل الجنوب، أم لمشكل آخر. فخلال عقود من الزمان ظللنا نشيع بين أهلنا، ونُعلم أبناءنا، وننشر بين العالمين أن الذي يدور في الجنوب فتنة صنعتها الكنائس، وأجج أوارها ربابئهم، وتداخلت قوى الشر الكنسية والامبريالية والصهيونية والزنجية لتُبقى عليها مشتعلة. وزاد على ذلك آخرون بوصف تلك الحرب بـ ''الابتلاءات'' ظناً باطلاً منهم أن في مقدورهم تحميل رب العباد المسئولية عن خيباتهم وخيباتنا. فللحرب جذور محلية، وأسباب موضوعية، وكان في مقدورنا أن نطفئ نيرانها حتى لا يستغلها ذوو الأغراض. لهذا، فإن تحديد أبعاد المشكل بهذا الوضوح هو، في تقديري، من أهم انجازات ماشاكوس، أولاً لأن تحديد أبعاد أي مشكل هو نصف الحل، وثانياً لأنه وضع حداً للمتاجرة بقميص عثمان.
    أكد بروتوكول ماشاكوس، فيما بعد، المبادئ الهادية التي يجب أن يرتكز عليها حل المشكل، وأهم تلك المرتكزات:
    * الاعتراف بوحدة السودان القائمة على الارادة الحرة لشعبه، وبالحكم الديموقراطي والمساءلة والمساواة والاحترام والعدل لكل مواطني السودان كأولوية بالنسبة للطرفين. وأن رفع مظالم أهل جنوب السودان والاستجابة لطموحاتهم يصبح ممكناً في هذا الاطار (الفقرة 11)
    * حق أهل جنوب السودان أن يحكموا ويقرروا شئون أقليمهم وأن يشاركوا مشاركة عادلة في الحكومة القومية (الفقرة 21)
    * ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير عبر الاستفتاء، ضمن وسائل أخرى. (الفقرة31)
    * اعتبار الدين والعادات والتقاليد مصادر قوة روحية والهاماً للشعب السوداني (الفقرة 41)
    * الاعتراف بما لأهل السودان من إرث وتطلعات مشتركة تجعلهم ميالين للعمل سوياً (الفقرة 51)
    * اقامة نظام ديموقراطي للحكم يعطي الاعتبار للتنوع الثقافي والاثني والعرقي والديني والتعدد اللغوي والمساواة بين الجنسين في كل السودان (الفقرة 61)
    * ايجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي ويستبدل الحرب ليس فقط بالسلام وإنما أيضاً بتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واحترام الحقوق الاساسية الانسانية والسياسية، لكل شعب السودان (الفقرة 71)
    الذي يهذه هى المبادئ التي انطلقت منها كل المداولات التي استغرقت عامين بعد ماشاكوس. ومع شمول الرؤية في تلك المبادئ إلا أنها أيضاً استهدفت، على رأس ما استهدفت، ما نصت عليه الفقرة (101) من بروتوكول ماشاكوس: ''جعل وحدة السودان خياراً جذاباً، خاصة لأهل جنوب السودان''
    يفي التحديد الجغرافي لجنوب السودان اشار البروتوكول إلى الحدود التي كان عليها ذلك الاقليم في 1/1/1956، وهو يوم اعلان الاستقلال. وقرأنا في أكثر من تعليق اشارات توحي أن هذه هى الحدود الاقليمية وضعت منذ عهد الاستعمار وأُقرت عند الاستقلال، وأن هذا هو الأساس الذي استمدت منه الحدود مشروعيتها. هذا ليس بصحيح، فإعلان الاستقلال لم يكن يقتضي تعيين حدود للمديريات أو الولايات لأن وضع تلك الحدود قضية ادارية داخلية في حين يستلزم اعلان الاستقلال تبيان الحدود الدولية للقطر. حقيقة الأمر، حدود المديريات في الشمال والجنوب، بل تقسيم المديريات نفسها، كان يتم دوماً وفق اعتبارات ادارية قبل الاستقلال وبعده. فعلى سبيل المثال ضُم مركز الكرمك، الذي كان حتى عـام 1953 جزءاً من مديرية أعالي النيل، إلى مديرية النيل الأزرق بقرار اداري قبيل الحكم الذاتي. وفي عهد عبود ـ أي بعد اعلان الاستقلال في 1/1/1956 ـ أصدر اللواء حسن بشير نصر قراراً بضم منطقة شالي الفيل بمن فيها من قبائل الاودوك إلى مديرية النيل الأزرق مما أدى إلى تقسيم تلك القبيلة بين مديريتي أعالي النيل والنيل الأزرق، وكانت الأخيرة تدار يومذاك من واد مدني. قرار حسن بشير لم يكن استجابة لدواعي ادارية، بل كان قراراً أمنياً أراد به نظام عبود احكام السيطرة على تلك المنطقة خشية من اقتحام ''المتمردين'' لها مما يهدد أعمال التشييد في خزان الرصيرص في ذلك الوقت.
    موضوع حدود المديريات الجنوبية اثير كقضية ذات بُعد سياسي للمرة الأولى بعد الاستقلال في مفاوضات أديس أبابا. كان علينا أن نقرر أين يبدأ وأين ينتهي الجنوب، خاصة وقد أثار المفاوضون الجنوبيون قضية ابيي في ذلك الاجتماع، كما تساءل مفاوضون شماليون عن وضع القيقر والرنك. ازاء ذلك الجدل اقترح الراحل جعفر بخيت صيغة أصبحت هى الأساس للمادة 33 من الباب الثاني من قانون الحكم الذاتي الاقليمي وهى المادة التي تُعَرف الجنوب. تقول المادة: المديريات الجنوبية هى ''مديريات بحر الغزال والاستوائية وأعلي النيل وفق الحدود التي كانت عليها في 1/1/1956 وأي مناطق أخرى كانت جغرافياً أو ثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي حسبما يُقَرر عبر الاستفتاء''
    لعل في هذا ما يرد على بعض التساؤلات التي لم يخلُ بعضها من المزح. ففي مقال للصديق ابراهيم منعم منصور (الأيام 2/6/2004) ورد تساؤل منسوب للعميد المتقاعد محجوب عبد الفراج عن مآله بعد أن تطاول الحديث حول حدود جنوب السودان إلى جبال النوبة، والنيل الأزرق، وابيي. سأل العميد المَزاح هل ستمتد تلك الحدود أيضاً إلى الموردة. السؤال، فيما أحتسب، لا يتجاوز أفاكيه العميد، ولكن بعض الأمور جَدُها جَدٌ وهَزلُها جد، خاصة وقد كان مقال ابراهيم، في جانب منه، تصويراً لسيناريو يوم الهول طرةDoomsday Scenario الهول هو انفصال الجنوب، وبالطبع من باب العقل أن يأخذ الانسان الأمور بأوثق وجوهها حتى لا يُسبق على أمر. من ذلك السؤال عما الذي ينبغي أن يفعل الشمال إن وقع الانفصال. الانفصال، بلا شك، داهية إلا عند أصحاب المنبر الذين يسعدهم أن يذهب الجنوب، بل أن يتفكك السودان كله حتى يستأثروا بالشمال ليقيموا فيه الدين كما يزعمون. وفيما نقدر، لن يقيموا في بلادنا غير دويلة صاخبة الفقر تسيطر عليها دهماوية دينية ليس لها من دين القَيمة نصيب. الكُساح الفكري ـ ولا أقول الخيلاء الفكرية ـ هو الذي يجعل أصحاب المنبر، ومن لف لفهم، يتمنون أن يتقوقع السودان مكانياً وينغلق زمانياً، وهذا محال.
    أعود لمقال ابراهيم لأقول إن الإستحاطة (اسم مبالغة في الاحتياط) في الأمر تستلزم منا التفاكر في كيف نتفادى الهول، لا كيف نستقبله. ذلك لن يكون إلا بإعادة بناء السودان على أسس جديدة حتى يرى فيه الجنوبي كما يرى الشمالي وجهه، وتتعايش فيه الأديان في تسامح واحترام، وتُسخر فيه الموارد البشرية والطبيعية كلها للارتقاء بأهله جميعاً، ويصبح كل شبر من أرضه مهاداً وطيئاً لا يؤذي جنب أحد من أبنائه وبناته.
    سؤال العميد، جداً كان أم هزلاً، يعود بي إلى نقاش لاجب دار خلال مفاوضات أديس ابابا. أقترح أحد المفاوضين الجنوبيين عند مناقشة كيفية تمويل مشروعات التنمية في الجنوب فرض ضرائب على كل الجنوبيين عبر القطر وخارج السودان. ذلك الاقتراح قابله أبيل ألير بإعتراض شديد قائلاً: '' ان الاقتراح سيخلق تعقيدات لا حاجة لنا بها إذ ما هو المعيار الذي نحدد به من هو الجنوبي في الشمال؟''. ولعل نفس الصورة التي أراد العميد رسمها هى التي تراءت يومذاك في مخيال أبيل ألير. الأمر، على أية حال، انتهى إلى الاتفاق على أن تكون الاقامة هى الأساس لفرض الضرائب في الجنوب على الجنوبي والشمالي معاً. هنا يجدر أن نضيف أن اتفاقيات السلام الراهنة تتيح في خلال الفترة الانتقالية الحرية كاملة لانتقال رأس المال والسلع والعمالة بين الشمال والجنوب.
    من السذاجة الظن أن التوقيع على الاتفاق سيزيل لوحده عدم الثقة التي عشعشت في رؤوس الكثير من الجنوبيين بسبب السياسات الخاطئة التي ظللنا ننتهجها طوال نصف القرن الماضي. تلك العشاعش قادت لاستقطاب شمالي ـ جنوبي حاد، زادت حدته بتحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية. لهذا فإن الضمان الأكيد لوقوع الانفصال هو الابطاء في تنفيذ ما نصت عليه اتفاقيات السلام، أو تخذيل الذين عزموا على إنفاذها، أو في الظن بأن نصوص الاتفاق تعني غير ما، أو أقل مما، تعنيه. ويقيني أنه رغم وجود تيار كبير بين مثقفي الجنوب لم تَعُد في قلوبهم أية مساحة للثقة في احترام الطبقة السياسية الشمالية لوعودها، إلا أن ما نسميه قوى السودان الجديد في الجنوب، التي تمثل نوعياً كياناً جد مؤثر، لهى أشد حرصاً على وحدة السودان من بعض مثقفي الشمال الذين ما زالوا يعتقدون أن الوحدة يمكن أن تتحقق بتعبئة النبيذ القديم في قناني جديدة. هؤلاء لم يُقَدروا بعد أن للوحدة ثمناً يدفع.
    قوى السودان الجديد هذه تنظر إلى أفق سياسي قد يتجاوز حدود بلادنا، ولا سبيل لها للعبور إلى تلك الآفاق إلا من مركز انطلاق وطني قوي. مركز الانطلاق هذا هو السودان الموحد المستقر، المُدرك لعناصر قوته المادية والروحية، العليم بتعدد وتنوع خصائصه، الواعي بما في هذا التنوع والتعدد من إثراء، القادر على تنمية موارده وادارة نفسه وتطوير قدراته. هذه هى معالم السودان الموحد الذي تتمنى، بل تسعى قوى السودان الجديد لتأسيسه. أما تجار النبيذ القديم فأغلب الظن أنهم لا يبتغون غير استمرار الهيمنة القديمة، وفي هذا لا يعبرون إلا عن خيلاء فكرية تنبعث من موروثات عنصرية أعجزتهم عن اكتناه عناصر القوة في الشخصية السودانية المركبة. والعنصرية، في نهاية الأمر، لا تنبئ إلا عن سخافة في التفكير ودناءة في القيمة الانسانية.
    هذا السخف والدناءة لايعبران، لحسن الحظ، عن احساس السوداني العادي الذي لا يطمع إلا في السلام والأمن والاستقرار والعيش الكريم. ولعل الذي يُطمئن المرء هو قدرة عامة الناس في السودان (جنوبيين وشماليين) على التساكن الآمن، والتفاعل المثمر مع بعضهم البعض رغم كل أهوال الحرب، والعزوف الكامل عن الاستجابة لمتتاليات الانفعال المصطنع الذي تؤجج نيرانه طائفة من المثقفين، وأشباه المثقفين. لهذا لم يتحول السودان، رغم الحروب، إلى رواندا.
    لست أيضاً من الغباء للظن أن جميع أهل السودان قد أصبحوا ملائكة خليت أنفسهم من مشاعر الاستعلاء والحَمية، فما زال بيننا من في ''قلوبهم الحَمية حَميةَ الجاهلية''. ولكني جد موقن أن استثارة هذه المشاعر بهدف تسعير الغيظ ضد الآخر، أو الاغراء بالحقد عليه ـ في الشمال كان ذلك أو الجنوب ـ لا تجئ دوماً إلا من نُخب تملكتها رؤى وأفكار، منها النبيل ومنها ما هو أقل نبلاً. هذه النُخب تسعى في بعض الأحيان لتسويق رؤاها وأفكارها باستثارة أدنى ما في الانسان: الموروثات البيولوجية، وفي هذا المجال، سعدت كثيراً بتجربة مررت بها هذا العام لأنها كشفت لي عن جوهر أهل السودان. ففي افتتاح مؤتمر الحزب الاتحادي الديموقراطي في القاهرة (4/5/2004) اعترضني رجل التقيته للمرة الأولى وقدم لي نفسه: حسن نمر عمدة الجعليين. استقبلت الرجل بما يجدر أن يستقبل به مثله من ترحاب، ثم استمعت لما أراد أن يُفضي به الى. قال: ''لي رسالة أرجو أن تبلغها للدكتور جون قرنق إن لم يكن قد أبلغها له ياسر عرمان الذي حَمَلته نفس الرسالة إبان زيارة وفد الحركة للخرطوم''. قلت: ''ما رسالتك؟ أجاب: '' أبلغه أن الذين يرموننا بالعنصرية لا يعرفوننا، وأنقل له أنني سأكون على رأس مستقبليه في الخرطوم لاصطحبه معي للمتمة ليشرب القهوة مع أهلها''. قصة شرب قرنق القهوة في المتمة أسطورة روجها سخفاء العقول لتأجيج الغضب الشمالي ضد قرنق بالايحاء بأن كل الذي يبتغيه هو اذلال الشمال، ولكيما يبلغ الإذلال غايته اختاروا هدفاً له أهل الدروع والخيل.
    اهذه الاستثارة الغبية لعامة الناس من جانب سخفاء العقول تعود، في كثير من الأحوال، للخوف المرضي الذي ينتاب هؤلاء من الاختراق الفكري الذي أحدثته الحركة في الشمال، خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة. وان كانت القوى السياسية في الشمال (أياً كان موقعها) قد قبلت التفاعل مع الحركة انطلاقاً من أن ذلك التفاعل هو الذي سيقود لوحدة السودان، أي انطلقت من دوافع وطنية سياسية، وإن كان أصحاب المصالح (التجار ورجال الأعمال) سيتعاملون مع الواقع الجديد في الجنوب والجبال والشرق بشكل ايجابي طالما ضمنوا حماية مصالحهم، وتوفر لهم الاستقرار الذي تربو معه أموالهم وتتوسع أعمالهم، فأن الجيل الجديد الذي يستقبل أفكار الحركة بترحاب لا يفعل هذا إلا لكفرانه بما ظل يرى ويسمع في الساحة السياسية الشمالية. النموذج السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تطرحه الحركة، والذي لم يُجرب من قبل، هو الذي يؤرق بال أصحاب الرؤى والأفكار لأن نجاح ذلك النموذج لن يكشف فقط على العالمين العُري الفكري لمن ظلوا يتساعون للسيطرة على ساحة الفكر السياسي لبضع عقود من الزمان، بل وسيعريهم تماماً أمام أهلهم.
    إئتجاج نيران التباغض بين السودانيين نتيجة سوء الفهم أمر ضار، ولكن تأجيجها جريمة. أشد جرماً أن عامة أهل الشمال، بسبب تلقيح الفتن، يعاقبون مرتين: مادياً ومعنوياً. العقاب المادي يتمثل في التخلف والفقر المذل، وما رمانا الله بفقر مدقع إذ أغنانا بموارد نُحسد عليها. الفقر المذل، والذي حمل أغلب أهل الريف السوداني في الشمال على الرضى بالدون من المعيشة، نتاج للسياسات التي فرضتها النُخب الحاكمة، ومنها الحرب لفرض الوحدة قسراً، والاستهانة بمعاناة أهل الأطراف الأكثر فقراً، وسوء ادارة الاقتصاد. فلئن تأتى بعض النُخب لتسقط كل أحمالها الفكرية والنظرية التالفة على جميع أهل الشمال، وتُحَملهم باسم الدين تارة، وباسم الهُوية الثقافية تارة أخرى، المسئولية المعنوية على تلك الحرب فإن هذا لأيم الحق جناية لا تغتفر. لهذا السبب يخطئ المثقف الجنوبي الذي لم يدرك ـ ولا يريد أن يدرك ـ عمق المشكل السوداني عندما يلقي بالمسئولية عن كل ما عانى منه الجنوب على أهل الشمال بلا تمييز، فالموزور الذي ركب الوزر كله شرائح اجتماعية محددة، وطبقة سياسية معينة، استحوذا على الثروة أغلبها، وهيمنا على السلطة التي تُحمي بها تلك الثروة، فوقع الاقصاء للبعض. وكان لهذا الاقصاء تداعيات دفعت بأهل الريف في الشمال نفسه، والعاطلين من أهل المَدَر إما إلى البيود أو إلى حافة الفقر.
    ع فالسؤال نبقى أو لا نبقى، تساؤل وجودي لا صلة له بالهُوية الثقافية، ولا بالدين، ولا بحماية ''الأرض والعرض''، وإنما له كل الصلة باعادة ترتيب البيت الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى نُدرك ما فاتنا ونلحق لا بكوريا، أو الهند، أو ماليزيا وإنما بسنغافورة المدينة/الميناء التي حازت على الاستقلال بعد استقلال السودان بقرابة عقد من الزمان، ولا تملك من الموارد غير قدرات أهلها، ومع ذلك بلغ ناتجها القومي الاجمالي، كما قلنا، سبعة أضعاف ناتجنا القومي.
    نقطة أخيرة نقف عندها لما صحبها من التباس، وتتمثل في السؤال: لماذا يستأثر الجنوبيون بحكم الجنوب ويريدون أيضاً المشاركة في حكم الشمال؟ السؤال خاطئ لأنه ينطلق من افتراض خاطئ. فالحكم الذي سيشارك فيه الجنوبيون كمجموعة اقليمية ليس هو حكم كردفان والشمالية وكسلا، بل ولا هو حكم ولاية الخرطوم (باعتبار أن العاصمة القومية شئ وولاية الخرطوم شئ آخر). الذي سيتشاركون فيه الحكم هو الحكومة القومية، حكومة كل السودان التي شاءت الظروف أن يكون مقرها في الشمال. وإن كنا نتحدث عن سودان موحد فان المظاهر السياسية والادارية لهذه الوحدة هى البرلمان القومي، والحكومة القومية، والخدمة المدنية القومية، والقضاء القومي، وطبيعي أن يكون للجنوبيين ـ كما لغيرهم من أهالي أقاليم السودان الأخرى ـ مكان في هذه المؤسسات.
    هناك، بلا شك، مبرر للالتباس لأن الوضع الذي خلقته ماشاكوس وضع غير طبيعي إذ يخلق ثلاثة مستويات في الحكم بصورة غير متماثلة أو متسقة Asymmetrical فإلى جانب الحكومة القومية التي تدير كل السودان من العاصمة القومية، هناك أيضاً حكومة مركزية جنوبية تشرف على، وتنسق، أداء الولايات الجنوبية ليس لها نظير في الشمال. غياب ادارة نظيرة تشرف على، وتنسق، أداء الولايات الشمالية يوقف ذلك الواجب على الحكومة القومية (والتي يشارك فيها الجنوبيون). وبالرغم من مطالبة مفاوضي الحركة بقيام مثل هذا النظام أصر مفاوضو الحكومة على رفضه، ربما لما فيه من شبهة الكونفدرالية. ذلك الخوف لم يكن له ما يبرره لأن الكونفدرالية لا يعبر عنها التركيب المعماري للدولة ولا النعوت، بقدر ما هى منظومة دستورية تحقق ديمـوقراطية المشاركة، Participatory Democracyٌّ، وازدواجـية السـلطةDuality of Power واللامـركزية Decentralization. هذا موضوع نعود اليه عند الحديث عن الدستور في مقال يتلى.
    الهاجس الذي دار في رأس مفاوضي الحكومة هو نفس الهاجس الذي كان يدور في رؤوسنا خلال محادثات أديس أبابا، وأعترف أننا أخطأنا يومذاك خطأً بالغاً، رغم اختلاف الظروف والملابسات وانخفاض سقف مطالب الجنوب. فعند تداولنا حول موضوع السلطات التي يجب أن تُمنح للاقليم الجنوبي باعتباره اقليماً متفرداً ذا خصوصية أبدى أحد مفاوضي الجنوب (اوليفر البينو) خشيته من خلق نظام تصبح فيه حكومة الشمال هى نفس الحكومة القومية. لأجل ذلك اقترح البينو نظاماً فيدرالياً يتكون من ولايات الجنوب والشرق والغرب والشمال بسلطات متوازية، على أن تكون السلطة القومية مستقلة عن، وفوق، هذه الولايات جميعاً. ذلك الرأي رفضناه جميعاً بمن فينا السيد أبيل ألير، ولعلنا لو قبلناه لخلقنا أساساً أمتن لفيدرالية حقيقية.
    مهما يكن من أمر، فأن هذا الوضع غير المتماثل ليس بدعة، فله أشباه. واحد من هذه الأشباه هو الوضع الذي نجم عن منح سلطات تقارب السلطات الولائية لاقليم اسكتلندا ومقاطعة ويلز في بريطانيا قبل بضع أعوام، وفي اطار خطة توني بلير لتوسيع لا مركزية الحكم. حسب تلك الخطة أصبح للاقليمين (اسكتلندا وويلز) برلماناهما وحكومتاهما اللتان تقرران في أمور عديدة حددها القانون، خاصة في مجالات التعليم، الصحة، النقل، الادارة المحلــــية. هـــذا الحـــق لم يمنــــح لإقلـــيم انجلترا وبالتالي أصبحت جميع القوانين التي تخضع لها انجلترا، حتى وإن كانـــــت غـــير ذات طابـــــــع قومي شمـــولي، تصدر من البرلمان البريطاني الذي يضم في عضويته أعضاء من اسكتلندا وويلز.
    أختم قائلاً إن الاجابة على السؤال نكون أو لا نكون ستكون جد سهلة لو أسبقنا ذلك السؤال بسؤال آخر؟ كيف وصلنا للدرجة التي بدأنا فيها التشكك في قابليتنا للوجود والبقاء؟
    في هذا المقال، وذلك الذي يليه ننتقل للحديث عن موضوعين اتسم الحديث حولهما بتخليط معرفي سببه استحواذ الأوهام على عقولنا دهوراً. الموضوعان هما قضية جنوب السودان بتداعياتها التى انتهت إلى المطالبة بحق تقرير المصير، وقضية المناطق المهمشة التي أدى التهوين من شأنها إلى توقد النيران في الشرق والوسط والغرب. ورغم اتساع الأمر وتفاقمه، بل رغم التجارب التي أثبتت أن ليس في الأوهام التي استعمرت عقولنا خيرٌ يُغتبط به، ما فتئت الأوهام تتناسخ، وما زلنا نتلوى على تلك القضايا ونتمارى فيها مراءً ظاهراً. نطلق على ذلك الاستعمار العقلي اسم الأوهام لأنه يتجاهل الواقع، ويتعامى عن المآسي والكروب التي تحيط بنا، ويبتني الأحكام كلها على أنصاف الحقائق، إن لم يكن على أشباهها.
    ////////////////////////////
    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال (4(
    المناطق المُهمشة: خيار بين الحيف والسيف
    تعبير المناطق المهمشة الذي أشاعته الحركة في خطابها السياسي وَصفٌ علميٌ محايد لظاهرة اجتماعية/ اقتصادية/ سياسية دون أن يكون له أي بُعدٍ عرقي أو ديني. فالوصف أُطلق على مناطق في السودان ظلت تعاني، أكثر من غيرها، من آثار التنمية غير المتكافئة. وما فتئنا منذ أكتوبر 1964 نحدد الوصفات لعلاج هذه الظاهرة وعلى رأسها التنمية المتوازنة، التي نسميها أيضاً التنمية المتوازية، وطوراً التنمية المتوازنة المتوازية. كل هذه الاصطلاحات أو التسميات شابتها سيولة بسبب العجز عن، أو عدم الاتفاق على، بلورة إطار مفهومي يستوعبها. باختصار، التعبير يعني التخلي عن النهج التنموي الموروث منذ الاستعمار. هذ أمر لم يتحقق لأننا، وفي كل عهد من عهود الحكم منذ أكتوبر 1964، ما أتينا للتطبيق حتى سرنا في صياغتنا لخطط التنمية على نفس المنهج القديم الذي ورثناه عن خالد الذكر السير جون كارمايكل، السكرتير المالي لعموم السودان.
    تعبير الهامشية أو التهميش لم ينحته قرنق أو يُرَكبه، بل هو تعبير شائع في الأدب وله دلالاته المفهومية. ففي علم الاجتماع، مثلاً، يعالج الباحثون حالة يطلقون عليها ''الهامشية'' (Marginality) وهى دوماً مرتبطة بالسيطرة: سيطرة مركز على أطراف، أو جماعة مهيمنة على جماعات مستضعفة. وعلى الصعيد الاقتصادي يُعَبر التهميش عن نماذج للإقصاء أو الحرمان ( (Patterns Of Exclusionمن الرخاء النسبي في المجتمع أو الوطن المُعين. هذا التعبير يدرك معناه أي مساعد تدريس لعلم الاقتصاد في جامعاتنا، ولا ذنب لقرنق أن ضَمنه في خطابه السياسي السائر ربما رغبة منه في الارتقاء بذلك الخطاب عن اللغو، واللغو ما لا يُعتَد به من كلام. التهميش أصبح تعبيراً محورياً في رسالة الحركة الشعبية بحيث لم يَعُد يقف فقط عند التهميش الاقتصادي والسياسي على المستويات الاقليمية بل يشمل، إلى جانب ذلك، التهميش النوعي (المرأة)، والتهميش الجيلي (الشباب). لم نقصد السفسطة بالاشارة إلى مدلول الكلمة، ولا نبغي بها الحذلقة، وإنما هى مدخل لحوار سيجئ في آخر المقال مع الصديق الباحث محمد أبوالقاسم حاج حمد الذي روى أن ما تردده الحركة عن التهميش هو ''محض ادعاء عنصري''، (البيان، 1/5/2004).
    وراء هذا ''الادعاء العنصري'' المزعوم تاريخ، وتاريخ طويل سنوضح بداياته وتداعياته. لقد قضى الواقع الجغرافي في السودان أن يكون أغلب ضحايا المعاناة الأكثر حدة (فالسودان الريفي كله يعاني) من آثار التنمية غير المتكافئة، مناطق بعضها محاد للجنوب (النيل الأزرق وجبال النوبة)، أو جماعات من غير العرب (البجة، الفور، النوبة، الانقسنا). ولئن تحالفت أو توحدت هذه الجماعات لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية، فلا ذنب لها في التوحد رغم ما يمكن أن يتوهمه الآخرون حول طبيعة التوحد أو التحالف. ولجوزيف ستالين قالة في أثر الجغرافيا على السياسة. حذر ستالين دولة فنلندا من اتخاذ أي موقف سياسي يضر بمصالح الاتحاد السوفيتي بما في ذلك التنسيق السياسي والعسكري مع الدول اللصيقة بها (دول سكاندناوه). قال لمحاوره الفنلندي إن خيار فنلندا الوحيد هو الحياد بين الكتلتين (الغرب والشرق)، كما قال له أيضاً: ''قد يكون لكم رأي آخر ولكني لست مسئولاً عن الجغرافيا''. فحوى القصة ـ حتى لا يذهب بها القارئ مذهباً قصياً ـ هو أن الجغرافيا قد تفرض واقعاً لا سبيل لتجاهله. لهذا فأن وصف التحالفات التي فرضتها أوضاع اقتصادية وسياسية معينة على أصقاع جغرافية محددة في الوطن بالتحالفات الإثنية لا يعين كثيراً على الوعي بجذور المشكلة. ليس هذا فقط، بل أن القراءة الخاطئة للواقع قد تحمل البعض منا على محاربة طواحين هواء، أو إلى تعميق المخاوف والشكوك بين الناس ودفعهم إلى استبطان تلك الشكوك ضد بعضهم البعض. النظرة الخاطئة لظاهرة التهميش ـ أي النظرة اليها من منظور إثني يتغافل عن جذورها ـ قد يقود أيضاً إلى أحكام تفتقد الفطانة مثل اتهام أبناء جنوب النيل الأزرق، ورثة مملكة سنار التي وطنت اللغة العربية في بلاط الحكم، بالعداء للعروبة. أو وصف النوبة الذين اتسعت أرضهم للاسلام بجانب الديانات الأخرى منذ قرون، أنهم أعداء للاسلام. أو نعت الفور والنوبة والبجة جميعاً بالعنصرية، لا أكثر ولا أقل متى ما ارتفع لهم صوت ضد السياسات التي لا تُفضي إلا لتعميق اقصائهم من مراكز صنع القرار.
    وقبل أن تبرز الحركة الشعبية للوجود كانت للمنعة السياسية التي تملكها الجنوبيون بحكم وزنهم في البرلمان السوداني، كما كان لحرب الجنوب نفسها، أثر في تكييف المواقف السياسية لهذه المجموعات. ولعل أول من فطن إلى ذلك التهميش وسعى لإبانة تخومه ـ حتى وإن كان ذلك بأسلوب كاريكاتيري ـ هم البجة. فعلى عهد رئيس الوزراء عبد الله خليل (195 قدم الدكتور طه عثمان بليه مطالب أهله (مؤتمر البجة) في مذكرة تضمنت ما يلي:
    1- معاناة الاقليم من سياسات المركز غير العادلة.
    2- رفع نمو ووعى المواطن البجاوي.
    3- تدهور مرافق الاقليم أو غيابها أصلاً.
    4- غياب المشاريع التنموية وايقاف انشاء المشاريع التي تضر بالرعي.
    هذه شكاة واضحة تُنبئ بالكثير، وتُنذر بالخطير. فالنقطة الأولى لم تترك زيادة لمستزيد حول احتجاج أحد الأطراف على سياسات المركز، أي تهميش المركز للأطراف. كما تعبر النقطتان الثانية والثالثة بوضوح عما أسميناه الاقصاء أو الحرمان. أما النقطة الرابعة فقد أثارت، بوجه خاص، اهتمامي لأنها كشفت عن وعي بالحدس الفطري عن المخاطر البيئية قبل أن يقوم للبيئة مؤتمر دولي (استكهولم 1972)، أو ينشأ برنامج أممي لها، أو يتصدى من تصدى للتحذير من التنمية غير الصديقة للبيئة. مؤتمر البجة حوصر ثم فُكك على يد حاكم شمالي (ابراهيم عبود) نشأ في ديار البجة، ولكنه، كحالنا، أصبح يفكر بعقلية الوسط المهيمن.
    قام أيضاً اتحاد جبال النوبة في عام 1965 عقب انتفاضة أكتوبر عندما صَدَق أبناء الجبال أنها اطلالة صبح جديد على كل السودان، أولم يتغنى الحادي: ''أصبح الصبح''. ما هى مطالب اتحاد الجبال؟ تركزت تلك المطالب في التمكين السياسي ثم المعاملة الانسانية التي هى أدنى ما يطالب به بشر سوي. كما تناولت وجوب تمثيل أبناء الجبال لأهلهم بدلاً من استيراد المرشحين البرلمانيين من الشمال، وحقهم في المشاركة في مراكز صنع القرار القومية (الحكومة والخدمة المدنية)، وتوفير الخدمات الأساسية، والغاء السُخرة. وسبق قيام اتحاد الجبال حركة في دارفور نبهت إلى حرمان ذلك الاقليم من الخدمات والمرافق، هى حركة سوني التي كان قوامها المسرحين من الجيش بعد حرب الجنوب الأولى. ولعل الذي لا نستذكره أبداً أن قوام الجيش السوداني كله في حروب الجنوب من الجنود وضباط الصف هم أبناء الجبال ودارفور. هؤلاء كانوا أيضاً هم العمود الفقري لكل مشروعات انتاج القيمة في السودان الوسيط. أو يكون هؤلاء هم الذين عناهم أحمد عبد المُعطي حجازي بـ ''الذين يُدعونَ للموت ويُقصون من مجالس الفتيان''. هذه المجالس في بلادنا هى التي تُحل وتُعقد فيها الأمور، بما في ذلك أمور الحرب.
    أنا الذي ما ذقت طعم الضان
    أنا الذي لا حول لي أو شأن
    أنا الذي أُقصيت من مجالس الفتيان
    أُدعى إلى الموت
    ولا أُدعى إلى المجالسة
    هذه المجموعات كلها كانت تتآلف مع الجنوب، كما كانت الأحزاب القومية (أي الشمالية) تتحالف وتتخالف داخل البرلمانات مع الجنوب ومع بعضها البعض. في تحالفاتهم تلك تجاوز المهمشون فوارق اللغة والدين والعرق وخلقوا ترابطاً عابراً للاثنيات جمع بين محمد أحمد عواض وأبيل ألير، وبين فيليب عباس غبوش و أحمد محمد باكاش. كون ذلك التحالف ما أُسمى تجمع الأحزاب الاقليمية الذي عبر عن رأي موحد حول وضع الكيانات الاقليمية في الدستور ـ أي حول لا مركزية الحكم ـ تقدموا به إلى مؤتمر عموم الأحزاب. ذلك المشروع قوبل بالرفض من الأحزاب ''القومية'' بحسبانه مشروعاً ''عنصرياً''. ومنذ تلك اللحظة أصبح من الجلي أن الكلمات لم تعُد تعني ما ينبغي أن تعنيه.
    إطلاق وصف العنصرية على مجموعات سياسية ذات مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية معلومة هو محاولة للاستئصال المعنوي للواقع، والاستئصال المعنوي لا يلغي الواقع. ثم ما الذي يجعل الجنوب والفور والبجة والنوبة الذين يمثل مجموعهم ما يقارب ثلثي أهل السودان تكتلاً عنصرياً ، ويجعل من عداهم كياناً قومياً؟ من الواضح أن الأحزاب لم تكن تريد إلا الإبقاء على نموذج الهيمنة السياسية المركزية رغم تململ الأطراف بما فيها تلك التي يفترض أنها تمثل العمق السياسي لتلك الأحزاب. الأحزاب أيضاً لم تكن تمانع في الابقاء على النموذج الاقتصادي الاستعماري الموروث رغم مجاهرتها بالرغبة في تغييره عبر نهج تنموي متوازي. هل كانت الأحزاب حقاً تعرف ما تريد؟ أو كانت تعرفه ولكنها لا تعرف السبيل إلى تحقيقه؟ أو أنها كانت لا تبتغي غير احتكار أدوات اللعبة السياسية بصرف النظر عن الأهداف والمقاصد؟
    هذه الاستهانة بل يؤسفني أن أقول الغباء السياسي ـ هو الذي قاد لتمرد سياسي في معاقل هذه الأحزاب. ففي انتخابات 1965، مثلاً، اكتسح مؤتمر البجة كل دوائر البجة وهى على وجه التحديد: ريفي كسلا، القاش جنوب، القاش شمال، أروما الشرقية، أروما الوسطى، أروما الغربية، أروما الشمالية، الاوليب، عيتباي، سيدون، طوكر الشمالية، بورتسودان الغربية. دوائر ثلاث هى التي نجحت فيها الأحزاب ''القومية'' : بورتسودان الشرقية (مأمون سناده، اتحادي)، طوكر الجنوبية (موسى حسين ضرار، مستقلاً)، كسلا (عمر عثمان نافع، حزب الأمة). نتيجة لذلك الاكتساح تداعى الدومينو إذ أعلن الناظر تِرك (القاش جنوب) ومحمد أحمد عواض (ريفي كسلا) انضمامهما لمؤتمر البجة وكان الأول قد فاز في لائحة حزب الأمة، والثاني في لائحة حزب الشعب الديموقراطي. أبلغ تعبير عن ذلك التمرد السياسي جاء على صفحات هذه الجريدة، وعلى لسان رجل هو أبعد ما يكون عن العنف. قال أبيل ألير عضو البرلمان عن دائرة بور الجنوبية، والمتحدث الرسمي باسم الجماعات الاقليمية: ''ان كانت الأحوال في غرب السودان وشرقه رديئة فإن السخط والتبرم سيجتاحانهما قريباً وقد ينقلب السخط إلى تعبير أكثر عنفاً مما نراه الآن في جنوب السودان'' (الرأي العام 6/1/1969). هذا ما كان ينبغي أن تسمعه الأحزاب لولا أن الآذان قد وقَرَت عن سماعه، وهذا ما رأته ببصرها ولكن خانتها البصيرة. ومن لا يرى ببصيرته فلن يهتدي.
    للتهميش وجهان، وجه سياسي/اداري، وآخر اقتصادي ولا علاج لكليهما إلا بالتمكين (Empowerment ): التمكين السياسي والتمكين الاقتصادي. التناول التفصيلي للقضيتين يجئ في مقالين يليان، أحدهما حول نظام الحكم والثاني حول التنمية الاقتصادية، مع ذلك، يُستحب هنا أن نبين باقتضاب، لكي لا ينقطع الحديث، كيف تعاملت الأنظمة المتعاقبة مع هذه القضية بعد التمرد البرلماني في انتخابات 1965 وحتى انتفاضة أبريل، وما الذي كان يتوجب عليها أن تفعل.
    نظام مايو، الذي أعقب الديموقراطية الثانية، سعى لمعالجة قضية نظام الحكم على مستويين، مستوى الجنوب بتطبيق مقررات لجنة الاثنى عشر، ومستوى الاقاليم عبر قانونين، الأول هو قانون الحكم الشعبي المحلي .1971 والثاني قانون الحكم الاقليمي .1981 القانون الأول، في حقيقته، تطوير لنظام الحكومات المحلية الذي وضعه المستر مارشال في عهد الاستعمار ثم أقدم على اعادة صياغته الأستاذ عبد الرحمن علي طه في الفترة القصيرة التي وُلى فيها وزارة الحكومات المحلية قبل انقلاب عبود. أما الثاني (قانون الحكم الاقليمي لعام 1981) فقد مُنحت بموجبه الاقاليم الشمالية (الولايات) سلطات أوسع من تلك التي كانت تتمتع بها في الماضي دون أن تصل إلى ما طالب به اوليفر البينو في محادثات أديس أبابا بالنسبة للولايات الشمالية. كما استجاب قانون 1981 لمطلبين قُدِما لمؤتمر عموم الأحزاب: الأول مطلب أبناء الجبال بأن يستقل اقليمهم عن اقليم كردفان، والثاني مطلب البجة باستقلال اقليمهم عن كسلا. الاستجابة للمطلبين قادت إلى قيام محافظتي كسلا والبحر الأحمر. وعلى أي، ظل كعب أخيل لذلك الاصلاح هو أنه تم في اطار حكم شمولي. وإن كانت اللامركزية في الحكم هى الترجمة العملية لديموقراطية المشاركة في صنع القرار على أدنى المستويات، يصبح من غير المنطقي بناء حكم ديموقراطي لا مركزي في أطار نظام يقوم من أساسه على الهيمنة المركزية، حتى وإن أُسميت مركزية ديموقراطية.
    على الصعيد الاقتصادي لم يكن نظام مايو أحسن حظاً ممن سبقه في تحقيق التمكين الاقتصادي، أولاً بسبب بقاء التشوهات الهيكلية في الاقتصاد رغم الشعارات التي رفعنا مثل ''تحقيق التوازن في النمو بين القطاع الحديث والقطاع التقليدي وبين أقاليم السودان المختلفة'' (البرنامج الاقتصادي للاتحاد الاشتراكي). السبب الثاني (وهو ذو صلة مباشرة بلامركزية الحكم) يتعلق باختلالات بيروقراطية جعلت الاقاليم دوماً تحت رحمة السلطة المركزية، خاصة فيما يتعلق بتوفير المال. وكان ذلك يحدث حتى في بعض الحالات التي خول فيها القانون لحكام الاقاليم سلطة الانفاق والادارة المالية.
    وعقب سقوط نظام مايو كان من المفترض أن تتوجه الانتفاضة التي جعلت شعارها ''مليون شهيد لعهد جديد''، أول ما تتوجه، لهذا التجديد. فما هو الجديدالذي أتت به؟ دعا ميثاق الانتفاضة للآتي:
    1- العودة لدستور السودان المؤقت 1956 المعدل 1964 مع مراعاة الالتزام بالأهداف الواردة في الميثاق ومراعاة تمثيل القوى الحديثة في المؤسسات الدستورية عن طريق تنظيماتها الديموقراطية.
    2- كفالة كرامة وحريات المواطنين الأساسية في التنظيم والتعبير والعقيدة والعمل والتنقل والحريات الأخرى كافة الواردة في المواثيق الدولية لحقوق الانسان.
    3- حل قضية الجنوب في اطار حكم ذاتي اقليمي يقوم على أسس ديموقراطية.
    4- التحرر من التبعية للامبريالية العالمية وخلق بنية اقتصادية اجتماعية تحقق الكفاية والعدل وذلك بالتصدي الجاد والحاسم للأزمة الإقتصادية عن طريق تنمية الثروات والموارد الوطنية وتعبئة الموارد القومية لمواجهة الجفاف والمجاعة والغلاء وشح المواد التموينية.
    5- تأكيد مبدأ الحكم اللامركزي وتقويمه على أسس ديموقراطية.
    دستور 1956، والذي لم يكن لنا أدنى فضل في صياغته، دستور جيد. ذلك الدستور أشرف على اعداده القاضي البريطاني ستانلي بيكر ليكون دستوراً للحكم الذاتي ولكن، في لهفتنا لاعلان الاستقلال من داخل البرلمان، اتخذناه دستوراً للسودان المستقل مع تعديلات شكلية. مشاكل السودان لم تبق فحسب، بل تَفَرعن نباتُها وأشتد عوده. لم يكن ذلك بسبب الدستور، وإنما بالرغم عنه. لهذا لا تثريب على مهندسي الانتفاضة إن نادوا بالعودة إلى ذلك الدستور، ولكن الفعل الذي يُثَربُ عليهم هو إنحصار اهتمامهم ـ عند استدعائهم لذلك الدستور ـ في الأمور التي ظلت دوماً محور اهتمام النُخب السياسية الحَضَرية: الحقوق المدنية، تمثيل القوى الحديثة، الديموقراطية الاجرائية. هذه هى الأمور التى تواصى مهندسو دستور الانتفاضة على ''مراعاتها'' عند اقرار الدستور وكأن ليس في السودان مشكلة أخرى تقتضي المراعاة غير ''تمثيل القوى الحديثة''.
    أما التحول الاقتصادي، على الوجه الذي يحقق التمكين الاقتصادي، فمن الواضح أنه أصبح قضية مؤجلة إلى حين تحقيق قضية أهم هى تحرير الاقتصاد من ''التبعية للامبريالية العالمية''. أياً كان المعنى لذلك التحرير، وأياً كان معنى الامبريالية. والسؤال الثاني مهم جداً لأن المرء لن يصدق كيف يتجه نظامٌ عمادُ سياسته الاقتصادية هو انهاء التبعية للامبريالية، أول ما استتب له الأمر، إلى صندوق النقد الدولي للحصول منه على شهادة صحية (أو قل هى شهادة حسن سير وسلوك). لا مشاحة، الذي يعنينا هنا هو أن قضية التهميش، ببعديها السياسي والاقتصادي، لم تحتل الموقع الذي تستحقه في أجندة التغيير كموضوع مستقل بذاته، كان ذلك على مستوى الرؤية أو مستوى التنفيذ.
    الاهتمام بالمهمشين عقب الانتفاضة لم ينعكس حتى على المستوى المظهري الرمزي، لا لأن الرمزية تُغني عن الحل الناجع، ولكن لأنها تكشف ـ على الأقل ـ على قدر من الحساسية السياسية. ففي حديث نُسب للدكتور الجزولي دفع الله، رئيس مجلس وزراء الانتفاضة، أنه فوجئ بأن ثلثي أعضاء مجلس الوزراء ينحدرون من اقليم واحد في السودان، ولعله الاقليم الأوسط. لا ينتابني شك أن ذلك الأمر لم يكن أبداً قصدياً، أي أن الذين قاموا بانتقاء أعضاء مجلس الوزراء من النقابيين فعلوا ذلك عن عمد ووفق معايير اتفقوا عليها بهدف إقصاء الآخرين. الأمر أسوأ من ذلك، فالاغفال كان نتاجاً لاستهانة عفويةTaking For Granted) ) بقضية التهميش وبالمهمشين، ولهذا فلا عجب إن تَمَ اختيار الوزراء جميعاً من داخـل شبكة عـلاقات الصـبا Old Boys Net)). فباستثناء الجنوبيين الذين اختيروا في تلك الحكومة (لا بحكم انتماءاتهم المهنية ''القومية'' وإنما بحكم انتسابهم لاقليم معين)، لم يكن لأبناء المهمشين مكان في تلك الحكومة. أقول ''أبناء'' لأن التهميش النوعي طال حتى ولايات الشمال. أقطع أنه كان بين أبناء النوبة قانونيون، وبين أبناء دارفور زراعيون، وبين أبناء البجة أطباء، وبين أبناء الجنوب أساتذة جامعات، ولكل هؤلاء ما يؤهلهم لتولي المواقع التي ارتقى اليها رصفاؤهم من الشمال النيلي، أو على الأقل لم يكونوا أقل تأهيلاً مهنياً وحساً وطنياً من اولئك الرصفاء.
    مرة أخرى وفر التجمع الوطني الديموقراطي، وخاصة منذ يونيو 1995، أول منبر وطني تشارك فيه التنظيمات التي ظلت تناضل من أجل قضايا أهل الأطراف على الساحة السياسية، بوجه عام، وفي داخل البرلمانات المتعاقبة بوجه خاص. ذلك المنبر أتاح أيضاً لهذه الجماعات تقديم رؤاها حول قضاياها ذات الطابع الاقليمي باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أزمة أشمل هى أزمة الدولة السودانية. وفي هذا الشأن استقر رأي التجمع على ما يلي:
    × التأمين على أن قضايا السودان الوطنية لا يمكن حلها إلا عبر طريق حوار صريح، جاد ومستمر بين كل المجموعات الوطنية السودانية وعلى أن طبيعة وتاريخ النزاع السوداني قد برهن على أن السلام العادل والاستقرار في البلاد لا يمكن تحقيقهما عن طريق حل عسكري (الفقرة 10 من البيان الختامي لمؤتمر القضايا المصيرية).
    × الهيمنة الادارية المركزية على اقاليم السودان المختلفة قادت إلى تكريس التخلف في هذه الاقاليم وتهميش بعضها (مقدمة قرار حول شكل الحكم).
    وحول المناطق المهمشة التي اشتعلت فيها الحرب (الجنوب، جنوب النيل الأزرق، جبال النوبة، ابيي) قرر التجمع:
    × الاعتراف بأن ممارسة حق تقرير المصير توفر حلاً لقضية انهاء الحرب الأهلية الدائرة وتيسر استعادة الديموقراطية في السودان وتعزيزها واتاحة فرصة تاريخية فريدة لبناء سودان جديد قائم على العدالة والديموقراطية والاختيار الحر.
    × أن المناطق المتأثرة بالحرب هى جنوب السودان ومنطقة ابيي وجبال النوبة وجبال الانقسنا.
    × أن شعب جنوب السودان (بحدوده القائمة في أول يناير 1956) سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية.
    × أن التعرف على آراء أهل منطقة ابيي فيما يتعلق برغباتهم إما بالبقاء داخل الحدود الادارية لاقليم جنوب كردفان وإما بالانضمام لاقليم بحر الغزال سيتم عبر استفتاء ينظم خلال الفترة الانتقالية ولكن قبل ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير. واذا ما أظهرت نتيجة الاستفتاء رغبة أكثرية أهل هذه المنطقة في الانضمام إلى أقليم بحر الغزال فأنهم سيمارسون حق تقرير المصير كجزء من شعب جنوب السودان. أما فيما يتعلق بجبال النوبة والانقسنا فأن الحكومة الانتقالية ستسعى للتوصل إلى حل لتصحيح الظلامات التي عانى منها أهل تلك المناطق وستنظم استفتاءً لمعرفة آرائهم حول مستقبلهم السياسي والاداري خلال الفترة الانتقالية.
    في اطار برنامج التجمع، اذن، تلاقت الرؤى حول قضايا التهميش كما تلاقت التنظيمات الممثلة لاولئك المهمشين مع بقية القوى السياسية الوطنية وتواصت على برنامج سياسي/اقتصادي/اجتماعي عابر للانتماءات الاثنية والدينية. وفي إطار العمل لانجاز ذلك البرنامج لم يجد الشيخ سليمان علي بيتاى الذي ظل آباؤه يوقدون نيران القرآن في همشكوريب حرجاً في التساند مع أبناء النوبة والجنوب من أجل حماية مصالح وجودية تعامى عنها، منذ الاستقلال، بعض اخوته في الدين.
    موقف التجمع هو في حقيقته محاولة من جانب فصائله المختلفة لتُصِلح مجتمعةً الأخطاء التي أرتكبتها فرادى. ذلك الموقف ظل نظرياً لأن الفرصة لم تواتِ التجمع، أو فصائله الكبرى، كيما تحكم. بروتوكولات نيفاشا ـ للمرة الأولى ـ أمسكت بالوعل من قرنيه، فكان اقترابها شمولياً من قضية التهميش السياسي والاقتصادي بمعالجة قضيتي الثروة والسلطة. البروتوكولان اللذان تناولا قضيتي السلطة والثروة انطلقا من حقائق مهمة على رأسها أن ''لا مركزية وتخويل السلطة على جميع مستويات الحكم مبادئ مقدسة لحكم عادل (ديباجة بروتوكول اقتسام السلطة)، و''الحاجة إلى انماط ومعايير قومية وولائية وجنوبية (للحكم) حتى ينعكس ذلك على وحدة البلاد وتنوع الشعب السوداني'' (الفقرة 241 من بروتوكول اقتسام السلطة)، ''تكامل علاقات السلطة بين الولايات واحترامها لاستقلالية بعضها عن بعض (الفقرة 151 من بروتوكول اقتسام السلطة)، اقتسام الثروة القومية بين المستويات المختلفة للسلطة بحيث تتاح لكل مستوى الموارد الكافية لممارسة سلطاته الدستورية، وبناء الاقليم، بجانب مشاركته في لجان الرصد والاشراف المالي على المستوى القومي (الفقرة 8 من بروتوكول اقتسام الثروة). ولكل هذه القضايا نعود في الموقع المناسب من المقالات.
    هذا هو التهميش، وهذه هى وسائل اقبالنا على معالجته منذ أربعة عقود من الزمان، أي منذ أن ''التقى جيل البطولات بجيل التضحيات''. وبهذه الصفة يعبر التهميش عن حَيف بالغ دفع من وقع عليهم إلى رفع السيف، وما وقع حَيف إلا وارتفع سيف.
    لهذا عجزت تماماً عن إدراك ما ذهب اليه الأستاذ محمد أبوالقاسم حاج حمد عندما أنكر ظاهرة التهميش، ثم انتقل إلى نعت الجماعات المهمشة بالتحالف الاثني. شق على كثيراً، مثلاً، وصفه لبروتوكول نيفاشا حول المناطق المهمشة بحصان طروادة لاختراق الجنوب لما أسماه مركزية الوسط. قال: ''أولاً ما حدث في نيفاشا هو خروج على جيوبوليتيك الجنوب الجغرافي والسياسي والثقافي واختراق لجيوبوليتيك الشمال والوسط''. أضاف: ''هذا أمر رفضته وأرفضه منذ تحذيري من قبول الانقاذ مباحثات سويسرا لتسوية الأوضاع في جبال النوبة حيث من هناك كان الاختراق الأول تلته تلك الاختراقات. وثانياً ادانتي للانقاذ في هذه المسألة الوطنية المصيرية تتكافأ مع ادانتي الموجهة لكبريات الأحزاب السودانية بالذات حين أقرت في مؤتمر أسمرا في يونيو 1995 بالتفاوض على المناطق الثلاث مع حركة قرنق الجنوبية فكلهم مدانون: الانقاذ وحزب الأمة والاتحادي الديموقراطي والتوابع الحزبية والسياسية الأخرى'' (الصحافة 12/6/2004). وفي مقال آخر له قال: ''إن قرنق يعلن بوضوح وصراحة مخططه لاتخاذ المفاوضات وسيلة لتفكيك السودان القديم واستبداله بسودان جديد لا يقوم على الوحدة الوطنية الديموقراطية ولكن على تحالف الاثنيات غير العربية وبما يماثل ما يرد في الكتب السوداء التي أصدرها الموالون للترابي''. وفي ذات المقال ذكر أن التهميش ليس هو غير ''مواقف عنصرية تدعي بهتاناً وزوراً تهميش الوسط للأطراف''. وكان عنوان المقال ''حرب الأطراف ودعاوى التهميش'' (البيان 1/5/2004).
    شق على صدور هذه المقالات من كاتب محقق في حواراته الكثير الذي يستفز العقل. بيد أن المنهج الذي اعتمد في مقالاته الأخيرة خرج بالحوار عن مجال المجادلة، أو أن شئت المخاصمة الفكرية التي تهدف للإقناع، إلى التحامل الذي ينتقص من الموضوعية. فمثلاً أسمى الكاتب المحلل الحركة الشعبية لتحرير السودان بـ ''حركة قرنق الجنوبية''. لا غرابة إن صدر ذلك الاسم من عامة الناس، أو خلال حديث عام، فليس الكاتب وحده هو الذي يُسمي الحركة الشعبية ''حركة قرنق''. التعبير شائع في الحديث العام ولا يبتغي منه قائلوه الاستحطاط من قدر الحركة. أما الباحث الذي يتهيأ للبحث فأدنى واجباته هو أن يسمى الأشياء بأسمائها. على أن القضية هنا ليست قضية نعوت وأوصاف، بل هى أعمق من ذلك. فالحركة التي يسميها الأستاذ المحلل حركة جنوبية هى حركة ما انفكت تُضفي على نفسها صفة تتجاوز الجنوب، كما هى قوة سياسية يعرف القاصي والداني أنها أصبحت عنصراً فاعلاً في السياسية الوطنية. هى أيضاً تنظيم صار له أثر ملموس على المستوى الاقليمي، وقدم لأهل السودان كله رؤية في بناء الدولة وادارة الحكم تختلف عما ألفوه. في هذا أيدها بعض، وعارضها بعض، ومازال بعض ثالث يتحاور معها حول رؤيتها تلك. كل هذا يعني أنها أصبحت حقيقة لا يلغيها الاستوضاع الكلامي منها، أو التبخيس لها. لذلك، أخطأ محمد أبوالقاسم من حيث لم يحتسب، فالباحث الذي يبدأ بحثه بمقدمات تَرشحُ تحاملاً يُتلف قضيته.
    من أخطاء المنهج، الأسلوب الانتقائي الذي اتبعه في تحديد ماهية السودان. فلا خلاف بيني وبين الصديق الباحث في أن مؤثرات كثيرة ثقافية ودينية واقتصادية (وأضيف بيولوجية) لعبت دوراً مهماً في إكساب وسط السودان وضعاً مميزاً جعل منه مركز اشعاع حضاري على بقية أجزاء السودان. لهذا انكفأت جموع السودانيين من كل الأطراف على هذا المركز بحثاً عن العلم أو المال أو العمل أو السلطان. وعبر التلاقح بين هؤلاء الأقوام تولدت ثقافة قومية (وأعني قومية) سودانية، والثقافة القومية هى مجموع أنساق القيم والعادات والمعاملات والعبادات التي يبتدعها شعب من الشعوب عبر تاريخه الممتد.
    الكيان الثقافي للوسط الذي أخترع له الأستاذ الكاتب جيوبوليتكيا وهمية وصفه بما يلي: ''العروبة بالنسبة لي هى جماع حضارات وثقافات وأعراق من سبأ في اليمن وإلى البابليين والأشوريين في العراق وإلى الآراميين والكنعانيين في سوريا وإلى القرطاجنيين في تونس وإلى لقاحات البانتو... فهى ليست قومية عنصرية احادية متعالية''. لو كان الكاتب عراقياً أو سورياً أو تونسياً لقبلنا منه هذا التعريف أما أن يكون مواطناً في بلد النوب والبجة والنيلويين والزنج فلا شك في أنه يوصف لنا بلداً وهمياً يعيش في مخيلته. هذا الكيان الحضاري الذي وصَفَه الكاتب بما وصف لا يتسع حتى لبعض من أرسوا مقومات الجيوبوليتكيا لذلك الكيان مثل ابراهيم أحمد رئيس مؤتمر الخريجين، وعبد الله خليل رئيس الوزراء، وعلي عبد اللطيف قائد ثورة 1924، وعندما ينشد العقلاء التوافق على فكرة أو رأي ينطلقون من مقدمة مُسَلم بها كيما يصلوا عبر الاستدلال الذهني إلى الحقيقة. ولكن يبدو لي أن الأستاذ الباحث، ومن يشاركه الرأي من حماة العروبة في السودان (وكأن العروبة السودانية في حالة حصار أو أنها حكر على فئة دون فئة) يريدون منا أن نقبل رؤيتهم للشخصية الثقافية كُمَسلمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، أو كحكم توقيفي، والحكم التوقيفي عند الفقهاء هو المُنَزل المتوقف بجوهره عن أي تبديل أو تعديل بشرى.
    نعم لنا ثقافة قومية ذات لون، وشكل، ومذاق خاص. في تلك الثقافة لعبت العربية والدين الاسلامي دوراً محورياً في تكييف ما وجدته من مواريث وعادات مازالت بعض آثارها باقية. فعندما يتحدث الأستاذ محمد أبوالقاسم، وقاه الله العثار، ويقول في رده على مقال للأستاذ كمال الجزولي أن الوسط والشمال والشرق تربط بينهم وحدة جيوبوليتكية منذ 2700 عام بكل أبعادها التاريخية يتساءل المرء عن أي وسط يتحدث؟ هل يضم ذلك الوسط قبيلة الشلك التي امتد سلطانها حتى الخرطوم وكانت الكوة واحدة من عواصم ملكهم، لا قبل ألفين وسبعمائة عام وإنما قبل أقل من ألف عام. وإن كانت العروبة والاسلام قد وفدا بشكل مكثف في القرن السادس عشر للسودان، أفهل نعتبر الفترة التي سبقت ذلك ـ في الشمال على الأخص ـ هى فترة ممحاة من تاريخ السودان الوسيط ولا أثر لها على كينونته الحضارية؟ أم أن الكوشيين والنيلويين الذين عاشوا في الشمال والشرق والوسط كانوا امتداداً لتلك العروبة التي جمعت الفينقيين مع الاشوريين والآراميين والكنعانيين وسبأ وحمير. وعلى كل، فما لم أدركه هو إقحام ''اللقاحات البانتوية'' على العروبة، كان المعنى بذلك العروبة بوجه عام (إذ لا نعرف أدنى أثر للبانتوية على الثقافة العربية الشرق أوسطية)، أو العروبة السودانية بوجه خاص. فإن كانت الثانية يصبح هذا التصوير للشخصية السودانية أقرب لخيالات الشاعر سيد أحمد الحردلو ''جلابية وتوب، سروال ومركوب، وقرنق وأدروب'' منه إلى الحقائق العلمية المثبتة. حقاً ماهو أهم من تلقيح العربية بالبانتوية، دور السودان منذ ممالك النوبة كمصدر اشعاع حضاري على القارة الافريقية كلها. فالسودان هو مصدر أغلب اللغات النيلوية التي تُعرف عند علماء اللغات والمؤرخين باسم اللغات السودانوية الشرقيةEastern Sudanic) ). ثلاث من المجموعات اللغوية الافريقية الأربع من أصل سوداني، أو خضعت لمؤثر سوداني. فباستثناء الخوسية (لغة قبائل جنوب أفريقيا)، يعود أصل المجموعات الثلاث الأخرى للسودان: النيلوية الصحراوية، والحامية السامية، ثم النيجيرية الكردفانية.
    ما كان أغنانا عن كل ذلك التفصيل لولا محاولات اختزال الشخصية القومية السودانية في بُعد واحد، أو الظن بأنها شخصية شمعية يصوغها كل مَثَال على عينه. السودان عربي، والسودان أفريقي ليس بالمعنى الجغرافي وإنما بالمدلول الثقافي (من كوش إلى اللغات النيلو صحراوية). والسودان بلد اسلامي لم يحول اسلامه دون أن يكون فيه للمسلم النوباوي كجور يصنع المطر، وأن يكون لمسلمه الشمالي شيخ يُستَطب بتُفاله. والسودانيون جميعاً ـ في الشرق والغرب والشمال والجنوب ـ تراضوا طواعية أن تكون العربية هى لغة التواصل بينهم، مع حفاظ أغلبهم على لغاتهم وثقافاتهم الأصلية واعتزازهم بها. فما الذي يضير أخ العرب في هذا. حقاً أقرب إلى اقتناص المعنى العميق للشخصية السودانية ''المُسلاتي'' الشاعر عالم عباس، أنسبه إلى انتمائه الأصغر حتى أُقرب الصورة لمن لا يرون في أهل الأطراف غير تجمعات اثنية من الخير أن تُبتر حتى تبقى هُوية أهل الوسط محصنة ضد الاختراقات. قال الشاعر
    فاذا جاء المغيب
    ذُبت كالشمس على صدر ''النهود''
    وصبغت الرمل وِرساً كردفانياً معصفر
    وضممت التل أكثر
    وتمطيت كتمساح على رمل الجزائر
    وتغطيت بأدغال الجنوب
    وتوسدت ذرى نخل الشمال
    ثم أرخيت على دارفور أهدابي ونمت
    من حق هذا ''السوداني'' أن يُرخى أهدابه وينام لأنه تصالح مع نفسه، ولهذا التصالح دلالات أعمق بكثير من الجغرافيا.
    من الأحكام الجزافية أيضاً اتهام قرنق بتدبير ما أسماه الكاتب تحالف الاثنيات، وكأن الذي كان يدور في برلمانات السودان منذ الستينات (تحالف الفور والبجة والنوبة مع الجنوبيين) ليس جزءاً من التاريخ، أو أنه لا يكفي لدحض فكرة التمييز بين ضحايا التهميش على أساس العِرق. لو كان لقائد ''الحركة الجنوبية'' فضل واحد في ابراز قضية التهميش فهو افلاحه في تنظيم غضب المهمشين. وكما يقول الفرنسيون: ''الظلم لا يشعل ثورة وإنما يشعل الثورات الشعور بالظلم''. فما أكثر المظلومين في السودان الذين رضوا بِذُلهم وهوانهم لأنهم لم يحسوا بهما بعد. هذه أقاليم مستقلة بذاتها، لها قضاياها ، ولها أهلها الذين يناضلون من أجل تلك القضايا. لهذا من الظلم تصويرها وكأنها ليست أكثر من حصون أمامية للجنوب.
    أجئ من بعد إلى ماهو أخطر من اختلال المنهج، الإستهانة الكاملة بحيوات البشر وكأن كل الذي يدور حول الحرب والسلام هو جمباز عقلي. لم يَرَ الكاتب المحلل في الاتفاق حول وقف اطلاق النار في جبال النوبة (بيرقينستوك، سويسرا، 6- 13 ديسمبر 2001) غير مؤامرة لاختراق جيوبولتيك الشمال، رغم أن ذلك الاتفاق لم يكن اتفاقاً لاقتسام سلطة أو ثروة، أو مشروعاً لثورة ثقافية. أهداف الاتفاق هى وقف نزيف الدم وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، ما الذي أتى به:
    × وقف اطلاق النار وانهاء حالة العداء بين الطرفين خلال 72 ساعة.
    × ضمان حرية الحركة للمدنيين والسلع والمساعدات الانسانية.
    × ايقاف كل الهجمات وعمليات التخريب وزراعة الألغام.
    × ايقاف كل عمليات العنف، وسوء استغلال المدنيين، والاعدام بدون محاكمة، وعمليات التعذيب والتحرش والاعتقال، والتحريض على الضغائن العرقية، وتسليح المدنيين، والابادة الجماعية.
    × تعيين لجنة عسكرية مشتركة للمراقبة.
    لتحقيق هذه الأهداف أُعيد فتح الطرق، ونُزعت الألغام في كل المناطق التي شملتها الاتفاقية (كل جنوب كردفان ومحافظة لقاوة بغرب كردفان)، وفُتحت ممرات العمل الانساني، وسُمح للجنة الصليب الأحمر بحرية الوصول للأشخاص المحتجزين. أفهل يريد الكاتب أن يعيش أهالي كردفان (بمن فيهم عرب الحوازمة والمسيرية الزُرق الذين نفترض أنهم في عقيدة الكاتب جزء من مركزية الوسط) في ظل الحرب والعنف والتضاغن بدلاً من العودة لحياتهم العادية الآمنة التي درجوا عليها وألفوها إرضاءً لأوهام المثقفين.
    افتعل الكاتب أيضاً معركتين في غير معترك هما قضية هُوية ''السودان الجديد''، وماهية التهميش من منظور عالمي شمولي. ولعلني أترك الموضوع الأول جانباً حتى لا أُلهي القارئ بأشاغيل تصرفه وتصرفني عن موضوع بحثي، خاصة وقد أراد الباحث أن يجعل من موضوع الهُوية، قضية انثروبولوجية. ليس هذا فحسب، بل سأكف عن التعقيب استجابة للنداء الذي وجهه إلى في معرض تناوله بالتعليق لبعض ما كتب قرنق، أو أعلن في محاضراته. قال الأستاذ محمد: ''طالما أن قرنق صريح للغاية فسأكون كذلك، وأرجو أن لا يتدخل د. منصور ليطلب مني عدم استخدام الانثروبولوجيا، أو ياسر عرمان ليحدثني عن تماثل عنصرية السود الشماليين بعنصرية البيض ضد السود في جنوب أفريقيا''. للكاتب ما أراد ولن يتدخل منصور، فمنصور يغنيه ما أورد حول هذا الموضوع في منابر شتى. ولكني لا أملك إلا الرد ـ ولو عابراً ـ على تساؤل الكاتب عن قدرات قرنق في خلق سودان جديد موحد على أسس جديدة طالما أن الجنوب نفسه لم يحقق تدامجاً ثقافياً أو حضارياً باتجاه قومي، لا مع الشمال السوداني العربي المسلم ولا مع نفسه بحكم تباينات تركيبته. تباينات الجنوب لا ينكرها إلا مِغلاط، ولكن يبقى السؤال: لماذا أفلح هذا الرجل الذي ينحدر من أقليم ذي قوميات متباينة التركيب، وينتمي إلى جماعات يختلف نسيجها الاجتماعي عن ذاك الذي يميز الشمال الذي يريد التوحد معه، لماذا أفلح في توحيد الرؤى بين جماعات أشتات توحيداً تجاوز به الفوارق القبلية واللغوية والمعتقدية في الجنوب، كما تجاوز به التمايزات العِرقية والدينية في الشمال، وبين الشمال والجنوب، لدرجة خلق أرضية مشتركة لإتفاق قبله السودانيون أغلبهم، بمن فيهم من كان يحسب قرنق شيطاناً رجيماً؟ أغلب الظن أنه أفلح فيما لم يفلح فيه غيره لأنه تعامل مع الحقائق الماثلة للعيان على الأرض، لا مع التضاريس السياسية للمريخ. وفي سبيل ذلك ذهب لتقصي العوامل التي تجمع بين أهل السودان وامكانية تكثيفها، ولاستكشاف الفروق بين شعوب السودان وابتداع الوسائل لتقليصها، في حين عجز آخرون عن تحقيق الوحدة (حتى بين أهل القبلة) لأنهم لم يروا في الشخصية السودانية غير بُعد واحد، وحتى هذا البُعد الواحد لا يرضي هؤلاء إلا إن كان على عينهم.
    أما الموضوع الثاني فهو ذو صلة مباشرة بالقضية التي نتداولها بالبحث ألا وهى التهميش. لا نرى في سعى الأستاذ محمد للربط بين التهميش كظاهرة عالميةً، والتهميش السياسي/الاقتصادي على المستوى المحلي، إلا محاولة للهروب من المشكلة للأمام . قال الأستاذ الباحث أن التهميش مصطلح اوروبي وأن ''العولمة الاوروبية هى التي أوجدت البنى التحتية والفوقية النسبية لهذا الوسط الكبير (يعني وسط السودان) ولعب الانتماء العربي دوره في تفعيل البنى الفوقية ورفدها'' (الصحافة 29/6/2004). قال أيضاً '' كنت أقدر أن رجلاً كالدكتور جون قرنق نال رسالته العلمية في قضايا تختص بالتنمية هو الأقرب والأقدر على فهم دلالات هذه المعاني واستخدامها لتقييم علاقات الجنوب المهمش بالعولمة الاوروبية'' (الصحافة يوليو 2004).
    العولمة الاوروبية التي يشير اليها الكاتب هى الهيمنة الاستعمارية، وما قاله حول البُنى التحتية والفوقية في الوسط لا يعني أكثر مما ظلت تقوله كل القوى الراغبة في انهاء تهميش الأطراف عن ضرورة تبديل نموذج التنمية الموروث من عهد الاستعمار. ولا نرى مبرراً للزج بدور العروبة في ارفاد البنى الفوقية، وما هو مكانها من الاعراب إذ لا شأن للعروبة أو الزنوجة بتكثيف الثروة في الوسط. ولو كان الوسط هذا هو أرض البجة الذين لا يتحدثون غير البداويت، أو النوب الذين لا يعرفون غير ما نسميه الرطانة، لقضت الاعتبارات الاقتصادية المادية بأن يصبح هو مركز الثقل. ما هى هذه الاعتبارات؟ الموقع الاستراتيجي الذي يُمكن الحاكم من احكام سيطرته على كل القطر، والأرض المنبسطة والماء الجاري، والخطوط الحديدية التي تربط ما وراء الساحل (Hinterland) بالمنافذ على البحر التي تنقل عبرها السلع التصديرية، والمعاهد التعليمية التي تُخَرج الكوادر التي تحتاجها الادارة الاستعمارية لادارة دولاب العمل، والأيدي العاملة المدربة منذ الحكم التركية... الخ. لهذا فإن الاصرار على الزج بالعروبة والاسلام في كل شئ، حتى فيما لا فضل لهما فيه، لا يفيد البحث ولا يضيف شيئاً للعروبة والاسلام. لماذا، اذن، يريد المحلل من قرنق، رغم تأهيل قرنق لأن يكون باحثاً ناجحاً، ورغم قدراته الذاتية لأن يكون مجادلاً لبقاً، أن ينصرف لتقصي جذور التهميش على المستوى العالمي حتى يدرك أسبابه محلياً. علم الله لو قرأ قرنق ومحمد أبوالقاسم كل كتب الأرض لما اكتشفا سبباً ''عولمياً'' واحداً لاصابة ما يزيد عن ثلث السكان في منطقة البجة بداء السل. ولما وجدا سبباً ''عولمياً'' واحداً يبرر عودة الكلازار إلى جنوب السودان بعد أن قضى عليه أطباء السودان بقيادة الدكتور محمد حمد ساتي قبيل الاستقلال. ''عولمة أيه ياراجل؟''، أسهل من كل ذلك أن ننظر إلى مواطئ أقدامنا. ننظر للسياسات البلهاء، والأولويات الخاطئة.
    تابعت الحوار الذي دار بين الأستاذ محمد والأستاذ كمال الجزولي حول قضية التهميش وسعى فيه الجزولي للنزول بهذه القضية من المريخ إلى أرض الواقع. تحدث عن ''الشرائح الاجتماعية التي تمكنت منذ قرون من الاستحواذ على الثقل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي في بلادنا وعن كيف أن هذه الشرائح تنتمي إلى الجماعات المستعربة كما أشار إلى ما تولد عنها من تيار سلطوي مُستعلٍ على الآخرين. (الصحافة 17/7/2004). وسرني، بوجه خاص، اتفاق الأستاذ محمد مع هذا الرأي بل ذهابه لاستعادة التاريخ القديم والحديث لتأكيد هذه الرؤية عندما تحدث عن ''مكان المهمشين كعبيد وانصاف عبيد، رعاة وحرفيي انتاج حرفي صغير'' وعن التمكين الاقتصادي الذي وفره الاستعمار لهذه الشريحة. أكثر من ذلك، ذهب الأستاذ محمد إلى وصف الحكم الوطني منذ الاستقلال بالعجز عن معالجة الظاهرة لأنهم، على حد قوله كانوا، ''حكام فهلوة وتخلف وليسوا حكام تخطيط .. ولم يقرأوا حتى أوراق مؤتمر أركويت'' (الصحافة 10/7/2004). إن كان هذا هو رأي الصديق المحلل في الأوضاع السائدة فلماذا يريد أن يمنع قرنق من الحديث عن ''التهميش'' طالما أنه لم يُجرِ أبحاثاً حول العولمة. ثم ما الذي يغضبه في تصدي قرنق لقضية المُهَمشين، ووقوفه بجانبهم ضد المُهمِشين، إلا إن أراد القول إن التهميش على يد ''حكام الفهلوة والتخلف'' من أهل الوسط، خير من ازالة الحيف على يد واحد من ''أبناء العبيد وأنصاف العبيد''؟ أنا لا أرمي الصديق المحلل بالتحيز العرقي، ولكن هذه هى النتيجة المنطقية الوحيدة للأحكام التي تصدر من منطلق تحيز معرفي أو مفهومي.
    الهروب من الظاهرة إلى الامام لن يفيد أبداً، فالتهميش الداخلي ليس بالضرورة انعكاس أو امتداد للتهميش العولمي. في جوهره، هو انعكاس لعدم المساواة الشاملة المتمثلة في نقص الخدمات الصحية، التعليم، فرص العمل، الطرق، مياه الشرب، الطاقة، حيازة أدوات الانتاج، النصيب من الاستهلاك والادخار. هذه الظاهرة هى دوماً نتاج لتركيز الموارد والمناشط الاقتصادية في منطقة بعينها مما يقود إلى حرمان آخرين لأن النمو غير المتكافئ يقود، بالضرورة، إلى دمج مجموعات في الاقتصاد الوطني واقصاء مجموعات أخرى إلى هامشه. وليس ضربة لازب أن يكون ذلك التركيز نتيجة للعامل الخارجي الذي له أسبابه، ومؤثراته على الاقتصاد، وطرائق علاجها.
    قرنق أو محمد أبوالقاسم لن يستطيعا، مهما أوتيا من بلاغة وقدرات، أن يعالجا افرازات العولمة بالكتب والمقالات دون أن يكون لهما مركز انطلاق قوي يجابها منه جموح العولمة. العلاج، مرة أخرى، هو توازن القوى، أي قدرة الدول المستضعفة على أن توحد قواها، وتستخدم كل أدوات الضغط المتوفرة لها لانهاء تشوهات النظام الاقتصادي العالمي.
    وعلّ الصديق الباحث يعرف أن أكثر دول العالم الثالث التي قدرت أن تلعب دوراً مؤثراً في الوقوف ضد جموح العولمة هى تلك التي استطاعت أن تعالج، أو وضعت الأسس لعلاج، مشاكل الفقر الداخلي والتباينات الاقتصادية المدمرة لكياناتها القائمة. من تلك دولتان ما فتئتُ أشير اليهما هما: الهند وماليزيا، ولعلني أضيف البرازيل في عهد رئيسها الحالي لويس لولا دا سيلفا، وهو رجل انتقل إلى سدة الحكم من صفوف النقابات العمالية. يكفي قرنق، مع رفيقه في نيفاشا، نجاحهما للمرة الأولى منذ الاستقلال في التوصل لاتفاق ينتقل بنظرية التنمية المتوازنة، أو المتوازية، أو المتوازنة المتوازية من فكرة نستشعرها (نتداعى بها كشعار) في محافل السياسة إلى سياسات واضحة محددة.
    /////////////////////
    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (5(
    التحول الديمقراطي ... الوهم والحقيقة
    في هذا المقال والمقالين التاليين نتناول موضوعات ثلاثة ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببعضها البعض في الحالة السودانية: الديمقراطية، الدستور، الدين والسياسة. وفي مُجملها تندرج هذه الموضوعات في باب التحول الديمقراطي، الموضوع الذي يستحوذ بعد موضوع السلام على اهتمام واسع، ولعله يسبقه في هرم الاهتمامات عند البعض. الموضوعات الثلاثة فجرت خصومات فكرية طاحنة، بل حرباً أهلية سياسية دمدمت على الوطن حتى كادت أن تهلكه. ولئن يتحول الخلاف السياسي إلى حرب فإن هذا يعني أن الاقتراب من معالجة هذه القضايا كان اقتراباً خاطئاً، ولو يكن كذلك لكان السودان إلى العافية أقرب.
    بروتوكولات السلام اقتربت من هذه القضايا اقتراباً سليماً عند ما ذهبت مباشرة إلى جذور الأزمة، ونأى الطرفان، بقدر ما استطاعا، عن النظر إليها عبر عدسة أيديولوجية مُشَوِهة. هذا الاقتراب جعلهما يدركان أن حل النزاع السوداني بصورة عادلة ومستدامة لن يتحقق إلا بإيجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان ويستبدل الحرب، ليس فقط بالسلام، بل كذلك بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واحترام الحقوق الأساسية، الإنسانية والسياسية لكل شعب السودان (ديباجة بروتوكول مشاكوس). التحول الديمقراطي الذي لا يصطحب هذه المعاني، أو يحقق هذه الأهداف لن يقود إلى سلام بالمعنى الذي تمناه بروتوكول مشاكوس، وهو السلام الوحيد الذي قد تتوفر له فرص الديمومة. لهذا يصبح الافتراض أن التحول الديمقراطي هو استعادة الديمقراطية على صورتها التي ألفناها، خطأً كبيراً، لا سيما ونحن نعرف جميعاً أن تلك الديمقراطية لم تحقق سلاماً، بل لم تكن حتى قادرة على حماية نفسها. مقتل تلك الديمقراطية، فيما نزعم، هو تغليبها الوجه الشكلي الإجرائي procedural على الوجه الجوهري substantive للديمقراطية. وكلما قرأت الروايات الرومانسية التي يصف فيها المحللون السياسيون، خاصة من ينتمي منهم للأحزاب، تاريخنا السياسي منذ الاستقلال تبادر إلى ذهني أنهم يصفون أرض الميعاد، لا بلداً نعرفها. نخطئ في حق أنفسنا خطأً لا يغتفر إن واظبنا على أسطرة التاريخ لأنها كادت تجعلنا نصدق أن لسنا فقط أمة الأمجاد والماضي العريق، وإنما أيضاً أمة القدر الساطع. وأحسب أن خمسين عاماً من الاحتراب بين الأخ وأخيه، ومن الإهدار الشنيع للموارد، ومن الملايين من القتلى والمشردين، ومن الاستحقار الخفي والمعلن من الآخرين، كافية لفتح بصائرنا على أن ثمة خطأ ما يستوجب التوقف عنده، والكف عن التباهي بديمقراطيات موءودة إستعدناها ثلاث مرات ولما تزل ريمة على قديمة.
    الديمقراطية كنظام للحكم، مثل كل الأنظمة، ظاهرة عارضة في التاريخ ونتاج للجهد البشري لتطوير كل وجوه الحياة بما فيها الحكم. وفي سعي الإنسان لابتداع نظام للحكم يضمن له الأمن والاستقرار، كما يحمي حقه في الوجود والحرية كحق مقدس، برزت الديمقراطية كنوع من الحكم تُستمد فيه السلطة من الشعب ويمارسها إما مباشرة، أو عبر ممثليه المنتخبين انتخاباً حراً. بهذا المعنى شاع تعبير ابراهام لنكولن في وصف الديمقراطية: حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب. مع ذلك، لحق بالديمقراطية تعهير شنيع عندما اختطفتها كل الأنظمة، حتى الشمولية منها، وابتدعت لها أوصافاً ما أنزل الله بها من سلطان مثل الديمقراطية الموجهة (سوكارنو)، المركزية الديمقراطية (الأنظمة اللينينية)، الديمقراطية الاجتماعية عبر تحالف قوى الشعب العاملة (الميثاق الناصري وتابعه السوداني)، ثم أخيراً ديمقراطية التوالي التي افتعل لها صانعها نسباً في القرآن الكريم وكأن ليس في الكتاب أيضاً ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع، كما فيه ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. كل هذه الديمقراطيات المزعومة سقطت بتآكل رأسمالها المعنوي لأن فكرتها المحورية هي احتكار الحقيقة ونفي الآخر المغاير. وحمداً لله، من قبل ومن بعد، أن آمنا جميعاً بفضيلة الديمقراطية الليبرالية.
    الديمقراطية إذن، هي فكرة أو نظام يتداخل فيه القانون مع السياسة والأخلاق، لهذا لا يجوز اختزالها في مقوماتها الشكلية والإجرائية مثل تعدد الأحزاب، الانتخابات، الفصل بين السلطات، الحريات المدنية، التعاقب السلمي المنتظم للحاكم... الخ. لو كان هذا هو الحال لما استقرت الديمقراطية في الكثير من دول العالم، خاصة في الدول التي لحقت بها نقمة (أو مَنَ الله عليها بنعمة) التعدد والتنوع. فالتعدد والتنوع، نعمة من نعم الله الكبرى إن أُحِسنت إدارته، وشر مستطير لو تُرك لذرائع الفتن. والديمقراطية، بلا جدل، تعني حكم الأغلبية، ولكن ليس صحيحاً البتة أن حكم الأغلبية يقود، ضرورة، إلى إهدار حقوق الأقلية. فمبادئ الديمقراطية تحض على احترام الحقوق الأساسية للأغلبية والأقلية على السواء بالقدر الذي يُمَكِن الأقلية أن تصبح أغلبية أن توفرت الظروف الموضوعية لذلك. الكلمة المفتاحية هنا هي الموضوعية، بمعني أن حرمان أي مواطن أو مجموعة من المواطنين من ممارسة حقوقهم لأسباب ذاتية مثل العِرق أو النوع (وهي الأسباب التي لا يد لهم في صنعها) يهدم الديمقراطية من أساسها، ويفقد الحكم الديمقراطي شرعيته المعنوية. وللأستاذ جورج طرابيشي رأي في هذا الموضوع استحببناه. قال في كتيبه الصغير في ثقافة الديمقراطية: اختزال الديمقراطية إلى مجرد اجرائيات من شأنه أن يقتل بذرتها في مهدها، فالثقافة الديمقراطية هي شرط تخصيب التربة وشرط النماء. ويمضي متحدثاً عن مفهومي الأغلبية والأقلية يقول: الأغلبيات فيها الأفقي المتحول، وفيها العمودي الثابت... ما هو عمودي في المجتمع هو كل ماله صلة بالهوية سواء تجلت هذه الهوية بالدين أو الطائفة أو الاثنية أو القبيلة. أما ما هو أفقي فذاك ما هو عابر لتلك الكيانات الثابتة والدائمة وما يمكن أن يتمثل بمؤسسات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية (بالمعنى الحديث للكلمة) أو النقابات. وفي اللحظة التي عكفت فيها على إعداد هذه المقالات استرعى اهتمامي حدث يبين خطورة التداعيات الناجمة من النظرة الضيقة لما أسماه طرابيشي العمودي الثابت في الهوية. ذلك هو توصية لجنة القانون والدستور في الكنيست الإسرائيلي بشأن طبيعة الدولة تمهيداً لتضمينها في مشروع دستور دولة إسرائيل. وكما هو معروف ليس لإسرائيل دستور مكتوب، ومن بين أسباب عجزها عن وضع ذلك الدستور إصرار غلاة المتطرفين اليهود على إعلان إسرائيل دولة يهودية، الأمر الذي ظل يرفضه العلمانيون في حزب العمل. النص يقول إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، ولعل الذي أثار اهتمامي بوجه خاص اعتراض النائب البرلماني العربي عزمي بشارة على ذلك النص ووصفه له بالغوغائية لما فيه من تناقض. وكبديل للنص اقترح بشاره ما يلي: إسرائيل دولة لكل مواطنيها.
                  

العنوان الكاتب Date
د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:31 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:34 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:37 AM
      Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:42 AM
        Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:49 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) اسامة الخاتم09-25-04, 11:54 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) nadus200009-30-04, 04:04 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de