د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 00:59 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة يحي ابن عوف(يحي ابن عوف)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-16-2004, 03:31 AM

يحي ابن عوف
<aيحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)

    د. منصور خالد
    نقلا عن الرأى العام
    اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1)
    نعم: هى ثنائية وللثنائية أسباب
    اتفاقيات السلام التي يحتدم الجدل حولها هى البرتوكولات الستة التي أُشهرت للعالم في الخامس من يونيو 2004 عبر إعلان نيروبي الذي ذيله بامضائه عن جانب الحكومة النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه، وعن جانب الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق دي مابيور. تلك البروتوكولات استقرت على قاعدة أرسيت في ماشاكوس في العشرين من يوليو 2002، ألا وهى بروتوكول ماشاكوس الإطاري الذي وقع عليه من جانب الحكومة الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئاسة للسلام، ومن جانب الحركة القائد سلفا كير مايارديت نائب رئيس الحركة الشعبية، بعد خمسة أسابيع من التفاوض. وسُمي إطارياً لأنه لا يتضمن سوى الأسس التي سينبني عليها الاتفاق، والمعايير الضابطة لمضمونه ومعناه، وقبل ذلك، تحديد عناصر الصراع الراهن وجذوره التاريخية. وكان من الضروري رسم ذلك الاطار حتى لا يكون الحوارُ بين الطرفين حوارَ طرشان.
    بين التوقيع على الاتفاق الإطاري، واشهار بروتوكولات السلام انقضى ما يقارب عامين، تمت خلالهما اجتماعات شارك فيها مفاوضون وخبراء من الجانبين وكان أغلبها في منتجعات كينية مثل ناكورو، نانيوكي، كارِن، كما تم بعضها في بعض المدن الأوروبية مثل لاهاي ولندن، أو الولايات المتحدة. على أن الحوار اكتسب قوة دفع مهمة عندما تولى قيادة وفدي التفاوض النائب الأول لرئيس الجمهورية، من جانب الحكومة، ورئيس الحركة الشعبية، من جانب الحركة. ومنذ ابتداء المفاوضات على هذا المستوى الرفيع في مطلع سبتمبر 2003 بمدينة نايفاشا، وحتى التوقيع على البروتوكولات الستة في السادس والعشرين من مايو 2004، تمطى الحوار على مدى تسعة أشهر. ذلك زمان طويل أن أخذنا في الاعتبار أن اتفاق أديس أبابا لم يستغرق الوصول اليه إلا قرابة الاسبوعين (16 إلى 28 فبراير 1972) ، وربما سبقته بضعة أشهر من العمل التمهيدي. كما أن عملية صنع السلام التي اعقبت مؤتمر المائدة المستديرة (مارس 1965) وانتهت بتقديم قرارات لجنة الاثنى عشر في مارس 1966 استغرقت عاماً واحداً. وكانت الفترة التي تفرغ المتفاوضون فيها للتداول في قضية الحرب والسلام داخل تلك اللجنة هى الفترة بين بداية يونيو 1965 و 25 مارس 1966، التاريخ الذي قدمت فيه اللجنة توصياتها.
    العبرة في الجانب العملياتي من صنع السلام ليست في الشهور والسنوات التي تستنهك في التفاوض وإنما في الاهتمام السياسي والفكري الذي يُولى للقضية، والإمكانات التي توفر لتعميق الالمام بجذور المشكل. ومن محاسن تجربة الايقاد أنها هيأت الفرصة للطرفين لتقصي تلك الجذور، وأهم من ذلك، أتاحت لطرفي النزاع، عبر الحوار، الوعي بالنتائج التي قد تترتب على الخيارات التي يدعوان لها. ففي خلال عامي التفاوض (منتصف يونيو 2002 وأول يونيو 2004) تمت، برعاية الايقاد، حوارات على مستوى السياسيين والفنيين المفاوضين، ومشاورات ثنائية وجماعية مع الوسطاء والمراقبين، وورش عمل شارك فيها ممثلون للطرفين من أجل العصف الفكري (Brain Storming) حول قضايا دستورية واقتصادية، وندوات لسماع آراء الخبراء في قضايا اختلفت فيها الآراء مثل النفط والنظام المصرفي. هذه المناشط، التي ربما كان يحسبها بعض المشاركين في التفاوض اضاعة للوقت، أضافت عمقاً للمفاوضات افتقدته كل المفاوضات السابقة. كما أن الحرص الفائق من جانب مفاوضي الحركة على أن لا يتركوا أمراً للصُدف قاد إلى امتداد فترة التفاوض. وعلى من لا يدرك سبب ذلك الحرص الإطلاع على عنوان كتاب أبيل ألير عن جنوب السودان، إن لم يملك الوقت لقراءته. تَطاولُ فَترةِ التفاوض، والسرية التي اكتنفت أعمالها، أديا إلى احتشاد أجهزة الإعلام باخبار اختلطت فيها الحقائق بالظنون، وما آفة الأخبار إلا رواتها. فرغم الجدية التي أقبل بها أغلب الاعلاميين على تناول مفاوضات السلام، إلا أن هواة الاثارة من بينهم كثيراً ما اعتمدوا في أخبارهم على التخرص لا الاستيقان مما كان له مردود سلبي على عملية التفاوض، وتشويش على عامة الناس. وكأن رواة الأخبار هؤلاء رموا وراء ظهورهم القاعدة الذهبية للخبر الصحفي التي تقول "لا خبر دون الإجابة على أسئلة خمسة: ماذا، متى، من، أين، كيف".
    اتفاقيات السلام التي نشير اليها كتاب قرأ الناس مقدمته، وطُرح عليهم متنه، ولكن لما تدون خاتمته بعد، والأعمال بخواتيمها. ولن تَحسُن الخواتيم إلا إن أخذ كل طرف من الطرفين الموقعين التزامه نحو الاتفاق مأخذ جد، وحمل من معه من الأنصار على ذلك. هذا أمر لا توجبه على الطرفين الأخلاق فحسب، بل يفرضه عليهما الاتفاق نفسه حيث تنص الفقرة 2.12.2 من بروتوكول اقتسام السلطة على ما يلي:- "عند التوقيع، يصبح الطرفان مُلَزمين بالاتفاق وعليهما القيام بكل الالتزامات التي تنشأ عنه، وبوجه خاص الالتزام بتطبيق الاتفاق واعطاء الصيغة القانونية والدستورية للترتيبات الواردة فيه". وتضيف الفقرة 3.12.2 "عند التوقيع يتعهد الطرفان بالتأكد من (أو ضمان) التزام كل الأجهزة، واللجان، والمؤسسات الواقعة تحت سلطتيهما، بما في ذلك إلزام الأعضاء المنتمين لهذه المؤسسات، بنصوص الاتفاق".
    الاتفاق أيضاً لن يحقق غاياته إن لم يُحط بسياج من التأييد الشعبي الكامل، ولا أحسب أن طرفي الاتفاق في حاجة لمن يبادههما بهذه الحقيقة بعد أن أكداها في ديباجة بروتوكول اقتسام السلطة. فالديباجة تُعلن، من بين ما أعلنت، مبدأين أساسين: الأول هو "العزم على الدخول في عهد مسئول وعادل وشـفاف يقـوده الشعبPeople- Led) ) ويعتمد الاستقامة" (Integrity - Based). والثاني هو "أن التطبيق الناجح للاتقاقية يعتمد لدرجة عالية على وقوف غالبية الشعب السوداني وراءها". السؤال، اذن، هو كيف يعبأ الشعب وراء الاتفاق؟
    الرد على هذا السؤال يتطلب حواراً ذكياً وأميناً. ولا يكون الحوار ذكياً إن لم يرتكز على الحقائق الموضوعية، ولا يكون أميناً إن صحبه تزيد أو لحق به استكبار. لقد وجد كثيرون في فاتحة الكتاب ومتنه، والخاتمة لما تدون بعد، ما يصلح لتراجُعِ الآراء بشأنه. وهكذا ولجت باب الحوار كوكبة من المعلقين النابهين والمواطنين المهمومين بشأن بلادهم، ومع هؤلاء يكون حواراً. طائفة أخرى من المعلقين تنكبت الطريق حين ابتنت الأحكام على ظنون، والظن لا يُغني عن الحق شيئاً، بل يستدعى الاستيثاق، وسنأخذ هؤلاء بالوثيقة في الأمر. ما عدا ذلك تشغيب لا يُسمى أصلاً حواراً أو يصلح مدخلاً لحوار. أسماه ـ بحق ـ الدكتور الشفيع خضر "الكلام الدائري"، وله فيه قول. كتب الشفيع للمصور :"من غير الممكن تبرير حالة الحيرة والاضطراب التي أصابت قطاعات واسعة من نُخب السياسة والثقافة بعد توقيع الاتفاقية فركنت إلى الأحاديث الدائرية (النِقْة) وراحت تطرح سؤالاً تلو الآخر يبحث عن اجابات تائهة في حين أن هذه النُخب هى التي من المفترض التوجه اليها بحثاً عن مثل هذه الاجابة حول حاضر ومستقبل الاتفاقية" (المصور 25/6/2004).
    في مقالاتنا العشر نسعى لتحفيز عقول الذين يفترض التوجه اليهم بالحوار حول حاضر ومستقبل اتفاقيات السلام، وسنترك "النِقْة" لضفادع لا تحفل بسواها. و"النَقَاق" ـ اسم مبالغة من نَق ـ تطلقه العرب على الضِفدع. في هذه المقالات وصف أو تفسير أو شرح لوقائع وأحداث ورؤى وقرارات أملك بحكم قربي من صنعها أن أروي شيئاً عنها. كما فيها آراء حول الماضي والحاضر والمستقبل لا أُحَمِّل غيري مسئوليتها. وفي الحالتين لا بد من التنبيه إلى أن الاتفاقيات ليست هى برنامج الحركة الشعبية، بل هى في مجملها ميثاق تعاهدت عليه الحركة مع الحكومة، والتزمت معها على تطبيقه، وعلى استحثاث القوى السياسية الأخرى للإنضمام اليه لما فيه من مقومات لوفاق أشمل.
    المقالات العشر تتناول قضايا ليس من بينها واحدة ينبغي أن تُفاجئ، ناهيك عن أن تُفِجع، من يطلع عليها. لهذا أثار دهشتي في بعض التحليلات للاتفاقيات تصويرها وكأنها داهية حلت بالبلاد وفجعت اولئك المحللين شديداً. القضايا هى الجنوب، وحدة السودان وحق تقرير المصير، المناطق المُهمشة، الديمقراطية، الدستور، الدين والدولة، التنمية والاقتصاد، الهُوية السودانية، الدور الخارجي أو ما يحلو للبعض تسميته التدويل، وما يتفرع من هذه القضايا من أمور. قَدَرتُ أن إجلاء ما ورد في الاتفاقيات من نصوص لا يكفي بمفرده للكشف عن الدوافع العميقة التي قادت لاعتماد تلك النصوص، بل لابد من استرجاع الحلول التي ابتُدعت في الماضي لمعالجة نفس القضايا. قَدَرتُ أيضاً أن تَشَوف مآلات هذه الاتفاقيات لن يكتمل دون استذكار التجارب الماضية في التعامل مع قضية الحرب والسلام. العودة للماضي أمر لا مندوحة عنه إذ لن تستقيم قراءة الحاضر، أو استشراف المستقبل، دون تبصر في الماضي. بهذا المنهج تكتمل الاجابة على التساؤلات الموضوعية التي بدرت، ويكون التفاعل الفكري مع المسائل التي طرحت بين يدي القراء. وفي هذا التفاعل نستلهم من الجديد من الآراء ما يعيننا على تطوير رؤانا، ونحمد ما ارتحنا اليه من رأي صائب يثري الحوار، ونبين وجه الخطأ فيما نظن أنه جانب الحق بلا عدوان. وعبر تدافع الرأي والرأي الآخر تنجلي الحقيقة، فليس هناك ما يوهن مصداقية المعرفة أكثر من خلط أحكام القيمة بالوقائع، أو تلوين الوقائع بالاصباغ إما لتتفق مع حكم مسبق، أو لإبراء الذمة.
    ولكن، قبل تداول القضايا النوعية التي عالجتها الاتفاقيات رأيت من الخير التصدي لموضوعين شغلا الناس، ولربما كانا من أكثر الموضوعات التي ألحف النقاقون في الحديث عنها، وليس للملحف إلا الرد. الموضوعات هما: ثنائية الاتفاق وشمولية الحل. وبصرف النظر عن "النِقة"، فأن التساؤل حول الموضوعين مشروع ولهذا نتناولهما بما يستلزم الأمر من جدية في الاقتراب مع التمييز بين نوعين من التساؤل فيما يتعلق بالموضوع الأول، أي "ثنائية الاتفاق". فهناك التساؤل الإستفهامي الجدير بالرد لأنه يصدر عن عدم المام بما يدور في أروقة السياسة منذ أغسطس 1989 يستوجب السؤال الرد أيضاً حتى وإن كان استنكارياً طالما صدر من صاحب عقل صحيح اختلطت عليه الأمور. فطبيعي أن يتبادر لصحيح الذهن أن استفراد طرفين سياسيين بالبت في أمر البلد كله منكر سياسي قبيح، والمنكر هو ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه. فما الذي دفع الطرفين، وبخاصة الحركة الشعبية على ذلك القبيح المنكر؟ سؤال نجيب عليه في هذا المقال. أما شمولية الحل فسنتناولها في المقال التالي انطلاقاً من يقيننا أن أي اتفاق لا يحيطه شمول لن يدوم، واستتباعاً لتأكيد طرفي الاتفاق على رغبتهما في أن يكون الحل شاملاً. وهنا نسأل ونجيب: ما الذي يعنيه الشمول؟ هل هو شمول تمثيلي؟ أم شمول موضوعي؟ أم الاثنان معاً؟ ثم ما هو المنفذ في الاتفاقيات الذي ننفج منه إلى تحقيق هذا أو ذاك؟ في كل هذه القضايا لن نكشف عن أسرار لأن أغلب ما سنلقي عليه الضوء، حتى وان كان فيه ما لا يسعد البعض، مبسوط للقراء أو الباحثين، يجدونه على صفحات الصحف، وبين دفات الكتب، وفي مقرر ات التجمع، وخلال رسائل الحركة أو بيانات النظام. كما ليس فيما نسجل في هذه المقالات ما يوجب الاستبداع، فآراؤنا حول دور التجمع والحركة في قضية السلام أوردناه في كتابٍ الحربُ والسلامُ موضوعه، ونُشر حولاً كاملاً قبل اتفاقيات نيفاشا.
    نجئ على الموضوع فنقول إن "الثنائية" نتاج لعملية تعود إلى التاسع عشر من أغسطس 1989 حين تم أول لقاء بين الحركة ونظام "الانقاذ"، والنظام وليد لما يتجاوز الشهر من العمر. تم ذلك اللقاء تحت رعاية الرئيس منقستو، ثم امتد إلى نيروبي في ديسمبر من نفس العام تحت رعاية الحكومة الكينية وادارة الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر. وكان الهدف من اللقاءين "حل مشكلة الجنوب" ببعدها التاريخي المعروف، واقتسام السلطة بين الطرفين. المفاوضات التي تمت في اللقاءين تحطمت عند صخرة استعصى صدعها يومذاك، وما زال عصياً على الصدع حتى اليوم، ذلك هو اصرار الحركة على توجهها القومي الذي يحتم عليها، فيما ظلت تقول، العناية بأمر السودان كله، وليس الجنوب وحده. لهذا طرح مفاوضو الحركة، كبديل لحل مشكلة الجنوب، علاج موضوع نظام الحكم في السودان كله، وكبديل لاقتسام السلطة تخلي الانقاذ عن الحكم لمصلحة نظام ديموقراطي يقوم على أسس جديدة يرتضيها الجميع. في ذات الوقت أعلنت الحركة ـ كما فعلت مع أنظمة الحكم في الماضي ـ عن استعدادها للتفاوض مع النظام الجديد انطلاقاً من مبدأ ثابت هو الحوار مع الحكـومة الراهنة (Government Of The Day ) أياً كانت.
    لِما أوردنا من سبب لم تُفضِ محادثات أديس أبابا ونيروبي إلى شئ، فتبعتها محاولات أُخر نَمُر عليها سريعاً، وكانت إما مباشرة أو عبر الوسطاء (الرئيس الكيني دانيال آراب موي ورجل الأعمال تايني رولاند في 1989، مساعد وزير الخارجية الأمريكي هيرمان كوهين في مارس 1990، الرئيس النيجيري اوليسونق اوباسانجو (ولم يك رئيساً يومها) في نفس العام، الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني في 23 فبراير 1993). في كل هذه اللقاءات لم يتبدل موقفا الطرفين حول القضايا الجوهرية، وبخاصة حول دعوة الحركة لشمولية الحل. مع ذلك، أسفرت وساطة موسيفيني عن حدث مهم هو ترتيب أول لقاء مباشر بين رئيس الحركة الشعبية وممثل شخصي عن الفريق البشير هو الدكتور علي الحاج. في ذلك الاجتماع قدم رئيس الحركة الشعبية أطروحته التقليدية حول الحل الشامل وضرورة اشراك جميع القوى السياسية في أي حل مرتقب. على ذلك الطرح رد الدكتور علي الحاج بالقول: "نحن لن نتفاوض إلا مع من يحمل السلاح". ومنذ تلك اللحظة أصبح الحوار، سواء كان من أجل حل "مشكلة الجنوب" كما كان يريد الطرف الحكومي، أو من أجل حل "مشكلة السودان" كما كانت تقول الحركة، حواراً بين بندقيتين.
    وفي 1992 بدأت أول مفاوضات ثنائية مباشرة بين حكومة الانقاذ والحركة الشعبية في ابوجا، نيجيريا تحت رعاية الرئيس النيجيري ابراهيم بابنقيدا وبحضور مبعوث شخصي منه كان يتصدر طاولة المفاوضات. تلك المفاوضات انتهت بعد دورتين (الأولى في صيف 1992 والثانية في ربيع 1993) باتفاق الطرفين على ألا يتفقا. وبعد مبادرات عديدة لفتح قنوات أخرى للحوار اقترح الفريق البشير في سبتمبر 1993 على زملائه في قمة الايقاد التي كانت مخصصة للنظر في مستقبل المنظمة، القيام بمبادرة لإحلال السلام في السودان. فمبادرة الايقاد، على غير ما يظن الكثيرون، تمت باقتراح من حكومة السودان، بل وبطلب من الرئيس نفسه. لذلك الاقتراح استجابت الحركة واستقر الرؤساء على تكوين لجنة تضم أربعة منهم (موي، أفورقي، زيناوي، موسيفيني) تبنوا فيما بعد مشروعاً يتضمن الأسس الهادية للحوار بين الطرفين عُرف باعلان مبادئ الايقاد، ويعود الفضل في صياغة الاعلان إلى الرئيسين زيناوي وأفورقي. وعلى أساس ذلك الاعلان بدأت مفاوضات الايقاد في مارس 1994.
    لربما كان للجبهة القومية الاسلامية تصور للتحالف مع الحركة الشعبية يتجاوز الاعتبارات التكتيكية الظرفية ذات الطابع الانتهازي، ربما زُين لها أن الحركة الشعبية تسعى لتغيير جذري للكيان السياسي، وأن الجبهة تعمل من أجل تحول جوهري في البلاد، وأن هذا التوافق في الرغائب قد يشكل نقطة التقاء. ليس هذا وهماً توهمته، وإنما هو استنتاج تسنده قرائن. ففي ندوة عقدت في مركز كارتر باتلانتا، أعلن، د.عبد الوهاب الأفندي أحد مفكري الجبهة ـ بل أحد ناشطيها يومذاك ـ أن الجبهة بحكم سعيها لاعادة صياغة المجتمع السوداني هى أقرب للحركة الشعبية التي تدعو، هى الأخرى، لخلق سودان جديد، منها لـ "القوى التقليدية". وكنت قد شاركت في ذلك الاجتماع على رأس وفد للحركة مع ممثلين لفصائل التجمع أذكر منهم مبارك المهدي (حزب الأمة)، التجاني الطيب (الحزب الشيوعي)، والفريق الراحل فتحي أحمد علي (القيادة الشرعية).
    ما هو موقف القوى السياسية السودانية الأخرى من كل ما كان يدور في ساحة الحل السلمي من جهد ثنائي؟ وما هو موقف القوى الاجتماعية؟ ثم ماذا كان رد فعلها على قول النظام: "لن نفاوض إلا من يحمل السلاح". في طوال الفترة التي سبقت مؤتمر أسمرا 1995 كان التجمع جسماً غير متبلور (Amorphous) وكانت رؤى فصائله شتى حتى في امهات القضايا. مع ذلك، ورغم تفاوض الحركة مع النظام الجديد بمعزل عن القوى السياسية الأخرى من أجل الوصول إلى اتفاق يُتوج بتحالف في الحكم، تواصلت علاقاتها مع القوى السياسية الشمالية التي بدأتها منذ ربيع 1986 في كوكادام بهدف التشاور من أجل الوصول لحل نهائي شامل للمشكل السوداني. ويجدر بالذكر أن مفاوضات كوكادام نفسها استغرقت وقتاً طويلاً للاتفاق على إن كان المشكل الذي يتجه اليه الحل هو مشكل الجنوب، أو ذاك الذي تسميه الحركة "مشكلة السودان".
    مهما كان الأمر، لم تتبلور إستراتيجية التجمع الوطني الديموقراطي بالنسبة للأهداف الكبرى التي تناضل الحركة من أجل تحقيقها، كما لم تتبلور رؤية الحركة بالنسبة لآليات النضال المشترك (بينها وبين التجمع) لمجابهة الأوضاع الجديدة، إلا في يونيو 1995، أي بعد سبع سنوات من قيام نظام "الانقاذ". ففي ذلك التاريخ عقد التجمع ما أسمى مؤتمر القضايا المصيرية واتخذ فيه قرارات مهمة. وكان لتلك القرارات شقان: الشق الأول نظري تناول الأسس التي سيقوم عليها سودان ما بعد الانقاذ، وسيظل نظرياً ما دام "الانقاذيون" يسيطرون على الحكم، والثاني عملي يتعلق بوسائل تحقيق الشق الأول، أي إسقاط النظام؛ أو كما كان يقول رئيس الحركة لرفاقه في التجمع: "تحقيق الشق الأول رهين باسترداد الفضاء السياسي الذي يسيطر عليه آخرون". على ضوء ذلك، توافقت الحركة مع بقية فصائل التجمع على مشروع متكامل لا سر فيه، ولا في الهدف الذي يبتغيه: استخدام حزمة من وسائل النضال هى العمل الجماهيري، النضال المسلح، العمل الدبلوماسي بهدف "اقتلاع النظام من جذوره". وكان ذلك هو الرد الطبيعي على من قال "لن نفاوض إلا من يحمل السلاح".
    في ذات الوقت أقر التجمع استمرار الحركة في المفاوضات الثنائية تحت مظلة الايقاد، خاصة وقد رأى أن اعلان مبادئ الايقاد يعالج مجمل عناصر المشكل السوداني رغم أن الهدف الذى كان يترجاه الرئيس البشير من المبادرة عندما طلب من دول الايقاد التوسط كان هو "حل مشكلة الجنوب". ويُخيل لي أن بعض فصائل التجمع، رغم موافقتها على استمرار الحركة في التفاوض، لم تكن تتوقع أن تُفضي المفاوضات إلى اتفاق طالما ظلت الحركة تتمسك بالطرح العلماني، وظل النظام يتمسك بالدولة الدينية. وعلى أي، مضت الحركة في التفاوض دون أن تتوقف لحظة عن استخدام وسائل النضال التي خبرتها ودربت عليها، كما لم يكف النظام هو الآخر، عن المُضي في الحرب في ذات الوقت الذي كان يبحث فيه عن السلام.
    بدهي أن الحركة كانت تتوقع أن تثمر جهود التجمع في استخدام أدوات النضال المتكامل التي استقر عليها رأيه مما يؤدي إلى إنهاك نظام الانقاذ إن لم يكن اقتلاعه من الجذور، وهذا ما لم يكن، فلماذا؟ ثمة سببان أحدهما أدائي يعترف به التجمع نفسه وهو عجز فصائله ـ لأسباب عديدة ـ عن التفاعل الديناميكي الذي يحقق تحولاً نوعياً يصبح معه ذلك الكيان الجامع لأغلب القوى السياسية السودانية شيئاً أكبر من مجموع العناصر المكونة له. لهذا القصور كانت هناك انعكاسات على الأداء، خاصة في الميادين التي يُكِسب الانتصارُ فيها التجمع قوة، ويزيده منعة إن لم يكن كمقاتل شرس، فعلى الأقل كمفاوض يأبه له الطرف الذي يفاوضه. هذا الحكم لا ينتقص بحال مما أنجز التجمع في معاركه السياسية مثل إفلاحه في توحيد القوى السياسية بما فيها الأحزاب الكبرى والحركة الشعبية والتنظيمات ذات الجذور الجهوية عبر كل الفوارق الأيديولوجية، ، حفاظ هذه الكيانات على سلامة قواعدها وحمايتها ضد محاولات الاختراق الدائمة، الحملات الدبلوماسية لمحاصرة النظام (وإن كان حليف التجمع الأكبر في تلك الحملات هو النظام نفسه الذي تمتع في سنواته الأولى بمهارة فائقة في اطلاق الرصاص على قدميه)، العمل الشعبي المعارض خاصة في أوساط الشباب والنساء دون انتقاص من المبادرات المهمة للجماعات الطوعية من المحامين والطلاب في تلك الأوساط. الذي يعنينا هنا، اذن، هو القصور الذاتي الذي حال دون أن يصبح التجمع، رغم كل انجازاته، قوة يأبه لها من تختصمه، والفشل دوماً يبدأ حيث ينتهي النجاح.
    السبب الثاني في القصور عضوي، فلأسباب تأريخية ظلت القوى الشمالية تؤمن ايماناً قاطعاً أن الطريق للاطاحة بالانظمة التي تستولى على الحكم بالعنف هو الانتفاضة، وأن للانتفاضة هذه طريقاً واحداً لا ثاني له هو العصيان المدني والاضراب العام، ثم انحياز الجيش إلى الشعب، إما كقوة مساعدة داخل الجيش (أكتوبر 1964) أو بمشاركة مباشرة (أبريل 1985). ولكن منذ البداية كانت للحركة قراءة أخرى لما وقع في السودان في الثلاثين من يونيو 1989، ليس في هذه القراءة، هى الأخرى، سر يذاع، كما أن ليس ما سنرويه هو فصل من كتاب يدوي عن كيف تدبر الثورات. هذه القراءة أبانها زعيم الحركة في بعض رسائله، وخاطب بها الجموع في منابر عديدة منها، على سبيل المثال، اللقاء مع السودانيين في القاهرة في ديسمبر 1997، تلك القراءة تقول: "لا غنى للعمل العسكري عن العمل الجماهيري في المعارضة، فكلاهما يكمل بعضه البعض، إلا أن الظن بامكانية قيام انتفاضة ضد حكومة البشير على النهج المعروف ظن ليس في محله". في تسبيبه لذلك الرأي قال قائد الحركة أولاً الفريق البشير لم يقم بانقلاب عسكري وإنما قاد انقلاباً لمصلحة تيار سياسي له رؤاه وتنظيماته ومراكز ارتكازه الداخلية والخارجية. ثانياً أن البشير، كعسكري قاد انقلاباً ناجحاً وشارك في تدبير انقلابات لم تنجح، يعرف أين مكمن الخطر عليه في الجيش. ثالثاً أن التيار الذي يمثله جزء من الحركة السياسية السودانية الشمالية وكان له دور في الانتفاضات السابقة. لكل هذه الأسباب، انتهى قائد الحركة إلى أن النظام سيتجه أول ما يتجه إلى إفراغ الجيش والدولة ومنظمات المجتمع المدني من كل عناصر الخطر عليه فيها، أو على الأقل شل فاعليتها. أضاف أن الانتفاضات حسب التجارب السابقة كانت تتسم بالعفوية، ولهذا فبدون أن تكون الانتفاضة انتفاضة منظمة محمية فلن تقدر على الصمود أمام قوة جماهيرية أكثر تنظيماً مهما كان حجم تلك القوة. وذكر على سبيل المثال أنه لو افترضنا أن الجبهة لا تمثل إلا خمسة بالمائة من أهل السودان فأن وجود (50) شخصاً قادراً ومنظماً ومسلحاً وسط مظاهرة عفوية تضم ألفاً لكفيل باثارة الفزع بين هؤلاء الألف. لم يلقَ ذلك الرأي اهتماماً، إما للثقة بأن الانتفاضة آتية لا ريب فيها، أو للظن أن الرأي المطروح جاء من رجل عديم خبرة بدروب السياسية في الشمال، أو للقصور الأدائي عن التسخير الأمثل للطاقات التي كانت تهتف في أبريل "مليون شهيد لعهد جديد"، أو لمجمل هذه الأسباب.
    لقد كان التجمع محظوظاً في أن ارتكازه ـ منذ الوهلة الأولى ـ كان على الحزبين الكبيرين، أياً كان اختلاف الرأي معهما أو حولهما، فلا جدال أنهما أعطياه قيمة اضافية سياسياً ومعنوياً، ليس في الداخل فحسب حيث يواجه التجمع نظاماً يتوسل للسياسة بالدين، وإنما أيضاً في دول الجوار القريب. لهذا السبب قضت ظروف موضوعية بتولي الميرغني رئاسة التجمع، إلا أن الظن بأن تلك القيادة التي تكيف احساسها وتشكل وجدانها بـ "صلاة في سلام في سلام" يمكن أن تتحول إلى قيادة عسكرية ميدانية، أو راعية لعمل عسكري ظن لا يثبت عند الفحص عنه. فلا عجب إن لم تصبح كسلا "مزار شريف" أو تصير جبال التاكا "بورا بورا" السودان. أياً كان السبب، أدائياً أو رأوياً فالنتيجة واحدة: لم يولد نشاط التجمع الكتلة الحرجة التي تمكنه من الانطلاق لإجبار النظام على قبوله مفاوضاً من موقع الندية، دعك عن القدرة على "الاقتلاع من الجذور". ومن المُدهش حقاً أن ميثاق الدفاع عن الديموقراطية الذي أُعد في 17/11/1985 ما صدر إلا تحسباً لاحتمال انقلاب تقوم به الجبهة. فالميثاق الذي مهره ممثلو (1 حزباً واتحاداً بالاضافة إلى المجلس العسكري يتحدث في ديباجته عن الدفاع عن الديموقراطية "في مواجهة بقايا مايو ممثلة في الجبهة القومية الاسلامية". لأجل ذلك دعا الميثاق للآتي: "نرفض رفضاً مطلقاً أي توجه لاقامة دكتاتورية عسكرية" (الفقرة 2)، "نتعهد باتخاذ التدابير اللازمة والعاجلة لمقاومة أي اعتداء على الديموقراطية" (الفقرة 4)، "اعلان الاضراب السياسي العام والعصيان المدني فور الاعتداء على النظام الديموقراطي" (الفقرة 5)، "نتعهد بأن يتحول التجمع الوطني إلى جبهة مقاومة شعبية فور أي اعتداء على الديموقراطية" (فقرة التجمع قبل انضمام الحركة لصفوفه، والتي يفترض أن تكون قد أضافت إلى منعته.
    يعسر علينا، ازاء هذه الحقائق، ادراك ما عناه الدكتور الشفيع خضر في مقاله الذي أشرنا اليه في مطلع المقال، والذي استهله برأي صائب هو أن "التفاوض، ثم الاتفاق، جاءا نتاج حالة توازن الضعف والإرهاق التي تمكنت من الصراع السياسي في البلاد. والضعف الملحوظ في نشاط الحركة السياسية والجماهيرية داخل السودان رغم استمراريته وتصاعده". الذي يعسر ادراكه هو ما أضاف: "التفاوض بدأ ثنائياً وسينتهي ثنائياً رغم أنف كل الأصوات التي ظلت تنادي بتعديل هذا الوضع الشائه. وهذه هى ارادة القوى الدولية التي تولت قيادة قطار التفاوض حتى محطته الأخيرة، وهذه الإرادة صادفت هوى عند أهل الحكومة، كما لم تجابه بموقف قاطع من الحركة الشعبية التي لا أعتقد أنه كان بامكانها فعل أكثر من مجرد المطالبة باشراك الآخرين". صحيح أن الحركة لم يكن في مقدورها أكثر من المطالبة باشراك التجمع، وقد فعلته. وصحيح الافتراض أن النظام سُيقرُ عيناً ان اقتصرت مفاوضات الايقاد على طرفين، فهذا هو ما نادى به وحرص عليه منذ 1989، كما هو صحيح أيضاً أن التفاوض بدأ ثنائياً، ومن الممكن أن ينتهي ثنائياً، وليت د. الشفيع استبدل حرفاً بحرف، استبدل سين التنفيس في "سينتهي" لأنها تخلص بالفعل لاستقبال حدث لا شك في وقوعه، بحرف يفيد الاحتمال هو "قد". لا أقول هذا تقعراً وإنما لأن وقوع النهاية المحتملة مرتبط بأمر آخر في يدنا نحن، لا في يد غيرنا. هذا الأمر بالقطع ليس هو المناداة بتعديل "الوضع الشائه"، وإنما تحويل موازين القوى بالقدر الذي يفرض به التجمع نفسه على طاولة المفاوضات. وفي السياسة تثقل الموازين وتخف بالارادة. الأستاذ كمال الجزولي كان أقرب للحقيقة عندما كتب يقول: "التجمع ليس لديه ذات المنعة المادية التي للحكومة والحركة أو حتى ما يقاربها. ولكن لديه السند الشعبي الذي يشكل عنصراً يمكن أن يكافئ تلك المنعة ويستطيع في هذه الحالة إرغام اللاعبين الرئيسيين على مراجعة حساباتهما" (الصحافة 29/6/2004). ودقَّ كمال المسمار على الرأس عندما قال "دور التجمع ليس هو ترداد المطالبة: "اشركونا" وإنما تأكيد وجوده "نحن هنا".
    النقطة الثانية هى الايماء لارادة "القوى الدولية التي تولت قيادة قطار التفاوض حتى محطته الأخيرة" ثم فرضت الاتفاق على الطرفين. لا سبيل للمماراة في أن العنصر الخارجي لعب دوراً مهماً في تحقيق السلام، وسيلعب دوراً أهم في ضمان تنفيذه، خاصة فيما يتعلق بدعم الموارد اللازمة للانتقال من مرحلة الصراع إلى مرحلة البناء. ويخطئ من يظن أن اتفاقيات السلام ستبلغ غاياتها، حتى وأن حظيت بموافقة ودعم كل القوى السياسية، إن لم تتوفر لها الأسباب لحل مشاكل النازحين واللاجئين، وتشييد البُنى التحتية المادية والاجتماعية التي دمرتها الحرب، واعادة تأهيل الجيشين وتوفير فرص العمل المنتج للمسرحين منهم، وقبل هذا وذاك إلغاء الديون التي تثقل كاهل السودان. فالمخاطر الحقيقية من الانتكاس قد لا تكون سياسية كما قال، بحق، الدكتور حسن مكي (الرأي العام 6/6/2004). طرفا التفاوض ادركا هذه الحقيقة ولهذا لم يكتفيا بتوجيه نداء للمجتمع الدولي ينشدان فيه العون، وإنما تعهدا بانشاء صندوق للتعمير تودع فيه المعونات متعددة الأطراف (Multi-donor Trust Fund)، حسب نص الفقرة 5.15 من بروتوكول اقتسام الثروة.
    كنت سأكتفي بالقول إن الدور الذي لعبته ـ وقد تلعبه القوى الدولية بشأن السلام السوداني ـ لا يختلف كثيراً عن الدور الذي تلعبه نفس الدول لحل المشكل الفلسطيني، ولمعالجة تداعيات الحرب الأثيوبية ـ الاريترية، ولفض النزاعات في دول البلقان، ولمراقبة الموقف في منطقة البحيرات الكبرى، ولترتيب الأوضاع في قبرص وكشمير. ولن يلقمنا حجراً من يقول أن أمريكا أو الاتحاد الأوروبي، أو أن المنظمات الطوعية الغربية تفعل هذا من أجل مصالحها، فهذا صحيح مائة بالمائة. فكما لدولة جُزر القَمر مصالح لامريكا مصالح، وكما لقبرص اليونانية أهداف استراتيجية فللاتحاد الأوروبي أهدافه، وكما لمنظمة الإغاثة الاسلامية غايات تبتغيها من وراء ما تقدم من خدمات فلمنظمة كاريتاس الكاثوليكية واتحاد الكنائس اللوثرية غايات.
    نعم كنت سأكتفي بهذا القدر لولا أن اشارة الدكتور الشفيع استدعت إلى الذاكرة مقالات أخرى وتعليقات وبيانات وتحليلات لآخرين حول نتائج المفاوضات. جاءت التعليقات في مقالات لأشتات، فيهم المثقف صاحب القلم، وفيهم الأكاديمي المحلل، وفيهم السياسي المعارض، وفيهم الاسلامي الذي ثبت عنده يقين أن الغرب كله نذر نفسه في هذه الحياة الدنيا لمهمة واحدة هى تقويض المشروع الحضاري وما ماشاكوس ونايفاشا إلا معاول. بين كل سطر وآخر من تلك المقالات تطل عليك كلمات مثل "الحلول المفروضة"،"الحل الأمريكي" "غياب الارادة الوطنية"، وجميعها اشارات توحي أن الاتفاق لم يتم إلا رضوخاً لإرادة خارجية. يدعو للاستعجاب في أغلب هذه الأحكام طابعها الاستكباري، ومن مظاهر الاستكبار الامتناع عن قبول الحقيقة معاندة. فالقوى الدولية المشار اليها، وبخاصة الولايات المتحدة الامريكية، تلعب دوراً مباشراً في السياسة الداخلية السودانية بسبب الحرب في الشمال والجنوب معاً. ففي الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان تتولى أمر الغذاء والدواء والخدمات الانسانية الضرورية منظمات طوعية خارجية، لا التجمع الوطني الديموقراطي ولا الحركة الشعبية ولا الحكومة في المناطق التي تسيطرعليها، وهى جزء من السودان. هذه المنظات جميعها تنتمي اما للولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي. وفي الجنوب، تتولى الأمم المتحدة، منذ عهد الديموقراطية الثالثة، توفير الخدمات الضرورية، بما فيها الغذاء، عبر برنامج شريان الحياة لمنطقة تبلغ مساحتها مساحة ثلاث دول.
    وعلى الصعيد السياسي كانت أمريكا هى الضيف الدائم على موائد صنع السلام: جيمي كارتر نيروبي 1989، هيرمان كوهين مارس 1990، ديفيد شين صاحب نظرية سياسة الهبوط الناعم (Soft Landing Pol
    icy 1966)، هاري جونستون ديسمبر1999، جون دانفورث مايو
    2001، بعض هذه المحاولات سبق الايقاد، والبعض الآخر تقاطع معها، ولكن في كل الحالات حُظى هذا التدخل بقبول من القوى السياسية المختلفة، لا ندري إن كان ذلك رِضى عن الحال، أم استكانة له. فلا أذكر اعتراضاً واحداً على كل هذه المبادرات من جانب أي معارض للحكم أو مؤيد، وإنما أذكر بوضوح كيف كانت زعامات الأحزاب، وقيادات منظمات المجتمع المدني، والرؤساء السابقون، والاكاديميون الباحثون، يحرصون على اللقاء مع هؤلاء المبعوثين والحفاوة بهم. أقول الحفاوة لأنني لا أذكر حالة واحدة تسلم فيها أي من هؤلاء المبعوثين انذاراً (شديد اللهجة أو ضعيفها) ضد التدخل الأجنبي في الشأن السوداني.
    التدخل "الحميد" ـ والتعبير من نحت السيد الصادق المهدي ـ لم يقتصر، فيما نملك من أدلة، على المعونات الانسانية، كما لم يقف الرضى بالتدخل (حميداً كان أو غير حميد) عند حد الاستكانة السلبية لقدر واقع. فقد ظللنا في المعارضة، مثلاً، ومنذ استيلاء الجبهة القومية الاسلامية على الحكم نستعين بهذه القوى، منظمات وحكومات، في حملاتنا الدبلوماسية لمحاصرة حكومة الانقاذ في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي لجنة حقوق الانسان، وفي المؤتمرات الدولية لحقوق الانسان، وفي الندوات العلمية. ولم نكن نحس في أية لحظة أننا نخدم مصلحة خارجية، بل كنا نسعى لتحقيق مصالحنا وإن تقاطعت مع مصالح غيرنا. وبنفس القدر لا نحتسب أن الذين ينددون اليوم بالاتفاق من أنصار النظام، جهاراً أو على استحياء، ويهرفون بنفس القول السخيف عن توغل الخارج في شئون الداخل، لا يعرفون جيداً أن الخارج لم يكن أبداً بعيداً عن صنع السلام، وعن محاربة الارهاب الدولي (والذي هو الوجه الآخر للتطرف بالداخل)، وعن تقويم مسار الاقتصاد. الوعي بهذه الحقائق ضروري حتى يكون التقويم صائباً، ولا يستصاب حكم ابتنى على الذهول عن الواقع ـ إن أحسنا الظن ـ أو التنكر له، إن أسأناه.
    الدعم الأساس الذي تقدمت به دول الترويكا+1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج + ايطاليا) للمفاوضين هو "التيسير" ثم السعي لتقريب وجهات النظر متى ما اشتد الخلاف وحَدِمت حرارته. ما هى مصالح هذه الدول بالذات في السودان حتى يستهمها أمره إلى هذه الدرجة؟ وكما قلنا ينبغي أن نفترض أن لأمريكا والنرويج وبريطانيا وايطاليا مصالح تماماً كما لبوركينا فاسو وجُزر القَمر مصالح عليا تقرر سياساتها على ضوئها. هذه المصالح ليست بالضرورة اقتصادية، فالنرويج، مثلاً، لم تدفعها المصالح الاقتصادية لتبني القضية الفلسطينية حتى انتهت بها إلى مقررات اوسلو، أو تبني قضية التاميل في سيري لانكا، وصراعات أمريكا الوسطى (قواتيمالا ونيكاراجوا). دافعها هو رؤية تتشاركها مع دول اسكاندناوه تتمثل في اقتصار هذه الدول لدورها الأممي في أمرين: المعونات الانسانية وصنع السلام، خاصة عبر الأمم المتحدة. وايطاليا، منذ عهد رئيس وزرائها السابق بيتينو كراكيسي جعلت مركز الكثافة في تعاونها التنموي هو دول الايقاد لعلاقات تاريخية، خاصة مع اثيوبيا واريتريا، واضافت السودان لهاتين الدولتين بحكم تكامله الاقتصادي ومتاخمته الجغرافية لهما. ولعل هذا هو الذي جعلها تتولى رئاسة اللجنة الانسانية لشركاء الايقاد، وهى اللجنة التي تشرف على المعونات الانسانية في ذلك المنبر. أما الولايات المتحدة فتتقاطع المصالح الاقتصادية مع الهموم الأمنية والضغوط السياسية الداخلية والاعتبارات الانسانية في تكييف سياساتها نحو السودان.
    التيسير (Facilitation) يبدأ بتوفير الموارد اللازمة للسفر والاقامة والاتصالات والاجتماعات، ويشمل أيضاً استجلاب الخبراء وتنظيم المحاضرات وورش العمل. ولكن، رغم ذلك التيسير لم يستنكف الطرفان أن يقولا لا للضغوط الأمريكية متى ما تجاوزت ما حسباه خطوطاً حمراء، وكان لهما من المنطق ما يدعم الرفض. فعلى سبيل المثال نصح المشروع الأول لانهاء الحرب الذي تقدم به السناتور دانفورث الحركة بالتخلي عن طرح قضية تقرير المصير لاحتمال رفضها من جانب الحكومة. الرد على ذلك النصح كان غليظاً إذ أبلغ أحد ممثلي الحركة (اليجا مالوك) السناتور خلال لقائه مع قائد الحركة في رمبيك وهو قادم لتوه من الخرطوم: "إن كان هذا رأيك فلماذا لم تعلنه في الخرطوم وتعود إلى بلادك". مثال آخر هو دعوة الرئيس بوش الطرفين للفراغ من التفاوض قبل بداية الأسبوع الثالث من يناير 2004 حتى يتم اشهار الاتفاق في الكونغرس خلال ادلاء الرئيس بخطابه عن حالة الاتحاد (State Of Union). وكانت الجزرة التي لوح بها الرئيس للمفاوضين هى أنه سيطالب الكونغرس خلال ذلك الاجتماع، والذي وجهت الدعوة لحضوره للبشير وقرنق، باعتماد مليارات الدولارات لبناء السودان. وبالرغم من أن الرئيس بعث طائرة خاصة أقلت مبعوثه الشخصي دانفورث لاصطحاب الوفد فإن ذلك لم يحدث. لم يكن السبب هو الاستهانة بالدعوة، ولا عدم التقدير لمن صدرت منه، وإنما لأن المفاوضات لم تكن قد نضجت بعد في تقدير الطرفين. هاتان القصتان أرويهما لأبين أنه كان لكل من الطرفين حدود دنيا في مواقفهما لم يقبلا التنازل عنها مهما كانت الضغوط. لهذا لم يجانف الأستاذ علي عثمان الحقيقة عندما قال لاحدى الصحف المصرية في معرض رده على سؤال حول دور الضغوط الأجنبية في "فرض" الوفاق: "ليس هناك ضغوط بمعنى فرض مواقف لم يقتنع بها الطرفان. حتى الحادثة الوحيدة التي استشهد بها الناس وهى الموقف الأمريكي الذي قدم حلاً لقضية ابيي بعد تعـذر اتفاق الطرفين حـولها كان مبنياً على عناصر توفيقية بين موقفي الطرفين" (الأهرام 14/6/2004).
    في حالة الولايات المتحدة كان الأساس القانوني للانفاق هو برنامج سلام السودان، فلا انفاق في أمريكا أو أي بلد تحكمه مؤسسات دون سند قانوني يتمثل في اعتماد يقره البرلمان (الكونغرس) بقانون. قانون سلام السودان وثيقة مطروحة على الملأ، كما أن أوجه الإنفاق التي حددها معلومة، وفي مقدور أي شخص يعرف سبل الوصول إلى قاعدة المعلومات لمجلس النواب الأمريكي أن يصل إليها. أشير على وجه الخصوص لذلك القانون لأنه يورد في مادته الخامسة نصاً حول دعم المناطق التي لاتقع تحت سيطرة الحكومة لإعداد أهلها للسلام والحكم الديموقراطي بما في ذلك دعم الادارة والتعليم والصحة والزراعة والبنية التحتية. تلك كانت إشارة للمناطق التي تخضع لسلطة التجمع، فالاشارة للجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وردت في نصوص أخرى من القانون. وبالرغم من صدور هذا القانون في عهد الادارة الجمهورية الحالية، إلا أن جذوره تعود للادارة الديموقراطية السابقة. فمثلاً، التقت وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت في العاشر من ديسمبر 1997 بوفد من التجمع في مدينة كمبالا، وكان ذلك أول اجتماع لمسئول أمريكي، على ذلك المستوى الرفيع، مع التجمع. ولعل من أبرز ما جاء في خطاب اولبرايت الافتتاحي أن أمريكا ستواصل الضغط على النظام لتحقيق تحول سلمي وأساسي يفضي إلى وضع ديموقراطي، وأنها ستقدم للتجمع دعماً سياسياً ودبلوماسياً إلى جانب دعم مادي غير عسكري، وأن درجة هذا الدعم تعتمد على قدرة التجمع على أن يكون بديلاً فاعلاً (Viable) للنظام لأن التجمع (في رأيها) مازال يعاني ضعفاً في وحدته، وأن على التجمع تعميق احترام حقوق الانسان ومراعاة الديموقراطية في المناطق الواقعة تحت سيطرته. هذا كان هو موقف القوى الكبرى من التجمع سبع سنوات قبل نايفاشا، فأن لم نستطع في التجمع، رغم تأييد شعبنا، ورغم المساندة المعنوية والمادية من القوى الدولية أن نحقق ما ترجاه شعبنا، وما كنا نبتغيه لإنفسنا منذ البداية، فان المسئولية تقع على عاتقنا أولاً وأخيراً.
    يبقى السؤال، لماذا تم الاتفاق الآن وليس في مرحلة سابقة؟ السياسة، كما قلنا في المبتدأ، لعبة توازن بين عناصر القوة، ولا ينتصر في الصراع السياسي إلا الأقوى. وان كان الصراع في ظل الديموقراطية يدار عبر قوة العدد كما تحددها آلية الانتخاب، فأن الصراع السياسي العنيف لا تحسمه إلا القوة المادية، ولهذا حق للامام الصادق المهدي أن يقول في وصفه للاتفاق إنه انتصار البندقية الأطول. اللهم لا حيرة ولا دهشة، فهذا هو حال السودان منذ أن وحده الباشا محمد علي، فعبر ذلك التاريخ كان الذي يحسم الصراع السياسي العنيف فيه، اما البندقية الأقوى أو الحربة الأطول. على أن امتداد الحرب وتمطيها، ثم تصاعد الأعباء المترتبة عليها أدى إلى انهاك الطرفين المتحاربين وخلق ما يمكن تسميته بتوازن الضعف المؤلم. كما أن تزايد المشقة الناجمة عن الحرب بشكل لا يطيقه أهل السودان، ولم يعد محتملاً من جانب القوى الكبرى التي ظلت تحمل العبء الانساني عنهم، خاصة في مناطق الصراع جعل المجتمع الدولي يولي قضية السلام اهتماماً فائقاً. وسواء كان الدافع للاهتمام هو ضغوط المنظمات الطوعية على حكوماتها، أو الوهن الذي اعترى المانحين (Aid Fatigue)، فقد احتل انهاء الحرب الأولوية القصوى في سياسات هذه الدول نحو السودان. وكان من أبرز مظاهر هذا الاهتمام تحول اللجنة الانسانية في مجموعة أصدقاء الايقاد ( تضم اللجنة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وروسيا واليابان) إلى لجنة سلام.
    ثم جاء عامل آخر قلب الموازين هو أحداث 11 سبتمبر 2001، ليس في السودان فحسب، بل وفي العالم أجمع. ذلك حدث أفلح النظام أكثر مما أفلح معارضيه في استYلاله بالقدر الذي أخرج به نفسه من العُزلة، وخلق له منبراً دائماً للتواصل مع الولايات المتحدة هو المنبر الأمني. ولئن استطاع النظام أن ينتقل إلى تلك المرحلة من مرحلة "أمريكا قد دنا عذابها" فهذا يكشف عن قدرته في اختيار السلاح المناسب في المعركة المتغيرة. مع ذلك، أشك كثيراً في أن أي من الطرفين المتحاربين كان سيتخلى عن أجندته القصوى لو دار بخلده أنه يمتلك القوة لتحقيق تلك الأجندة. فلو انتهت، مثلاً، حملة النظام العسكرية والمسماة مسك الختام (وللاسم دلالاته) إلى الغاية المرجوة منها، أو ظن أن استقواءه بالبترول سيمكنه من المُضي إلى آخر الشوط في ظل الأوضاع المتغيرة، لما كانت ماشاكوس. ولو استطاعت قوات التجمع التي بلغت "مزار شريف" في وقت كانت تُحظى فيه بدعم سياسي مقدر على الصعيدين الاقليمي والدولي بما في ذلك دعم "القوى الكبرى"، أن تتصاعد بحملاتها إلى مشارف الخرطوم، أو كانت قوى الانتفاضة تتحفز للانقضاض على النظام في مدن السودان الكبرى، لما كانت نايفاشا. وفي الحالتين ما كان أي من الطرفين (إن توقع نصراً قريباً أو فتحاً من الله) ليرضخ لضغوط القوى الكبرى، لا استهانة بها وإنما لتوهمه أن واقعاً جديداً سيفرض نفسه، وسَتُحمل تلك القوى على التعامل معه. لعل في الذي وقع خير، قال الدكتور قرنق في خطابه عقب التوقيع على اعلان نيروبي (5/6/2004): "أن الذي يجعل هذا السلام سلاماً مُبشراً أنه جاء نتيجة لتوازن العجز العسكري بعد إنهاك الطرفين. تلك هى الحالة التي يستبين فيها أي طرفين متحاربين أن كُلفة السلام أقل من كُلفة الحرب مما يحملهما على البحث عن حل لا خاسر فيه. لقد أصبح السلام ممكناً لأن الطرفين أدركا أن القطر كله قد أخذ في التحلل، وأن الدولة كادت تذوي وتختفي ( وأضاف ساخراً) دون المرور بمرحلة التحول التاريخي الذي بشر به ماركس". قال أيضاً: "بدأ السودان القديم الذي عرفناه في الانحدار إلى لُج تشظى لا عودة منه". ومن جانبه قال الأستاذ علي عثمان: "لم ننته إلى الحق المطلق ولكن بلا شك انتهينا إلى واقع متقدم يوفر لأول مرة فرصة حقيقية للدخول في تجربة يمكن أن تُفضي إلى استقرار أفضل يؤدي إلى تأمين وحدة السودان، فالسودان كان ممزقاً بالفعل" (الأهرام 14/6/2004).
    لقد أدرك الطرفان، اذن، أن السودان كله ينحدر نحو التمزق، بل يشرف على الموت بسبب الحرب. أدركا أيضاً أن ثمن هذه الحرب هو المزيد من الضحايا بين المقاتلين وبين عامة الناس، والانهيار التام للموارد، والقضاء على القليل المتبقي من فرص التنمية. ازاء هذا الواقع يصبح الإصرار على تحقيق أية أجندة قصوى، سياسية كانت أم آيديولوجية، بمثل هذا الثمن الباهظ عملاً عبثياً. فمثل هذه الأجندات ـ أسميتها المشروع الحضاري أو السودان الجديد ـ لا تهدف، بزعمها، إلا للارتقاء بالانسان لوضع أفضل، ولن يتحقق للانسان وضع أفضل بتدميره. تدمير الانسان جريمة أخلاقية، مهما كان الظن بشرف المقاصد. الموقف الذي انتهى اليه الطرفان فيه من الحكمة بقدر ما فيه من النبل، ولن يُغضب إلا من يريد لأهل السودان أن يتضاغنوا إلى الأبد. كما هو موقف لا تجدر فيه الشماتة بصانعيه لما يحسبه البعض خيبة ويظنه بعض آخر بلوى، أو حسدهم من جانب آخرين على نصر فات الآخرون هؤلاء تحقيقه، فليس في الشماتة نباهةٌ ولا في الحسد شرف. "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق". قال الميرغني عند اعلان الاتفاق ومباركته له ودعوته لشمول الحل: "أؤ يد الاتفاق لأنه بلا شك، سينقلنا، إلى وضع أفضل من الوضع الذي نحن عليه الآن". من هنا ينبغي أن نبدأ جميعاً.
    ////////////////////////
    اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2(
    السلام الشامل ما هو؟ وما هى وسائل تحقيقه؟
    بقدر ما نستطيع، حاولنا في المقال السابق إبانة الأسباب التي أدت لأن يكون التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية ثنائياً وينتهي إلى وفاق ثنائي. وقلنا إن تحقيق السلام الشامل لا يتكئ، فحسب، على صدق الارادة السياسية للطرفين الموقعين في تنفيذ الاتفاق الذي تواصيا عليه، وإنما أيضاً على صيانة ذلك الاتفاق بسياج من التأييد الوطني. السلام الشامل، أو الحل السياسي الشامل، تعبير شاع في الخطاب السياسي منذ منتصف الثمانينات، خاصة بعد أن جاءت الحركة الشعبية بأطروحة قلبت المفاهيم هى أن مشكل الجنوب هو مشكل السودان. وكما ذكرنا في المقال السابق استطال الحوار في كوكادام بين الحركة والتجمع الوطني حول إن كان المشكل الذي ينبغي حله هو قضية اقليم محدود (الجنوب) أو قضية الوطن كله. ولعل ذلك الانكار من جانب الطبقة السياسية الشمالية أن الوطن كله مأزوم هو الذي حمل الأستاذ محمود محمد طه في الستينات، حين استبد بالناس الحديث عن مشكلة الجنوب، إلى اصدار كراسة اتخذ لها عنواناً: "...وللشمال مشكلة أيضاً". حقاً، كان الخطاب السياسي يومذاك، في الغالب الأعم، يتمحور في مشكلة واحدة هى مشكلة الجنوب، وفي قضية واحدة هى قضية الديموقراطية. الأولى تذكرنا بها دوماً الحرب الأهلية، والثانية لا نستذكرها إلا عند وقوع الانقلابات أو سقوط الأنظمة العسكرية فنبدأ في البحث عن وسائل حمايتها.
    أياً كان الأمر، للشمول في اعتقادنا جانبان، جانب تمثيلي وآخر موضوعي. وفي حالة الاتفاقيات موضوع البحث هناك جانب ثالث هو الشمول الأمني. ويتطلب الشمول التمثيلي اشراك القوى السياسية الفاعلة في عملية السلام، خاصة إن تجاوزت نتائج تلك العملية وقف العدائيات وبسط الأمن والاستقرار إلى إعادة صياغة الدولة. أما الجانب الموضوعي فيتناول ـ على وجه التحديد ـ شكل ومضمون اعادة الصياغة هذه: الرؤية والخطط ووسائل التطبيق.
    نبدأ بالعنصر الثالث في الشمول: الشمول الأمني لنقول إن أية محاولة لاطفاء النار في جزء من الدار وتركها تشتعل في جزء آخر لن يحقق شمولاً أمنياً حتى وإن خمدت النار وطَفئت الفتنة في أكثر مواقع الحرب إتقاداً. هذه حقيقة لم يتعام عنها طرفا الاتفاق، ففي المادة السابعة من بروتوكول الترتيبات الأمنية نص صريح حول وضع ما أسماه البروتوكول "المجموعات المسلحة الأخرى في القطر". الفقرة الأولى والثانية من تلك المادة تعالج أمر المجموعات المسلحة المتحالفة مع الطرفين، في حين تعـالج الفقـرة الثالثة أمـر "المجموعات الأخرى" بهدف تحقيق سـلام شامـل واستقرار في كـل القطـر واحتواء كامــل (Full Inclusiveness) في العملية الانتقالية. هذا النص يلزم طرفي الاتفاق، بل يوفر المدخل الشرعي لمعالجة حالتي دارفور وشرق السودان. ولن يكون هذا إلا بمعالجة الأسباب التي قادت إلى فتنة توقدت والتهبت في الحالة الأولى، واحتقانات دائمة صحبتها انفجارات هنا وهناك في الحالة الثانية.
    الشمول التمثيلي في عملية التفاوض أمر لا لُبس فيه ولا اختلاط، وقد يفيد أن نضيف إلى ما أوردنا في المقال السابق شيئاً من خبر الجهود التي بذلت لتحقيق ذلك الشمول منذ زمان بعيد. إلى ما أوردنا نضيف أن التجمع الوطني الديموقراطي، رغم موافقته على مواصلة الحركة التفاوض منفردة مع النظام تحت مظلة الايقاد، بقى على اتصال دائم مع دول الايقاد وأصدقاء مبادرة الايقاد، وبوجه خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا. بعض هذه الاتصالات تم على أعلى المستويات (لقاءات رئيس التجمع مع رؤساء كينيا، ويوغندا، وأريتريا، وأثيوبيا)، وبعضها الآخر كان في اللقاءات مع الممثلين الدبلوماسيين لهذه الدول. ثمة هدفان كانا وراء هذه الاتصالات: الأول التأكيد على مركزية قضية التحول الديموقراطي في حل المشكل السوداني لأن ايقاف الحرب وحده لن يحقق سلاماً مستداماً كما يرى التجمع، والثاني هو اشراك التجمع في عملية السلام الجارية. في ذات الوقت ظل الطرف الحكومي في التفاوض ثابتاً عند موقفه في أن تظل المفاوضات ثنائية لأسباب رآها، وكان أبلغ مظاهر رفضه توسيع قاعدة التفاوض في الثامن من أغسطس 2000، التاريخ الذي أوفد فيه التجمع نائب رئيسه الفريق عبد الرحمن سعيد يصحبه وفد ضم، من جانب الحركة، القائد نيهال دينق نيهال (رئيس الوفد المفاوض في نيفاشا فيما بعد) لاجراء حوار مع سكرتارية الايقاد في نيروبي للتفاطن معها حول اشراك التجمع في مبادرة الايقاد. الرفض البليغ لذلك المطلب جاء على لسان مبعوث خاص للحكومة (الدكتور قطبي المهدي) أوفدته الخرطوم ليبلغ سكرتارية الايقاد (السفير سيمبويا) اعتراضها على اشراك التجمع في المفاوضات بأية صورة من الصور، أو كما قال قطبي : "اذا دخل التجمع من باب فسنخرج من الباب الآخر". ذلك كان هو فصل الخطاب إذ لم تلتقِ سكرتارية الايقاد بوفد التجمع حتى للتحية.
    دخلت من بعد مصر إلى المعمعة بكل ثقلها مع ليبيا التي ظلت تحتفظ بعلاقات حميمة مع الحركة الشعبية، فكانت المبادرة المشتركة. وكما هو معلوم لم تتقدم تلك المبادرة كثيراً لنقص عضوي في المبادئ الموجهة والضابطة للتفاوض، ألا هو افتقاد تلك المبادئ لأية اشارة لموضوع حق تقرير المصير لجنوب السودان. وبما أن مبدأ حق تقرير المصير لا يمثل فقط نقطة جوهرية في مشروع الحركة لمعالجة قضية الجنوب، بل هو أيضاً موضوع توافقت عليه كل القوى السياسية السودانية والوسطاء: الحكومة، والتجمع، والايقاد، كان اغفاله بمثابة قُبلة الموت للمبادرة المشتركة. رغم ذلك، حددت المبادرة المشتركة بشكل واضح الحد الأدنى للوفاق بين التجمع والحكومة مما يجعل من أي حديث يدور اليوم. في مِعرض النقد لاتفاقيات السلام الأخيرة، عن سقف أعلى للتفاوض كان من الواجب على مفاوضي الحركة أن لا يتهبطوا عنه، تزيداً بلا معنى. ما هو هذا الحد الأدنى؟ المذكرة التي صدرت من التجمع في القاهرة في 30/6/2001 للتمهيد للمبادرة المشتركة لخصت ذلك الحد الأدنى فيما يلي:-
    * اعتبار المواثيق والعهود الدولية والاقليمية المعنية بحقوق الانسان جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وأي قانون مرسوم أو قرار أو اجراء يصدر مخالفاً لها يعتبر باطلاً وغير دستوري.
    * قومية كل المؤسسات وأجهزة الدولة.
    * كفالة الدستور والقانون للتعددية والحريات المدنية والسياسية وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الانسان.
    * تشكيل حكومة قومية انتقالية تمثل فيها أطراف الاتفاق السياسي وتنظيم انعقاد المؤتمر الدستوري الذي يضع الدستور الدائم للبلاد.
    * يتعهد طرفا النزاع بالوقف الفوري والشامل للحرب فور توقيعهما على الاتفاق السياسي.
    لهذا، فإن أي نقد بعد هذا لاتفاقيات السلام لأنها لم تحقق "تفكيك النظام" كما كانت تنادي قرارات التجمع، أو باقصاء المؤتمر الوطني عن الحكم أو حتى تحجيمه بمعنى عودته ـ أو اعادته ـ للحجم الذي كان عليه قبل انقلاب 30 يونيو 1989 في أية عملية لاقتسام السلطة يصبح إما تزيداً أو "عرضة بره الزفة". فما يتمناه التجمع، أو تبتغيه الحركة، أو يحلم به المعلقون السياسيون، أو ينادي به المناضلون الارائكيون الذين يعيشون خارج الزمان والمكان لا يحدث في موائد المفاوضات، وإنما تحكمه موازين القوى التي حملت الناس على التفاوض ابتداءً.
    الحد الأدنى الذي أقرته المبادرة المشتركة هو، اذن، ما كان يفترض أن تستصحبه الحركة في مفاوضاتها مع النظام بعد أن قُدر لتلك المفاوضات أن تستمر ثنائية. يفترض المرء أيضاً أن مفاوضي الحكومة لن يَزوَّروا عن الالتزام بتلك الحدود بعد أن رضيوا عنها كمبادئ موجهة للحوار مع التجمع في اطار المبادرة المشتركة. وبهذا الفهم لا يملك أي معلق منصف أن ينكر أن هذه القضايا قد عولجت بوجه أو آخر في المفاوضات. فالذي تحقق في نيفاشا ليس هو الأمثل بالنسبة لأي طرف من الأطراف بل هو الممكن تحقيقه في ظل واقع موضوعي. ولكن لا معدي من الاعتراف أن في الاتفاق خروقاً وفتوقاً وشقوقاً. لهذا يصبح المطلوب هو تطوير ما تم الاتفاق عليه بشأن هذه القضايا، إن كان ثمة مدعاة للتطوير، وسد الثغرات فيه حيثما كانت ثغرات، واستدراك ما هو قمين بالاستدراك باتفاق الأطراف جميعاً.
    نقطة مهمة نتطرق اليها قبل الولوج في باب الشمول الموضوعي هى قضية المحاسبة، أي محاسبة النظام على الجنايات التي يتهم بارتكابها من جانب معارضيه، أو من جانب من لحق بهم أذى أو ضرر. يدفعنا للاشارة لهذه النقطة ما جاء في بعض التعليقات على اتفاقيات السلام حول الفقرة 7.1 من بروتوكول اقتسام السلطة. يقول النص: "يتفق الطرفان على اطلاق مبادرة شاملة للمصالحة الوطنية والالتئام في كل القطر كجزء من عملية بناء السلام. وستقوم حكومة الوحدة الوطنية بوضع الآليات والوسائل لهذا الغرض". مثال ذلك اشارة للسيد الصادق المهدي تُعَيِّب تلك الفقرة لأنها تتحدث عن المصالحة دون اشارة لضرورة التقصي عن الجنايات التي ارتكبت خلال فترة حكم "الانقاذ" وفق النمط الجنوب أفريقي الذي ربط المصالحة الوطنية باستقصاء الحقائق عما وقع من ظلم خلال حكم الابارتايد. مثال آخر هو ايماءة الدكور الشفيع خضر في مقاله الآنف الذكر الذي جاء فيه "من الممكن أن نرمي كسياسيين وراء ظهرنا كل مرارات وخصومات الماضي. لكن هل يمكن اقناع الجماهير بالتخلي عن مطلبها العادل في مساءلة ومحاسبة من تتهمه بانتهاك حقوقها وسلب أموالها وأموال الدولة؟" الاشارتان لهما ما يبررهما ولهذا لن أقول مشاكسة إن الإشارة للمحاسبة أو البحث عن الحقيقة قد غابت عن بروتوكولات نيفاشا التي وقعت في السادس والعشرين من مايو 2004 لنفس الأسباب التي دعت لتغيبها في مشروع السلام الذي اعتمده التجمع في القاهرة في 30/6/2001، أو في اتفاق جيبوتي الذي وقعه رئيس حزب الأمة مع الرئيس البشير في يوليو1999، أو في اتفاق جدة الذي وقعه رئيس التجمع مع النائب الأول لرئيس الجمهورية في ديسمبر 2003، لن أقول أيضاً تزيداً أو تبرئة للحركة، أن مفاوضيها ثابروا منذ مفاوضات مشاكوس على المطالبة بقيام لجنة للحقيقة والمصالحة على النمط الجنوب أفريقي للتنقيب عن الأسباب التي أدت منذ الاستقلال لكل الإرزاء التي عانى منها السودان وأهله، وهو نفس الموقف الذي ألحفت الحركة على تضمينه في مذكرة التفاهم التي وقعت مع المؤتمر الشعبي في جنيف في فبراير 2002، وتورد الفقرة الخامسة من تلك المذكرة ما يلي: "ادانة النهج الانقلابي لاسهام الانقلابات العسكرية في تفاقم الأزمة الوطنية وفشلها في ادارة السودان وفي ايجاد حل وطني دائم وشامل للصراع. كما ينبغي المحاسبة على كل الفساد والجرائم التي ارتُكبت بحسبانها أمراً ضرورياً لمستقبل الحياة العامة".
    على خلاف ذلك، أقول يلزم أن يكون الاقتراب من تلك القضية على وجهتين، الوجهة الأولى تتعلق بحقوق الذين انتهكت حقوقهم من البشر، والثانية تتعلق بكشف الحقائق كلها تطهيراً وتعقيماً للجسم السياسي حتى تقوم المصالحة على أساس متين وسليم، فالجُرح الذي يُضمد على قيح لا يبرأ. وفي الحالة الأولى لا أحسب أن أي اتفاق بين طرفين أو أكثر، بل أي قانون ـ حتى القانون السماوي ـ يلغي حقوق الناس، فالله يعفو عن حقه ولكن لا يعفو عن حقوق العباد. روى سفيان الثوري عن رسول الله صلعم أنه قال: "إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد". وذُكر عن أبي بكر الوراق أنه قال: "أكثر ما ينزع من القلب الايمان ظلم العباد". وليس في اي نص من نصوص الاتفاق نداء موجه للأفراد أو الجماهير كيما تتخلى عن حقها في السعي لرد أموالها، أو المطالبة بمحاسبة من انتهك حقها. الوجهة الثانية هى ضرورة اجتهادنا جميعاً في استقصاء جذور المشكل السوداني منذ الاستقلال من أجل الوصول إلى مصالحة تاريخية، فأزمة الدولة السودانية تعود إلى مطالع الاستقلال. والازمة كما ظللنا نقول، تكمن في عجزنا عن التصالح مع النفس، ولن يفلح المرء في الاصطلاح مع الآخر ما لم يتصالح مع نفسه. هذا هو مفهوم لجان الحقيقة والمصالحة التي تعددت تجاربها في العقدين الماضيين، وكل واحدة من تلك التجارب كانت تستجيب للظروف الموضوعية التي أدت إلى خلقها. فمن تلك اللجان ما أنشئ للتحقيق في قضايا محدودة (لجنة البحث عن الحقيقة في موضوع الأشخاص المختفين (الارجنتين في عهد الرئيس راول الفونسين وشيلي في العام 1990). ومنها ما أنشئ للتحقيق حول انتهاكات وقعت في فترة زمنية معينة (لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في الفترة 1974- 1999، تيمور الشرقية، لجنة الحقيقة والعدالة في الاكوادور في 176 حالة من حالات انتهاك حقوق الانسان خلال 17 عاماً)، ومنها ما أُلحق باتفاقيات السلام مثل لجنة الحقيقة في السلفادور التي انشأتها الأمم المتحدة في العام 1992 كجزء من مشروع السلام الذي رعته.
    لجنة الحقيقة والمصالحة التي طالبت بها الحركة، ودعونا لها قبل التوقيع على بروتوكولات نايفاشا ( أهوال الحرب وطموحات السلام ص 1034 - 1035) ربما اتخذت من التجربة الجنوب أفريقية نموذجاً يحتذى. تلك التجربة كانت مبادرة من رجلين نبيلين، نلسون مانديلا ودزموند توتو ارادا بها تطهير النفس، والسمو عن المواجع، واستشراف المستقبل بدلاً من التلبث عند الماضي. تكونت اللجنة بعد وفاق بين المؤتمر الوطني الأفريقي (حزب مانديلا) والحزب القومي (حزب ديكليرك) تضمن تبني الحزبين لقانون صدر في العام 1990 (قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية)، وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة عنصراً مهماً من عناصره . من تلك اللجنة انبثقت لجنة قانونية مستقلة يترأسها قاض من قضاة المحكمة العليا للنظر في حالات الانتهاك الخطير لحقوق الانسان يُقر فيها المذنب بذنبه في جلسة علنية ويعفو فيها المجني عليه عن الجاني. فالهدف من العملية كان هو ابراء الذمم وضمد الجروح، وكان القانون حكيماً إذ نص على أن تقوم الدولة، في كل الحالات التي تستدعى تعويضاً مادياً ولا يكفي فيها رد الاعتبار المعنوي، بتعويض الضحايا. هناك أيضاً تجربة أخرى جديرة بالنظر هى تجربة المغرب في عهد الملك محمد السادس، تتمثل في هيئة الانصاف والمصالحة الملحقة بمجلس حقوق الانسان.
    الحركة، سواء كان في ما اقترحته على مائدة المفاوضات منذ ماشاكوس، أو ما تواصت عليه مع المؤتمر الشعبي في مذكرة التفاهم، ظلت تنادي بقيام لجنة تجتهد في التفتيش عن الحقيقة منذ الاستقلال لأن التعفية على الماضي لن تعين على مداواة أوصاب الحاضر، ناهيك عن وضع الأسس السليمة لسودان المستقبل. هذا النمط من البحث عن الحقيقة لا يتعسف طلب العدل القصاصي (Retributive) وإنما ينشد العدالة التعميرية (Restitute)، وذاك لعمري جهد يتطلب غوصاً في الذات، وصدقاً مع النفس، ونبلاً في الطبع.
    أجئ إلى الشمول الموضوعي زاعماً، في المبتدأ، أن الأسلوب الذي أقبلت به المفاوضات الأخيرة لمعالجة مشكلة الحرب لم يَقتفِ أثر الاتفاقيات النمطية التي درجنا عليها منذ مؤتمر المائدة المستديرة، والتي لم ينجم عنها ـ حتى حيثما أفلحت إلى حين في تهدئة الأجواء ـ غير اعادة انتاج الأزمة. ولا ريب في أن التلكؤ في، إن لم يكن الاحجام عن، الحل الشامل لمشاكل السودان المتعددة والمترابطة هو سبب الوهن الذي انتاب الجسم السياسي السوداني وأدى إلى تآكله الداخلي. وإن كان التلكؤ تعبيراً عن أن هذه القضايا لم تكن تحتل موقعاً رفيعاً في قائمة هموم الحاكمين، فإن الاحجام يعود في الأساس لهيمنة الماضي على عقول النُخبة الحاكمة وكان ذلك دوماً أمراً اختيارياً بحكم التجاهل العمدي لخيارات عديدة ممكنة، نعود اليها في المقال الرابع. وكما يقول برنارد شو إن "تجاهل المستقبل، والاصرار على ذلك التجاهل، هو الشئ الوحيد الذي يكرس تأثير الماضي على أفكارنا". لهذا أصاب التجمع الوطني الديموقراطي المرمى عندما وصف بروتوكولات السلام بأنها "خطوة مهمة في طريق انهاء الحرب الأهلية ومعالجة جذور الأزمة السودانية المزمنة. وهى بالتالي تشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة لتحقيق التحول الديموقراطي وترسيخ السلام .. وتوفر أساساً لإعادة هيكلة البناء الوطني الموحد على أسس تختلف عن الأسس القائمة منذ الاستقلال". (بيان حول موقف التجمع الوطني الديموقراطي من بروتوكولات السلام، أسمرا 21/7/2004).
    أنا زعيم بان مثل هذا الاقتراب من الازمة السودانية لم تعرفه أية محاولة لعلاج مشكل الحرب من قبل اتفاقيات السلام الراهنة، حتى وان اعتورها قصور. وسنتناول في مقالات تالية كيف أقبل المتفاوضون على هذه القضايا؟ وما هى الحلول التي اقترحوها؟ وكيف تناولت السياسة السودانية في الماضي نفس القضايا؟ وما هى الحلول التي توصلت اليها، إن كان ثمة حلول؟ هذا أمر ضروري لأن أي تحليل أو نقد لما اتت به بروتوكولات نيفاشا من نظم ومؤسسات وسياسات دون مقارنته مع، أو مضاهاته بالتجارب الماضية، يصبح منقوصاً منهجياً ومعيوباً فكرياً. ولعل أول محاولة للانعتاق من الأسلوب النمطي في التعامل مع الازمة السودانية هى مقرارات أسمرا التي تناولت قضية الوحدة الوطنية من منطلق جديد إذ اعترفت بقضايا الهامش والأطراف، وأكدت مبدأ الوحدة الطوعية وحق تقرير المصير، وأقرت ضرورة اعادة النظر في منهج التنمية الاقتصادية الموروث منذ عهد الاستعمار بحسبانه العامل الرئيس في تكريس الفقر في الأطراف. وباعتماد هذه المفاهيم أصبح للديموقراطية ـ والتي هى موضوع مركزي في خطاب التجمع، وفي الخطاب السياسي منذ أكتوبر ـ معنى عند الجنوبي والبجاوي والنوباوي الذين لم تكن ضالتهم أبداً هى الحقوق المدنية. مواثيق أسمرا، بدون شك، تمثل خطوة متقدمة عما ورد في ميثاق الانتفاضة (أبريل 1986) الذي طغت عليه إما النمطية الموروثة منذ أكتوبر 1964 أو الثوابت الايديولوجية، وللموضوع نعود في مقالات تالية نكشف فيها عن تراجيديا الفرص الضائعة في السياسة السودانية.

    الاهتمام بهذه القضايا في اتفاقيات السلام هو الذي أكسبها شمولاً موضوعياً. ولو توقف البحث عن التحول الديموقراطي عند القضايا التي لا تعني الكثير لأهل الأطراف. لما حُلت مشكلة الجنوب، ولا مشاكل التهميش السياسي والاقتصادي، ولا استقرار الحكم في اقاليم السودان في الشمال والشرق والغرب. أهل الأطراف لا يستخفون بهذه القضايا لعدم أهميتها ولكن لأنها لا تحتل أولوية في قائمة همومهم التي تتعلق بالوجود، ولهذا تحتل درجة أعلى من قضايا مثل التعددية الحزبية، الحقوق المدنية، الانتخابات. نعم، لو أقام المفاوضون عند القضايا التي كنا نَلبِدُ (نلزق) بها عقب الانتفاضات لما أصبح للتحول الديموقراطي معنى. فبقاء الاحتقانات السياسية في الأطراف، وعدم الاكتراث للعُطب السياسي في المركز سيقود، طال الزمن أم قصر، إلى الانفجار. لهذا يليق بالباحث او الناقد أو المحلل، اذن، الاعتراف أولاً بأن هذه هى المرة الأولى منذ الاستقلال التي تتم فيها معالجة الازمة السودانية معالجة شاملة تناولت نظام الحكم، وهيكل الاقتصاد، وتوزيع الثروة، وتحقيق التمكين السياسي للمستضعفين سياسياً. الباحث أو الناقد أو المحلل الذي يستبين هذه الفروق هو وحده الذي يُستحب له ابانة أوجه القصور في جملة الحل ومفرداته.
    يتبدى لنا أيضاً من بعض ما اطلعنا عليه من نقد أو تحليل للاتفاقيات اختزال قضية الشمول في المشاركة في الحكم وقسمة السلطة. فبروتوكول اقتسام السلطة على المستوى القومي قبل الانتخابات البرلمانية يخصص النسب التالية: الحركة الشعبية 28% المؤتمر الوطني 52%، والقوى السياسية الشمالية 14% والقوى السياسية الجنوبية 6%. في حين يخصص للحركة الشعبية، على مستوى برلمان الجنوب 70%، والمؤتمر الوطني 10%، ولبقية القوى السياسية الجنوبية الأخرى 10%. ومن المفهوم أن النسبة التي حُددت للمؤتمر الوطني في الجنوب سيذهب جلها للجنوبيين المنضوين تحت لواء ذلك التنظيم.
    بلا مماحكة، هذه قسمة ضيزى، وفي هذا الاطار نفهم النقد القارص للاتفاق من جانب السياسي الجنوبي المحنك بونا مالوال عندما كتب يقول: "حَرُصَ الطرفان على أن تكون اتفاقية السلام آلية لاقتسام السلطة بينهما أكثر منها آلية لحل النزاعات وحسم المشكلات كما توقعتها أغلبية السودانيين" (الشرق الأوسط 10/6/2004). أنا مثل بونا مواطن سوداني نال حظاً من المعرفة وقضت ظروف أن يتوغل في السياسة. من خلال تلك المعرفة وذلك التوغل أملك أن أقول إن أغلبية السودانيين في الشمال وفي الجنوب تنشد السلام، وأن المظلوم من بينهم يتمنى رد ظلامته في السلطة كان ذلك أو في الثروة، كما يطمح مجروح الكرامة إلى استرداد كرامته وضمان توقيرها، ويطمعون جميعاً ـ متى ما استردوا حقوقهم وكرامتهم ـ في العيش كبقية شعوب العالم، تتطامن نفوسهم ويُسترغدُ عيشهم. ولعلني أزعم أن اتفاقيات السلام الراهنة تمهد الطريق لتحقيق هذه الغايات للمرة الأولى منذ الاستقلال، دون إدعاء أنها ستحسم المشكلات بشكل مطلق. أزعم أيضاً أن الاتفاق الذي يؤكد حق تقرير المصير للجنوب، ويمنح ولايات السودان عبر القطر سلطات واسعة لم تُحظَ بها منذ الاستقلال، ويقسم الثروة بصورة غير مسبوقة، ويمنح كل ولايات السودان سلطة لم تتمتع بها من قبل لمراقبة المركز عبر مجلس للولايات، فيه ما هو أكثر من التمهيد لحل النزاعات والمشكلات. فإن كان الزعم صحيحاً، أولا يحسن بنا البحث عن وسائل الارتقاء بهذا البناء الغض الطري، بدلاً من الانتقاص منه، بله انكاره. أما اقتسام السلطة فلعل ما يستهم فيها الصديق بونا بقدر أكبر هو استئثار الحركة الشعبية بالسلطة ـ ليس طوال الفترة الانتقالية ـ بل خلال السنوات الثلاث الأولى. ففي النصف الثاني من تلك الفترة ستقرر "أغلبية السودانيين" بمحض ارادتها من الذي يحكمها. أو كما قال الأستاذ فاروق أبوعيسى في حديث لهذه الصحيفة "في الاتفاقية عيوب لو تمت معالجتها لكان الاتفاق أكثر قوة وعدالة.. وبعد ثلاث سنوات الحشاش يملا شبكته" (الرأي العام 15/6/2004).
    السنوات الثلاث هى التي ستقرر مصير الاتفاق. فما لم يتم تنفيذ الاجراءات الأمنية بصورة تُنهي الاحتراب، وتزيل كل بؤر الانفجار المحتملة، وتبني للسودان ـ في الشمال والجنوب ـ جيشاً عقيدته حماية الوطن، وتوفر الحل لمشكل كل جندي حمل السلاح، فلن تكون هناك ديموقراطية مستدامة أو غير مستدامة، ولن يكون هناك سلام عادل أو غير عادل. هذه أمور لا يقدر عليها إلا من يملك زمام التحكم في القوى الضاربة مما يجعل الطمع في أن يتخلى "العسكري" جون قرنق دي مابيور في الجنوب، و"العسكري" عمر حسن أحمد البشير في الشمال عن موقعيهما حال توقيع الاتفاق ليحتلهما من هم أكثر جدارة بالحكم، طمعاً في غير مطمع، بل ربما يكون وصفة لتقويض الاتفاق. أقول هذا مستنطقاً الواقع بعد استنفاد كل الاحتمالات، وخسران كل الرهانات المبنية على الوهوم لا لأنني "مارشال" يريد أن يُنَمِرَ هذا، أو يُقرنق ذاك، أو كما قال.
    من الناقدين للقسمة الضيزى الدكتور حيدر ابراهيم، كتب في مقال لجريدة المصور يقول: "يصاب المرء بالحزن والخوف من المجهول حين يتذكر الطريقة التي اقتسم بها الطرفان السلطة والثروة". ثم يتساءل "هل هذا الذي يتم تقسيمه بالنسبة وطن أم غنيمة ذبيحة. ولكنها بالفعل شركة مساهمة وليست شراكة سياسية كما يروج لها الطرفان" (المصور 18/6/2004). مرة أخرى، الاشارة هنا لاقتسام السلطة في الجزء الأول من الفترة الانتقالية رغم أن تلك الفترة، بموجب الاتفاق، ستشهد انفتاحاً يمهد الطريق لتحول ديموقراطي واسع ظل الدكتور حيدر (كما ظللنا) يتمناه منذ أن دعا للمصالحة التاريخية مع النظام قبل بضعة أعوام. لا شك أنه من حق القوى السياسية الشمالية، كما من حق القوى السياسية الجنوبية، أن ترى في تلك النسب استصغاراً لها، ومن حقها أن لا ترضى بها. وفي هذا ما ظلم السيد الصادق المهدي عندما قال "المشاركة ستكون ضمن التحول الديموقراطي وضمن ما تعطيك من فرصة للتأثير على القرار، أما الاشتراك كمردفين فهذا غير وارد" (الحياة 8/6/2004). ولكن، كما ألمحنا، فإن هذا الوضع غير الطبيعي طبيعي بلوازمه، وعلى رأس اللوازم موازين القوة. ولعلنا نعرف جميعاً من معارفنا في الرياضيات أن اللازمة نتيجة تتبع بالضرورة حقيقة ثابتة بالبرهان. كان الأمر ليصبح مدعاة للاستنكار ـ بل المجابهة ـ لو لم تُقر الاتفاقية مبدأ العودة للشعب خلال الفترة الانتقالية. كما يحق لكل القوى السياسية الإصرار على توفير الضمانات بأن تتم الانتخابات في الموعد الذي حددته الاتفاقيات، وأن توفر لها كل الضمانات الوارد ذكرها في تلك الاتفاقيات.
    الخوف من المجهول بسبب هذه القسمة هو الذي يبعث على الحيرة في حديث د. حيدر. فلئن كان مبعث الخوف هو طراوة الاتفاق، أو اعتماد نجاحه على متحولات غير منظورة، أو لأسباب لم يحسب لها الطرفان حساب لفهمناه، أما أن يكون بسبب القسمة فتلك نتيجة لا تبيحها المقدمة. فالجميع يعرف أن السياسة السودانية قد درجت على أسلوب في اقتسام السلطة في الفترات الانتقالية منذ أكتوبر 1964 يعتمد دوماً على أوزان القوى التي أحدثت التغيير. فما هو ،مثلاً، الوزن العددي مقارنة بالأحزاب، لجبهة الهيئات التي سيطرت على الحكم بعد سقوط نظام عبود؟ أوليس دورها في اسقاط النظام هو الذي فرض تحكمها في مفاتيح السلطة يومذاك حتى لم يَعُد للأحزاب في حكومة أكتوبر الانتقالية غير وجود رمزي. وما هو الوزن العددي للجيش والتجمع النقابي، بالنسبة للأحزاب، الذي أهلهما لتولي الحكم خلال الفترة الانتقالية بمعزل عن الأحزاب عقب سقوط نميري؟ أوليس ذلك بسبب دورهما الحاسم في اسقاط حكومة مايو؟ ثم أولم يقرر التجمع الوطني الديموقراطي فترة انتقالية تمتد لخمس سنوات (لا ثلاث) ، إن قدر له اقامة النظام الذي كان ينتوي اقامته، يختار حكومتها وبرلمانها من بين فصائل التجمع؟ ورغم أن التجمع تنظيم شامل لأغلبية الفعاليات السياسية (بما فيها حزب الأمة بحكم ما كان)، أوليس صحيحاً أنه لا يضم أحزاباً وجماعات خرجت عن تنظيماتها ولهذا حُرمت من عضويته مما كان سيخرجها من "مولد" الفترة الانتقالية التجمعية "بدون حُمص"؟ هذه المقارنة قد تكون عسيرة على الهضم عند البعض لأن أحد أطراف الشراكة المرتقبة في الحكم هو الحزب الذي كانت الحركة تحاربه، وما انفك التجمع يعاديه. ولكن الذي نحن بصدده هو ضرورة اتخاذ عيار محدد أساساً للمقارنة وامتحان المكائيل، فعيار الاقتسام في حالات النصر ليس هو نفس العيار في حالات الهزيمة، وعيار الاقتسام في حالات التصالح من مركز قوة ليس هو نفس العيار في حالات التصالح من مركز أقل قوة، كي لا نقول أضعف. وعلى كل، فبصرف النظر عن الأسباب الموضوعية التي قادت للقسمة الضيزى فان تخيل وجود مسطرة حاسبة (Slide Ruler) في السياسة تقاس بها الأوزان (عدا الانتخابات) خيال لا يسنده برهان أو تثبته قرينة.
    أن تكون لأغلب الناقدين لُبثة عند حديث القسمة باعتباره هو المبتدأ والخبر في قضية التحول الديموقراطي أمر مؤسف، وكأن كل عناصر التحول الديموقراطي التي تضمنها الاتفاق مثل الاحتكام للشعب بعد ثلاث سنوات، واعتماد مواثيق حقوق الانسان بصورة لم يعرفها أي دستور سابق بل تجاوزت ما أقره التجمع (وكان طرحه متقدماً على ما أوردته كل دساتير السودان السابقة)، ونقل السلطة فعلياً لا رمزياً للولايات بحيث سيصبح الحكم فيدرالياً بحق وحقيقة، وتأهيل أجهزة الأمن لتصبح أجهزة مهنية تحكمها ضوابط تتفق مع الأعراف وتخضع للدستور والقانون، كأن كل هذه أمور يستهان بها في معرض تحليل عناصر الانتقال من الشمولية إلى الديموقراطية التعددية. هذه هى المبادئ التي لا تقبل القسمة والتي يجدر الاهتمام بها.
    من جهة أخرى ينطلق التلبث عند قسمة السلطة، فيما هو بين، من حالة ذهنية لا صلة لها بالواقع الجديد الذي سيتولد من الاتفاقيات، مما يجعل من الجدل عراكاً في غير معترك. ففي بروتوكول اقتسام السلطة أصبحت وحدة القسمة هى الولاية لا المركز، ولهذا لن تبقى السلطة المركزية على ما كانت عليه، لا من ناحية السلطات، ولا الحجم، ولا النفوذ، ولا الموارد المتوفرة لها. الاقتراب السليم من قضية التحول الديموقراطي كان من جانب محلل سياسي نابه هو الأستاذ محمد الحسن أحمد. كتب في مقال ناقد للاتفاق يقول إن: "أكبر مكسب في مجمل هذه الاتفاقات على الصعيد السياسي هو التأكيد على إجراء انتخابات ديموقراطية في كل البلاد وبمراقبة دولية، وحتى تكون الانتخابات نزيهة وحرة ينبغي أن تكون الحريات متوفرة ومعززة والفرص متكافئة للجميع. واذا يُسرت كل تلك المتطلبات فانها بلا شك تجعل من نسب التوزيع في السلطة الانتقالية أمراً غير ذي بال بالنظر إلى أن برنامج الفترة الانتقالية هو برنامج تراضى عليه الجميع بل هو جماع اتفاقات السلام المفضية بعد سنوات إلى بناء السودان الجديد اذا أحسن الجميع تنفيذها. وبالتالي فان على القوى الحزبية أن تتهيأ للتنافس في الانتخابات القادمة بعد ثلاث سنوات" (الشرق الأوسط 10/6/2004).
    ليت التحليل والنقد اتجه إلى كيف يطور الاتفاق إلى واقع ملموس، وكيف تُحكم الضمانات لتنفيذه، وكيف يؤطر دستورياً ميثاق الحقوق الذي ورد في البروتوكول (الفقرة 6.1)، وكيف تتم المشاركة في اللجنة القومية للدستور التي يتحدث عنها البروتوكول (الفقرة 12.2)، وكيف تُكَّون اللجان الرقابية المستقلة مثل: لجنة الانتخابات، ولجنة حقوق الانسان، ولجنة الخدمة العامة، واللجنة القومية للخدمة القضائية؟ فاتفاقيات السلام ليست حدثاً (Event) وإنما هى عملية (Process)، والعملية هى جملة أعمال تنشأ من مركز انطلاق واحد ثم تترى وتتفاعل.
    في خطابه عقب التوقيع على اعلان نيروبي (5 يونيو 2004) قال رئيس الحركة: "برغم أن الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني سيصبحان الشريكان الرئيسان في المرحلة الأولى للفترة الانتقالية إلا اننا نفهم هذه الشراكة كعملية لا تُقصي أحداً، ولهذا نسعى لضم كل القوى السياسية لعملية السلام، وعلى رأس هذه القوى الأحزاب المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديموقراطي. لهذا السبب اقترحنا وضع عقد اجتماعي ينعقد عليه وفاق شامل ويلتزم باتفاقيات السلام، كما يوضح بجلاء محددات الحكم الصالح، وأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية خلال الفترة الانتقالية. يتضمن العقد أيضاً التزاماً اخلاقياً بالقيم التي لا يستقيم الحكم الصالح (Good Governance) دون الالتزام بها، على أن يكون ذلك في مدونة سلوك يلتزم بها اللاعبون السياسيون". هذه النظرة للمشاركة تنشد الارتقاء بها إلى آفاق تتجاوز الصراع على السلطة (بمعنى كراسي الحكم) إلى صراع حول الأهداف من الحكم، وتحويل الامتثال الاجرائي بقواعد الحكم الصالح إلى التزام أخلاقي بهذه القواعد.
    عَملٌ صالح أن تتجه القوى السياسية داخل القطر لانشاء تحالف لتحويل الاتفاق من صفقة ثنائية إلى اتفاق قومي. وأكثر صلاحاً الاتجاه بهذا العمل إلى القضايا التي تتناول جوهر الحكم، والوسائل التي تتيح مشاركة فاعلة في صوغ السياسات، ومراقبة التحول الديموقراطي. وقد كان للتجمع، بلا مشاحة، اسهام كبير في بلورة أفكار الحركة نفسها حول التحول الديموقراطي. وإن كان أحد طرفي الاتفاق (الحركة الشعبية) والذي هو عضو أصيل في التجمع الوطني الديموقراطي قد أبان الخطوط العامة لجوهر المشاركة، فقد أعلن أيضاً الطرف الحكومي رأيه واضحاً في بيان مشترك مع التجمع خلال زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية للقاهرة ولقائه مع قيادات التجمع. ذلك البيان تحدث عن "ضرورة تضافر جهود القوى السياسية كافة لترسيخ السلام وشموله وتعزيز التحول الديموقراطي والحفاظ على وحدة البلاد، وتخلي التجمع، ازاء ذلك، رسمياً عن العمل العسكري المعارض" (الحياة 11/6/2004). وجاء خطاب الفريق البشير في مساء يوم 29/6/2004 تأكيداً لذلك العزم، خاصة اعلانه السعي الجاد لادارة حوار وطني مع كل القوى السياسية.
    لقد أتاحت اجتماعات هيئة قيادة التجمع التي انعقدت في أسمرا في الفترة (14- 23/7/2004) فرصة مواتية لحوار مطول حول استراتيجيات التجمع المستقبلية خاصة في ما يتعلق باتفاق السلام والتحول الديموقراطي. ولعل من أبرز ما ورد في الخطاب الافتتاحي لرئيس التجمع (الاربعاء 2004/7/14) دعوة التجمع لـ " لأمرين، الأول هو الترحيب باتفاقيات السلام "طالما أنها تفضي إلى وقف الحرب والاقتتال وتحقيق التحول الديموقراطي والتبادل السلمي للسلطة، وتخلق واقعاً جديداً لترتيب الأوضاع السياسية للتعامل معه في اطار السعي نحو الأفضل". الأمر الثاني، كما جاء في الخطاب هو، "ان الاتفاق بين الحركة الشعبية وحكومة الخرطوم يظل مفتقراً إلى الاجماع الوطني الذي يضمن له النفاذ على أرض الواقع، ولن يتسنى ذلك دون مشاركة التجمع الوطني الديموقراطي والقوى الرئيسة". هذا رأي صائب لأن أية محاولة من جانب التجمع لتحقيق أجندته القصوى، أو رفع سقف مطالبه عما حدده في مبادرات السلام، مع عدم توفر الظروف الموضوعية لذلك يصبح تخبطاً أو مغامرة، وما أودى بالسودان غير تزيد المغامرين العاجزين عن فك الاشتباك مع أوهامهم. دعا رئيس التجمع أيضاً للابقاء على كيان التجمع مع "تطوير ميثاقه وآلياته للتوافق مع متطلبات المرحلة القادمة لتأمين الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية والتنمية الشاملة". هذه رغبات عملاقة، يتطلب تحقيقها جهداً عملاقاً. ونحن نبرز هذا الجانب من الخطاب لما فيه من استبصار لطبيعة المرحلة القادمة، وهى مرحلة لها رؤاها وآلياتها كما لها اخلاقياتها الخاصة التي تضبط التعامل. فلا أفكار الهيمنة والظلم العظيم من جانب، ولا نظريات الاستئصال للآخر المغاير أو توقع بناء السودان الجديد بالعنافة، من جانب آخر، تصلح في مرحلة "تأمين الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية"؟
    //////////////////
    اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (3(
    حق تقرير المصير .. نكون أو لا نكون، ماذا تعني؟
    في هذا المقال نقتصر الحديث على الموضوع الأول: مشكلة الجنوب وحق تقرير المصير. فمنذ مذكرة مؤتمر الخريجين في 3 أبريل 1942 قالت الحركة الوطنية (الشمالية) في مذكرة المؤتمر الشهيرة إن الجنوب جزءٌ لا يتجزأ من الشمال، ولهذا طالبت بالغاء قانون المناطق المقفولة وتوحيد شقي القطر. مع ذلك، ظل أغلبنا في الشمال يتساءل ''الجنوب داير شنو؟''. السؤال يعني واحداً من شيئين، إما أن هذا الجنوب الذي هو جزء لا يتجزء من الشمال أرض قفر Terra Nullius لا أهل له حتى نعرف منهم ما يريدون، أو أن هذه الرقعة من الأرض والتي تُمثل ثلث الوطن الكبير أرض مجهولة Terra Incognita أكتشفناها واستحوذنا عليها بحق الاكتشاف. أسوأ من ترداد هذا السؤال مواظبتنا، بعد مضي نصف قرن من الحكم الذاتي وخروج الاستعمار، على القول أن لا نصيب لنا من المسئولية عن كل الحروب الأهلية التي كادت تزهق روح الوطن، بل إصرارنا على رد المسئولية كلها عن تلك الحروب إلى الخطيئة الأولى التي ارتكبها الاستعمار. لزوم تلك الدعوى والثبات عليها يعني أن ليس لنا ما نعتذر عنه أو نندم على فعله رغم الحروب، حتى كاد أن يكون شعارنا هو الأغنية الخالدة للمطربة الفرنسية اديث بياف ''لا شئ، لا شئ، لا شئ أعتذر عنه Rien de rien Je ne regrets rien يفيد اذن أن نبين ما هو هذا الجنوب؟ وما هى قضيته؟ وهل كانت عناصر هذه القضية معلومة للجميع بحيث تدخل في علم الكافة، أم أن موضوع الجنوب كله أسطورة اختلقها الاستعمار وتولاها ربائبه بالرعاية.
    الجنوب، في أي بلد من بلاد الله، هو كل ما يقع على يمينك ويقابل الشمال وأنت متجه شرقاً. بيد أن الذي نسميه جنوباً في السودان، منذ مذكرة المؤتمر، هو الوحدات الادارية التي قرر الحكم الاستعماري في عام 1930 (مذكرة السكرتير الاداري هارولد ماكمايكل) اعتبارها مناطق مقفولة. تلك الوحدات ضمت المديريات الثلاث: بحر الغزال، أعالي النيل، منقلا (والأخيرة أصبحت تعرف فيما بعد بالاستوائية). برر ماكمايكل ذلك القرار بما يلي: ''انشاء سلسلة من الوحدات القبلية أو الجنسية (أي الاثنية) القائمة بذاتها على أن يكون قوام النظام فيها مرتكزاً على العادات المحلية والتقاليد والمعتقدات بقدر ما تسمح به ظروف العدالة المحلية والتقاليد والمعتقدات والحكم الصالح''. تلك كانت بلا شك هى الخطيئة الأولى التي غرست بذور التفرقة بين شقي القطر، خاصة وقد اتسم تنفيذ تلك السياسة بسخف العقل. مثال ذلك قرار الادارة الاستعمارية أن تجعل من منطقة كافياكنجي منطقة عازلة Buffer Zone بين دارفور وبحر الغزال حتى تمنع، كما جاء في مذكرة ماكمايكل، ''اختلاط العرب بالزنوج''.
    قانون المناطق المقفولة ليس هو الخطيئة الوحيدة التي اجترحها الاستعمار، فمن خطاياه أيضاً تبنى منهج التنمية اللامتكافئة، واستغلال التنافس بين الطوائف الدينية، ووضع القوى التقليدية في مجابهة النُخبة الحديثة التي أخذت في البروز بعد ثورة 1924والسياسات الأخيرة في الشمال لم تكن أقل سخفاً عن رصيفتها في الجنوب. ففي رسالته حول تنفيذ سياسة الحكم غير المباشر كتب حاكم عام السودان السير جون مافي (1926- 1934) يقول إن الحكم غير المبـاشر ''سيكـون أقل تكلفة كما سيصبح غدة واقية Protective Gland ضـد الجرثومة المريبة Septic Germ للوطنية التي ستفد لا محالة من الخرطوم''.
    تلك كانت سياسات الاستعمار في الشمال والجنوب وما ابتغى منها غير خدمة مصالحه الاقتصادية والتمكين لحكمه. لهذه الأسباب نهضت الحركة الوطنية لاجلاء الاستعمار لا لتحل محله فقط وإنما أيضاً لتُبَدِل من سياساته حتى يكون السودان ''حراً مستقلاً'' يبنيه أبناؤه بحيث يزال الغبن، وتتحقق الوحدة الوطنية، ويُطور القطر. لهذا يصبح السؤال الأصوب هو ما الذي فعلنا لتحقيق هذه الأهداف بعد احتلالنا للفضاء السياسي الذي خلفه الاستعمار، وليس الهروب إلى الامام من السؤال بدعوى أن الاستعمار قد أورثنا المشاكل. وعلى أي، فقبيل خروج الاستعمار طرأ واقع جديد بالنسبة للجنوب هو أولاً التوافق المبدئي بين شقي القطر على التوحد (يونيو 1947)، وثانياً تراجع الاستعمار عن سياساته نحو الجنوب (ديسمبر 194.
    ففي الحالة الأولى تراضى ممثلون للجنوب والشمال في مؤتمر جوبا (12-13 يونيو 1947) على توحيد شقي القطر ''آخذين في الاعتبار مخاوف أهل الجنوب'' من التوحيد العاجل، أي أن قبول التوحيد كان مبنياً على شروط. وفي الحالة الثانية أعلن السكرتير الإداري، السير جيمس روبرتسون أن ''سكان الجنوب أفريقيون وزنوج خُلص ولكن العوامل الاقتصادية والجغرافية (كما يتراءى في الوقت الحاضر) تجعل صلتهم بشمال السودان العربي الذي يتصل بدوره باقطار الشرق الأوسط وثيقة جداً. وعليه يجب التأكيد على أنه من الممكن عن طريق التقدم الثقافي والاجتماعي إعدادهم في المستقبل ليكونوا أنداداً متساوين مع الشماليين اجتماعياً واقتصادياً في سودان المستقبل''. أعجب العجب أنا ما زلنا حتى اليوم نتحدث عن سودان المستقبل الذي بشر به الاستعماري العتيد. وعلى أي، فالكلمات المفتاحية في رسالة روبرتسون هى أولاً أن العوامل الجغرافية والاقتصادية تمثل اساساً متيناً للوحدة بين الجنوب والشمال، وثانياً أن الطريق لتمتين تلك الوحدة هو التقدم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي يجعل الجنوبيين أنداداً للشماليين.
    جميع السياسات السودانية تجاه الجنوب عقب الاستقلال اتسمت بخصيصتين متصادمتين، الأولى هى الحرص على وحدة شقي القطر بحيث أصبحت تلك الوحدة عقيدة سياسية شمالية. والثانية هى الاستهانة برؤية الجنوبيين لشرائط هذه الوحدة. هذه الاستهانة هى التي تجعل السؤال المتواتر عما يريده الجنوب سؤالاً مُشتبهاً أمره. فمنذ الاستقلال، بل منذ مؤتمر جوبا، كان بين أبناء الجنوب من تصدى لابانة مصالح أهلهم والتعبير عن مطامحهم، تماماً كما كان المثقفون الشماليون يبلورون مصالح ومطامح أهلهم في الشمال، بل مصالح ومطامح القطر كله. وعند إيضاح ما يريده الجنوبيون بالنسبة للجنوب، لم يختلف رأي الجنوبي المسلم عبدالرحمن سولي، عن رأي الكاثوليكي ستانسلاوس بياساما، أو رأي الانجليكاني بنجامين لوكي. لا حاجة بنا لرواية فصول التاريخ السياسي المأساوي لجنوب السودان، وللعلاقة بين الجنوب والشمال. ذلك التاريخ بدأ في العهود الديموقراطية بفرض وصاية قسرية على الجنوبيين بدعوى (أو افتراض) أن ليس في كل الجنوب من هو قدير على التعبير عن رأي أهله (عدم اشراك الأحزاب الشمالية للجنوبيين في المفاوضات المصرية - البريطانية التي تمت قبيل اعلان الحكم الذاتي)، وتبع ذلك التنكر لوعد كان هو شرط وجوب لقبول الجنوب اعلان الاستقلال من داخل البرلمان (الفيدرالية كأساس للحكم)، ثم العجز الكامل في الديموقراطية الثانية عن تنفيذ قرارات لجنة الاثني عشر وهى القرارات التي كانت تمثل آنذاك الحد الأدنى للمصالحة الوطنية. على أن أعلى درجات الحمق في تلك السياسات كانت هى انقضاض حاكم شمالي (نميرى) على اتفاق حقق ـ رغم هشاشته ـ سلاماً دام عشر سنوات (اتفاق اديس أبابا 1972).
    امعاناً في خداع النفس وتضليل الآخر ظلت الطبقة السياسية الشمالية، خاصة أهل الحل والعقد من بينها، كما ظل أغلب مكيفي الرأي العام في الشمال من الباحثين والاعلاميين وبعض الأكاديميين، يبيحون لانفسهم الوصاية على الجنوب بدعوى أن الجنوبيين لم يبلغوا بعد الدرجة من الوعي التي تؤهلهم لاحتلال المناصب الرفيعة في الدولة (السودنة) أو التعبير الرشيد عن مصالحهم. ليت هؤلاء الأوصياء بزعمهم استمعوا لنصح الناصحين. من بين اولئك الناصحين اللجنة التي كونتها أول حكومة وطنية للتحقيق في أحداث الجنوب 1955 برئاسة القاضي الفلسطيني توفيق قطران، قاضي جنايات الخرطوم يومذاك (ضمت اللجنة ضابط البوليس المعروف خليفة محجوب، وكان وقتها مديراً لمشروعات الاستوائية، والزعيم الجنوبي لوليك لادو من الليريا). قال التقرير: ''ان السودانيين الشماليين، ومن بينهم من يتقلد وظائف كبرى في الادارة، يصفون الطبقة المثقفة من الجنوبيين بأنهم أنصاف متعلمين. أن التعليم شئ نسبي وتختلف فيه وجهات النظر، وقد استفادت الأمم من التجارب المتكررة، بما في ذلك الدول التي لها ماض طويل في استعمار الشعوب بأن من الخير لها أن تكسب ثقة الطبقة المثقفة سواء كانوا متعلمين أو أقل درجة من ذلك. ان الادارة الشمالية في الجنوب ليست استعمارية ولكن لسوء الحظ فأن أغلبية الجنوبيين ينظرون اليها هذه النظرة. وطالما كان الأمر كذلك فأن من المُهم كسب هذه الطبقة المثقفة''. التجارب التي تلت تقديم هذا التقرير إلى وزير الداخلية الشـيخ علي عبد الرحـمن في 18/2/1956 (أي بعد اعلان الاستقلال) اثبتت أن تلك النصائح لم تكن غير صيحة في واد.
    الاستهانة، ونقض العهود أو التخلي عن الوفاء بها، قادا إلى ارتفاع سقف المطالب الجنوبية بعد كل مرحلة وعد فيها الشمال وأخلف الوعد. وهكذا مضى التشدُد، تداول بعد تداول؛ واشتد وطيس الحرب، حربٌ لي وعلى. ثمن هذا كان هو انحدار السودان كله في المزيد من التخلف والهوان. فلو تحققت الفيدرالية في مطالع الاستقلال لما نشبت الحرب بل ولربما تطور السودان كما تطورت كوريا الجنوبية التي كانت في نفس مستوى السودان الاقتصادي عند استقلاله. كوريا الجنوبية لا تملك ما يملك السودان من موارد، ولا تزيد مساحتها عن 100 ألف كيلومتر مربع. إلا أن ناتجها القومي الاجمالي يبلغ اليوم 422 بليوناً من الدولارات، في حين لم يتجاوز في السودان 125 بليوناً (تقرير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية 2003). ولو قبل الشمال حكماً اقليمياً يمنح الجنوب سلطات واسعة كما تمنى أغلب الجنوبيين في مؤتمر المائدة المستديرة 1965، أو حتى كما قررت لجنة الاثني عشر، فلربما أحرز السودان ـ على الأقل ـ ما أحرزته ماليزيا التي نالت استقلالها في عام 1963 ولا تزيد مساحة ماليزيا عن 360 كيلو متراً مربعاً لا تحتوي على ما يحتويه السودان من موارد. وفي العام الماضي بلغ الناتج القومي الاجمالي لماليزيا 88 بليوناً من الدولارات في حين بلغ في سنغافورة الصغيرة التي انفصلت عن ماليزيا عقب الاستقلال بقليل 856 بليوناً. وفي الحالتين هو سبع أضعاف الناتج القومي الاجمالي لبلادنا. ولو لم ينقض نميري اتفاق أديس أبابا لما اشتعلت نيران الحرب من جديد في عـام 1983 بصورة أشد ضراوة، ولو لم تتحول الحرب بعد استيلاء الجبهة القومية الاسلامية على الحكم إلى حرب جهادية لما تعالت نداءات الانفصال من الجنوب، وكاد الوطن كله يَغرقُ في ظُلمات بحرٍ لُجي يغشاه موج. لكل ذلك، لم تبق للسودان جارية تنقذه من اللُجة التي طغى ماؤها غير حق تقرير المصير. لو، لو، لو، كل هذه اللوات لا تفيد إلا امتناع الوجوب لامتناع الشرط.
    ارتفع، اذن، سقف المطالب الجنوبية إلى خيارين: الانفصال الفوري، أو الوحدة الطوعية، أي الوحدة التي يقررها الجنوبيون بمحض ارادتهم لو توفرت شروطها. ولا نلومن في هذا إلا أنفسنا في الشمال إن حَملَنا الجنوبيين إلى تلك النهاية. وعلى كل، ارتضت الشرط الأخير كل القوى السياسية منذ يونيو 1995 (التجمع الوطني في مؤتمر القضايا المصيرية)، وحكومة الانقاذ (اتفاق فرانكفورت 1992 ، اعلان مبادئ الايقاد 1994، ثم اتفاقية الخرطوم للسلام من الداخل1997).
    أمر تقرير المصير في بداية الأمر التوى به البعض على غير هدى مُستنجدين بحيل القانون. مثال ذلك الادعاء أن تقرير المصير حق تمارسه الشعوب المستعمرة، وقد مارسه السودان في 1/1/1956 وأذكر أن واحداً من الاعتراضات التي أبداها جناح الشريف زين العابدين الهندي في الحزب الاتحادي الديموقراطي على قرارات أسمرا (مؤتمر القضايا المصيرية) هو تبنيها لحق تقرير المصير باعتباره انتهاكاً، في تقديرهم، لما أُسموه ''سلامة الأرض وصيانة العرض''. هذه لغة يصعب كثيراً ترجمتها سياسياً أو قانونياً، ولعلها في حاجة إلى تُرجمان من نوع آخر. الإدعاء أن حق تقرير المصير حق يكفله القانون الدولي للشعوب المستعمرة فقط له ما يسنده في القانون الدولي التقليدي. فمنذ اعلان الرئيس ويلسون لمبدأ حق تقرير المصير في نقاطه الأربع عشرة، وإقرار معاهدة فيرساي لذلك الحق بالنسبة للشعوب المستعمرة أو الواقعة قسراً تحت هيمنة دولة كبرى، ارتبط مفهوم حق المصير بالتحرر من الاستعمار. ثم جاء ميثاق الأمم المتحدة في عام 1951 ليؤكد هذا المعنى. ولكن هذا الفهم لحق تقرير المصير لم يعُد يستند على ساق في ظل التطورات التي طرأت على القانون الدولي. من ذلك ما شهدته مفاهيم حقوق الانسان التي أصبحت أيضاً حقوقاً للشعوب وليس فقط للأفراد. كما منه استمثال القانون للواقع السياسي على الأرض رغم كل ما كان يقول به القانون الدولي العرفي حول شروط الأهلية لممارسة حق تقرير المصير. وهناك شواهد كُثر على الظاهرة الثانية أهمها ما وقع أخيراً في دول البلقان (يوغسلافيا القديمة)، والاتحاد السوفيتي، وتشيكوسلوفاكيا. ولعل في تجربتي يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي ما يُستطرف. ففي الحالة الأولى تمسكت الولايات المتحدة (وزير الخارجية جيمز بيكر) بمبادئ القانون الدولي ورفضت الاعتراف بأول دولتين انشقتا عن يوغسلافيا: كرواتيا وسلوفينيا، في الوقت الذي اعترفت بهما المانيا على الفور، ثم تلتها دول أوروبية أخرى. ولم يتبدل الموقف الامريكي إلا بعد أن استتب الأمر لحكام الدولتين المنشقتين. أما تمزق الاتحاد السوفيتي إلى ولايات فهو أدعى للعجب رغم أن ما حدث ماكان ينبغي أن يثير الاستعجاب. فدستور الاتحاد السوفيتي (دستور لينين) يمنح حق تقرير المصير لكل دول الاتحاد متى أرادت أي منها ممارسته، إلا أن ممارسة هذا الحق الذي كفله الدستور السوفيتي لم تتحقق إلا بعد سقوط النظام الذي أقامه لينين.
    أما في الحالة الثانية (التطورات التي طرأت على القانون) فهناك جسم من القوانين الدولية التي تكفل الآن حقوق الشعوب، خاصة المجموعات الأصلية Indigenous في تقرير مصيرها، بمعنى تحديد وضعها السياسي، وتطوير ثقافاتها، وتنمية نفسها اجتماعياً واقتصادياً على الوجه الذي ترغب. وتقرير المصير، بهذا المعنى، قد تتم ممارسته حتى في اطار الدولة الواحدة. وقد دفع الاهتمام بحقوق المجموعات الأصلية كثيراً من الدول لتعديل دساتيرها بحيث توفر الضمانات اللازمة لهذه الجماعات لكيما تشارك مشاركة فاعلة في السلطة، وتتمتع بنصيب عادل من الثروة، في ذات الوقت الذي تصون فيه خصائصها المميزة إن أرادت ذلك. فمضمون حق تقرير المصير هو المشاركة الفاعلة في العملية الديموقراطية للحكم والقدرة على صناعة مستقبلك السياسي والثقافي والاجتماعي. وتظل الهند هى النموذج الأقرب والأمثل بالنسبة للسودان من حيث طبيعة المشاكل التي يمكن أن يتعرض لها بلد متعدد الأديان والاعراق واللغات. وعي الطبقة السياسية في الهند بضرورة معالجة هذه القضايا بالقدر الذي حال دون تفجرها هو الذي أدام الحكم الديموقراطي في الهند، وأهَلهَا للعب دور محوري في الاقتصاد العالمي. ومن الأمور التي وعيتها الطبقة السياسية الهندية وأدركتها على حقيقتها موضوع العدالة في اقتسام السلطة مما قاد إلى الحكم الولائي بما فيه انشاء ولايات تتمتع بسلطات أوسع من غيرها تسمى بولايات الاتحاد Union States، والقضاء على الظلم الاجتماعي الموروث بتبني سياسة التمييز القصدي في التعليم والعمل للجماعات المهمشة، واحترام الخصائص الثقافية لأقوام الهند بالاعتراف باللغات والثقافات القومية الخ. من جانب آخر، أسبقت الدول التي تدرك مسئولياتها نحو شعوبها في العقدين الأخيرين، على اعادة النظر في دساتيرها وقوانينها لكيما تقفل الطريق على الانفجارات التي قد تتولد من الظلم، كان ذلك حقيقياً أو مُدركاً بالحس Real Or Perceivedوأهم من ذلك، أن تجعل من الأوطان ملكاً لكل أهلها بلا تمييز لفريق،
                  

العنوان الكاتب Date
د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:31 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:34 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:37 AM
      Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:42 AM
        Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) يحي ابن عوف09-16-04, 03:49 AM
  Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) اسامة الخاتم09-25-04, 11:54 AM
    Re: د. منصور خالد اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) nadus200009-30-04, 04:04 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de