|
Re: (دراسة) أزمة الهوية في شمال السودان-بقلم د. الباقر العفيف/ترجمة الخاتم عدلان (Re: khalid abuahmed)
|
تغيير الهوية:
مستندًا على نموذج ابتدعه توماس شيللنج، يحاول ليتين تفسير تحولات الهوية عن طريق "منظومات" السلوك وما يترتب عليها من "ميول". وتحدث منظومات السلوك عندما يكون سلوك الناس أو أفعالهم مستندة إلى، ومدفوعة بتوقعاﺗﻬم لما يمكن أن يفعله الآخرون. وعندما تفكر أعداد كبيرة من الناس في اﻟﻤﺠموعة، أن أعضاءها الآخرين سيفكرون بطريقة معينة، وسيتصرفون وفق ذلك التفكير، فإن اﻟﻤﺠموعة"تميل" أو "تنتقل" فجأة من نظامها المعتاد قبل نمط السلوك الجديد، إلى نظام آخر جديد. ولتوضيح كيفية "ميل" اﻟﻤﺠموعات واستوائها يورد ليتين المثال التالي:" خذ حالة اثنين من 6 الأفرو –أمريكيين يشتريان مترلين بضاحية "بيضاء" مستقرة. فجأة تفكر العائلات البيضاء، وقد اندفعت كل منها بالخوف من أن تكون آخر أسرة بيضاء بالضاحية، في بيع منازلها. ولكن الأفرو أمريكيين هم وحدهم الراغبون في الشراء. وبسرعة خاطفة "تتحول" أو "تميل" الضاحية من بيضاء إلى أفرو- أمريكية". 28 تتحول الهوية بنفس الطريقة، أي تستوي وتنتظم في سياق متخيل. 29 ويعطينا ديفيد ليتين، في دراسته الميدانية للجالية الروسية بأستونيا، بعد اﻧﻬيار الاتحاد السوفيتي وتقلص حدوده، مثا ً لا واضحًاعلى تحول الهوية. وقد قام بشرح الجهود التي بذلها الأفراد الروس، وقد وجدوا أنفسهم غرباء وسط مجتمعات كانوا يهيمنون عليها في يوم من الأيام، للتأقلم مع الواقع الجديد. وقد اجتهد الروس باستونيا للحصول على الجنسية الأستونية. فبدأوا يدرسون اللغة الأستونية التي لم يشعروا بضرورة دراستها قبل اﻧﻬيار الاتحاد، إذ كان الأستونيون هم اﻟﻤﺠبرون على دراسة اللغة الروسية. ويستنتج ليتين أن رغبة هؤلاء الناس في الحفاظ على سلامة عائلاﺗﻬم، وفي تفادي الإبعاد، أعطتهم حافزًا لتحويل الهوية. وهذا بدوره يضع الأساس لصنع هوية أستونية لأحفادهم، وهذا يعني إﻧﻬم كمجموعة، يتحركون نحو "انقلاب" هويتهم. 30
تعيش اﻟﻤﺠتمعات عادة في توازن. وفي هذه الحالات تشعر الجماعات أن العالم ثابت ثباتًا مطلقًا. حينها تكون الهويات بمأمن من الشكوك، ولا تكون هناك حوافز للتغيير، ويشترك الجميع في تصور ضمني لمن يكونون. وتضطلع النخب الثقافية والسياسية، لكل مجموعة، بإصباغ المعني على هذا التوازن، بإنتاج المعتقدات، والمحاذير، والمبادئ، 31 والأساطير والنظم الرمزية. في هذه المرحلة يمكن وصف اﻟﻤﺠموعة بأﻧﻬا حققت ذاﺗﻬا، أي إﻧﻬا تعيش في انسجام مع بيئتها، وتري العالم بأم عينها. ولكن الحوادث والاضطرابات يمكن أن تزلزل التوازن، وتشيع عدم الاستقرار وسط الجماعة، وتقود إلى أزمة هوية، وتدفع بعض الناس إلى استكشاف هويات جديدة. في هذه الحالة غالبًا ما تنقسم النخبة الثقافية والسياسية إلى أولئك الذين يحاولون الدفاع عن الوضع القائم، وأولئك الذين يحاولون خلق منظومة جديدة، تحقق توازنًا جديدًا. 32
أبعاد الهوية ليس بمقدور أية نظرية منفردة، من النظريات التي تم تلخيصها فيما سبق، أن تفسر تعقيدات الهوية السودانية الشمالية، ولذلك تنشأ الضرورة لصياغة تركيبة منها جميعًا لتحقيق هذه الغاية. واستنادًا إلى ما سبق، يمكن للمرء أن يضع اليد علي ثلاثة عوامل، تستطيع إذا ما تفاعلت مع بعضها البعض، أن تفسر كل هوية اجتماعية. العامل الأول هو تصور اﻟﻤﺠموعة لنفسها. العامل الثاني هو تصور الآخرين للمجموعة. العامل الثالث هو الاعتراف أو عدمه من قبل مركز الهوية ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة. 7 إذا تفاعلت هذه العوامل الثلاثة بصورة منسجمة، أي إذا كان تعريف الناس لأنفسهم مقبو ً لا وواقعيًا، وكان تعريف الآخرين لهم منسجمًا مع الرؤية الذاتية للجماعة، وإذا كان مركز تلك الهوية يمحضها اعترافه، حينها يقال أن تلك اﻟﻤﺠموعة تعيش في توازن. وهنا تتقدم النخبة الثقافية والسياسية لإعطاء هذا التوازن معناه، مزودة إياه بمنظومة من المعتقدات، والقيود، والمبادئ، 33 الأساطير والنظام الرمزي.
ويحاول النظام الرمزي إشاعة الانسجام في كل العالم المحيط ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة أو بمعني آخر، يحاول جعل العالم كله يبدو وكأنما ينبثق من الذات الجماعية للمجموعة، أو كأنما هو بعد واحد من أبعاد هويتهم. في هذه المرحلة يمكن وصف اﻟﻤﺠموعة بأﻧﻬا صارت ذاﺗﻬا، وأﻧﻬا ترى العالم بعيوﻧﻬا أصالًة. أحد الأمثلة على الكيفية التي يشتغل ﺑﻬا النظام الرمزي، هو الكيفية التي أعادت ﺑﻬا الثقافات الغربية رسم صورة المسيح لجعله شبيهًا بالانجلو –ساكسون. وقد حدث هذا رغم حقيقة أنه يهودي، ولم يكن له بأي حال من الأحوال شعر أشقر ولا عيون زرقاء. ومع ذلك كانت إعادة التركيب والصياغة هذه ضرورية من أجل تحقيق الانسجام في هوية البيض، لأن الناس يدركون العالم بصورة افضل، عندما يعبدون إلهًا يشبههم، وليس إلهًا غريبًا عنهم. ومن الجانب الآخر، إذا تفاعلت العوامل الثلاثة بصورة متناقضة، إي إذا كانت تصورات الناس لأنفسهم لا تنسجم مع الطريقة التي يعرفهم ﺑﻬا الآخرون؛ أو، وهذا أخطر الأمور؛ إذا كانت القوى المالكة لصلاحيات إضفاء الشرعية، لم تقبل تعريف الجماعة لنفسها، فإن هذه الجماعة توصف بأﻧﻬا تعيش تناقضًا، وعدم انسجام. في هذه الحالة لا ينبثق النظام الرمزي من الذات الجماعية للجماعة، بل يكون مستعارًا في العادة من مركز الهوية التي ﺗﻬفو إليها تلك الجماعة، وترغب أن "تكوﻧﻬا". هذه الشروط تعد المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا اﻟﻤﺠتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى تسد عليه الأفق.
أزمة الهوية:- يمكن لأزمة الهوية أن تحدث علي المستويين، الشخصي والاجتماعي. على المستوي الشخصي، تنشأ الأزمة عندما تحين لحظة إحداث التوافق بين التماهيات الطفولية وبين تعريف جديد وعاجل للذات، وأدوار مختارة لا يمكن النكوص عنها. 34 يضاف إلى ذلك أن الهوية الشخصية تقوم علي جهد يستمر كل الحياة، كما يقول اريكسون، والفشل في تحقيقها يسبب أزمة ربما تكون لها نتائج مدمرة على الأفراد. 35 أما على المستوى الاجتماعي، فتنشأ الأزمة عندما يفشل الناس، وهم يصنعون هوياﺗﻬم، في العثور على نموذج يناسبهم تمامًا، أو عندما "لا يحبون الهوية التي اختاروها أو اجبروا على تبنيها"، ولأن الهويات الاجتماعية يتم تكوينها عادة "من التشكيلة المتاحة من التصنيفات الاجتماعية، فإن ظهور الخلعاء يكون حتميًا". 36 كذلك يمكن أن تحدث الأزمة عندما يسود الغموض نظرة الناس 8 إلى هويتهم، أو يفتقرون إلى هوية واضحة. 37 وفى حالة أخرى يمكن أن تنشأ أزمة الهوية عندما يكون هناك تناقض بين هوية الشخص ونظرة الآخرين إلى الهوية ذاﺗﻬا. وأخيرًا يمكن أن توجد أزمة الهوية إذا كان مركز الهوية، أي الجهة التي تملك صلاحيات إصباغ الشرعية، لا تعترف بادعاءات الهامش. عوامل الأزمة في شمال السودان: من ضمن العوامل التي تسبب أزمة الهوية في أية جماعة، يمكن وضع اليد علي ثلاثة عوامل، تنطبق على السوداني الشمالي. أو ً لا هناك تناقض بين تصور الشماليين لذواﺗﻬم، وتصورا ت الآخرين لهم. فالشماليون يفكرون في أنفسهم كعرب، ولكن العرب الآخرين لهم رأي أخر، فتجربة الشماليين في العالم العربي، وخاصة في الخليج، أثبتت لهم بما لا يدع مجا ً لا للشك، أن العرب لا يعتبروﻧﻬم عربًا حقًا، بل يعتبروﻧﻬم عبيدًا. وقد تعرض كل شمالي تقريبًا للتجربة المريرة بمخاطبته كعبد.
يمثل عرب الشرق الأوسط، وخاصة عرب الجزيرة العربية، والهلال الخصيب، لباب الهوية العربية التي ﺗﻬفو أفئدة الشماليين إليها، وتطمح للانتماء إليها. فهؤلاء "العرب الأصلاء الأقحاح" يحتلون مركز هذه الهوية، ويتمتعون بصلاحيات إضفاء الشرعية أو سحبها من ادعاءات الهامش. ويمثل الشماليون، من الجانب الأخر، الدائرة الخارجية من الهوية العربية، ويحتلون الهامش ويتطلعون إلى إدنائهم للمركز، كعلامة من علامات الاعتراف. سحب الاعتراف عن أية مجموعة من قبل الأخريات، وخاصة إذا كانت تلكم الأخريات يمثلن مركز الهوية، يمكن أن يلحق أثرًا مؤذيًا ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة. 38 وكما قال شارلس تيلور: "يمكن أن يلحق بالشخص أو اﻟﻤﺠموعة من الناس، أذى حقيقي، وتشويه حقيقي، إذا عكس لهم اﻟﻤﺠتمع الذي حولهم، صورة عن أنفسهم، تنطوي على الحصر والحط من الكرامة والاحتقار. 39 وقد كان المركز أبعد ما يكون عن الاعتراف بالشماليين عندما سماهم "عبيدًا"، وأبقاهم بالتالي، إذا استخدمنا مصطلح تيلور، "على مستوى أدنى من الوجود". 40 العامل الثاني في أزمة الهوية بشمال السودان، يتعلق "بالغموض" حول الهوية. وقد وقف الشماليون وجهًا لوجه أمام هذه الظاهرة، خاصة في أوروبا وأمريكا، حيث يصنف الناس حسب انتماءاﺗﻬم الاثنية والاجتماعية. ففي عام 1990 ، عقدت مجموعة من الشماليين اجتماعًا بمدينة بيرمنجهام لمناقشة كيفية تعبئة استمارة اﻟﻤﺠلس، وخاصة السؤال حول الانتماء الاثني. فقد شعروا أن أيًا من التصنيفات الموجودة ومن بينها "ابيض، أفرو- كاريبي، أسيوي، أفريقي أسود، وآخرون "لا تلائمهم. الذي كان واضحًا بالنسبة لهم إﻧﻬم ينتمون إلى "آخرون" ولكن الذي لم يكن واضحًا هو هل يحددون أصلهم "كسودانيين، أو كسودانيين عربًا، أو فقط كعرب؟". وعندما أثار أحدهم السؤال : لماذا لا نؤشر على فئة "أفريقي- أسود" ؟ كانت الإجابة المباشرة هي: "ولكننا لسنا سودًا" وعندما ثار سؤال أخر لماذا لا نضيف "سوداني وكفى؟ كان الجواب هو: "سوداني" تشمل الشماليين 9 والجنوبيين، ولذلك لا تعطي تصنيفًا دقيقًا لوصفنا". 41 ولوحظت ظاهرة الغموض حول الهوية كذلك في الشعور بالإحباط والخيبة الذي يشعر به الشماليون، عندما يكتشفون لأول مرة، أﻧﻬم يعتبرون سودًا في أوروبا وأمريكا. وتلاحظ كذلك في مسلكهم تجاه اﻟﻤﺠموعات السوداء هناك. إطلاق كلمة اسود على الفرد الشمالي، المتوسط، كانت تجربة تنطوي على الصدمة. ولكن الجنوبيين يروﻧﻬا مناسبة للمزاح، فيقولون لأصدقائهم الشماليين: "الحمد لله، هنا أصبحنا كلنا سودًا" أو "الحمد لله، هنا أصبحنا كلنا عبيدًا". مسلك الشماليين تجاه اﻟﻤﺠموعات السوداء ﺑﻬذه البلدان، شبيه لمسلكهم إزاء الجنوبيين. وغالبًا يطلقون عليهم كلمة "عبد" وقد أشار واحد ممن استطلعت أراءهم، إلى الافرو – كاريبيين كجنوبيين. 42 العامل الثالث من عوامل الأزمة يتعلق،" بخلعاء" الهوية، أو أولئك الذين لا يجدون موضعًا ملائمًا داخلها. فالشماليون يعيشون في عالم منشطر، فمع إﻧﻬم يؤمنون اﻧﻬم ينحدرون من "أب عربي" و" أم أفريقية" فإﻧﻬم يحسون بالانتماء إلى الأب الذي لا يظهر كثيرًا في ملامحهم، ويحتقرون الأم، الظاهرة ظهورًا واضحًا في تلك الملامح. هناك انشطار داخلي في الذات الشمالية بين الصورة والتصور؛ بين الجسد والعقل، بين لون البشرة والثقافة، و بكلمة واحدة بين " الأم والأب". فالثقافة العربية تجعل اللون الأبيض هو الأساس والمقياس، وتحتقر اللون الأسود. وعندما يستخدم الشماليون النظام الدلالي للغة العربية والنظام القيمي والرمزي للثقافة العربية، فأﻧﻬم لا يجدون أنفسهم، بل يجدون دلالات وقيمًا تشير إلى المركز. فالذات الشمالية كذات غائبة عن هذا النظام، ولا ترى إلا كموضوع، من خلال عيون المركز، ومن هنا جاء " الخلعاء".
|
|
|
|
|
|
|
|
|