|
|
 انتو أحسن مننا..!
|
أنضممت منذ فترة لما يعرف بـ (ج ا ك ق ج أ م ج) وهي اختصار لـ "جمعية الذين كفوا عن قول:جيلنا أحسن من جيلكم" هذه العبارة التي لا ينفك الأب والعم والأخ الأكبر من ترديدها في أذن المراهقين والشباب ، كما سمعتها وأنا صغير ممن سبقونا لم أقاوم أنا نفسي من ترديدها في أذن أول مراهق شاب يأتي بتصرفات غريبة علي ، ثم بعدها بشئ من القداسة استرجع حياة عشتها وجيلي ونحن أغصان خضراء يافعة ، ربما ليس من العدل أن ألصق في ذاكرتي ما أفتخر به فقط كجوعنا للقراءة والاطلاع مثلاً وأطنان الورق التي قرأناها من المكتبة المصرية والمكتبة المترجمة وأنسى أو أتناسى في ذات الوقت مثلاً ذكريات مثل ذكريات أول رشفة "للنيكوتين" داعبت مؤخرة رأسي واحمرت لها عيناي أو أي مغامرة أخفيتها عن أهلي..الشئ نفسه الذي يمكن أن أجده اليوم أو يشبهه في مراهق لأردد في وجهه العبارة التي دوماً ينظر الي بعدها نظرة تنم عن اشفاقه الشديد علي وتفاهة ما يخرج من فمي فأرجع من هذه المواجهة مهزوماً..كل مرة ، ما الذي يمكن أن يقنعه أن "جيلي أحسن من جيله"؟! فلقد نشأ ووجد "الكمبيوتر" و"الانترنت" و"البلاي ستيشن" و"الستالايت" و"الموبايل" و"البيتزا"..من المؤكد أنه نشأ ووجد هذه الأشياء حوله شيئاً عادياً شأنها شأن كل الأشياء في الكون وهو لا يعرف أنها بالنسبة لي مازالت كائنات خرافية لا أكف عن التعجب منها ، تماماً كتعجب أبي من التلفزيون الذي تعلمت وجوده مع الشمس والأحذية وسائر الاشياء الأخرى! وبالتأكيد كما استعجب جدي من الكهرباء ومن الراديو...
لا لا لا هذه التفسير غير مقنع بالنسبة لي ، لن يفكر هذا الشاب المراهق في مسألة الاختراعات هذه..سبب اعتداده بجيله شئ آخر.. دعني أنا أبحث عن التفسير من منظوري الخاص...
ماهذه الحياة التي نعيشها نحن اليوم؟! وكيف يقضي صديقي المراهق العنيد هذا يومه؟ ومن أين يملأ نافوخه بالمشاهدات؟ ما هو مصدر تحصيله من هذه الحياة؟..
حسناً تخيلوا معي أننا لو استلفنا "كبسولة زمن" من أقرب فلم أمريكي نرجع بها خمسة وعشرين سنة فقط لنشاهد سكان مدينة الخرطوم مثلاً في ذلك العصر السحيق..ما الذي يمكن أن نجده؟ أتخيل أننا سنجد وسنلاحظ مباشرة أنهم يعانون من تخمة في الزمن وأن اليوم كان عندهم خمسة وأربعين ساعة وليس كما هو الحال اليوم أي أربعة وعشرين..هل السبب الاختراعات؟ لا أظن..فلا أظن أن قرية "كوندوكو" في ادغال جزيرة "زندورو" الافريقية والمعزولة عن العالم حيث لا يرى سكانها الغرباء الا كل نصف قرن..لا أظنهم يملكون هذا اليوم الطويل كما كان يملكه أهل السودان قبل خمسة وعشرين عاماً..لا تتعب تفكيرك في ايجاد السبب الذي جعل ساعات اليوم تنكمش..لأن السبب ببساطة أن لعنة حلت بالعالم ، ومصدرها (اللعنة) مجهول ولكن تأثيرها واضح بلا شك..فهل تصدق أن الرجل السوداني كان يذهب للعمل ثم يرجع البيت ليحظى بقيلولة لدرجة أن يرى فيها حلماً طويلاً ثم يصحو ليغتسل وينتظر الغداء مع نشرة الثالثة في الاذاعة ثم "يتمدى" انتصاراً للمقولة الشهيرة ثم يصلي العصر ربما ثم يقوم بعدها باخراج كرسيه في الشارع ويداعب المارة وربما بعدها يقوم بزيارة أحد المرضى الأقارب ثم يصلي المغرب في جامع الحي ثم يشرب الشاي ثم يقوم بأحد النشاطات الاجتماعية الخالدة كاستقبال أو زيارة ثم يشاهد المسلسل اليومي ونشرة الأخبار ويتخلل كل هذا نشاطات تأديبية للصغار ربما ثم ينوم بعد أن يغلب النعاس هو لا يغلبه..المهم كل هذا كان في يوم واحد!..أما نحن الصغار فيومنا أطول فكانت فيه المدرسة وفيه الجلوس تحت شجر الحي وفيه لعب "الدافوري" وفيه وفيه..كل هذا وننوم قبل التاسعة!..هل يمكن أن تصدق أننا في مرة من المرات ذهبنا الى السوق الكبير بأرجلنا بعد اليوم الدراسي ورجعنا قبل ساعة الغداء التي تسبق ساعة الدافوري؟! أذكر هذا جيداً لأننا كنا قد أحضرنا الكرة نفسها التي لعبنا بها وأخبرك فقط أنني علمت فيما بعد أن السوق الكبير يبعد عن منزلنا مسافة 5 كيلو متر كاملة أي أننا زحفنا مسافة عشرة كيلو مترات كاملة! ألم أقل لكم أنها كانت خمسة وأربعون ساعة..!
ومعجزة الوقت التي عشناها هذه كانت تتماشى ووظيفتنا الوجودية..تتماشى مع تفانينا في دراستنا التنافسية في مدارسنا الحكومية وليست "الخاصة" والأخيرة بالمناسبة كانت للـ "البليدين" فقط ، ومع تفانينا في لعبنا للدافوري وكل الالعاب الميدانية الأخرى من "سكج بكج" الى "نط الكلب" ، وتفانينا في اجتياز كل المشاوير التي يكلفنا بها أهلنا ركضاً مهما بعدت المسافة لاحضار الطلب ، وتفانينا في قراءة كل مجلات الاطفال والقصص المتاحة..ألم يكن اليوم طويلاً؟ ماذا؟ أنا أخرف؟ شكراً لك.
نعود لموضوعنا إذاً...رغم انضمامي لجمعية (ا ك ق ج أ م ج) السرية الا إنني في نفس الوقت أدفع نصف عمري لأشتم رائحة مكان من ذلك الزمن كرائحة كشك "عم نصر" التي كانت تختلط فيه رائحة ورق مجلات ميكي وتان تان والجرائد والتبغ مع أشياء أخرى كثيرة كانت مبعثرة داخل الكشك القديم في الظهيرة..تلك الرائحة السحرية أيام كان اليوم 45 ساعة كاملة..
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
محمد يوسف الزين
محمد البشرى الخضر
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست