|
Re: (دراسة) أزمة الهوية في شمال السودان-بقلم د. الباقر العفيف/ترجمة الخاتم عدلان (Re: khalid abuahmed)
|
تغيير الهوية:
مستندًا على نموذج ابتدعه توماس شيللنج، يحاول ليتين تفسير تحولات الهوية عن طريق "منظومات" السلوك وما يترتب عليها من "ميول". وتحدث منظومات السلوك عندما يكون سلوك الناس أو أفعالهم مستندة إلى، ومدفوعة بتوقعاﺗﻬم لما يمكن أن يفعله الآخرون. وعندما تفكر أعداد كبيرة من الناس في اﻟﻤﺠموعة، أن أعضاءها الآخرين سيفكرون بطريقة معينة، وسيتصرفون وفق ذلك التفكير، فإن اﻟﻤﺠموعة"تميل" أو "تنتقل" فجأة من نظامها المعتاد قبل نمط السلوك الجديد، إلى نظام آخر جديد. ولتوضيح كيفية "ميل" اﻟﻤﺠموعات واستوائها يورد ليتين المثال التالي:" خذ حالة اثنين من 6 الأفرو –أمريكيين يشتريان مترلين بضاحية "بيضاء" مستقرة. فجأة تفكر العائلات البيضاء، وقد اندفعت كل منها بالخوف من أن تكون آخر أسرة بيضاء بالضاحية، في بيع منازلها. ولكن الأفرو أمريكيين هم وحدهم الراغبون في الشراء. وبسرعة خاطفة "تتحول" أو "تميل" الضاحية من بيضاء إلى أفرو- أمريكية". 28 تتحول الهوية بنفس الطريقة، أي تستوي وتنتظم في سياق متخيل. 29 ويعطينا ديفيد ليتين، في دراسته الميدانية للجالية الروسية بأستونيا، بعد اﻧﻬيار الاتحاد السوفيتي وتقلص حدوده، مثا ً لا واضحًاعلى تحول الهوية. وقد قام بشرح الجهود التي بذلها الأفراد الروس، وقد وجدوا أنفسهم غرباء وسط مجتمعات كانوا يهيمنون عليها في يوم من الأيام، للتأقلم مع الواقع الجديد. وقد اجتهد الروس باستونيا للحصول على الجنسية الأستونية. فبدأوا يدرسون اللغة الأستونية التي لم يشعروا بضرورة دراستها قبل اﻧﻬيار الاتحاد، إذ كان الأستونيون هم اﻟﻤﺠبرون على دراسة اللغة الروسية. ويستنتج ليتين أن رغبة هؤلاء الناس في الحفاظ على سلامة عائلاﺗﻬم، وفي تفادي الإبعاد، أعطتهم حافزًا لتحويل الهوية. وهذا بدوره يضع الأساس لصنع هوية أستونية لأحفادهم، وهذا يعني إﻧﻬم كمجموعة، يتحركون نحو "انقلاب" هويتهم. 30
تعيش اﻟﻤﺠتمعات عادة في توازن. وفي هذه الحالات تشعر الجماعات أن العالم ثابت ثباتًا مطلقًا. حينها تكون الهويات بمأمن من الشكوك، ولا تكون هناك حوافز للتغيير، ويشترك الجميع في تصور ضمني لمن يكونون. وتضطلع النخب الثقافية والسياسية، لكل مجموعة، بإصباغ المعني على هذا التوازن، بإنتاج المعتقدات، والمحاذير، والمبادئ، 31 والأساطير والنظم الرمزية. في هذه المرحلة يمكن وصف اﻟﻤﺠموعة بأﻧﻬا حققت ذاﺗﻬا، أي إﻧﻬا تعيش في انسجام مع بيئتها، وتري العالم بأم عينها. ولكن الحوادث والاضطرابات يمكن أن تزلزل التوازن، وتشيع عدم الاستقرار وسط الجماعة، وتقود إلى أزمة هوية، وتدفع بعض الناس إلى استكشاف هويات جديدة. في هذه الحالة غالبًا ما تنقسم النخبة الثقافية والسياسية إلى أولئك الذين يحاولون الدفاع عن الوضع القائم، وأولئك الذين يحاولون خلق منظومة جديدة، تحقق توازنًا جديدًا. 32
أبعاد الهوية ليس بمقدور أية نظرية منفردة، من النظريات التي تم تلخيصها فيما سبق، أن تفسر تعقيدات الهوية السودانية الشمالية، ولذلك تنشأ الضرورة لصياغة تركيبة منها جميعًا لتحقيق هذه الغاية. واستنادًا إلى ما سبق، يمكن للمرء أن يضع اليد علي ثلاثة عوامل، تستطيع إذا ما تفاعلت مع بعضها البعض، أن تفسر كل هوية اجتماعية. العامل الأول هو تصور اﻟﻤﺠموعة لنفسها. العامل الثاني هو تصور الآخرين للمجموعة. العامل الثالث هو الاعتراف أو عدمه من قبل مركز الهوية ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة. 7 إذا تفاعلت هذه العوامل الثلاثة بصورة منسجمة، أي إذا كان تعريف الناس لأنفسهم مقبو ً لا وواقعيًا، وكان تعريف الآخرين لهم منسجمًا مع الرؤية الذاتية للجماعة، وإذا كان مركز تلك الهوية يمحضها اعترافه، حينها يقال أن تلك اﻟﻤﺠموعة تعيش في توازن. وهنا تتقدم النخبة الثقافية والسياسية لإعطاء هذا التوازن معناه، مزودة إياه بمنظومة من المعتقدات، والقيود، والمبادئ، 33 الأساطير والنظام الرمزي.
ويحاول النظام الرمزي إشاعة الانسجام في كل العالم المحيط ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة أو بمعني آخر، يحاول جعل العالم كله يبدو وكأنما ينبثق من الذات الجماعية للمجموعة، أو كأنما هو بعد واحد من أبعاد هويتهم. في هذه المرحلة يمكن وصف اﻟﻤﺠموعة بأﻧﻬا صارت ذاﺗﻬا، وأﻧﻬا ترى العالم بعيوﻧﻬا أصالًة. أحد الأمثلة على الكيفية التي يشتغل ﺑﻬا النظام الرمزي، هو الكيفية التي أعادت ﺑﻬا الثقافات الغربية رسم صورة المسيح لجعله شبيهًا بالانجلو –ساكسون. وقد حدث هذا رغم حقيقة أنه يهودي، ولم يكن له بأي حال من الأحوال شعر أشقر ولا عيون زرقاء. ومع ذلك كانت إعادة التركيب والصياغة هذه ضرورية من أجل تحقيق الانسجام في هوية البيض، لأن الناس يدركون العالم بصورة افضل، عندما يعبدون إلهًا يشبههم، وليس إلهًا غريبًا عنهم. ومن الجانب الآخر، إذا تفاعلت العوامل الثلاثة بصورة متناقضة، إي إذا كانت تصورات الناس لأنفسهم لا تنسجم مع الطريقة التي يعرفهم ﺑﻬا الآخرون؛ أو، وهذا أخطر الأمور؛ إذا كانت القوى المالكة لصلاحيات إضفاء الشرعية، لم تقبل تعريف الجماعة لنفسها، فإن هذه الجماعة توصف بأﻧﻬا تعيش تناقضًا، وعدم انسجام. في هذه الحالة لا ينبثق النظام الرمزي من الذات الجماعية للجماعة، بل يكون مستعارًا في العادة من مركز الهوية التي ﺗﻬفو إليها تلك الجماعة، وترغب أن "تكوﻧﻬا". هذه الشروط تعد المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا اﻟﻤﺠتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى تسد عليه الأفق.
أزمة الهوية:- يمكن لأزمة الهوية أن تحدث علي المستويين، الشخصي والاجتماعي. على المستوي الشخصي، تنشأ الأزمة عندما تحين لحظة إحداث التوافق بين التماهيات الطفولية وبين تعريف جديد وعاجل للذات، وأدوار مختارة لا يمكن النكوص عنها. 34 يضاف إلى ذلك أن الهوية الشخصية تقوم علي جهد يستمر كل الحياة، كما يقول اريكسون، والفشل في تحقيقها يسبب أزمة ربما تكون لها نتائج مدمرة على الأفراد. 35 أما على المستوى الاجتماعي، فتنشأ الأزمة عندما يفشل الناس، وهم يصنعون هوياﺗﻬم، في العثور على نموذج يناسبهم تمامًا، أو عندما "لا يحبون الهوية التي اختاروها أو اجبروا على تبنيها"، ولأن الهويات الاجتماعية يتم تكوينها عادة "من التشكيلة المتاحة من التصنيفات الاجتماعية، فإن ظهور الخلعاء يكون حتميًا". 36 كذلك يمكن أن تحدث الأزمة عندما يسود الغموض نظرة الناس 8 إلى هويتهم، أو يفتقرون إلى هوية واضحة. 37 وفى حالة أخرى يمكن أن تنشأ أزمة الهوية عندما يكون هناك تناقض بين هوية الشخص ونظرة الآخرين إلى الهوية ذاﺗﻬا. وأخيرًا يمكن أن توجد أزمة الهوية إذا كان مركز الهوية، أي الجهة التي تملك صلاحيات إصباغ الشرعية، لا تعترف بادعاءات الهامش. عوامل الأزمة في شمال السودان: من ضمن العوامل التي تسبب أزمة الهوية في أية جماعة، يمكن وضع اليد علي ثلاثة عوامل، تنطبق على السوداني الشمالي. أو ً لا هناك تناقض بين تصور الشماليين لذواﺗﻬم، وتصورا ت الآخرين لهم. فالشماليون يفكرون في أنفسهم كعرب، ولكن العرب الآخرين لهم رأي أخر، فتجربة الشماليين في العالم العربي، وخاصة في الخليج، أثبتت لهم بما لا يدع مجا ً لا للشك، أن العرب لا يعتبروﻧﻬم عربًا حقًا، بل يعتبروﻧﻬم عبيدًا. وقد تعرض كل شمالي تقريبًا للتجربة المريرة بمخاطبته كعبد.
يمثل عرب الشرق الأوسط، وخاصة عرب الجزيرة العربية، والهلال الخصيب، لباب الهوية العربية التي ﺗﻬفو أفئدة الشماليين إليها، وتطمح للانتماء إليها. فهؤلاء "العرب الأصلاء الأقحاح" يحتلون مركز هذه الهوية، ويتمتعون بصلاحيات إضفاء الشرعية أو سحبها من ادعاءات الهامش. ويمثل الشماليون، من الجانب الأخر، الدائرة الخارجية من الهوية العربية، ويحتلون الهامش ويتطلعون إلى إدنائهم للمركز، كعلامة من علامات الاعتراف. سحب الاعتراف عن أية مجموعة من قبل الأخريات، وخاصة إذا كانت تلكم الأخريات يمثلن مركز الهوية، يمكن أن يلحق أثرًا مؤذيًا ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة. 38 وكما قال شارلس تيلور: "يمكن أن يلحق بالشخص أو اﻟﻤﺠموعة من الناس، أذى حقيقي، وتشويه حقيقي، إذا عكس لهم اﻟﻤﺠتمع الذي حولهم، صورة عن أنفسهم، تنطوي على الحصر والحط من الكرامة والاحتقار. 39 وقد كان المركز أبعد ما يكون عن الاعتراف بالشماليين عندما سماهم "عبيدًا"، وأبقاهم بالتالي، إذا استخدمنا مصطلح تيلور، "على مستوى أدنى من الوجود". 40 العامل الثاني في أزمة الهوية بشمال السودان، يتعلق "بالغموض" حول الهوية. وقد وقف الشماليون وجهًا لوجه أمام هذه الظاهرة، خاصة في أوروبا وأمريكا، حيث يصنف الناس حسب انتماءاﺗﻬم الاثنية والاجتماعية. ففي عام 1990 ، عقدت مجموعة من الشماليين اجتماعًا بمدينة بيرمنجهام لمناقشة كيفية تعبئة استمارة اﻟﻤﺠلس، وخاصة السؤال حول الانتماء الاثني. فقد شعروا أن أيًا من التصنيفات الموجودة ومن بينها "ابيض، أفرو- كاريبي، أسيوي، أفريقي أسود، وآخرون "لا تلائمهم. الذي كان واضحًا بالنسبة لهم إﻧﻬم ينتمون إلى "آخرون" ولكن الذي لم يكن واضحًا هو هل يحددون أصلهم "كسودانيين، أو كسودانيين عربًا، أو فقط كعرب؟". وعندما أثار أحدهم السؤال : لماذا لا نؤشر على فئة "أفريقي- أسود" ؟ كانت الإجابة المباشرة هي: "ولكننا لسنا سودًا" وعندما ثار سؤال أخر لماذا لا نضيف "سوداني وكفى؟ كان الجواب هو: "سوداني" تشمل الشماليين 9 والجنوبيين، ولذلك لا تعطي تصنيفًا دقيقًا لوصفنا". 41 ولوحظت ظاهرة الغموض حول الهوية كذلك في الشعور بالإحباط والخيبة الذي يشعر به الشماليون، عندما يكتشفون لأول مرة، أﻧﻬم يعتبرون سودًا في أوروبا وأمريكا. وتلاحظ كذلك في مسلكهم تجاه اﻟﻤﺠموعات السوداء هناك. إطلاق كلمة اسود على الفرد الشمالي، المتوسط، كانت تجربة تنطوي على الصدمة. ولكن الجنوبيين يروﻧﻬا مناسبة للمزاح، فيقولون لأصدقائهم الشماليين: "الحمد لله، هنا أصبحنا كلنا سودًا" أو "الحمد لله، هنا أصبحنا كلنا عبيدًا". مسلك الشماليين تجاه اﻟﻤﺠموعات السوداء ﺑﻬذه البلدان، شبيه لمسلكهم إزاء الجنوبيين. وغالبًا يطلقون عليهم كلمة "عبد" وقد أشار واحد ممن استطلعت أراءهم، إلى الافرو – كاريبيين كجنوبيين. 42 العامل الثالث من عوامل الأزمة يتعلق،" بخلعاء" الهوية، أو أولئك الذين لا يجدون موضعًا ملائمًا داخلها. فالشماليون يعيشون في عالم منشطر، فمع إﻧﻬم يؤمنون اﻧﻬم ينحدرون من "أب عربي" و" أم أفريقية" فإﻧﻬم يحسون بالانتماء إلى الأب الذي لا يظهر كثيرًا في ملامحهم، ويحتقرون الأم، الظاهرة ظهورًا واضحًا في تلك الملامح. هناك انشطار داخلي في الذات الشمالية بين الصورة والتصور؛ بين الجسد والعقل، بين لون البشرة والثقافة، و بكلمة واحدة بين " الأم والأب". فالثقافة العربية تجعل اللون الأبيض هو الأساس والمقياس، وتحتقر اللون الأسود. وعندما يستخدم الشماليون النظام الدلالي للغة العربية والنظام القيمي والرمزي للثقافة العربية، فأﻧﻬم لا يجدون أنفسهم، بل يجدون دلالات وقيمًا تشير إلى المركز. فالذات الشمالية كذات غائبة عن هذا النظام، ولا ترى إلا كموضوع، من خلال عيون المركز، ومن هنا جاء " الخلعاء".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: (دراسة) أزمة الهوية في شمال السودان-بقلم د. الباقر العفيف/ترجمة الخاتم عدلان (Re: khalid abuahmed)
|
الاخوة الاعزاء من اراد نسخة من الدراسة الرجاء ارسال البريد الالكتروني على العنوان التالي: [B][email protected]
تابع
آثار الهوية الهامشية على النفسية الشمالية:- لا شك إن هذا الموقع الدون، كانت له آثاره على نفسية الفرد الشمالي، فعندما أفاق هذا الفرد، على إن الخصائص المعيارية، المثالية، لهذه الهوية، هي البشرة البيضاء، والشعر الناعم المرسل، والأنف الاقني المستقيم، وجد أنه يفتقر إلى بعض هذه الخصائص والصفات، واستشعر الحاجة للحصول عليها أو التعويض عنها، فصار مفهومًا أن اللون كلما مال إلى البياض، كلما صار الشخص أقرب إلي المركز، وكلما صار ادعاؤه بالانتماء العربي أكثر مشروعية. وعندما تتعثر الاستجابة لشرط اللون، كما هو بالنسبة لأغلب الشماليين، يحاول الفرد أن يجد ملاذًا أو مخرجًا في الشَعَر، للبرهان على أصله العربي؛ فكلما كان الشَعَر ناعمًا، كلما كان الشخص أقرب إلى المركز. 43 وعندما يفشل المرء في امتحان الشَعَر هو الأخر، يحاول أن يجد ملاذه الأخير في شكل الأنف، وكلما كانت قريبة من المعايير العربية للأنف، كلما كان ذلك أفضل، إذ إﻧﻬا، على الأقل ستكون شاهدًا على أصل غير زنجي. 10 إحساس باللون مصحوب بالحرج:- عندما يجد الفرد نفسه مفتقرًا إلى ما يعتبره القسمات المعيارية، فإنه عادة ما يحاول التعويض عنها أو إكمالها. ولأن الزواج يعطي الأفراد فرصًا للتعويض والإكمال، فإن الفرد الشمالي المتوسط، يتطلع ويبحث عن الارتباط بآخر يكون قريبًا من المثال في اللون والقسمات. 44 فمثل هذا الاتحاد يعطي الفرد، رج ً لا أو امرأة، فرصة للتعويض عن سواده (أو سوادها)، كما يعطيهما فرصة لتخليص أطفالهما منه. وفي دراستها الممتازة لقرية شمالية أطلقت عليها الاسم الوهمي "حفريات" توصلت جانيس بودي، إلى مدى حدة وعي القرويين باللون. فقد عرفت منهم أن هناك تراتبية لونية، حسب الأفضلية "تتدرج من الأصفر، أي الفاتح، وتمر بدرجات أكثر دكنة تسمى "الأحمر"، "الأخضر"، و"الأزرق" ثم تستطرد فتقول أن كلمة "أسود" تستخدم دائمًا للجنوبيين والأفارقة". 45 و مع إن هذا المقتطف من "بودي" يبرهن على أفضلية الألوان الفاتحة وسط الشماليين، إلا أن ترجمتها الحرفية للاصطلاحات اللونية الشمالية، مثل أصفر، أسمر، أخضر، وأزرق، ربما تسبب بعض التشويش، إذا لم تشرح. ومن أجل شرحها، سأعيد صياغة عبارات "بودي" على النحو التالي: اللون الأول من حيث الأفضلية هو الأصفر ، وهذا هو معناه الحرفي، ولكنه يستخدم مع الأحمر للإشارة إلى البياض. اللون الثاني من حيث الأفضلية هو" لأسمر" وهذا يعني حرفيًا الميل إلى الحمرة، ولكنه يستخدم لوصف تشكيلة لونية تتراوح من الفاتح إلى الأسمر الغامض. وهذه التشكيلة تشمل في العادة تقسيمات مثل "الذهبي"، "القمحي"، و"الخمري". اللون الثالث هو "الأخضر"، ويستخدم كبديل مهذب عن كلمة "اسود" عندما يستخدم في وصف الشمالي الداكن اللون. 46 وأخيرا،ً وآخرًا "الأزرق" ولكنه يستخدم بالتبادل مع "الأسود" أي لون "العبيد". إن الشمالي المتوسط ينظر إلي اللون الأسود كمشكلة تستوجب الحل. ومع أن الإناث يتعاملن معها مباشرة باستخدام الأصباغ، إلا أن الرجال يتعاملون معها بطريقة غير مباشرة أي الارتباط بأنثي فاتحة اللون. 47 ولكن وبصرف النظر عن الشعور بالرضى الذي يوفره هذا الإجراء التعويضي والاستكمالي للفرد، إلا أنه يظل باقيًا. ما يزال قدر كبير من القلق يفرزه الشعور الملازم للفرد بأنه يحمل معه أينما ذهب ذلك اللون الخطأ. ومن أجل مقاومة هذا القلق يجب توظيف ميكانزمات دفاعية ملائمة. وهنا يصبح اللون الأسمر هو المعيار، ويعطي اللون الأسود اسمًا أخر. ولتفادي وصف الذات بأﻧﻬا "سوداء"، ابتدع الوعي الجماعي الشمالي لفظة " أخضر" والتي كانت تستخدم أص ً لا في وصف اللون الداكن للأرض. وبناء على ذلك، بينما يكون الشمالي الداكن اللون "أخضرًا"، فإن الجنوبي الداكن اللون بنفس القدر يسمي "أسودًا". وفي نقاشه لمفهوم اللون لدى الشمالي، يكتب فرانسيس دينق ما يلي: 11 "يركز الكبرياء اللوني الشمالي على اللون الأسمر الفاتح للبشرة، ويعتبره المثال والمعيار بالنسبة للشمال، وبالتالي للسودان. إذا صار اللون "فاتحًا" أكثر من اللازم بالنسبة للسوداني، فإنه يصبح مهددًا باعتباره"خواجا" أو "أوروبي"، أو عربي من الشرق الأوسط، أو، وهذا أسوأ الاحتمالات، اعتباره "حلبيًا"، وهو اللفظ المستخدم لفئة الغجر، المعتبرة الأدنى قدرًا من جميع الفئات ذات البشرة البيضاء. الوجه الأخر من العملة، هو بالطبع، النظر إلى الجنس الأسود كجنس أدنى، وهي حالة تلطفت العناية الرحيمة بإنقاذ المرء من براثنه. ومن هنا فإن العنصرية السودانية الشمالية، والشوفينية الثقافية، تترل لعنتها في نفس الوقت بشديدي السواد وشديدي البياض. 48 ومع أن ملاحظة دينق صحيحة بصورة عامة، إلا أﻧﻬا تحتاج إلى كثير من الضبط. فأنا أعتقد إن "أحمر" أي "أبيض" هو المعيار اللوني النهائي للشمالي المتوسط، فهو يعتبر اللون المثالي للمجموعة الداخلية، أي مركز الهوية العربية. في حين لا يكون اللون الأسمر معيارًا إلا على مستوي أدني، وإلا كآلية دفاعية، مجبرة على تبنيه كواقع لا مهرب منه. وعلى عكس الأبيض، فإن الأسمر ليس جيدًا لمزاياه الخاصة، بل فقط كبديل للأبيض الغائب. ومع أن الأغاني الشعبية غالبًا ما تتغنى بالنظرات الساحرة للحبيب الأسمر "أسمر يا ساحر المنظر" ، إلا أن النظام الدلالي المهيمن للثقافة العربية الإسلامية، يجعل اللون الأبيض هو المعيار والمثال، كما سنوضح أدناه. ولو كان الشماليون قد استطاعوا تطوير نظام دلالي شامل ومنسجم، يجعل الأسمر معيارًا، لاستطاعوا حل الجزء الأكبر من أزمة هويتهم. ومع أن الشماليين يستقبحون اللون الفاتح جدا (أي الأحمر)، واللون الموغل في السواد، إلا أﻧﻬما لا يستقبحان بنفس الدرجة. فالوصمة الاجتماعية اللاحقة باللون "الأسود" ترجع إلى إنه لون "العبيد". أما وصمة اللون "الأحمر" فتتعلق بكونه لون ا َ لحَلب أو الغجر، فا َ لحَلب، الذين ينظر إليهم كفئة منحلة أخلاقيًا ومنحطة سلوكيًا، يعتبرون فئة "منبوذة اجتماعيًا". 49 الصيغ الثقافية التي تزدري اللون الأسود شائعة بصورة مزعجة، وعميقة الجذور في الثقافة والأدب العربيين، عكس تلك التي تزدري اللون الأحمر، والتي هي شحيحة ولم تظهر إلا مؤخرًا مع الغزو التركي للسودان. وقد جاءت هذه المقولات الثقافية الأخيرة نتيجة للبشاعات التي ألحقها الترك بالمواطنين، والتي جعلت الشماليين ينظرون إلى الأتراك كصور مجسمة للفساد، والشراهة والجبن. وجاءت الثورة المهدية ضد الأتراك، وانتصارها الساحق عليهم، لتكثف وتعمق من احتقارهم في عيون الشماليين. وهذه هي الفترة التي ظهرت فيها عبارة "الحمرة الأباها المهدي" ولذلك فإن اللعنة التي حلت باللون الأحمر، آخذين بالاعتبار هذه الحدود وهذا السياق، لم تكن مطلقة. والواقع أن الأحمر يعتبر بصورة جوهرية، سواء 12 بالنسبة للثقافة العربية أو الثقافة السودانية المحلية، تجسيدًا للجمال. ففي"قاموس اللهجة العامية في السودان" قال عون الشريف قاسم ما يلي حول اللون الأبيض: "إﻧﻬم (أي العرب) يسمون الفرد ذا اللون الأبيض "أحمر". فعائشة زوجة النبي كانت تسمى "الحميراء" (وهي تصغير أحمر) لأن لوﻧﻬا كان أبيضًا. وكان العرب يسمون الفرس والروم أيضًا حمرًا (جمع أحمر)، لأن ألواﻧﻬم بيضاء. ويقصدون اللون الأبيض حينما يقولون "الحسن أحمر". 50 وتوضح جانيس بودي كيف كانت نساء قرية "حفريات" ذوات وعي باللون. فبالنسبة لهن "اللون الأبيض نظيف، جميل وعلامة على قداسة كامنة" وقد أخبرﻧﻬا مرارًا وتكرارًا أﻧﻬا كامرأة بيضاء، تملك فرصًا أفضل منهن بمراحل، لدخول الجنة، إذا اعتنقت الإسلام. وأضفن أن فرصها أفضل من جميع السودانيين في دخول الجنة. وكانت الأسباب التي ذكرﻧﻬا هي: "وذلك لأن النبي محمدًا أبيض، وكل البيض من البشر أعلى شأنًا لأﻧﻬم ينتمون إلى قبيلته البيضاء". 51 يضاف إلى ذلك ، أن احتقار الأحمر (أي الأبيض) يبقى فقط علي مستوى التنظير، ولا ينعكس في المسلك الاجتماعي للسوداني الشمالي. فعلى سبيل المثال أبدى الشماليون استعدادًا للتزاوج مع البيض، سواء كانوا أوروبيين أو عربًا، ولكنهم عبروا عن تثاقل وصد في التزاوج مع السود، سواء كانوا جنوبيين أو أفارقة عمومًا. 52 وبصورة أكثر تحديدًا، بينما لا يجد الشماليون حرجًا في تزويج بناﺗﻬم للفئة الأولى، إلا اﻧﻬم لا يتصورون مجرد تصور تزويجهن من الفئة الثانية. 53 الوعي المحرج بالهامشية: يمكننا أن نلاحظ مظهرًا أخر من مظاهر تأثير الهوية الهامشية على النفسية الشمالية في المسلك السياسي للطبقة الحاكمة الشمالية. فأول القرارات التي اتخذﺗﻬا الطبقة الحاكمة الشمالية بعد الاستقلال هو الانضمام للجامعة العربية.
ويخبرنا محمد أحمد محجوب: "سارعنا بالانضمام إلى الجامعة العربية مباشرة بعد إعلان الاستقلال". 54 ولأﻧﻬا كانت واعية بموقعها علي هامش العالم العربي، رضيت هذه الحكومة بدور متواضع، ولم تتخذ موقفًا منحازًا في الصراعات العربية الداخلية، سواء مع الراديكاليين أو المحافظين. 55 ومثله مثل أي كيان هامشي، يكاد السودان أن ينسى تمامًا في أوقات الهدوء والانسجام. ويعلمنا التاريخ انه فقط في أوقات الاضطرابات المصاحبة للحروب والانتفاضات، والتي ﺗﻬز بعنف وتمزق النسيج الاجتماعي، يمكن للنساء والعبيد، كفئات مهمشة، أن ينعموا باعتراف المركز. وعلى ذات النسق، فقط عندما كان العرب في قمة الشعور بالمهانة والإحباط، نتيجة للهزيمة الساحقة التي ألحقتها ﺑﻬم إسرائيل عام 1967 ، تذكروا السودان، وأدنوه من المركز، وسمحوا له أن يلعب دورًا 13 حيويًا داخل الجامعة العربية. فحياد السودان، أو قل دور المتفرج الذي كان يلعبه، هو الذي أهله لاستضافة مؤتمر القمة العربية عام 1967 . ويخبرنا المحجوب: "كانت الخرطوم هي الموقع الوحيد المقبول سياسيًا لعقد المؤتمر، بالنسبة للمحافظين والمتطرفين من القادة العرب". 56 ولكن ما لم يخبرنا به هو أن الهامش صار مكانًا ملائمًا بالنسبة للمركز ليلعق جراحه في جنباته.
منهج حمل المتاع:
المظهر الأخر لتأثير الهوية الهامشية هو ما يمكن أن نسميه منهج" حمل المتاع". فالهوية الهامشية ترنو دائمًا إلى المركز كمصدر للإلهام الثقافي، والديني والسياسي، وكمجال للسياحة الفكرية. إﻧﻬا ميالة لاستعارة المنتجات الفكرية للمركز، وليس متوقعًا منها أن تنتج أو تعير. يقول شون أوفاهي:"السودان النهري الشمالي تفاعل دومًا مع مصر، أو تطلع عبر البحر الأحمر إلى الجزيرة العربية"، 57 فالرابطة الثقافية بين الشماليين والعالم العربي، كانت على وجه العموم طريقًا ذا اتجاه واحد، تنتقل فيه المنتجات الثقافية، من خارج الحدود الشمالية، عكس مجرى النيل، أو من الشرق عبرالبحر الأحمر. ومن المثير للدهشة أن كل حزب في العالم العربي، تقريبًا، له فرع في شمال السودان، فهناك حزب البعث العربي الاشتراكي، بجناحيه السوري والعراقي، وهناك الحزب الناصري، ومؤتمرات القذافي الشعبية، والحركة الوهابية السعودية، وحركة الأخوان المسلمين المصرية. كل هذه الحركات والأحزاب لها فروعها في السودان. وكانت ثورة 1924 ، والحركات الاتحادية مؤخرًا، في الأربعينيات، والتي عملت كلها تحت الرعاية المصرية، ﺗﻬدف إلى تحقيق الوحدة السياسية مع مصر. 58 وبالنسبة للمركز، ليس الهامش سوى خواء ثقافي وسياسي، إن لم يكن سلة للنفايات، ينبغي ملؤها. وهذا هو السبب الذي يجعل مختلف فئات المركز تتسابق لملئه.
التواؤم مع المركز:
علامة أخرى على تأثير الهوية الهامشية، على نفسية الفرد الشمالي، تتمثل فيما يمكن أن اسميه:"الميل للتواؤم". فمن الملاحظ أن أغلبية الشماليين الذين يعملون في أقطار عربية مختلفة يتبنون لهجات البلدان التي يجدون أنفسهم فيها. وحتى عندما يعودون إلى السودان، يكون الاحتمال كبيرًا، أن تصبح هذه اللهجات، أو على الأقل بعض كلماﺗﻬا وعباراﺗﻬا، جزء من الذخيرة ا للغوية للشخص المعين. ومن الملاحظ أيضًا أن القلة من العرب الذين يجيئون إلى السودان لا يغيرون لهجاﺗﻬم حتى إذا مكثوا وسط السودانيين لعدة سنوات. بل إن الشماليين الذين يختلطون ﺑﻬؤلاء العرب، في السودان، غالبًا ما يعدلون لغتهم ولهجتهم حتى تتوافق مع لسان العرب الذين يعيشون وسطهم. 59 14
| |
|
|
|
|
|
|
|