|
|
 (أب قرش) وصيد التماسيح
|
هذه قصه بطلها بسابيرى والمنبر بسابيرى ولكن قبل ان نخوض فيها لنقف على قول الشاعر الرائع الدكتور/ محمد ود بادى حيث قال:
كل فضيلة فى الاجداد
ابت ما تبقى فى الاحفاد
مسكت فى النعوش الطاهرة
واندفنت مع الجثمان
وكل مكارم العابرين
معاهم راقدة فى شبرين
وبقت امجادنا كانو زمان وكانو زمان
فهذه دعوة منى احبتى ان نحيى جميعا تاريخ السلف وان نحيى تراث قرانا وان نبقى فضائل السلف حية فينا وان لا ندعها تدفن معهم ويطويها غبار النسيان ، وادعوكم هنا الى روايتى المتواضعة عن المرحوم (اب قرش ) من اهالى قرية البسابير جنوب شندى رحمه الله رحمة واسعة. واول الغيث قطرة.
************
إنها أحداث عفا عليها الزمن وهى ليست من نسج الخيال بل هي واقع معاش ففي إحدى القرى الوادعة التى تمتد متراصة شمال الخرطوم على الشريط النيلي عاش هذا الشيخ الذي سأحدثكم عنه... شيخ حكمة في كل شئ وكأنه قد شربها من كؤوس الذين تربوا على هذه الضفاف كابرا عن كابر... كان هذا الشيخ مشهورا بالصيد وكان يسمى الصياد .. كان يصيد الظباء التي كانت تسرح في الأودية التي تقع جنوب تلك القرى وهذا عهد لم اشهده أنا ولكنه كان يحكى من الذين عاصروه. ولكن ما شهدته انا هو صيد هذا الرجل للتماسيح التي كان يعج بها النيل آنذاك قبل ان يشيخ هو وتعترضه الجزر والكثبان الرملية التى اعترضت مجراه وكبحت من سيره المتناغم صيفا وشتاءا وكأنه يحكى تاريخ أمم قد خلت.. فالنبل فى تلك القرى نعمة لا تعادلها نعمة و مازال بما يحمله من خير وفير خاصة في أغسطس عندما يمتلئ ماعونه ويبدأ فى الفيضان مكتسحا كل شئ حتى العوالى ويسقى تلك الحيضان التي سطت عليها المشاريع الكبيرة الآن - كحوض البسابير وحوض ودحامد وحوض سلوة- وكان للنيل فى هذه الفترة وقع خاص فى نفوسنا حيث يتباشر الصبية بخروجه وتسمعهم يتباشرون "الترعة قالوا مرقت" والترعة هذه هي المجرى الذي يسقى هذه الأحواض التى ذكرتها، فقد كانت تخرج كميات كبيرة من الأسماك مع المياه كأسماك الكور والكانكيج وام قشر كما كنا نسميها آنذاك فكنا نتسابق الكل حاملا فراره متجها نحو الخيران.. وكان المار ليلا بتلك القرى لا يشم الا رائحة الشواء اللذيذة التي يكاد لا يخلو بيت منها. فقد كانت هذه الأحواض بمثابة مصادر الرزق الوحيدة لسكان تلك القرى قبل المشاريع الزراعية التى امتدت الآن على ضفتيه شرقا وغربا والتى تسقى بالماكينات الضخمة.. فقد كانوا يتلهفون بخروج النيل ليروى تلك الحيضان لتبدأ بعد انحساره مرحلة الزراعة .. زراعة العيش واللوبيا والبطيخ والتي لا تكلفهم شيئا غير شق الأرض سواء بالسلوكة او المحراث الذى تجره الأبقار ثم رمى التيراب وانتظار رحمة الله.. فغالبا ما يكون الحصاد وفيرا .. وما زلت اذكر تلك المعاناة عندما نرسل لمحاحاة الطير فتجد ان الكل قد اتخذ عريشا وسط الغابات الشاسعة من قصب الحميسى وبيده كشكوش ملئ ملئ بقطع الحجارة الصغيرة او صفيحة فى إحدى يديه وباليد الأخرى حجر او قضيب من حديد يدق عليها ليزعج الطير وهذه غالبا ما يكون فى اوقات القيلولة أو ساعات الصباح الأولى.
النيل هذه الأفعى الضخمة.. تحكى على ضفافها حكايات كثيرة عفا الزمن الآن على الكثير منها حتى النيل نفسه قد اقتنع انه قد شاخ.. وأنا مازلت اجتر كثيرا من هذه الذكريات والتى ما أظن أنها ستكرر ولن يجود بها الزمان حتى ولو انعكست دورته أو حتى لو عاد النيل شابا كعهدي به عندما كنت يافعا.
نعود لقصة الصياد الذي كان يسمى "أب قرش" فقد كان هذا الرجل رحمه الله ماهرا فى كل شئ قبل ان يكون صيادا.. كل عمليات الختان في تلك القرى كان يقوم بها هو حتى انا كنت من الذين تم ختانهم على يده.. ما زلت اذكر تلك الطقوس واللحظات القاسية عندما يأتي هذا الرجل باكرا لعملية الختان، يأتي ويسلم على كبار السن ثم ينادى جيبو العريس... ويأتي العريس فى كامل حلته التى عادة ما تكون جبة من الساكوبيس الأبيض الرهيف وبيده سيف صغير أو سوط من العنج يقف وجده او عمه يقف من خلفه ممسكا بحنكه رافعا به إلى أعلى حتى لا يرى ما سوف يفعل به، وأب قرش فى هذه اللحظات يجهز فى أدواته والتي كانت فى مجملها عبارة عن خيط وقصبة منجورة باحكام وموسى عتيقة شاخت هي الأخرى من كثرة شحذه لها على حافة مركوبه المصنوع من الجلد "قطع الجنينة" وماهى الا لحظات وتسمع ابشر ابشر ثم تساق إلى عنقريب صغير وضع غير بعيد والألم يقطع نياط قلبك عندها تسمع الذين من حولك يشدون من أزرك بترديدهم "عض شفاتك عض شفاتك" ويجلسونك على ذلك العنقريب لتتم بعد ذلك العناية بالجرح ولا زلت اذكر أنها كانت عبارة عن حبوب السلفا بعد ان يهرسونها جديا بحجر أملس فى أحد الملاعق ثم توضع على الجرح وتلف بقطعة نظيفة من القماش يتم تغييرها كل ثلاثة أيام. ثم يظل الحال هكذا حتى يبرأ الجرح، والحق يقال أننا في هذه الفترة كنا نعنى بعناية خاصة من قبل الحبوبات والأمهات من اكل خاص دون باقى الاخوة الذين تم ختانهم قبلك، فكان يضرب بنا المثل فى رغد العيش والتدلل الذى كنا نحظى به فتسمعهم يقولون "والله الليلة شفت فلان دا او فلانة دى ماشاء الله زى ود الطهور"
كنا نتباهى مع أقراننا الذين تم ختانهم بالطرق الحديثة ونقول "آجنى انا طهرنى اب قرش وانت طهرك الحكيم" وهذا يعنى انو انا اضكر منك ..
أب قرش ذلك الصمد الذي حنكته التجارب وعجم الزمان عيدانه عودا عودا... نعود لقصته والحديث ذو شجون فقد كان له في صيد التماسيح أسلوب بديع ومهارة ما أظن أنني سأراها يوما، فقد كنا نأتي بعد أن ننتهي من أعمال الزراعة لاخذ قسط من الراحة بعد عناء يوم طويل تحت ظلال أشجار السنط الوارفة التي تمتد على طول ضفتي النيل وكنا نسميها "ساعة المقيل" فنرى هذا الرجل حاملا بندقيته العتيقة من طراز "أبو خمسة" على كتفه ويضرع ضفة النيل جيئة وذهابا ثم فجأة يختفي وكأن النيل قد ابتلعه..
ساواصل قصة هذا الرجل المبدع
|
|
 
|
|
|
|
على احمد النعيم
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست