اهداء. الي جيل السبعينيات، والثمانينيات،والاجيال اللاحقة... لاحظت من متابعتي لكثير مما تكتبونه ان مقاربتكم للأنقاذ مع الفترة التي سبقت استيلائها علي السلطة، اي مقارنة مابين الفترتين من 1978 و1989 الي الأن، ومن وجهة نظر شخصية، ليست ملزمة لأي طرف، رأيت ان انقل لكم صورة تقريبية للسودان في الفترة من 1965، وحتي 1978 ، اي بداية معرفتي الاولية بفك الخط واللفظ،..والصورة تشمل الوضع الاجتماعي والاقتصادي ، وجزء غير يسير من المشهد السياسي، ارجو ان اوفق في النقل بكل حيادية..
تمهيد:
سقط راسي اول مرة في قاع قرية صليحة من نواحي الكاب، من ديار ود قمر (منطقة المناصير) في اواخر شهر نوفمبر 1958 ، لأب (امد الله في عمره، ومتعه بالصحة والعافية) عمل موظفا بسيطا في بداية حياته بسكك حديد السودان، وام (رحمها الله رحمة واسعة) لم تنل من التعليم الا محاولات محو الامية، ومنتهي علمها تهجي الحروف ذات الطابع الذي يشبه جدول قياس النظر التي في اخر الجدول، انتقلت مباشرة بعدها (حسب رواية الاسرة) مع والدتي واخي الاكبر الي مدينة ود مدني، من ارض الجزيرة الخضراء، ولا اتذكر من مدينة ود مدني الا قليل من الذكريات تتعلق بالجيران واسمائهم، ولا يمكنني ان انقل اي انطباع عن الوضع العام (سياسي، اجتماعي، اقتصادي) لذا ساكتفي بسرد تجؤبتي في ثلاثة اماكن من الامكنة السودانية العريضة، هي منطقة المناصير (64- 67) مدينة كوستي ونواحيها (67-69) ثم مدينة النار والنور (عطبرة) منذ العام 69 وحتي تاريخه...
منطقة المناصير: قبل دخولي المدرسة الابتدائية في العام 1965 قضيت مدة عام في رعي الغنم، في وادي جبال الكاب، وغابة ام جرمة، وشجيرات السلم (البرم) المتناثرة بكثافة حول قريتنا، حينها كان في السودان 3 فصول في السنة 4 خريف، 4 شتاء، و4 صيف، لم تكن تلك الفصول تعرف الحلول الوسط، فالخريف، رعد وامطار وسيول، ووديان مخضرة، واعشاب علي مد البصر، اما الشتاء فكان يفوق ما تعنيه كلمة زمهرير، بوديان واحقاب ، دونها عزيمة الرجال، فبرد الصحراء لا يجاري ولا يباري لا يلسع انما يقطع، فقد كانت هذه الكلمة تنسب من ينطق بها الي ما يعرف الان (بالحناكيش) لأول مرة اعرف ان لله عقابا يفوق النار قوة، فكنا نستجير بالنار التي كانت تطالبنا بكثير من الغذاء، ادي في اخريات الامر الي ابادة الغابات في المنطقة حتي تتدفأ هي في المقام الاول ثم تدفي سنتيمترات قليلة حول الكانون، وان كان كانون الصفيح هو الوحيد المستفيد من تلك النيران الهزيلة، حتي انني اذكر ان من ضمن الادعية الماثورة (ان يجنب الله الناس العزاب في وادي زمهرير) كنا نسمع ممن يكبوننا سنا بأن هناك وادي في جهنم يسمي زمهريا، اشد قسوة واضر عذابا... وكان اخف المواسم ليدنا واكثرها دفءا هو الصيف، ففي الصحراء يتواءم بدنك مع الحر، ويحتسية ككوب بارد من الشاي ان لم يكن فقيلولة في النهر كافية بابعاده مسافة ليست بالقريبة، ومن كثرة ورودنا للنهر بات يعرفنا اكثر من افراس النهر والتماسيح، في تلك البقعة من الارض عاصرت افول نجم الساقية، والابقار في منطقة المناصير ليحل وابور الدوديس مكانها، كما رأيت وحدات الدونكي التي ترفع مياه النهر حتي صهريج السكة حديد بمعونة من الفحم الحجري، التي كانت تجر علي عربات تشبه حاويات النفايات في منطقة الخليج، وقد افسحت مجالا واسعا رحبا للدودس هي الاخري، هنا يا سادتي تعرفت علي طيب الذكر (المليم الاحمر) اي والله المليم الاحمر، كانت له لمعة نحاسية وبالكاد تفرقه عن الجنيه الدهب، الذي كان يشف شفا علي جياد النساء في ذلك الزمن (جميلهن وقبيحهن)ويسمي بالشف، الذي كان من ضمن اكسسواراته ما نسميه في بلدنا بالعكش، ويسمي في المدن بالفداية، ومن شدة لمعان ذلك المليم، حتي لقب بالمجمر، ومنه استلهمت بعض العائلات الشهيرة اسمها، هذا الزاهي الساحر كان يجلب لك الكثير من الاشياء من الكنتين او ما يعرف اليوم بالبقالة.. علي سبيل المثال لا الحصر، بسكويت الميزان، حلاوة جكسا، حلاوة حربة او ما يعرف الان باللولي بوب، وبالاشتارك مع بعض اصحابة من ذوي اللمعة، قيد يبلغ عددهم الاربعة يجلب لك زجاجة كيروسين امبريالية ، لأنو في الزمن داك كان كل شيء امبريالي، ولم نتعرف الي البروليتاري بعد، وقد يتحد في مستعمرة من عشرة اخريات، وعندها لا تستطيع ان تتصرف به ا لا بأذن، في ذلك الوقت كان للريال سطوة، وقوة كانت تخضع رقاب اعتي الراسماليين مكانا وتجبره لتقديم الاحترام وتأخير اللقب الرسمي المضاف الي اسمه السرمي، والمسمي (ريال قدر الطشت)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة