|
الأستاذ الطيب صالح .. تواضع الكبار
|
نصاب في هذه الحياة بالآلام والأسقام، وتحل بنا النوازل والمصائب، وتتخطفنا يد المنون في كل لحظة وحين. بالأمس القريب، نعى الناعي ونقلت إلينا الأخبار رحيل الأستاذ القامة الطيب صالح، ذلكم الأديب الأريب، الطيب الإنسان.فشق الخبر على النفوس،صمت الآذان،وابيضّت العيون، ونزفت القلوب، كيف لا؟ فالفقد جلل، والمصاب عظيم. وما أوجعه فقد الرموز الخالدين، الذين يجملون حياة الناس برائع الأعمال الخالدة، ويرفعون بلدانهم بعظيم صنيعهم هام السحاب.
ولمّا حط طائر الشؤم يحمل رفاتك الميمون، ألفيت الناس محشودين، ينشجون،يبكون ويصرخون. وفي ذروة الزحام والتسابق على حمل نعش الفقيد، أبصرت "الحنين" يقرأ سورة يسن بخشوع ويدور في حزن عميق حول الجثمان، وبجواره، وقف "الطاهر ود الرواسي" "متحزما" بعمامته ويديه على رأسه يبكي وينوح، وقد عزّ عليه الصبر. لفت نظر الجميع وجود امرأة وسط هذا الجمع الغفير، " تردح ، تبكي، وتوصف، وتثكل " حي ووب .. ووب حي .. "، فلم تكن تلك المفجوعة سوى "بت مجدوب".
في مقابر البكري بأم درمان، أصر" الزين المبروك" على حفر القبر لوحده، وحلف ألا يشاركه في حفره أحد، وعندما أبصر جموع المشيعيين يقتربون من المقابر، انطلق كالسهم يصيح ويبكي ويترمد ويصرخ" يا ناس .. يا ناس .. الطيب ود صالح مات، ملك الرواية مات ".
لم يكن الأستاذ الطيب رحمه الله قمة في الإبداع الأدبي فحسب، بل كان مثالاً للتواضع الجم الذي أكسبه حب الملايين وأسكنه في قلوبهم، وقدوة ومثالا للأخلاق الفاضلة، والطباع النبيلة، فلم تغيره الشهرة، ولم تبدله المكانة المرموقة التي تسنمها، إذ يعد واحداً من أهم الأدباء في القرن العشرين.
كان الراحل " ود بلد" بمعنى الكلمة، أصيل أصالة أهل الريف الذين يفخر بالإنتماء إليهم . تلاقيه فتبادره بالتحية، فيرد عليك بأحسن منها، تجالسه فيؤانسك وتستمتع بطيب أنسه، تدعوه فيلبي دعوتك مرحبا. كلما أوردته عن الفقيد، وجدته في شخصه اللطيف المحبب يوم أن دعاه الأخ بركات بله لتناول "فنجال شاي" بمنزله بمدينة الرياض في أواخر الثمانينات، عندما جاءها الأستاذ الطيب صالح كعادته، للمشاركة في مهرجان الجنادرية الذي ينظمه الحرس الوطني السعودي.
لم يرفض الأستاذ الطيب طيب الله ثراه، دعوة الأخ بركات، بل رحّب بها وسرته منتهى السرور، لأنها دعوة عفوية دون سابق معرفة شخصية من مواطن سوداني عادي، يرى فيه الأستاذ الطيب مثالاً للإنسان السوداني البسيط المتشبع بالقيم النبيلة.
كانت تلك الأمسية من ليالي مدينة الرياض المشهودة، التي حضرها لفيف من الأدباء والشعراء والمثقفين، وكان من بين الحضور، الشاعر الكبير محمد الفيتوري، والإعلامي الفذ الأستاذ إبراهيم الشوش، وكانا أيضا من المشاركين في مهرجان الجنادرية، ويا له من حضور مشرق ومشرف لسوداننا الحبيب في مثل هذه المنتديات المشهورة.
كنت أرقب وأطالع الأستاذ الطيب في تلك الليلة البهية عن كثب، فشدّ انتباهي هدوؤه وصمته وإصغاؤه ، وحديثه المشوق وابتسامه اللطيف، فزاد إعجابي به كإنسان بسيط متواضع(هرما من التواضع) ملك القلوب، رغم شهرته التي طبقت الآفاق، و"كزول ود بلد" أصيل شرّف بلاده السودان، التي تفخر وتفاخر بأنه أحد رموزها الخالدين
اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إنا لله وإنا إليه راجعون
إسحاق بله الأمين الرياض 15/3/2009
|
|
|
|
|
|
|
|
|