رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 00:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-04-2003, 01:18 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات


    في الفترات التي تسبق موسم الجفاف تتراكم الأحزان والمخاوف. وعندما يحل، تتغير الحياة والأشياء، حتى البشر يتغيرون وطباعهم تتغير. حين يحل القحط لا يترك بيتاً إلا دخله ولا يترك إنساناً إلا وخلف في جسده أو قلبه أثراً. تظهر علي الأجساد آثار الكي (لليرقان)، وتتولد في القلوب الأحزان للفقد، في جانب الإنسان أو الحيوان. أنه الجفاف الذي يسوق معه أشياء لا حصر لها. المزارعون الذين كانوا يحفرون (المطامير) ويبنون (كرابيب) البطيخ، والرعاة الذين كانوا يسرحون ببهائمهم لا تهدأ أهازيجهم ومزاميرهم، يسوقون الأغنام ويحملون حملانها الصغيرة علي صدورهم، والباعة الذين كانوا يحملون اللحم والخضروات والفواكه ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة والتي اعتادوا على استعمالها أوزاناً... كل هؤلاء إن جاءوا في مواسم القحط، جاءوا بهيئات مختلفة. تراهم في السوق مصلوبين في الحر، ثيابهم ممزقة وأجسادهم هزيلة وعيونهم جاحظة يعرضون أشيائهم الحقيرة وفيهم كبرياء الأسود ويشترون بقدر ما تسمح به نقودهم القليلة، أو يقايضون بأمتعتهم أو حليهم دقيقاً وسكراً. الرعاة الذين كانوا يبالغون في ثمن خرافهم، بل ويفضلون أحياناً العودة بها دون بيعها مرات ومرات غير آسفين، أصبحوا الآن يتوسلون يريدون التخلص منها بأي شكل. حتى التجار الذين كانوا يُسلّفون الجميع علي أمل استرداد حقهم مضاعفاً، بدوا الآن شديدي التعنت، ثم لا يلبثون أن يمتنعوا تماماً. الكبار يهرمون بسرعة وتصيبهم الأمراض فيموتون، الصغار تنتفخ بطونهم ويتساقطون. حالة الانتظار اليائس تبدو مسيطرة علي الجميع، حتى الدواب المربوطة إلي ركائزها. الطباع تتغير، فالذين يتعاملون بالكثير من السماحة ويبدون المرح ويظهرون التفاؤل يتحولون فجأة إلي رجال قساة كثيري الضجر ويثورون لأتفه الأسباب.
    قرية الحيمورة تعتمد كلياً علي المطر في الزراعة أو الرعي. عندما تهطل الأمطار تخضر الأرض فتسرح البهائم وينبت الزرع ويفرح الناس فيتزاورون ويستأنسون ويضحكون ويقيمون المناسبات السعيدة، ولكن في الزمن الأخير وفي أخريات فصل الصيف خصوصاً أصبحت القرية تحس الخوف من أن تأتي سنوات المحل والجفاف. فعلي الرغم من امتلاكهم للمساحات الواسعة وتربيتهم للبهائم بأعداد كبيرة يتعذر عليهم أن يطعموا أنفسهم. تبدأ الأشجار بالذبول وتصبح الطبيعة كالحة وقبيحة، تبدأ عواصف الرمال تهب لتغطي كل شئ وتتكاثر أفواج الذباب والغربان لتأكل من بهائمهم التي تنفق. في هذه السنوات لابد أن يموت أناس كثيرون ولابد أن تحدث أشياء كثيرة لم يقدرها الآخرون. الحيوانات التي كانت تملأ المنطقة وتسرح بلا مبالاة يصيبها الهزال والمرض، وإذا نظرت لوجوه الرجال - خاصة الكبار منهم - تقرأ فيها مصاعب الأيام القادمة وآلامها التي لا يمكن أن تنسي.

    في يوم من أيام الرشاش الذي يسبق الخريف بقليل، كان الوقت عصراً متهالكاً، الشمس مائلة للمغيب ترسل أشعتها الواهنة علي صفحات الرمال الذهبية المتموجة، حيث ترقد قرية حلة مرجي. النسيم يهب عليلاً هادئاً من الجهة الجنوبية حاملاً رائحة (الدعاش) المنعشة من مكان ما بعيد هطلت فيه الأمطار. مجموعة من السحب بدأت تتجمع في سماء حلة مرجي لأول مرة منذ أن اختفت آخر سحابة أخريات الخريف الفائت، القرية ساكنة وادعة إلا من حفيف أغصان شجر السيال تداعبه نسائم العصر، وخوار ثور عنيد يأتي من مكان بعيد يشق الصمت بصوت كالرعد. مجموعات الماعز بدأت تتجمع بجوار البيوت وحول زرائبها استعدادا للمبيت. في ذلك الوقت كانت مجموعة نساء حلة مرجي قد تجمعن في منزل حسن ود سارى الليل الكائن وسط (القطاطى) التي تتكون منها القرية، كانت أصواتهن مرتفعة يقاطع بعضها بعضاً، تكاد تسمع اكثر من صوت مرتفع وفي وقت واحد بحيث لا يستطيع السامع أن يميز موضوع الحديث إلا بصعوبة بالغة.
    كان الحديث يدور حول موسم الخريف الذي حان وقته، وعن الاستعدادات التي تمت لاستقباله من تنظيف للمزارع وتجهيز للأرض وتحضير (للتيراب). كانت أم مونة زوجة حسن ود سارى الليل تئن وهي معلقة بحبل متين إلي عمود (الراكوبة) العتيد وكأنها سعن لبن مجهز للخض، بينما اتخذت أصيلة ( الولاّدة ) حجراً أملس تسن عليه مجموعة من السكاكين الصدئة التي اتخذت منها أمواساً لتوليد حوامل القرية. وبعد لحظة انتظار وترقب اختفت فيها أصوات النساء تماماً أرتفع صراخ الطفل وعمَ (الروراى) أرجاء القرية الصغيرة. لقد أنجبت أم مونة مولوداً ذكراً أسماه والده ( أم حُمَّد ) تيمناً بالرسول الكريم محمد. مجموعة من رجال القرية توافدوا علي حسن ود سارى الليل يسابقون قطرات المطر التي بدأت تتساقط في فرح ونشوة مهنئين ومباركين قدوم الفارس الجديد :
    - إن شاء الله الفارس مبروك آزول.
    أخذ حسن ود سارى الليل مولوده الجديد إلي الفكي حمدان ليكتب له (الحرّاسات والبخرات) وعلق جزء منها علي رقبته، ثم قرأ عليه بعض التعاويذ وقال مهنئاً مباركاً :
    - إن شاء الله ح يكون لولدك شأن عظيم وح تسعد به اكثر من باقي عيالك.
    أم مونه بت طير الرب كانت متفائلة هي الأخرى بقدوم ابنها الميمون والذي تزامن مع نزول أول (مطرة) في خريف ذلك العام، بدا ذلك في حرصها الشديد علي أن تبقي جسده الغض محاطاً بمجموعة من الحجب والتعاويذ وحرصها علي أن لا تمتد إليه يد إلا بعد أن تسمي الله، وبقيت إلي جواره يُقرع علي رأسيهما بالحديد منذ غروب الشمس حتى تتخذ النجوم موقعها بوضوح علي قبة السماء، ولا تحادث أمه أحدا في تلك الفترة ولا يدخل عليها أحد اعتقادا بأن تلك الفترة هي التي تكثر فيها الشياطين، فكان القرع علي الحديد حماية له من أن تقربه الشياطين أو العوارض.
    في تلك القرية نشأ وتربي محمد حسن ود سارى الليل، ذاك النمط الحياتي الذي نشأ عليه والده. حياة جادة، كلها كدح وعمل منذ بدايتها في سن الطفولة وحتى نهايتها، لا فراغ فيها ولا طراوة، حتى طفولته كانت طفولة جادة، فهو بمجرد أن يخرج من حضن أمه - بعد مرحلة الفطامة مباشرة - يستلمه والده واخوته ليربونه علي حياة الشدة والخشونة وليصنعوا منه رجلاً كاملاً في فترة قصيرة، وتكون مرحلة ما بعد الفطامة مباشرة هي مرحلة تكوين الشخصية السوية الجادة والترويض علي خشونة الحياة وقسوتها التي يعيشها أهل تلك المناطق.
    تبدأ هذه المرحلة بأن يحظر عليه الجلوس في قعر البيت-وهو الجزء المخصص للنساء-، ويحظر عليه اللعب مع أخواته اللاتي يصغرنه، ويعامل معاملة الرجل السوي الذي يسعى لخدمة نفسه بنفسه.
    لقد كانت طفولة جادة قضاها محمد - كما هي طبيعة أي طفولة هناك - عمل جاد مستمر طوال النهار وقد يمتد إلي جزء من الليل أحيانا. بدأ محمد برحلته مع والده لرعاية الغنم، فكنت تراه طفلاً وقد اخشوشنت يداه من العمل، وأخشوشن جسمه اللين الذي قل أن يجد الماء موفوراً لينعم عليه بالنظافة لتعود إليه نضارته ولونه الطبيعي. كان محمد يخرج في (السرحة) والتي قد تطول لأسبوع كامل مع والده في الخلاء ولا يعود للبيت إلا في نهايتها ليغسل جسده وما عليه من ثياب ثقلت وتغير لونها جراء الاتساخ.
    كان هذا هو شكل الطفولة الجادة التي قضاها محمد قبل أن تقطعها علية حياته المدرسية، فقد استطاع عمه الذي نال قسطاً من التعليم إقناع والده بأن يدخله إلى المدرسة، وأفهمه بأن (محمد ولد كويس وفاهم وله مستقبل كبير في التعليم)، وبين له بأن المدرسة لن تنقص من رجولة ابنه شيئاً، هذا بالإضافة إلي أن للتعليم مزايا أخرى كثيرة. كان حسن ود سارى الليل يتذرع بحاجته لخدمات محمد، فهو يسرج له الحمار عندما ينوى الذهاب إلي مكان ما، ويساعده في الفلاة مع الغنم، ويملأ له إبريق الماء ويحضر له المصلاة...إلا أن السبب الحقيقي وراء تمنعه هو المفهوم السائد من أن المدرسة تؤدى إلي تخنث الأولاد وميوعتهم أو أنها تعلمهم الفصاحة وقلة الأدب في أحسن الأحوال.
                  

08-04-2003, 01:20 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)


    الجزء الثاني

    كان مدير مدرسة حلة مرجي الابتدائية جالساً خلف منضدته الخشبية في مكتبه الذي يتوسط فصول المدرسة الستة، ذلك البناء الحجري المتين الذي يعتبره حسن ود سارى الليل أحد معجزات الإنجليز التي خلفوها في هذا البلد. كانت الفصول الستة تصطف في شكل طولي من الغرب إلي الشرق، يتوسطها مكتبان يفتح كل منهما قبالة الآخر. أتخذ المدير أحدهما مكتباً له وصار الآخر مكتباً لبقية المعلمين جميعهم. مساطب طويلة أمام الفصول تعلوها فرندات أسندت بأعمدة خشبية طليت بالبوهية الخضراء، مجموعة من أشجار النيم الكبيرة تملأ فناء المدرسة في شكل شبه مربع. تتناثر عنابر السكن علي مقربة من الفصول بادٍ عليها التصدع وشبابيك بعضها مخلع، ورغم أنه يبدو أنها لم تحظى بالصيانة منذ زمن ليس بالقريب، إلا أنها ظلت صامدة تقاوم عاديات الزمان. يحيط بالمدرسة سور عظيم من السلك الشائك خلفه زرب من شوك السيال.
    كان الوقت صباحاً وقد أنحشر جميع الطلاب داخل فصولهم، ترتفع أصوات بعضهم أحياناً مرددة لألفاظ غريبة وغير مفهومة في نغمة موسيقية جميلة. كان المدير جالساً خلف منضدته منكباً علي بعض الأوراق عندما سمع (كركشةً) وصوت نقر منتظم علي البلاط. رفع المدير رأسه، وأطل بعينيه من اعلي نظارته العتيدة التي استرخت علي أرنبة أنفه خلف خط النظر ليتبين حسن ود سارى الليل ينتعل حذاءه ( المركوب ) المصنوع من جلد البقر غير المدبوغ ويتوكأ بحذر شديد علي عصاه التي أرتفع صوت نقرها علي البلاط. تقدم حسن ود سارى الليل في هيبة وتردد، فهو لم يعتاد ارتياد هذه المباني الحكومية التي بنيت من الأسمنت والزنك والأحجار، فقد أنعم الله عليه بالصحة وكفاه شر دخول شفخانة القرية الوحيدة ورائحتها التي تذكر بالمرض. لقد كان حسن ود سارى الليل يكره تلك المباني التي تردد مع المتحدث صوته، كما أنه كان يهاب كل شئ له صلة بالحكومة وخصوصاً البوليس الذي يرتبط دائماً بالشرور.
    رحب ناظر المدرسة بحسن ودعاه للدخول. ركز حسن عكاز ته علي باب المكتب وتقدم بهدوء يعكره صوت حذاءه، تقدم نحو كرسي وُضع علي الجانب الأيمن لتربيزة المدير عندما هوت العكازه علي البلاط الأملس وانزلقت متدحرجة ومهرولة علي البلاط يساعدها شكلها الدائري مصدرةً لإزعاج وجلبة شديدين، الأمر الذي زاد من خوف حسن ود سارى الليل وحرجه. تبين المدير من علي نظارته ذلك الطفل الصغير الذي ما برح متشبثاً بمؤخرة جلباب والده تملأه الرهبة والانبهار، مبقياً إصبعه السبابة معلقاً علي أسنان فكه الأسفل ومداعباً له بلسانه برفق وبراءة وانبهار.
    لقد بدا وجه محمد اكثر إشراقاً عندما أعملت أم مونه يدها في صحن الزيت أدارتها علي وجهه وجزء من صدره، ويستطيع الناظر إلي شعره للوهلة الأولي أن يتبين أنه قد استحم في وقت غير بعيد. لم تنسي والدته أن تجهزه للذهاب إلي المدرسة، فألبسته جلبابه الذي كان يحتفظ به للعيد ووضعت له ملفحته الصغيرة علي كتفيه وحول عنقه يتدلى أسفلها (حجابه) الصغير يحرسه من العين والشيطان.
    انزوى محمد خلف والده خائفاً من ذاك الشخص الذي طفق ينظر إليه من عيون أربع. لقد كان من السهل علي المدير أن يعرف سبب مجيء حسن ود سارى الليل إلي مكتبه، إذ أن تسجيل التلاميذ الجدد للمدرسة قد قطع شوطاً بعيداً، إلا انه أبي إلا أن يقوم ببعض الأسئلة الروتينية.
    تناول المدير القلم وأخذ يكتب بعد واجب الترحيب والسؤال عن الغرض :
    - قلت لي ما هو أسم الولد ؟
    - أسمه أم حٌمد.
    - محمد منو ؟
    - أم حمٌد ولدى أني.
    - انت أسمك منو؟
    - أسمي حسن.
    - حسن ود منو ؟
    قالها المدير في عصبية ظاهرة.
    - حسن ود سارى الليل.
    - يا حسن ود سارى الليل. ولدك عمره كم سنه ؟.
    - أم حمٌد ولدوه سنة الجراد.
    - يعني قبل كم سنة ؟
    - بجي زي سته سنوات.
    حرر المدير إيصالاً مالياً قام حسن ود سارى الليل علي أثره بانتزاع جذلانه الجلدي الثقيل من جيبه وأخذ يعد نقوده الحديدية حتى وصل إلي العشرة ودفعها للمدير عبارة عن رسوم التسجيل بالمدرسة.
    بعد مرور أسبوع علي هذا اليوم، وفي منتصف السوق المحلي الأسبوعي الذي أعتاد أن يجتمع فيه أهالي القرية والقرى المجاورة لعرض سلعهم وشراء حاجياتهم، شاهد الناس سبورة كبيرة احتلت موقعاً هاماً وسط السوق وعليها اثر كتابة واضحة بالطباشير الأبيض.تجمع أمامها بعض الذين نالوا قسطاً من التعليم- وقليل من هم- يقرأ بعضهم بصوت عال، ويتهجى بعضهم حرفاً حرفاً محاولاً تجميعها في ذهنه لفك هذه الطلاسم. لقد كانت السبورة تحمل الآتي:

    إعلان هام

    تعلن مدرسة حلة مرجي الابتدائية جميع الذين تقدموا بتسجيل أبنائهم للعام الجاري لحضور اجتماع لجنة القبول يوم غد الخميس وبصحبة أبنائهم.

    وشكراً
    علي سالم
    مدير مدرسة حلة مرجي الابتدائية

    في يوم الخميس كانت حلة مرجي تعج بنشاط غير مألوف، سور المدرسة الخارجي امتلأ بالحمير وعليها السروج، الجمال بعضها معقول إلي الأرض وبعضها مربوط إلي أفرع الشجر، وعمائم كثيرة تلج إلي داخل المدرسة وتتخذ لها موقعاً وسط الجمع المحتشد تحت ظل شجرة النيم الكبيرة داخل سور المدرسة. في هذا اليوم اعتمدت لجنة القبول التلميذ محمد حسن ساري الليل بالصف الأول بمدرسة حلة مرجي الابتدائية.
    اشرف حسن علي ابنه حتى وضع عنقريبه الصغير في عنبر عثمان دقنة، وفرش عليه البرش ووضع شنطته الحديدية التي أحضرها من مدينة بارا خصيصاً لهذا اليوم الموعود، وضعها تحت (العنقريب) وهي تحتوى علي مستلزماته الضرورية: غيار المدرسة، آنية صغيرة مصنوعة من الألمونيوم لشرب الشاي والماء، قلم رصاص، وصرة صغيرة من القماش بها قليل من )الآبرى( والسكر.
    لقد بُنيت الداخلية في شكل عنابر كبيرة من الحجارة والأسمنت في شكل طولي من الشرق إلي الغرب. كان عنبر عثمان دقنة العتيق يجثم في الجانب الغربي منها، نوافذه الخشبية بعضها مشرع للريح، وبعضها مخلع تكسوه بقايا (نملية) ممزقة. كان عنبر عثمان دقنة يمتد طويلاً من الغرب إلي الشرق بنوافذه الكثيرة وكأنه قطار، أُتخذ سقفه من الزنك اللامع، يرتفع من الوسط وينحدر نحو الطرفين وكأنه ظهر ثور. أجتاز محمد عتبة العنبر المخلعة في حذر وحب استطلاع معتمداً علي إصبع والده الذي ظل قابضاً عليه يحسه غليظاً داخل قبضة يده الصغيرة يستوحي منه الأمان والثقة. مجموعة من التلاميذ يقبعون داخل العنبر متقابلين في شكل حلقات صغيرة يستأنسون ويضحكون، بعضهم نائم علي (عنقريبه) وبعضهم يطالع في (نوت) صغيرة بين أيديهم، وبعضهم يتطاردون ويتصايحون دخولاً وخروجاً.
    كانت العناقريب الصغيرة قد رصت في شكل صف طولي في محاذاة حائط العنبر من الجانبين، بينما تُرك وسط العنبر كممر عام. بعض هذه العناقريب صغير وبعضها كبير وبعضها متوسط الحجم دونما انسجام، ويحوى أي منها مفرشاً يختلف عن الآخر في غير ما نظام، بينما بقيت بعضها عاريةً إلا من حبالها المصنوعة من السعف. بعضها تبدو عليه آثار النعمة، وبعضها بائس حقير، تتدلى حباله المتقطعة إلي أسفل وكأنها تريد أن تغوص داخل البلاط الأملس المتين.
    بعضها يقوم علي أربع أرجل وبعضها يقوم علي ثلاثة وبعضها أُسند إلي حجارة كبيرة تقوم مقام الأرجل المفقودة. اسفل العناقريب تقبع شنط مختلفة الأحجام والأشكال، أغلبها من الحديد، كما تناثرت أحذية صغيرة وثياب وسراويل وأشياء أخرى كثيرة.
    جلس حسن ساري الليل علي مؤخرة عنقريب ابنه الذي حشره وسط الزحام، يوصيه ويعلمه كيف يحافظ علي أشيائه، ومد إليه بقطع نقدية ظل محمد يغمض عليها يده الصغيرة حتى بعد مغادرة والده للمدرسة.
    لم ينس حسن بأن يوصي حامد - زميل محمد في الحلة - علي ابنه كثيراً قبل أن يغادر، وما أن هبط حسن ود ساري الليل عن عتبات العنبر مغادراً حتى قفز قلب محمد وشعر بالوحدة والخوف. مجموعة من قدامي التلاميذ يتحدثون ويقهقهون يردد صوتهم سقف العنبر وحيطانه، فتبدو لمحمد غريبة تزيد من خوفه ووحشته. مكث محمد بقية يومه جالساً علي عنقريبه الصغير يتأمل الحجارة والنوافذ ووجوه زملاءه الذين كانوا ينظرون إليه في استغراب وشفقة وترحيب. بقي محمد هكذا حتى مغيب الشمس عندما سمع صوت الجرس عاليا يرن، ولاحظ أن التلاميذ قد بدءوا يهرعون نحو الفناء الواسع أمام الفصول ويتراصون في شكل صفوف طويلة ومنتظمة بينما قام بعض الكبار منهم بالمرور عليهم وعدهم واحداً واحداً، وكانوا يكتبون شيئاً علي كراسات كانت بحوزتهم. بعد زمن وجيز تفرق التلاميذ يجرون في اتجاهات مختلفة صوب عنابرهم يصدرون ضوضاءً وجلبه عظيمتين، وبعد لحظات كانوا يلجون العنابر في تسابق محموم ويقبض أىمنهم علي مقدمة عنقريبه ويسحبه بسرعة على البلاط تجاه الخارج ويسقط به من أعلي العتبة متخذاً منه عربة يقودها ويحجز به موقعاً في الفناء الخارجي. كان التلاميذ يقضون لحظات المساء الأولي خارج العنابر يستمتعون بالهواء الطلق ويتسامرون تحت القمر المنير..
    بقي محمد قابعاً علي سريره داخل العنبر في ذاك المساء الصيفي الحار يراقب كل ذلك حتى حضر حامد واصطحبه إلي ساحة العشاء، حيث شاهد مجموعة من الصحون الكبيرة البيضاء وقد اتخذت لها مواقع مختلفة في الساحة، بينما تجمع حول كل واحد منها عدد من التلاميذ يناهز السبعة. كانت هذه الصحون تحتوى علي كومة من (العصيدة) المصنوعة من دقيق الفيتريت المتسخ، ما كاد محمد يلتقط منها لقمة واحدة ويسرى طعمها الباهت إلي كل أجزاء فمه حتى تذكر أمه واخوته هناك وحن إليهم حنيناً جارفاً.
    عند الصباح الباكر لبس الجميع ملابس بيضاء نظيفة، وخلعوا عنهم الأسمال المتسخة، غسلوا أيديهم وأرجلهم ووجوههم وحملوا حقائبهم الصغيرة واصطفوا في شكل مربع في فناء المدرسة كل حسب فصله، بينما وقف بعض الأساتذة علي المسطبة المرتفعة أمام مكاتبهم، وكان أحدهم يحمل سوطاً ويلوح به في لا مبالاة. بعد أن اصطف الجميع سكوتاً، أفردوا أيديهم أمامهم مقلوبة علي ظهورها. دار عليهم الأستاذ الذي في يده السوط متمعناً في ملابسهم وأجسادهم، توقف لفترة طويلة أمام محمد حسن ساري الليل، تفحصه من أعلي رأسه حتى أخمص قدميه في قرف وإزدراء ظاهر وفجأة جذبه من جلبابه وقال:
    - لماذا لم تغسل جلبابك؟
    صمت محمد وعيناه تدوران في محجريهما، باهت اللون شاحبه.
    قال الأستاذ بلهجة آمرة:
    - لا تأتينا غداً بهذا الشكل.
    وأومأ محمد تلقائياً بالموافقة.
    واصل الأستاذ سيره، وكان كثيراً ما يتوقف عند بعضهم ويقول كلاماً. وقد رآه محمد حسن يضرب أحدهم بالسوط علي يديه الممدودتين أمامه لأنه لم يقلم أظافره، وحمد محمد الله أن صورة جلبابه الشاذة قد غطت علي بقية بلاويه، فأخذ العبرة في الحال.
    في اليوم التالي غسل محمد جلبابه وقلم أظافره وغسل وجهه ويديه ورجليه كما يفعل زملاءه. وفي الطابور، وقف عنده الأستاذ أيضاً. دعك إصبعه علي صدره فخرجت منه خيوط سوداء طويلة، ثم رفع جلبابه الطويل ونظر أسفله.. جذبه إلي الأمام وطلب منه الوقوف مع المنتظرين أعلي المسطبة العالية. وكان الأستاذ في مروره غالباً ما يُخرج خمسة إلي عشرة تلاميذ مخالفين لقواعد النظافة في المدرسة ويطلب إليهم الانتظار علي المسطبة العالية حتى ينصرف الجميع، ثم يتولاهم بالضرب والتوبيخ. وكان محمد يومها رابعهم، فوقف يرتعد وكأن رجلاه لا تقويان علي حمله، ينظر أمامه في ذهول.. وكأنه قد انقضي شهر حتى اكمل الأستاذ طوافه بعد أن انتدب آخرين إلي المسطبة رفقاء لمحمد.
    بعد توبيخ وإرشادات كثيرة لم يفهم محمد أغلبها لأن عينيه وقلبه كانا معلقين بالسوط، تلقي عقوبته: خمس جلدات، وانصرف إلي فصله مغرورق العينين، وعندما تجمع حوله زملاؤه يسألونه، أجهش بالبكاء.
    قضي محمد أيامه الأولي في وحشة وهم شديدين علي الرغم من محاولات حامد تذليل كل الصعاب التي تواجهه وتبصيره بشكل الحياة في المدرسة وتعريفه بأجزائها والأماكن التي يحصل فيها علي ضروراته مثل البئر والمطبخ والحمامات و السوق وغيرها. كان محمد صغيراً نسبياً إذا ما قورن ببقية زملائه في المدرسة، يشكو قلة المصاريف والمناصرين من التلاميذ القدامى إلا من حامد.. لهذا كان كثيراً ما يتعرض للظلم والإساءة من تلاميذ المدرسة إذا غاب عنه حامد، أو فارقه لأمر ما، وقل أن ينام الليل كله بغطائه في ليالي الشتاء داخل عنبر دقنة ذي الشبابيك المخلعة، فقد كان قدامي التلاميذ يعرفون موقعه فيتسللون إليه في جنح الليل ويسرقون ثوبه إما بدافع الحاجة أو لشهوة الظلم والتسلط، ولا يجد محمد ثوبه إلا عند الصباح مرمياً عند ممر العنبر. وكان يعاني كثيراً من قلة المصروف الأسبوعي، إذ انه كان يقابل والده مرة واحدة كل أسبوع هو يوم السوق الأسبوعي للقرية، حيث كان والده يحضر ليشترى بعض مستلزمات البيت من دقيق وسكر وشاي أو لبيع شيء ما، كان محمد يأخذ منه مصروفاً أسبوعيا يستعين به علي رداءه الأكل في الداخلية، إلا أن المصروف لم يكن في الغالب يكفيه حتى نهاية الأسبوع، وكان كثيراً ما يلجأ للاستدانة من بعض الموسرين من زملائه مقابل أن يرد لهم ذلك مضاعفاً يوم السوق، وكان في بعض الأحيان يعجز عن السداد مما يعرضه لإهانات الدائنين، فقد يكون عليه أن ينفق نصف مصروفه لاستعادة قلم الرصاص الذي ضاع، أو شراء نوتة إضافية يطلبها الأستاذ في الفصل، أو قطعة صابون، وقد تغريه بعض طيبات السوق. في مثل هذه الحالات لم يكن لينجو من الإهانات في كل الأحوال، فهو إما أن يشترى بمصروفه الشحيح مستلزمات الدراسة، ويتعرض لإهانات الدائنين، أو أن يسدد بها دينه ويتعرض للعقاب والتوبيخ من مُدرسيه.
    لقد كان نظام التسليف الربحي تجارة رابحة لدى الموسرين من التلاميذ، يستثمرون فيه الفائض من أموالهم في اليومين الذين يسبقان يوم السوق الأسبوعي، فقد كان العوز يجبر فقراء التلاميذ للقبول بهذا الرهان، وكان محمد كثيراً ما يقع في الحرج إذا تأخر والده عن الحضور ليوم السوق الأسبوعي، وقد يحضر والده ويعطيه المصروف ولكن عند رجوعه في المساء للمدرسة كان يتعرض لإغراء زملائه الذين يعرضون الحلوى بشعارات مغرية، فقد كان بعضهم (يكشكش) كيس الحلوى ويصيح وسطهم:
    - حلّي ضروسك قبل الفلس ما يدوسك.
    كان محمد يفكر في مغزى العبارة، حقاً سيدوسه الفلس في أخريات الأسبوع لا محالة فيسارع للاستمتاع باللحظة. أوانها كان يقابله أصحاب الدين بتكشيراتهم المعهودة مطالبين بحقهم في غلظة، وعندما يعتذر محمد كانوا لا يصدقون وكانوا يعتبرون أن ذلك مماطلة وعصيان منه، فكانوا ينهالون عليه ضرباً ولكماً ولا ينجو منهم إلا بعد تدخل حامد واشتباكه مع الدائنين أو تسوية الأمر علي أن يدفع لهم بعد عودته من البيت من العطلة الأسبوعية التي تنتهي مساء الجمعة. وكثيراً ما تعرض محمد للضرب والركل وسط تجمهر التلاميذ للضحك والشماتة. لقد استفاد محمد من كل ذلك دروساً قاسية وتعلم كيف يوازن بين الدخل والمنصرف.
    كان محمد يسير وسط زملائه في المدرسة لا يفارقه إحساسه بالجوع والحاجة، ولا تفارق ذهنه ذله الدين ومهانة الدائنين له. كان يسير في المدرسة دون أصدقاء، كثيراً ما كان بعضهم يفاجأ به فيسأله عن أهله وقريته، وينصرف عنه مصدقاً أو غير مصدق. ظل محمد حتى منتصف العام مجهولاً وسط الضوضاء، لم يفارقه شعوره بالضياع وسط مجتمع كبير وغريب عليه. لقد شعر بهذا الإحساس قوياً عندما مرض ولم يجد أحداً إلي جواره يواسيه ويآنسه ويجلب له الضروريات التي يحتاجها، أوانها كان يشتد به الحنين إلي أمه ويزرف الدمع الثخين مع كل نوبة هم تنتابه ويستجيب لها جسده الهزيل فتسرى فيه قشعريرة كسريان الكهرباء. أوانها كان يتذكر أمه التي كثيراً ما تكون إلي جواره أوقات المرض والتي هي جميع مواسم الأمراض، فلا يمر موعد أحد الأمراض كالحمى الخريفية أو الرمد الشتوي إلا وكان محمد أول المصابين، ولكن كانت أمه دائماً إلي جواره لا تملك ما تقدمه له سوى الحنان والعطف الذي كثيراً ما نعم به، فكان يشعر بارتياح عميق اثر مرور راحة يدها برفق وحنان علي جبينه المتعب، أو علي أوصاله المرتعشة. لكنه الآن يئن وحيداً تحت وطأة المرض، يتقلب علي عنقريبه الصغير دون أن يكون له صديق يواسيه، وذكريات أمه لا تفارقه وهي تحثه في وجل وإلحاح علي تناول شيء من الطعام. يتذكرها وهي تتجول حوله نهاراً تسد بقع الشمس التي أبت إلا أن تتسلل من خلال فرجات (الراكوبة) العتيقة. لقد كانت تظلل له بثوبها تارة وتحوله هو تبعاً لمواقع الظل تارة أخرى. يتذكرها وهي تطرد الذباب عن وجهه بطرف ثوبها تارة، أو تنتزعه لتغطيه به تارةً أخرى، ولكن لا يستقر لها حال حتى تكشف عن وجهه تارة أخرى وكأنها لا تريد أن يغيب وجهه عن ناظرها. كانت تنظر إليه بشفقة وعطف فيقرأ في عيونها الحنان والرأفة. وما تبتعد عنه قليلاً لبعض شأنها إلا جاءت إليه مسرعة تتحسس جسده المنهك كلما أزداد أنينه تحت وطأة المرض.
    كان كل ذلك يجول بخاطره وهو وحيداً لا صديق له ولا رفيق في مدرسة حلة مرجي الابتدائية، وفي الركن الغربي لعنبر عثمان دقنة، قابعاً علي عنقريبه الصغير يفكر ويتسلى بفرقة القمل عن ملابسه.
    عاش محمد ساري الليل كل عامه الدراسي غريباً وحيداً في المدرسة، وإن كان يعوض غربته بالتفوق في دروسه، إلا انه كثيراً ما كانت تحدث له المضايقات بسبب هذا التفوق استخفافاً وسخرية، فقد كان سليمان الأكثر ازدراءً به هو الأكثر بلادة في الفصل. فكنت تجد كراسته وقد أغرقها الإهمال، بداخلها الكثير من الدوائر الحمراء التي رسمها المدرس حول بقع سوداء نتجت جراء استخدامه (للاستيكة) لمحو أخطائه الكثيرة. فقد كان سليمان يكثر من استعمال (استيكته) التي هي عبارة عن قفل (لفتيل) البنسلين الصغير لمحو أخطائه الكثيرة، فكانت تترك له آثاراً سوداء بالكراسة قد يتركها سليمان كما هي أو قد يحاول التخلص منها عن طريق بل إصبعه بلسانه ثم دلكها فتخرج في شكل مطويات صغيرة سوداء تترك بالورقة (رهافة) واضحة للعيان حيث يرسم الأستاذ حولها دائرة حمراء عند التصحيح.
    في اليوم الأخير من أيام السنة الأولي التي قضاها محمد بالمدرسة، كان التلاميذ فرحين بقدوم الإجازة وفي انتظار جرس الطابور الصباحي الذي تعلن فيه النتائج للامتحانات. كانت المدرسة مليئة بالضجيج والحركة، فالكل يجهز لمغادرة المدرسة، وعند سماع جرس الطابور هرع الجميع إلي فناء المدرسة، واصطفوا مصنفين أنفسهم حسب الفصول، كلٌ في المكان الذي أعتاد عليه. لقد كانت لحظة رهيبة أزداد فيها معدل نبض القلوب، والجميع يستعجلون إذاعة النتيجة. تقدم علي سالم مدير المدرسة وتكلم كثيراً قبل أن يقدم مشرف الصف الأول ليعلن نتيجة الصف الأول.
    تقدم مشرف الفصل الأول ممسكاً بكشف طويل، وبدأ يقرأ:
    - الأول : محمد حسن ساري الليل.
    وصفق الجميع في الوقت الذي بدأ فيه بعضهم يهمهم ساخراً. لم يصدق محمد نفسه وتقدم وسط الجميع وكأن رجلاه لا تكادان تصلان الأرض، صافحه المدير وقدم له الشهادة ومعها صندوق أبيض صغير ملفوف بعناية عبارة عن الهدية التي اعتادت المدرسة على تقديمها للمتفوقين. وتوالت الأسماء وتوالت الفصول حتى عرف كل طالب نتيجته، ثم أنصرف الجميع في كل الاتجاهات، بعضهم فرحاً يولول وبعضهم يبكي نادباً لحظه. وما هي إلا ساعات حتى خليت المدرسة تماماً من الطلاب. لقد بدأت الإجازة فعلاً.

    (عدل بواسطة Alsawi on 08-04-2003, 01:21 PM)

                  

08-04-2003, 02:55 PM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 752

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    القصة ممتعة للغاية يا الصاوي، مجموعة من الصور الجميلة تتدافع فوق بعضها والانطباع الاول عن الداخلية ذكرنا بأول ايامنا في المدرسة الداخلية ومن الصدف ان داخليتنا حملت نفس الاسم :عثمان دقنة، بس العنوان دة شنو؟
                  

08-04-2003, 04:08 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: ahmad almalik)


    أستاذ أحمد لك التحية. ربما هي إشارة لأحداث ستأتي في سياق الرواية. وهي وصلتني عبر الايميل بالامس من داخل ارياف السودان الصابرة.

    فالي الجزء الثالث:

    ما كان محمد يقضي إجازته يحمل قلماً أو ورقة أو جالساً يتلقى التعليم، بل كان يقضيها راعياً لغنيمات والده، لقد كانت خلفيته عن الخلاء والسروح ثرة، فقد كان من قبل يلبس جلبابه القصير ويحمل (سفروقه) ويخرج للخلاء مع غنمه. كان محمد يقضي كل النهار مع غنمه في الخلاء يتغذى علي ما تجود به السدرة واللالوبة والهشابة ويشرب من اللبن و ( سعنه ) الصغير المملوء بالماء يروى ظمأه حتى المغيب. لقد كان يفضل هذه الحياة علي حياة المدرسة وما بها من جوع وبؤس وشقاء وشح في المصاريف.
    لقد كان مصدراً للعجب أن ترى طفلاً في عمر محمد وهو مسئول عن قطيع أغنام لوحده في الخلاء الفسيح، لقد كان يقضي معها النهار وينام وحده في الخلاء ليلاً حيث يجثم الظلام، وحيث السكون الرهيب الذي يوحي بالمجهول، كان ينام مفترشاً للتراب وأشواك ( الحسكنيت ) يصنع له مرقداً هو عبارة عن (فوجة) علي سطح الأرض دون أن يخشى من أن يفترسه ذئب أو تصيبه عقرب أو ثعبان بسوء. لقد كان لشكل الحياة هذا أثرا كبيراً على حياته. كان محمد يقطع مسافات طويلة بين البيت ومكان السروح، أو يقطعها هائماً وسط الفلاة الواسعة يجر نعله خلفه أحياناً نتيجة بعض الأعطاب التي تصيبها أو نتيجة بعض الأعطاب التي تصيب رجله جراء الشوك والأعواد المنتشرة، وقد يضطر أحياناً لأخذ لحاء الشجر ووضع رجله أعلي الحذاء مع الإبقاء علي كعبها الخلفي محيطاً بكعبه ثم يشدها إلي رجله حتى لا تفارقه. فهو يسبها ويشكوها وهي المظلوم الأكبر، إذ لا عذر لها وإن فقدت الكثير من أجزائها الأمامية، ولا أمل لها في الراحة، إذ يقوم محمد بترقيعها حتى يكاد يختفي لونها الأصلي تماماً، فكل ذلك سهل ما دام كعبها الأرضي سالم، ولاحظ لها في النجاة إلا أن تتفطر من اسفل بطريقة لا يمكن رتقها، أوانها كان يعتمد محمد علي رجليه أياما حتى يشترى له والده حذاءاً آخر بعد تأنيبه علي عدم المحافظة علي سابقه. وقد كان كثيراً ما يتأخر الحذاء الجديد ويطول اعتماد محمد علي رجله عاريةً كما خلقها الله حتى يتغير شكلها وتتكون لها حراشيف تستنكر لباس النعل بعد ذلك لأنها قد تصلبت من الأسفل لتقي نفسها الشوك والحر، وسبحان الله الذي يشكل المخلوقات لتتكيف مع بيئتها ومع متطلبات البقاء فيها. فقد يصادف أن يسير محمد لمسافات طويلة وسط الغابات والعيدان والأغصان المتساقطة معتمداً علي رجليه الحافيتين المصفحتين دون أن يتأثر بالأشواك إلا القليل القوى المعاند الذي يتسلط عليه من حين لآخر فيقتحم الحراشيف ويمتد إلي اللحم الحي فيتأثر به محمد كثيراً. وقد كان كثيراً ما يصل إلي البيت عتباً يحمل علي يديه رجله المصابة. فيما عدا ذلك فان الكثير من الأشواك الضعيفة كانت تجد حتفها، وتتحول إلي بقع سوداء علي الحزام الأمني الذي أقامه محمد من جانبه.
    كثيراً ما كان محمد يبقي مع غنمه حتى منتصف النهار، وبعدها يأتي للبيت للقيلولة وتناول الغداء. كان يأتي للبيت متعباً يستحث خطاه ووهج الشمس يكاد يحرق جبينه ورجليه وهو يتسلل من ظل شجرة إلي أخرى، وكان يهرول كلما بعدت المسافة بين الشجرتين، أو أنه يمط خطاه قبل أن تصل سخونة الرمل إلي مناطق لازالت تحتفظ بطراوتها وحساسيتها في رجليه خلف الحراشيف. وبعد أن يصل البيت يتسلل داخل (الراكوبة) ويأخذ كوباً بارداً من الماء يبل به جوفه الظامئ، ويستلقي في ظل (الراكوبة) البارد متجافياً بقع الشمس البيضاء التي تتسلل من سقف الراكوبة ويروح في استرخاء لذيذ ثم يقط في نوم عميق متوسداً ذراعه. فلذة النوم بعد التعب لا تشبه النوم بالحبوب أو الأنوار الغامغه أو الألحان الموسيقية الهادئة التي تصيب أصاحبها بالأرق والسهاد والنوم المتقطع، لقد كان محمد ينام نوماً عميقاً لا تكدره إلا نملة كانت تجوس خلال الراكوبة بحثاً عما تقتات به، ولا تجد ما تقتات به إلا جسده الغض الطري، فتنشب فمها القارص في جسمه اللدن، فينهض مذعوراً حتى تسمي أمه الله، خشية أن يكون مسه الشيطان بشيء، ولكنه لا يلبث أن يقوم بسحق حبيبات الرمل التي تكون قد علقت بجسمه علي مكان القرصة، ويلتفت حوله مستدركاً موضعه وما حوله دون أن يرمي لشيء معين ثم يأخذ نفساً عميقاً وينكفئ علي وجهه مستدركاً نومته الفائتة وكأنه يريد اللحاق بها قبل أن تغوص في التراب بعيداً عنه.
    بالطبع فإن قرصة النملة تختلف عن قرصة ( الجعران ) التي يمكنها أن تضع حداً لنومته اللذيذة، ولكن الجعران لا يتواجد إلا في موسم الخريف، وكما قد عفاه الله شرور العقارب والثعابين، فعلي الرغم من أنه شاهد الكثير من زملائه في القرية وقد تفسخت أرجلهم نتيجة لدغة عقرب أو ثعبان أو شاهدهم يعلقون عليها صرة من (زوارة ) الشيخ معلا التي تعالج الملدوغ، إلا انه لم يحدث له في حياته أن تعرض لمثل هذه المحن.
    هكذا كانت حياة محمد، يقضي فترة الدراسة بمدرسة حلة مرجي الابتدائية وفي الإجازة تراه أحياناً يحمل (محجاماً ) في مواسم ( العليف ) وغنمه تقتفي أثره في شوق ورجاء، كلما حاول أن يعلق المحجام علي شجرة أسرعت الغنم تنبش تحته عن الساقط من ثمارها. في موسم ( الرشاش ) حيث تجف الأرض وينعدم ما يمكن أن تتغذى عليه الأغنام، تراه يأخذ فأسه ويصعد الأشجار يقطع الأغصان المخضرة ويلقيها أرضاً للأغنام لتأكلها. مجموعة من الأشواك تنغرس في جسمه الغض، فكنت ترى بقعاً سوداء لدماء متجلطة من آثار عمل الأمس، بينما ظلت الأخرى مفتوحة تتدفق منها الدماء الحمراء الغانية. تراه في بعض المرات يحاول اجتثاث شجرة ما من ساقها، يعلق عليها (محجامه) ويجذبها في عنف يستعجل سقوطها ولكنها تأبي في عناد، وكأنها تتشبث بالحياة وغنمه إلي جواره ترقب الموقف وتتصايح مستجديه حاثة.
    هكذا كانت تمر المواسم علي محمد، ولكل موسم عمله وتعبه الخاص. يستمر التعب والعناء حتى تأتي مواعيد الخريف حيث ينزل المطر فترى محمد يخرج تداعب وجهه نسمات الخريف الباردة، ورائحة الرمال المبللة بالمطر، رائحة الأشجار الطيبة وقد بللت أزهارها ذرات المطر المتساقط.. عقب هطول المطر تكون القرية ساكنة هادئة إلا من شقشقة العصافير وصوت أطفال يلعبون في مكان ما بعيد فرحين بنزول المطر، يحمل الندى والبلل أصواتهم بعيداً. يخرج محمد يستنشق الهواء الطلق ويحمد الله علي هذه النعمة التي طال انتظاره لها.
    هكذا كان محمد علي الطبيعة مصاحباً للبيئة علي طول طفولته. كان يخرج في الخريف علي اثر هبوب النسيم البارد الذي يحمل رائحة المطر المنعشة، والأشجار الخضراء المبتلة، والأرض كلها خضراء سندسية، الطيور تغرد وتتقافز من غصن إلى غصن، هذا هو موسم فرحها هي أيضا وموسم تكاثرها. كان محمد يتمتع بمهارة عالية في تسلق الأشجار ونصب الشراك للطيور التي تضع بيضها علي فروع الشجر. كان يضع شركاً يسميه ( أم كشمبيرة ) من أعواد شجر المرخ اللين. إذ كان يشق عود المرخ إلي نصفين، يجعل الأول في شكل دائرة بحجم العش ويجعل الثاني في شكل هرم مقوساً إلى اعلي ويثبت طرفيه عند طرف الدائرة بحيث يكون في شكل قوس أعلى العش، ثم يربط عليه خيوطاً رقيقة أو سبيباً ينتزعه من ذيول البقر أو الحمير يجعله في شكل حلقات سهلة الإنشراع تغطي المساحة بين الهرم والدائرة، ثم يثبت هذا الشكل الكلي علي العش ويربطه إلي غصن الشجرة، وعندما تأتي القمرية لتأخذ وضعها علي العش محتضنةً بيضها تكون الخيوط الرقيقة قد أحاطت بعنقها، فيأتي محمد متخفياً ومتسللاً ومغتبطاً لرؤية المفاجأة عندما يوغظ القمرية مهلوعةً، فبمجرد محاولتها الإقلاع عن العش تكون الخيوط قد لفتها من عنقها، فتسمع لها فرفرة اثر اصطدام أجنحتها بالأغصان وهي تحاول الطيران. فيأخذها محمد تملأه نشوة الانتصار، لحماً طيباً طرياً كل ثمنه هو عودان من المرخ وخيوط رقيقة تصلح لاصطياد المزيد.
    لقد كانت حياة الريف حلوة حيث يستمتع محمد بكل خيرات الطبيعة من نبق ولالوب وقضيم ولبن ودخن...الخ كما يستمتع باللعب مع زملائه... تراهم يشكلون فريقين متحاربين يغير بعضهم علي الآخر متخذين من أيديهم جمالاً. يمدونها أمامهم كرقبة البعير ويصيحون خلفها رغاء البعير ويصنعون لها حوايا وسروج وأرسنة. تراهم يغير هذا الفريق علي الفريق الآخر ويغنم منه شيئاً، ثم يقوم الفريق الآخر بالفزع وتراهم تارة يصنعون بيوتاً من الرمال المبللة ويتسابقون في تجميلها، كما يصنعون تماثيلاً مختلفة للبهائم.
    هكذا استمرت الحياة بمحمد حسن ساري الليل تبادلية من المدرسة إلي قريته الساكنة البسيطة يمارس مهاماً روتينية. لقد كان محمد شاذاً في دروسه مجتهداً طوال سنيه حتى جلس لامتحان الشهادة المتوسطة ولكن الأقدار لم تكن لتسمح له بمواصلة تعليمه، فقد توفي والده.
    لقد شاءت إرادة الله لأسرة فقيرة مؤمنة أن يتوفى عائلها وما كان من محمد إلا أن يقطع دراسته ليعول أسرة كبيرة كل أعضائها من الصغار. تولي محمد رعاية الأسرة كأخ اكبر بعد وفاة والده، ولم يكن أمامه من بد سوى أن يهجر المدرسة والقرية متجهاً إلي الأُبيّض بحثاً عن عمل يقيه وأسرته ذل السؤال. حزم محمد شنطته وذكرى والده وهو علي فراش الموت يوصيه لا تفارق ذهنه. يتذكره بعينيه الغائرتين اللذين انهكهما المرض يوصيه:
    وصيتي لك يا محمد هي اخوتك. ترعاهم وتتولاهم وربنا يعينك.
                  

08-10-2003, 09:01 AM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)


    وهذا هو الجزء الرابع من الرواية


    لقد حلت الكارثة لا محالة. تباشير الجفاف والقحط لاحت للجميع، أنه لسوء طالع عظيم لمحمد، ففي الوقت الذي توفي فيه والده كأول ضحايا الجفاف لهذا العام، وأصبح هو العائل الوحيد لأسرته، تبين للجميع أنهم أمام قحط وجفاف محققين، فقد تأخر الخريف في العام السابق كله إلا من بعض الأمطار الخفيفة التي أفسدت الحبوب في التربة، فهي لم تتركها جافة حتى تحافظ علي خصوبتها، ولم تروها بالماء لتنبت، بل بللتها مما أدى إلي انتفاخها وإنباتها، لكنها سرعان ما ذبلت وماتت وهي لا تزال غضه لم ترتفع عن سطح الأرض. حتى البذور التي القاها المزارعون منذ وقت مبكر، كان مصيرها خسراناً. أما البهائم فقد استطاعت أن تعتمد علي النبات الجاف الأسود من بقايا العام الأسبق طوال فترة الشتاء والصيف الجاف منتظرة لفرصة الخريف الثاني، وعندما حان وقت الخريف كانت عند الرمق الأخير، تجاهد بشق الأنفس للتشبث بالحياة، وحينها و لما لم يأتي الخريف عم الهلع والزعر وهرع الكثيرون من أصحاب هذه المواشي لبيعها في الأسواق فهبطت أسعارها بشكل لا يُصدق لهزالها ولكثرة عرضها ولعدم وجود العلف، فقد كان أصحابها يبدلونها بملوة العيش أو يتركونها في السوق عندما لا يجدون من يرغب في شرائها. ارتفعت أسعار ضروريات الحياة السعار الغذاء المستجلب من المدن أو من المناطق النائية، وأصبحت المنطقة لا تنتج شيئاً من ضروريات الحياة.
    لقد حل الجفاف وتبدل كل شئ. أصبحت الحياة صعبة في القرية، إنعدم العمل والدخل، فبتوقف الأمطار فسد مصدرا الرزق الأساسيان، الزراعة والرعي. بدأت الأسر الضعيفة في الهجرة إلي المدن. ولم يكن أمام محمد حسن ساري الليل إلا أن يكون من بين المهاجرين إلي المدينة عله يجد فيها عملاً يوفر منه دخلاً يغيث به أسرته، فأتخذ من بعض العربات المسافرة إلي الأُبيّض وسيلة للوصول إلي هناك.
    كان محمد عند دخوله المدينة يلاحظ إخوانه وأشباهه من القرويين يعملون في غسيل العربات أو مسح الأحذية أو كحمالين أو كناسين أو باعة متجولين لأشياء يسيرة وحقيرة. كان يرى بعض صغار مشردي الريف في المجارى وأكوام القمامة إلي جانب المباني الفخمة والشوارع الواسعة التي تعج بالجديد والغريب من العربات فيتقطع فؤاده حسرة علي واقع مقلوب.
    صحيح أنه لم يكن يفهم تفسير هذه الظواهر الاقتصادية-الاجتماعية الظاهرة أمامه، إلا أنه بفطرته السليمة وبحسه المرهف كان يحس بمفارقة جليه ورهيبة. كان محمد يسير في شوارع المدينة يرتدى عراقية البلدي الذي يصل إلي اسفل ركبتيه بقليل، والذي بدا انه لم يحظ بماء أو صابون لمدة طويلة حتى بدت عليه خطوط العرق والغبار سوداء ممتدة في شكل خطوط إلي اسفل كأنها ظل المطر الذي ضرب منطقة بعيدة. كان يسير مستغرباً ينظر يميناً وشمالاً إلي الضوضاء والزحام والعربات الكثيرة والزعيق، تائهاً شارد الذهن يفكر في تفسير ما يلاحظه علي جانبي الطريق.
    لمح محمد قطعة قماش بيضاء ناصعة البياض ثبتت من أطرافها الأربعة علي أحد الجدران وكتب عليها بخط واضح ومنمق:
    - من أجل الغلابة والمسحوقين.. انتخبوا مرشحكم...... )
    وكان طرف القطعة قد لفه الهواء، فلم يتبين اسم المرشح. وقف محمد يتأمل لفترة ليست بالقصيرة.. لم تشده بالطبع العبارات المكتوبة، فما كان ليفهم منها شيئاً بقدر ما شدته قطعة القماش البيضاء النظيفة من قماش ( الدبلان ) الفاخر. فما أحوجه إليها عله يصنع منها جلباباً أو يرسلها لأخيه الصغير يلبسها جُبة أو يتخذها ثوباً يقيه شر البرد.
    عمل محمد كبائع للماء علي (صفيحة) وفرها له عباس صديق القرية القديم والذي تعرف عليه في موقف عربات القرية، جاء يستطلع الأخبار عن أهله من القادمين من هناك، فكفاه شر أسئلة كثيرة ما كان ليجد لها حلاً. كان محمد بوحشه القروي وانكماشته وانعزاليته يقف إلي جوار الموقف الكبير يضرب علي كوبين من الألمونيوم علي بعضهما وتحته صفيحة مليئة بالماء يسقي منها المسافرين نظير خمسين قرشاً لكل فرد.
    لقد سر محمد بذلك وسعد كثيراً عندما شعر بأن بعض النقود، ولو قليلة،أصبحت تبقي بجيبه وفراً عما يأكله ويشربه. وفي أحد الأيام، وعندما كان يقف عند مكانه المعهود شاهد بعض زملاء مهنته يهرولون بأوانيهم، وشعر محمد بزميله الذي كان يقف إلي جانبه يجذبه من ذراعه جذبة عنيفة أسقطته علي الأرض، ثم تركه وهرب لينجو بنفسه وبما عنده. عند ذلك شاهد محمد أشخاص يطاردون الجميع، وواجهه أحدهم ودون أي كلام ركلة ركله عنيفة وسلب منه (الصفيحة) والأكواب وتركه ليلاحق الآخرين.
    تجمد محمد في موقعه لا يفهم شيئاً حتى أتاه صديقه الذي كان قد نجي بمعداته ليشرح له أن هذه تسمي ( الكشة ) تقوم بها: ( حاجة اسمها البلدية ). وعندما استفسر محمد عن سبب ذلك، لم يجد تفسيراً من صديقه الذي لا يدرى هو الآخر، وان حمد له السلامة علي أنهم لم يدفعوا به إلي العربة بصورة مذرية ويأخذوه إلي حيث سيعاقب بالجلد خمسه عشر سوطاً كما فُعل به هو من قبل.
    بقي محمد حسن ساري الليل حائراً في الطريقة التي تجمعه (بصفيحه) أخري وكوبين ليعود إلي عمله السابق، حتى جاءه صديقه بفكرة جديدة قال له أنه قد اتفق مع أحد الذين يعرفهم علي أن يوفر له (خانة) معهم في إحدى المصانع الضخمة ليعمل معهم بنظام السهرات الليلية في تجهيز الزيوت. استجاب محمد على الفور وذهب إلي حيث المبنى الكبير ذي الآلات القوية التي يرتفع صياحها وضجيجها حتى لا يكاد الشخص يسمع حديث جاره. لقد كان محمد كثير الخشية من أن تلتهمه هذه الأشياء فتحسس بلا وعي حجابه الصغير علي صدره فتذكر انه قد فارقه منذ زمن بعيد... لكن لم تفارقه نظرات والدته واخوته وعيونهم المليئة بالرجاء والأمل.
    لقد سمح صاحب المصنع لمحمد وزملائه بالإقامة في أحد الأركان الخلفية للمصنع، يستريحون فيه من عناء العمل المتواصل، فشيدوا لهم راكوبة صغيرة من الجوالات والكرتون وعيدان القنا. كان محمد نادراً ما يجد فرصة للخروج بسبب العمل المتواصل، وكانت أخبار أهله في القرية هناك مقطوعة عنه تماماً وما عاد يدرى ماذا فعل الله بأهله وقد تركهم في مواجهة القحط وعاديات الزمان.
    لم يجد محمد الفرصة للخروج من المصنع إلا بعد خمسه عشر يوماً قضاها داخل أسوار المصنع العالية، فأتجه نحو ( الموقف ) حيث صديقه عباس الذي آزره أول مجيئه للمدينة ووفر له الصفيحة والأكواب ليبدأ العمل. لقد كان من السهل علي عباس أن يتلقى أخبار القرية لان مكان عمله هو ( موقف دار الريح ) حيث يستقبل يومياً القادمين من تلك الديار ويسقيهم الماء. توجه محمد إلي هناك ماراً بقلب مدينة الأُبيّض العريقة، فشاهد لأول مرة الكهول والعجزة وكبار السن، باد عليهم الذبول، يدبون في طرقات المدينة، بعضهم يسند ظهره وبعضهم يتوكأ علي عصاه. يمدون أيديهم لأصحاب الخير في خشوع وتذلل، أنه شكل من أشكال الحياة لم يعتادوا عليه، لقد علمتهم البادية العزة والإباء لا الخضوع والانكسار. لاحظ محمد كهلاً تساقطت أسنانه فبدا صوته خافتاً، وبدا علي حواجبه الشعر الأبيض. خطوط الشيخوخة ترتسم علي وجهه في شكل تجاعيد غائرة تقرأ فيها أحداث الماضي وعبر الأيام يرتدى ملابس مقطعة، متسخة ومرقعة، ويطوى عمامته في حزن وألم. عيناه غائرتان وقد أنهكهما التعب. رآه يدب من محل تجارى لآخر يواجه بالصدود ونظرة الإزدراء من أصحاب المحال. ولاحظ امرأة عجوزاً شمطاء تحمل طفلاً وتقود آخر، تلف نفسها بمجموعة ثياب مهترئة ومتسخة تتكشف في وسطها عن هزال وجوع وألم.. همهم محمد في نفسه... أنها مأساة فاجعة لا رحمة فيها لطفل رضيع ولا لشيخ هرم. الأطفال في الطرقات بثيابهم الممزقة وأجسادهم المتسخة يتجولون حول مواقع القمامة وحول المطاعم يتربصون بترابيز الأكل، يفترسون الفتات الذي تركه الزبائن قبل أن يسبقهم إليه ماسح الترابيز.
    لفت نظره طفل صغير كان عليه ثوب ممزق برز منه صدره العاري، وانشق عن كتفه فظهر ناتئاً إلي اعلي، الثوب علي عِلاته رث قذر يظهر من جسم الصبي اكثر مما يخفي وكأنه أسمال وُصل بعضها ببعض لتصير لهذا الصبي جلباباً يستر ما يستطيع ستره. تفرس محمد وجهه فرأى بؤساً شاحباً وابتسامة باهتة فيها الكثير من الحزن والألم. والكثير الكثير من الوجوه البريئة التي أذلها الفقر والفاقة تستجدى ولا رحمة، ينبشون في أكوام القمامة عن بقايا طعام، وينامون علي الأرصفة، يستظلون بالمجارى من لفح النهار ووهج الشمس المحرقة، يقضون فيها استراحة النهار بعد عناء الليل في البحث عما يسهل أخذه بعيداً عن الأعين، ويتساءل محمد مع نفسه:
    - تراهم مجرمون في حق المجتمع أم أن المجتمع هو الذي أجرم في حقهم ؟ ولا يجد الإجابة.
    رأى محمد مجموعة من الصبية من أبناء أهله، عرفهم بسيماهم - شبهاً ودماً - وبفراسة بدوي لا تخطئ، رآهم إلي جوار سوق الخضر والفاكهة يلتقطون التالف من قطع المانجو والموز والقريب فرت، يتلذذون بأكله وعلي وجوههم فرحة المغنم، يمرون أمام الاستريو الذي يقبع إلي جوار سوق الخضار، وهم شبعي يذبون عن وجوههم وأيديهم المتسخة سرابات الذباب الملحاحة ويتهادون علي أنغام شريط غربي ملأ الشارع ضجيجاً، فيرقصون على أنغامه في فرح غامر.
    إنها سعادة تخفي ورائها واقع اليم من الضياع. أنها سعادة اللحظة و ابتسامة المذبوح وهو يلفظ النفس الأخير.
    لاحظ محمد فتيات في مرحلة النضج يبعن الشاي إلي جوار المنطقة الصناعية عليهم الملامح الريفية ولكنهن يتحدثن إلي صعاليك المنطقة الصناعية المشهورين بلهجات وأساليب لم يعهدها محمد عندهن في القرية. فقد عهد عندهن الخجل والعفة والاحتشام.. كانت الواحدة منهن تتواري خجلاً إذا ما أحست بطارق علي باب البيت، فترتدى ثوبها وتبقي بعيداً. كانت الواحدة منهن تحبس نفسها داخل البيت ولا تخرج بتاتاً إذا كان هناك غريب في ( راكوبة الضيفان ) قبالة باب الدار. لكنها الآن تضحك وتنثني وتضرب كف صاحبها في ضياع. يتجمهر حولهن عديمو الضمير يتلفظون بالبذيء من القول ويسرون ما هو أعظم.
    عِزة تذل وعروض تهتك بسبب الجوع. لقد صدق حكماء قريته عندما قالوا أن الجوع كافر، لا تصمد أمامه الأعراض ولا العفة ولا الشرف ولا الفضيلة ما دام هناك من هم علي استعداد لاستغلال ظروف الفقر والفاقة للوصول إلي مآربهم الدنيئة.
    وصل محمد إلى صديقه عباس الذي اطلعه علي حجم المأساة. اخبره بأن الجفاف قد حطم كل شيء، وأن أهل حلة مرجي والقرى المجاورة لها قد نزحوا إلي هنا بعد أن حاصرهم الجوع وقضي علي بعضهم، وأن ظروفهم هنا سيئة للغاية. فترحم محمد علي روح والده الذي كان أول من سقط ضحيةً للجفاف.
    استجاب عباس لطلب محمد بأن يزور معه المنطقة التي تجمع فيها نازحو قريتهم، في الجانب الشمالي من مدينة الأُبيّض عند منطقة تسمي ( الغابة ). تلك المنطقة التي تمر عبرها السيول في وقت الخريف إلي الفولة الكبيرة في الجزء الشمالي من مدينة الأُبيّض، حيث نبتت عليها أشجار كبيرة عالية معتمدة علي مياه السيول الموسمية. لقد كانت المنطقة قبل نزوح هؤلاء الجو عي إليها، خالية، باعتبار أنها غير صالحة للسكن نسبة لمرور السيول عبرها ونسبة للحفر والأخاديد التي ظلت باقية علي سطحها.
    هكذا بقيت المنطقة خالية من السكن يستخدمها البعض عراءً للتبرز متخذين من جروفها وأخاديدها حواجز تحميهم من الأعين. كما يستخدمها بعض التجار كمناطق يعلفون عليها مواشيهم لتسمينها قبل وصولها إلي سوق الأُبيّض، ويرمون بالميت منها في تلك الحفر العميقة، حتى صارت للمنطقة روائح نتنه.
    استطاعت السلطات المحلية توجيه سيل النزوح المتدفق إلي هذه المنطقة إما شفقة عليهم من هجير الصيف بحيث يمكن أن يحتموا بظل الأشجار الكبيرة هناك، أو لعلها لا تريد تسربهم إلي داخل المدينة حرصاً منها علي عدم تشويه صورة المدينة التي لا زالت تفاخر بها علي أنها درة كردفان وعروس الرمال وإن دفنتها الرمال أقفر سوق محصولاتها وجفت زريبة مواشيها العامرة.
    ولعل من الأسباب التي جعلت من منطقة الغابة منطقة نزوح، هو وقوعها في الجزء الشمالي لمدينة الأُبيّض، فغالبية النزوح كانت تأتي من جهة الشمال حيث تنتهي رحلتهم عند موقف ( دار الريح ) الذي لا يبعد كثيراً عن منطقة الغابة. لكل هذه الأسباب مجتمعة أصبحت منطقة الغابة هي المنطقة الوحيدة المؤهلة لاستقبال النازحين. فنشأ المعسكر الكبير - معسكر النازحين.
    وصل عباس ومحمد إلي ( معسكر الجو عي ) حيث شاهد محمد أطفالا كالأشباح، رؤوسهم تبدو كبيرة، أضلاعهم بارزة، بطونهم منتفخة وكبيرة، رقابهم رقيقة وسيقانهم رقيقة وكأنها لا تكاد تقوى علي حملهم. لاحظ محمد نساء وقد تهدلت ثُديَهن حتى بدت كقطع لحم علقت علي صدورهن، شيباً أصابهم الذبول، وأطفالاً يموتون وذويهم ينتحبون إلي جوارهم. رائحة المعسكر كريهة، إذ تمارس فيه كل ضرورات الإنسان، فهو بيت للسكني ومرحاض للتبرز، ومقر للاستحمام، إن كان هناك استحمام، ومحل للأكل وكل شيء. لقد كان الوضع مذرٍ للغاية. وتذكر محمد حال أسرته عندما تركها فحن قلبه كثيراً.
    وجد محمد بعض الأسر التي يعرفها، كانت أكثرها قرباً له هي أسرة خاله المرحوم حسنين. وجد ابنهم طريح الفراش، بطنه منهمرة وأضلاعه بارزة. حكت زوجة خاله، كيف أن الوضع المعيشي قد ضاق بهم هناك في القرية، وكيف أنهم كانوا ينتظرون صدقات الموسرين ووعود الإغاثة التي لم تأت تشبثاً بالأرض واتقاء لركوب المجهول، ولكن أخيرا لم يبق أمامهم بد من الرحيل. حكت له كيف أنها أخرجت القطعة الذهبية الوحيدة التي ادخرتها لمثل هذه الظروف أودعتها لدى التاجر نظير ثمن تذكرة السفر، لها ولأطفالها الثلاثة، من القرية إلي الأُبيّض. ثم حملوا أمتعتهم البالية : قطعة شملة قديمة يفترشونها عند اللزوم، وبقايا (مخلاية ) قديمة صنعت من جوال بلاستيك متسخة ومهترئه بها بعض الفتات - دقيق ذرة قليل، نذر يسير من الزيت وأكياس مربوطة علي نفسها في شكل صرر صغيرة بها ويكة وملح وشطه - بقايا (شبكة ) قديمة صنعت من الحبال بداخلها (جركانة) صغيرة بها ماء وصحنين وكوب للشرب و(حلة) كبيرة بداخلها أخرى اصغر منها ظهورهما سوداء اثر وضعها علي النار وثلاثة أو أربعة جلود لماعز طويت بعناية ليسهل حملها - وهي آخر ما بقي لهم من الماعز التي نفقت بسبب الجفاف والجوع، وشنطة حديدية تقشر طلائها أصاب الصدأ أسفلها، بها ثياب قديمة وقليلة وبرش مطوي ومربوط من نصفه وبعض الأشياء الأخرى التي لا قيمة لها، تشكل في مجموعها ما يملكون من متاع الدنيا الفانية. حملوا كل ذلك وتوجهوا إلي هنا.
    حكت له كيف انهم عانوا من مشاق السفر وألم الجوع في الطريق حتى وصلوا إلي الموقف الكبير في طرف المدينة لا يعرفون اتجاه. حكت له كيف انهم قضوا ثلاثة أيام بلياليها دون أن يجدوا ما يسدون به الرمق، ويبقي الفضل في أنهم تمكنوا من شراء بعض أعواد القنا، واستعانوا ببعض فروع الشجر اليابسة فحفروا لها وثبتوها إلي اعلي، فكونوا منها هيكلاً صغيراً في شكل نصف كره ونشروا عليه قطعة (الشملة ) التي كانت معهم، فصار هذا الموقع الذي يراه : بيتاً يقيهم الحر وعيون المارة بعد أن قضوا ثلاثة أيام يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فشعروا بالأمان والاستقرار والدفء داخل بيتهم الجديد. ورغماً عن ذلك فإن لياليهم لم تكن هانئة يسعدون فيها بالنوم العميق، فهناك بكاء أطفال جياع في القباب المجاورة لهم، وهناك نواح لأمهات مات أطفالهن، وأنات لا تنقطع حتى الصباح. عندما تضيف زوجة حسنين كل ذلك إلي قلقها علي المجهول وخوفها علي مصير أبنائها فإنها تبقي دامعة العين ليل نهار لا ينعم لها جفن بالنوم حتى الصباح. حكت له أن أحد أبنائها لم يبارحه الإسهال والتقيوء منذ مجيئهم وحتى اسلم الروح لبارئها، وان أخاه الذي يصغره، يجاهد الآن هو الآخر وهو طريح الفراش بنفس الأعراض السابقة. دمعت عينا محمد وغشيتهما غشاوة عندما تابعت بأسي قائلة :
    -وهاأنذا قائمة بينهم أشهد موتهم البطيء، قليلة الحيلة ولا حول لي ولا قوه.
    نظر إليها محمد في رثاء وقد بهت لونها من الحزن وتقرح جفنها من البكاء، فقد تكاثرت عليها نوائب الدهر دون معين : غربة، موت أبنها والمجهول الذي ينتظر إخوانه. كان محمد يستمع إليها بحزن دون أن ينبس بكلمة، وقد علت جسده قشعريرة، شعر علي إثرها بشعر رأسه تقف كل واحدة منتصبة علي حده. كان يرى الواقع الأليم ولكنه لا يملك حيلة هو الآخر. وكان ذهنه يفلت بين الفينة والأخرى إلي حيث اخوته ووالدته هناك في الريف البعيد، حيث الموت والجوع.
    من بين الذين تعرف عليهم محمد كانت بتول، سألها محمد عن أحوالها، ولما لم تبادر بتول بالإجابة من تلقاء نفسها سألها محمد عن بنتها الأخرى التوأم التي تركها معها بالقرية، أخبرته بتول بأسي بأنها ماتت في الطريق، حكت له بأنها لم تعرف بموتها إلا عندما رفعتها عند الصباح من مرقدها فأحست بأنها ثقيلة علي غير العادة لتعرف أخيرا الحقيقة الفاجعة. كثيرة هي الأسر التي فقدت أطفالها وشيوخها.
    تجول محمد في المعسكر ينظر بأسي وحرقة لتلك المساحات الواسعة التي قطتها الرواكيب والقباب من الجوالات والأقمشة البالية و( الشمال ) والكراتين تراصت قريبة من بعضها البعض تعج بالبشر كأعشاش الطيور. بالرغم من صغر هذه المنازل وتزاحمها إلا انه كانت تمارس فيها الحياة الفقيرة البائسة وبها محارم ونساء. المنطقة مكشوفة لا شيء يقيها البرد والمطر وتقلبات الظروف الطبيعية، تراها ليلاً هامدة وقد أوقدت فيها نيران صغيرة ومتفرقة بعدد هذه البيوت يقلى أهلها علي النار ما جاد به نهارهم المكدود.
    ناولته بتول خطاباً من والدته، فكانت فرحته به عظيمة وأن كان القلق يساوره وتزداد لهفته لمعرفة ما فيه. لقد كانت والدته تشرح الأحوال في القرية وأحوال المعيشة التي أصبحت صعبة :
    - ( يا محمد يا ولدى الحالة بقت صعبة.. البهائم العندنا كلها ماتت، الماعز انتهت كلها والضان الباقي منها ثلاثة فقط، ورخيصة جداً في السوق، هذا إن وجد من يرغب فيها، ضعيفة وهزيلة وما عندها مستقبل اكثر من أن تموت بالجوع. ما في ليها بيع، والأحسن موتها من السعر الذي تباع به في السوق. الحمارة ماتت، وولدها ما بقدر يقوم إلا يرفعوه، لا بركِّب لا بشيل قربة الموية للبيت، ورودنا إلي البير في رسينا. السوق غالي زي النار وفي أيدي ما في قروش، الإغاثة ما موجودة وما مضمونة. بعد مرات تتم شهر وبعد مرات ما تجى خالص. الجماعة كتيرهم نزح إلي الأُبيّض وأم درمان والبلد صعبة خالص والمرض منتشر وما معروفة الأقدار. الخريف لسع والمستقبل ما معروف. الغربة يا ولدى بلا فائدة ما ليها لزوم، ارجع تعال الحلة والبحصل يحصل لينا جميع ونحن في مكان واحد).
    قضي محمد الليل كله ينتحب ويتقلب دون نوم، لم تفارقه كلمات والدته في الخطاب، بات الليل يجتر ذكريات الحلة في قلق عميق علي والدته وإخوانه، ويستعرض المأساة الفاجعة التي لاحظها صباح اليوم. الشباب من الجنسين من أبناء قريته والقرى المجاورة تائهون في المدينة يحاولون التكيف مع أسلوب الحياة الجديد والغريب عليهم، فدخلوا المدينة باحثين عن العمل الشريف، وبما أنه لم تكن لهم سابق خبرة بالعمل في المدينة فقد اشتغل اغلبهم في السوق بأعمال هامشية كبيع الماء أو الاتجار في بعض الأشياء البسيطة، حيث كان بعضهم يشترى القليل من الخضر، كالبصل أو الليمون ويقوم بعرضها علي رصيف الشارع قرب سوق الخضار في شكل أكوام صغيرة. ولعل اغلب الذين سلكوا هذا الطريق كانت لهم سابق معرفة بالمدينة وإن كانت طفيفة. أما الذين لم يسبق لهم أن رأوا أو زاروا المدينة فقد كانت مشاكلهم اكبر، وإمكانية حصولهم علي عمل شريف مُكسِب أشد صعوبة. فهم بطبيعة تربيتهم الميالة للخجل وعزة النفس انبنى بينهم وبين التعامل في السوق جداراً سميكاً يصعب اختراقه، فهم لا يستطيعون بيع الخضار مثلاً، لان ذلك يحتاج إلي جرأة وشطارة واقتحام وصياح بمزايا المعروض وتعديد فوائده لجذب الزبائن، وأسلوب معين في المفاوضة يجبر الزبون علي الشراء، الشيء الذي ترفضه فطرتهم القروية البريئة، لهذا فقد اتجه معظمهم إلي الأعمال الشاقة التي تعتمد علي العضل، فكان بعضهم يحمل كوريكاً وحفارة ويتجول في الأحياء علي استعداد لردم أو حفر أي موقع داخل أو خارج البيوت وبأبخس الأثمان. بعضهم عمل مع المقاولين في البناء ينقلون الرمل ويناولون الطوب، لقد كان الحصول علي مثل هذه الأعمال أيسر من سابقتها، فما علي طالبها إلا أن يلبس زي العمل ويحمل معداته ويجلس عند القهوة الكبيرة وسط السوق والتي تعارف المقاولون على اخذ العمال منها. فكان بعضهم يجلس محتاراً في تلك القهوة حتى منتصف النهار في انتظار رزقه الحلال، ومنهم من عمل حمالاً أو عتالاً في المواقف العامة. أما الفتيات فقد عمل بعضهن ببيع الشاي في المواقف العامة ومواقع التجمعات المختلفة، يحملن حطام وبقايا أخلاقهن الريفية، ويقاومن كابوس الشر وخطر الانزلاق في معاناة بالغة بينما انزلق بعضهن بالفعل، بينما اشتغل بعضهن كعاملات في البيوت يغسلن الملابس وينظفن الغرف والحمامات ويغرفن البالوعات ويحتملن سخافات المخدمين ورزالاتهم. وقد كانت المشكلة اكبر بالنسبة للأطفال والشيوخ، فقد انتشر الأطفال في مواقع القمامة ومحلات بيع الخضار يلتقطون المتعفن منها ويفترسون الفتات، أما الشيوخ فقد اتخذ بعضهم من بوابات المساجد وشوارع السوق مقراً يقومون فيه بواجبهم اليومي في الدعوة بالتوفيق والبركة لفاعلي الخير والمحسنين. بعضهم كان اكثر نشاطاً وحيوية مكناه من التجوال علي المحال التجارية في الأسواق يمدون أيديهم في ذله وانكسار وبقايا عزة وكبرياء جريحة تمور داخل نفوسهم الأبية، فترسم شيئاً من الخجل والتردد علي وجوههم. بات محمد ليلته مسهداً يجتر كل ما لاحظ، وما حُكي له.. فقرر الرحيل.
                  

08-21-2003, 06:55 AM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)



    وهذا هو الجزء الاخير


    عند الصباح كان محمد قد أصطحب شنطته متجهاً نحو موقف دار الريح وقلبه قد سبقه إلي الحلة هناك. لقد قرر السفر بلا نقاش، لا مع نفسه ولا مع الآخرين، فمال الدنيا كله أو أي شئ فيها لا يساوى عنده والدته وإخوانه. دفع محمد ثلثي ما عنده ثمناً للتذكرة واعتلي ظهر اللوري المتجه شمالاً صوب دار الريح. بعد نصف ساعة كانت العربة ماركة نيسان تنهب الأرض نهباً في طريق الشمال، الهواء دافئ يضرب علي وجنتي محمد ويشتد علي انفه وأذنيه، تلثم محمد بملفحته الصغيرة اتقاءً لهواء الصيف الحار. العربة تسير بسرعة مخلفةً ورائها الغبار الكثيف. مر محمد وسط شجيرات الهشاب علي جانبي الطريق وقد بدا أنها قاست ضربات الجفاف فبدا عليها الشحوب. كانت الواحدة منها في الزمان السابق غضه خضراء منيلة حتى تصير كبيرة وتمتد فروعها في الهواء بعيداً عنها، غزيرة متماسكة لا يبدو عليها الكبر إلا بعد زمن طويل، لكنها الآن في طور البكر وهي عجوز قصيرة كثيرة الأعواد خلاء من الفروع الغضه، خلاء من فتوة الشباب ونضارته، لا يستطيع الناظر إليها أن يميز ما إذا كانت جافة أو لينة، ميتة أم بها بقايا حياة، إلا بعد إزالة لحائها ذي القشور السوداء الخشنة والذي كان قبلاً غصناً اخضر.
    الكثير من هذه الشجيرات قد ذبل ومات، بعض الشجيرات الصحراوية عديمة الفائدة بدأت في الظهور، ليس بها ثمار ولا أعواد يستفاد منها في البناء ولا ظل يقي البهائم و المسافر حر الشمس، فقط بعض الثمار السامة التي لا يأكلها بشر أو حيوان أو طير. في بعض المناطق كانت العربة تجاهد وهدير الماكينة يرتفع وهى تشق الطريق الرملي المتعرج، فقد زحفت الرمال علي الشارع وغطته تماماً في بعض المناطق، فكانت العربة تجد صعوبة في عبوره. لقد كانت هذه المنطقة سابقاً يحفها الزرع الأخضر والنباتات الغزيرة المرتفعة، فتستتر تحتها الفئران والأرانب وحشرات الأرض، و تنتشر البهائم علي جانبي الطريق قطعاناً ووحداناً ترعي وتمرح، يأتيك صوت راعيها من علي البعد مترنماً أو عازفاً علي مزماره أو منادياً لرفيق له قد فقده وسط الفلاة الواسعة. الشجر اخضر، وبعض البرك المنتشرة وقد امتلأت ماء يظهر سطحهاً لامعاً مع بريق الشمس، وبها قطعان تشرب وطيور تحط وتقلع. لكن هيهات الآن: رمال زاحفة وأشجار قصيرة والغبار الأُبيّض يتصاعد خلف العربة والهواء الساخن يلفح الوجوه. بعض الجبال الصغيرة تظهر علي جانبي الطريق فتسمع فرقعة الحصى والحجارة تحت اسفل العربة، آثار السيول تظهر من علي الجبل وتنتهي إلي بعض المستنقعات المنخفضة متشققة السطح من العطش وكأنها تستجدى الماء، تظهر علي جانبيها آثار الروث والغثاء الذي لفظه الماء بعيداً في وقت الخريف السابق. لم تعد تتجمع حول هذه المستنقعات قطعان البقر والضان كما هو في السابق، لم تعد ممتلئه تفوح منها رائحة الماء البارد وهواءه المنعش، لم تعد الضفادع تنق فيها. كل المنطقة تكاد تكون خالية من أسباب الحياة، ليست بها حركة أو نبض، مجموعة من القرى التي يظهر عليها البؤس تنتشر علي جانبي الطريق، المنازل مخلعة وبعضها مائل وبعضها قد هوى إلي الأرض. كلها سوداء داكنة لا تجديد فيها، كلها فقدت حيشانها وأسوارها. القرى التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً تحولت إلي أشباح باردة لا اثر للحياة فيها، لم يعد الدجاج يصيح ويهرول كعادته بين ( التندل) والمنزل، لم تعد الماعز تتجمع في وقت الأصيل حول زرائبها، لم يعد الأطفال يلعبون ويتصايحون ويتسابقون حول القرية. فكل شيء يذكر بالموت البارد، حتى الشمس وهي تسير في هدوء نحو مرقدها وقد بدأ الاحمرار الجنائزي يظهر علي الجهة الغربية السفلي من السماء.
    محمد حسن ساري الليل يمر بكل ذلك وهو ساهٍ يفكر في بلدته المنسية في أقاصي الريف الشمالي من مديرية شمال كردوفان. هل يا ترى انتهت أشجارها وذبلت كما هو مشاهد هنا؟ هل يا ترى ماتت بهائمها أم لا زالت حيه تكابد القحط والجفاف ؟ هل يا ترى نزح كل أهل القرية؟ كيف يكون الحال هناك إذن؟ يصدر محمد زفرة وتنهيدة عميقة ويدير وجهه ناحية الغرب. الشمس وقد تغير لونها إلي الأصفر الغاني تسير نحو مثواها الأخير وقد فقدت حيويتها وبياضها ونشاطها وضياءها، لم تعد تؤذى العيون حتى وأن حدقت بها. لقد تحولت إلي كتلة باردة مصفرة ومنتفخة تحكي الأفول العظيم. ظِل بعض الشجيرات الكئيبة يبدو كالأشباح التي تنتظر موت شيء ما لتفترسه. بدأ الظلام يدب بارداً إلي الوجوه قاهراً الشمس التي تراجعت نحو مرقدها. فغمغم محمد في سره: ( كل شئ له نهاية ) ها هي الشمس التي كانت تسيطر علي الكون بنورها ووهجها تموت والأشباح تنتظر في موكب جنائزي بارد. خفق قلب محمد بشدة. شيء ما يشبه الخوف بدأ يدب إلي أوصاله، بدأت أطرافه باردة واهنة، فقد تذكر أهله هناك ومصيرهم، وبدأت ضربات قلبه تزيد من معدلها.
    بعض الركاب متقابلين بوجوههم يحكون عما شاهدوه من علامات الجوع والنزوح في الأُبيّض، وعن سير الحياة المتعثرة في معسكر الغابة، عن أناس يعرفونهم وقد مات أطفالهم من الجوع هناك، عن الحياة البأيسة للنازحين في معسكر الجو عي. بعضهم كان ينقل المستمعين إلي مسرح المأساة الأصلي حيث قرية أولاد مرجي وكثير من رفيقاتها من القرى التي تشكو النسيان هناك، فيحكي كيف أن بعضهم وزعت لهم تقاوي (للتيراب) توقعاً لنزول أمطار هناك، حكي بعضهم كيف أن أهل قرية عيَّنها بالاسم، عندما أشتد بهم الجوع لم يجدوا شيئاً يقتاتون به سوى هذه التقاوي فأكلوا منها جميعهم فأنتشر تسمم رهيب في القرية مات علي أثره تسعة أشخاص من أعمار مختلفة، ذلك لان التقاوي كانت تحتوى علي مواد كيماوية سامه تحفظ التقاوي وتقتل الفئران والآفات الأرضية عند زراعتها. ويحكي آخر بشيء من الطرافة، كيف أن (العدس الذي وزعته المنظمة العالمية بتاعت الخوجات) ومعه زيت النبات والقمح قد تسبب للناس هناك في إسهال رهيب واستفراغ.
    ويجاوبه آخر :
    - هذه هينة فقد اعتادت مصارينهم علي عصيدة الدخن واللبن وهذه ( الخلطة ) لم يعتادوا عليها من قبل فهي غريبة علي بطونهم فهي تستنكرها لأول مرة، ولكنهم سيتأقلمون عليها، ليتها كثيرة ومتوفرة.
    كان اثنان من الركاب يبدو أنهما علي درجة من الثقافة يتحاوران بلهجة المدينة علي يسار محمد. قال أحدهم للآخر:
    - في سنة المجاعة السابقة 1985 م كان عيش الإغاثة يملأ الأرض وكان يسمونه عيش بوش. لا أدرى لماذا لم يظهر هذه السنة.
    - إلي متي تعتمدون علي الإغاثات من الخارج ؟ هذه الأشياء لها ثمنها وعلي حساب سمعة البلد، وتصحبها شروط قاسية تتمثل في التخلي عن هوية البلد وسيادتها.
    - صحيح أنه من الصعب علي الحكومة أن تعلن عن وجود مجاعة إلي جانب إعلانها عن تمزيق فاتورة الغذاء، لكن النفس البشرية عند الله اغلي من سمعة الحكومات. كما أن ما هو حادث الآن هو عبارة عن ظروف طبيعية وإلهية ليس للحكومة يد فيها ولا تلام علي ذلك. إذ أنه من المعروف أن هذه المناطق تعتمد علي الزراعة والرعي الذان يعتمدان علي الأمطار، ونسبة لعدم نزول الأمطار هذا العام تعرضت المنطقة لنقص الغذاء والمجاعة، وبالتالي فالحكومة لا تسأل عن لماذا لم تنزل الأمطار لهذا العام، ولكنها تسأل عن إنكارها لوجود مجاعة.
    - هب أن الحكومة أعلنت عن وجود مجاعة، فهل تتوقع أن تهب منظمات الإغاثة لخدمتكم وبدون مقابل؟ هذه الأشياء لها ثمنها كما قلت لك.
    - فالتعترف الحكومة أولاً بالحقيقة المجردة كما هي، بعد ذلك نستطيع أن نقيس مدى صدق هذه الدول وهذه المنظمات التي تدعي الإنسانية وبعد ذلك للحكومة أن تعلن أنها لا تقبل أي شروط ولن ترضخ لأي قيود، من أراد أن يساعد في إنقاذ الجو عي وضحايا الكارثة الطبيعية فله أن يقدم ما عنده. ثم ثانياً يا أخي نحن نعتبر أمريكا هذه ( وهيلمانتها ) لا تساوى عند الله جناح بعوضه، وأن الإغاثة التي تصلنا منها هي ليست إغاثة أمريكية، بل هي خير ساقه لنا الله، وأمريكا بما تملك في يد الله، يسخرها متي وكيف شاء. لكن مسألة أن ( الحكومة لا ترحم ولا تخلي رحمة الله تنزل ) فهذا مرفوض.
    قاطعتهم امرأة كبيرة في السن كانت متربعة عند منتصف صندوق العربة:
    - الحكام العساكر ديل ما كويسين. فيهم كويس إلا سوار الدهب قالوا هو ذاته كان (دياشي) مع نميرى، وبعدين نميرى أبي ما يتضاير ليه. أهه قام أنقلب عليه. وأنحن وقتها قلنا خلاص سوار الدهب ولد كويس وبلدنا ستتصلح علي أيده، لكن ما خلّوه. بعد مده قصيرة قالوا حكومته غيروها بواحدة ثانيه نوابها كتار، وأهلنا بقولوا ( برمة الكتيره ما بتفور........ )
    استأنف الشخص الأول الكلام متناسياً تعليق المرأة العجوز التي لم تكن قد سمعت بأن تلك الحكومة قد تغيرت، أو لعله قصد مقاطعتها خشية أن تقول شيئاً عن الحكومة الحالية، وقال:
    - لقد ذار الحاكم هذه المنطقة، وتجول فيها كثيراً فوجد الجوع وموجات النزوح، وجدهم يجتمعون في المواقف انتظارا للعربة التي يمكن أن تحملهم للأبيض أو أم درمان، ثم رجع إلي مقره ليصرح بأنه قد وجد أن تلك المناطق تعاني من نقص الوعي السياسي!!
    لقد تمكن محمد من الاطلاع علي كل شيء في ليلة الأنس الطويلة تلك. فقد علم بخبر الوفد الذي تشكل من شيخ الحلة والناظر وبعض أعيان القرية وذهب لمقابلة المسئولين بالأُبيّض بعد أن طلبوا من المواطنين عدم مغادرة المنطقة لأنهم بصدد رفع قضيتهم للمسئولين. لقد قضي الوفد الليالي الطوال ليحظى أخيرا بمقابلة الحاكم. وكان الاجتماع المشهور والذي أنضم إليه اثنان من أبناء المنطقة من ممثلي الحكومة. استهل رئيس الوفد الحديث قائلاً:
    - يا حضرة الحاكم الناس هناك باتوا الليلة الفائتة بدون أي أكل وأعداد كبيرة وصلت منهم الآن إلي أطراف المدينة لا مأوى لهم ولا مأكل ولا مشرب.
    - قال الحاكم قبل كده أعطينا منطقتكم هذه ألفين ومائتين جوال عيش.
    - يا حضرة الحاكم قسمناها في حساب ربع ملوه للمواطن الواحد والآن مرت عليها أسبوعين، وهي انتهت منذ أيامها الأولي والناس الآن يعانون.
    - نحن طبعاً عاوزين نعتمد علي أنفسنا ونكتفي ذاتياً، وأن شاء الله بعد شهر واحد سيبدأ إنتاجنا المحلي من القمح والذرة، وهو كافي بحيث لن نحتاج لأي دعم من أي جهة، بس الحكاية محتاجة منكم لصبر، اصبروا شويه.
    - يا حضرة الحاكم المواطنين الآن يتوافدون علي المدينة يومياً بعضهم قضي ليلتين في المعسكر دون أن يقدم له أي شئ وإذا انتظرنا حتى بكرة فقط احتمال يموتوا كلهم، إذن كيف ننتظر لمدة شهر؟
    نظر الحاكم لأعلي وحملق ببصره في السقف وكأنه يفكر، وجدها رئيس الوفد فرصة جيدة لإضافة مطالب جديدة عندما شعر بان الحاكم علي وشك أن يتفهم الموضوع ويستجيب لمطالبهم فأضاف :
    - يا حضرة الحاكم هناك عندنا البهائم ماتت موت شديد، والباقي منها القليل وفي طريقه للانقراض، وأصحابها يهرعون بها للأسواق ليبيعونها بصورة تبذيريه وبأسعار زهيدة، فيا حبذا لو تدخلت الحكومة لإيجاد حل لهذه المشكلة.
    - نحن نأكِّلكم ولا نأكِّل بهائمكم !! نحن لا نقدر علي علفها ولا علي شرائها.كان مفروض أنو نحن كحكومة نتجاهل الموضوع ليموت من يموت، وأنا متأكد انو بعدها سوف لن يتعرض الباقين للجوع مرة ثانية. بلا شك سيتوجهون للزراعة ولن ينتظروا الحكومة لتعمل ليهم تنمية ولن ينتظروا الاغاثات من الخارج. نحن قلنا انو رفعنا شعار الاعتماد علي الذات، نحن لازم نأكل مما نزرع.
    - يا حضرة الحاكم الأرض زرعناها كلها وبكل همه ونشاط، المشكلة أنو المطر ما نزل، ودي طبعاً حاجة خارجة عن أرادتنا.
    - عموماً هناك عيش تابع لمنظمات الإغاثة سنحاولهم ليخصصوا ليكم منه جزء وسيشحن فوراً للمواطنين ليتصبروا بيه ويبقوا في مناطقهم يدبروا أمورهم وربنا يفرجها.
    - وبعد صمت قليل أستدرك وقال:
    - لكن هذا مني أنا فقط باعتباري ابن المنطقة، ويكون سر بيني وبينكم نحن قلنا الدولة رافعة شعار الاعتماد علي الذات.
    - انبرى أحد أعضاء الوفد من المتملقين الذين نسوا أهلهم ووضعوا أنفسهم تحت خدمة الحكومة يزينون لها زخرف القول ليقول:
    - نحن نشكر سعادتك علي هذا التجاوب (المنقطع النظير)، ونستطيع أن نقول أن اجتماعنا قد خرج بالآتي :-
    أولا : توجيه المواطنين بعدم النزوح للمدن لان ذلك لا يليق بأمة متحضرة تعتمد علي ذاتها وتريد أن تقف في وجه أمريكا والاستكبار العالمي وحتى لا نتيح الفرصة للذين يستهدفون السودان في عقيدته وتوجهه.
    ثانياً : طمأنه المواطنين وتصبيرهم علي أن الحكومة ستبحث لهم مع بعض منظمات الإغاثة في تخصيص مواد غذائية لهم، بالتالي علي المواطنين التزام أماكنهم..
    لكن الحاكم قاطعه قائلاً :
    - هذا قلنا سر بيني وبينكم. يمكنك أن تقول : أن الحكومة بصفة عامة ستبحث في تخصيص مواد غذائية للمنطقة.
    استجاب المتحدث للتصويب وكرره بصورة ببغائية ثم واصل.
    ثالثاً : إن الإحصاء للبطاقة التموينية قد تم في حاضرة الإقليم، وسيصل قريباً إلي تلك المناطق، فإذا تحرك المواطنون لأي مكان آخر فإن حصتهم تصبح معرضة للضياع.
    رابعاً : أن الشعار الذي رفعته الثورة الظافرة هو شعار الاعتماد علي الذات من أجل العزة والكرامة، لذلك يتوجب علي المواطنين ألا ينتظروا أن تأتي لهم الحكومة بكل شئ بل عليهم أن يعملوا وينتجوا ويعتمدوا علي أنفسهم، وأن الحكومة ليست علي استعداد لتوفير حتى مدافن جماعية للذين يموتون جوعاً.
    خامساً : عدم مقدرة الحكومة علي شراء الثروة الحيوانية التي يهددها الانقراض.
    نهض الحاكم وهو يقول : نشكركم يا جماعة علي هذا اللقاء الميمون، وأرجو أن تنقلوه وتنقلوا تحياتي إلي مواطني هناك، وقولوا لهم شدوا حيلكم ونحن معاكم وإن شاء الله ستفرج قريباً. وهتف، وهتف معه الحاضرون:
    -الله أكبر .. الله أكبر.
    - شكراً يا حضرة الحاكم. وخير ختام نستمع لآيات من الذكر الحكيم.
    وقبض إمام الجامع - عضو الوفد - يديه إلي صدره وتنهد تنهيده مسموعة وهو يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم. أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل.....) صدق الله العظيم. نهض الوفد وصافحه الحاكم مودعاً وهو يقول :
    - شكراً جزيلاً ومتأسفين يا جماعة جيتونا ولم نكرم مثواكم بحاجة باردة ولا شاي. مع السلامة.
    كل ذلك عرفه محمد حسن ساري الليل بنصف وعي، فنصف وعيه كان قد سبقه إلي هناك، إلي مستقبل أسرته ومستقبل المنطقة التي لم تتورع أن تصيب أهله بالجفاف ثلاث مرات متتالية، هل يا ترى يهجرها أهلها بحثاً عن منطقة تأويهم وتوفر لهم متطلبات الحياة أم تراها ستعود إلي ماضيها النضير ؟ الكثير من الأسئلة كان يدور في ذهن محمد وكان الميل للتشاؤم هو الغالب.. يتحدث محمد لنفسه:
    - لا أظن أن المنطقة ستعود إلي عهدها الأول. حتى الماء شرد في باطن الأرض، غاص إلي اسفل حيث بدأت الآبار تزداد عمقاً، الغطاء النباتي جف وذبل تماماً وأختفي من علي الأرض. الأتربة الصحراوية كست سطح الأرض. لا أطن أنها ستعود إلي عهدها الأول.
    العربة تهدر وتسير وسط الطريق الخالي شمالاً، تظهر بعض المحطات الكبيرة المعروفة علي الشارع. كانت العربة تدخل المحطة وتتوقف أمام بعض المقاهي الكبيرة، حيث يلاحظ محمد عدم وجود الأطفال الذين كانوا في السابق يتجمهرون حول هذه العربات في المواقف، يستقبلونها بالصياح والتعليق ويتفرجون علي الركاب، حيث ظل بعضهم إلي جوارها ينكث علي الأرض ويلعب حتى تتحرك العربة فيودعها بالجري خلفها حتى تخرج عن دائرة الموقف، حيث يحاول المساعد منعهم من التعلق بمؤخرتها.
    لاحظ محمد أنه لا اثر للرؤوس التي كانت تمتد أعلي الحيشان في محاولة للتعرف علي القادمين. المنطقة بائسة ومغفرة. نزل محمد عن العربة وقد أصاب الخدر رجليه بعد أن كان يجلس القرفصاء في مؤخرة اللوري أعلي البضاعة. نفض جلبابه من الخلف وأتجه إلي بعض العناقريب التي رصت أمام المقهى. المقهى خال من الرواد قبل وصول العربة. جلس محمد علي العنقريب للاستجمام قليلاً من التعب والإرهاق وشيئاً ينقر في رأسه كالطار.
    جلس محمد يتفكر في أمور قريته ولم يفكر في تناول طعام، ليست لأنه غير جائع، ولكن قرر الاحتفاظ بالمبلغ القليل للحظة قد تكون أحرج من الآن. بعض الركاب طلب شاياً، وتساءل بعضهم عن وجود لبن حليب. ردت عليه صاحبة المقهى بعد تنهده سافرة بكلمة واحدة وقصيرة. قالت :
    - وييين ؟
    - ليست بالمطاعم هنا شئ غير وجبات دميمة صنعت من المواد التي تقدمها منظمات الإغاثة للجوعي. أنتهي الركاب من قضاء حاجياتهم وأدوا صلاة المغرب وأدار السائق ماكينة اللوري وأطلق صفارة التحرك من بوق العربة، صعد الجميع إلي ظهر اللوري الذي تحرك بهم تاركاً المحطة باردة ثقيلة. لقد كانت هذه المحطة في الزمان السابق تعج بالمسافرين قدوماً ورواحاً. لكنها الآن جفت، فلم تعد العربات تسافر إلي دار الريح بالقدر السابق خاصة بعد أن نضب خيرها ولم يعد المسافرون كالزمان السابق، الطريق خالٍ إلا من أُسرٍ فقيرة أغلبها من العجزة رجالاً ونساءً وأطفال ومعهم أمتعتهم البالية يجلسون في شكل حلقات صغيرة انتظارا للعربة القادمة من الشمال لتنقلهم إلي الأُبيّض، إلي معسكر الجو عي، إلي الموت. لقد استنفدوا كل مبقيات الحياة، لا زراعة بقيت ولا بهائم ولا ماء. بالطبع إنهم لا يدرون أين سيجدون هذه الأشياء بالأُبيّض، لكنهم كانوا يتحركون صوب الجهة التي سبقهم لها السابقون، هذا هو باب الأمل الوحيد في النجاة. يتلفتون يميناً وشمالاً وقلوبهم تخفق خوفاً من المصير المجهول ويتعمق إحساسهم بالاجتثاث، فهم لا يودون مفارقة أرضهم وبلدهم ولكنهم مكرهين. يتحركون بلا تخطيط أو تفكير أو دراية بما ينتظرهم هناك وأطفالهم تحتهم يتصايحون.
    اتجهت العربة بمحمد شمالاً عبر الرمال الوحلة وشجيرات الهشاب الشائطة والليل يمر ثقيلاً. بعد انقضاء الثلثين الأولين من الليل توقفت العربة في الخلاء ونزل عنها الجميع فباتوا بقية ليلتهم في استرخاء عميق علي سطح رمال كردوفان الباردة، كان محمد يشم ويستمتع بالتراب الذي ولد وتربي فيه. لقد مرت فترة طويلة دون أن ينعم محمد بمثل هذه الرقدة علي التلال الرملية الطرية في ليل هادئ وعلي دغدغة نسيم الليل الخلوي الطري العليل.
    في الصباح تحركت العربة شمالاً، إذ لم يبق أمامها سوى محطتان سينزل محمد عند أولاهما، بالطبع هي ليست قريته - حلة مرجي - والتي تبعد شرقاً مسيرة أربع ساعات سيراً علي الأقدام، ولكن أضطر محمد للركوب لهذه المحطة بعد أن تأكد من انه لا توجد عربة ستسافر إلي قريته مباشرة هذه هي أقرب نقطة يمر بها خط مواصلات إلي قريته. كان في السابق يربط بين هذه المحطة وحلة مرجي طريق برى للجمال والحمير والتي تحمل الخضروات ومنتجات السوق التي اشتهرت بها قريته، ولكن الآن اختفي الطريق إلا من بعض النساء يحملن بعض الأشياء علي رؤوسهن فقد نفقت الدواب ونضب ما يحمل عليها من خيرات. سينزل محمد عند المحطة القادمة ويتجه شرقاً عبر الفلاة التي كانت عامرة خلف قريته، إلي حيث ولد وتربي وتوجد والدته وإخوانه الآن، سيسير كل هذه المسافة راجلاً وحقيبته علي ظهره.
    كانت الساعة قد قاربت الثالثة ظهراً عندما وصل محمد إلي المحطة قبل الأخيرة. اخذ حقيبته ( الهاند باق ) علي ظهره واتجه شرقاً عبر مساحات شاسعة يتقطع فيها السراب وتملأها آثار (السروح) و(المقايل) ومخلفات البهائم وقعور القصب، أنها بقايا النعيم الذي كانت ترفل فيه هذه المنطقة. بقايا عهد منعم قد ولي. لقد كان محمد يعرف جيداً كل هذه المساحة الواسعة بين المحطة قبل الأخيرة وقريته، فهي (فلاته) التي كان يسرح فيها الضان. سهول وبوادي لا يحدها البصر، الوديان لا تحصي ولا تعد، كانت في فصل الخريف عبارة عن لوحات فنية بهيجة بأشجارها الخضراء العالية ووديانها المنخفضة التي يملأها الماء، الحشائش الخضراء تغطي أديم الأرض، والتلال ترتفع عالية خضراء. كنت تسمع ألحانا وأنغاماً ساحرة وسط هذه اللوحة الفنية البديعة ناتجة عن امتزاج أصوات الطيور وأصوات البهائم المختلفة، الطيور تشقشق علي الأشجار العالية، يأتيك من البعد البعيد صوت لقطيع ضان التقى بصغاره عصراً فتمتزج الأصوات وتتشابك فيما يشبه النغم الموسيقي البديع، صوت كلب يحرس قطيعاً أو بيتاً، ونهيق حمار تردد صداه الوهاد والأشجار إلي جانب هذه البوادي كنت تجد المزارع المخضرة بالدخن والسمسم والبطيخ. مناظر تثير في النفس البهجة والسرور. كل هذا النعيم قد تحول إلي جدب ويبس ونتج عنه نزوح مرير وتفكك للأسر وتشتت للأهل.
    قطع محمد مجموعة من القيزان الرملية متأبطاً شنطته، مساحات شاسعة أزيل غطائها النباتي واكتسحتها الرمال والأرض عطشى وجدباء.
    بعد السير المتواصل لاحت لمحمد حلة الحيمورة علي الأفق البعيد تبدو وكأنها ترتجف من اثر السراب الذي يفصل بينه وبينها، سيصل حلة الحيمورة عند الساعة الخامسة حيث يكون العطش قد بلغ منه مبلغاً عظيماً فيأخذ شربه ماء يستعين بها علي حرارة الجو والغيظ والعطش لبقية المسافة.
    لاحت له قرية الحيمورة ببيوتها المتفرقة، بعضها قد هجرها أهلها إلي أرض المعسكرات والنزوح بالأُبيّض وأم درمان - الغابة والمويلح. المنازل التي هجرها أهلها لم يستطع الزرب الذي وضع حولها من فروع الشجر أن يحميها من هجمات البهائم الجائعة والتي أقفرت فلاتها مما يؤكل، فأعملت فيها نبشاً وتخريباً فبدت مخلعة وعارية من أسافلها، لم تقو حيشانها علي مقاومة رياح الجفاف العاتية فانهارت. اتجه محمد لأحد المنازل في الطرف الشمالي الغربي للحلة، (قطيه) سوداء مائلة و(راكوبه) مهترئه وأعواد لا زالت مصطفة أمامها كانت في السابق بمثابة حوش يدارى واجهة المنزل. ساحة المنزل الداخلية بها سرج حمار وعنقريب تدلت حباله أرضاً من الوسط. أمام المنزل كان هناك طفلان يلعبان تحت شجرة الهجليج الكبيرة التي تقبع بصمود أمام المنزل. أكبرهما اتسخت ملابسه من الأمام حول صدره وبطنه حيث يتدلى حجاب تلكك بالأوساخ، الآخر كان عارياً تماماً بدت الأوساخ حول عنقه في شكل أطواق بيضاء، وأرنبة أنفه متسخة، ماعداهما تبدو القرية صامتة وكأنها خالية من البشر. سلم عليهما محمد فردا عليه السلام في استحياء:
    - أنتو أولاد منوه ؟
    - أولاد حسن.
    - وين أهل بيتكم ؟
    أبوى فات يلحق الجمل، وأمي وعلي وردوا البير ؟
    بيركم راوياكم موية ومليانه والا لا ؟
    - مرات بتنغرف ومرات مليانه موية.
    أجال محمد ببصره شمالاً فلاح له منزل يبدو أنه مهجور، فسأل :
    - وداك بيت منوه ؟
    - بيت جابر، سافر هو وأولاده إلي أم درمان.
    - طيب اسقوني لي موية.
    دخلا إلي ( القطية ) التي قفلت بسدادة مصنوعة من المرخ وجذور الأشجار تآكلت أعاليها. كان محمد يسمع صوت غطاء الزير يزاح من عليه. وبعد قليل أخرجا له ماء في إناء متسخ يحمله الطفل الأصغر ويمشي ببطء والماء يعلو وينخفض علي أطراف الإناء من اثر وقع أقدام الطفل وهو يمشي بشيء من الرهبة وقد ثبت عيناه علي الغريب الزائر. كان الطفل يحتضن الإناء إلي صدره بقوه، وكان الماء يرتفع متجاوزاً حافة الإناء إلي صدره ثم ينخفض إلي قاع الإناء مصحوباً ببعض ما علق بصدره من أوساخ في شكل أشباح سوداء تبدو واضحة بالماء للوهلة الأولي ولكنها سرعان ما تذوب فيه. مد محمد يده وتناول الإناء وقد تركت أصابع الطفل الصفير علامات سوداء علي موضع قبضتها علي أطراف الإناء. كان محمد قد أشتد به العطش فلم يعبأ بشيء من ذلك. أخذ الإناء وشرب كثيراً قابضاً علي عضلات انفه حتى لا يشم أو يتذوق شيئاً يمنعه عن الشرب. شرب كثيراً وأرجع الإناء للطفل. ثم واصل سيره من حلة الحيمورة شرقاً عبر الوادي المعروف لديه. بعض الأشجار الكبيرة واضحة المعالم لا يزال يذكرها، كما هي لم تتغير حتى الآن نفس الشكل السابق، فقط جافة هي الآن.
    الخلاء الصامت بعد أن كان في السابق كثير الحركة، قطعان الضان والماعز والأبقار تملأه ضجيجاً. الطيور لها أصوات مختلفة، نعيق غراب، خوار ثور، كل شيء يدل علي الحياة والحركة، ولكن الآن سكون موحش إلا من الهواء الساخن يهب من الناحية الشمالية منبئاً بطول فترة الصيف.
    سار محمد مسافة طويلة في اتجاه الشرق قبل أن يقرر الجلوس قليلاً للاستجمام. جلس علي ظل أحد الأشجار الكبيرة يتأمل المحل، فلاته التي كان يرعى فيها أغنامه في السابق، نفس الأشجار الكبيرة ما زال بعض منها علي قيد الحياة، البعض الآخر لم يبق منه سوى جزع كبير يرتفع قليلاً عن الأرض تتشبث به (الأرضة )، والبعض الآخر ينام حطاماً. الأشجار الشاحبة بدت أكثر تفرقاً من ذي قبل، شجرة سيال عجوز نحتتها الرياح من أسفل حتى برزت جذورها وبقيت وكأنها تتشبث بالأرض وتقاوم حتى لا تقتلع. لاشيء بقي علي حاله، الأشجار الكبيرة اندثرت، أما الصغيرة فقد جفت وذبلت بعد انقطاع الماء عنها وهي لا تزال في طور النمو الأول. القليل من المعالم بقي علي حاله ويمكن الاستدلال به علي سلامة اتجاه السير. أسترجع محمد ذكرياته أيام الماضي مع الغنم في ( الشوقارة ) بتلك المنطقة، تذكر ( مقيلته)، محل (التايه) حيث كان والده يتركه مع الغنم ويرجع له من السوق ومخلاته مليئة بالخيرات : طحنية، بلح، رغيف، سكر..... الخ.
    جذب محمد رجليه حيث شعر بالخدر والتعب ينتابهما فصارتا ثقيلتين كما شعر بالتعب يتسلل إلي السلسلة الفقرية ومؤخرة ظهره.
    أغمض عينيه فإذا هما دافئتان وشيء ما ينقر علي رأسه كنقر الشاكوش. أحس بقرصة الجوع، نظر أمامه، فلا يزال المشوار طويل وقد نسي أن يأخذ معه زوادة من المحطة الأخيرة التي نزل فيها، تبقت له ساعة ونصف من السير علي الأقدام ليكون مع والدته وإخوانه. الفلاة التي كانت مليئة بالحشائش وآثار البهائم والفار والحشرات والطيور وبراغيث الأرض المختلفة، الآن ما هي إلا مساحات ممتدة من الرمال شكلت منها الرياح كثبان متساوية أو متفاوتة ومتعرجة السطح. بقايا لبهائم ماتت وبقيت جلودها كالرقع المرميه تبدو تحتها عظام بيضاء. ما عدا ذلك فالأرض حمراء لا أثر فيها لبشر ولا طير أو فأر. ذم محمد شفتيه مبدياً أسفه علي تلك الأشكال الجميلة من الطيور التي صارت المنطقة خالية منها.
    لاحت له شجرة هجليج كبيرة، إنه يعرفها جيداً، نعم إنها ( أم طَرَق ) سماها الرعاة كذلك لأنها كانت شديدة الخضرة ولكبر حجم أوراقها. وقد تعارف النّاس علي تسمية الأوراق بالطَرَق. يعرفها محمد جيداً ويألفها لأنها كانت ( مقيلته ) في الزمان السابق، أهتدي لصحة الطريق وعرف موقعه من القرية.
    بعد سير متواصل وجاد برزت له حلة مرجي من علي البعد خلف المساحة العارية التي كانت مخصصة للزراعة إبان الخريف في شكل شريط أسود من الأشجار الممتدة شمالاً وجنوباً حيث ترقد مجموعة من قرى شمال كردفان دون أن يعلم بوجودها أحد. إنها منسية تماماً. لم يستطع محمد تحديد حلة أولاد مرجي تماماً وخشي أن يوصله الطريق إلي الشمال منها أو الجنوب. لقد كان يتعرف علي معالم الطريق هنا بتمييزه ( للمقايل ) والمقيلة هي شجرة خضراء ظليلة يتركها صاحب المزرعة وسط بلاده بعد أن يقطع بقية الأشجار ليقضي فيها وقت القيلولة ويضع فيها أمتعته. قطع محمد المساحة الخالية ودخل إلي الوادي العميق حيث قريته. الشمس قاربت أن تختفي، وبدأ الظلام يزحف ببطيء ليلف الوجود بعبائته السوداء. أقترب محمد من موقع البيت حيث لا ماعز ولا خضرة ولا اثر لإنسان أو حيوان. لا شئ حي متحرك سوى ( أبو الجندب) القابع علي شجرة كبيرة يملأ الدنيا صريراً.
    علي طول هذه الرحلة والتي استغرقت زهاء الأربع ساعات لم يقابل محمد بشراً سوى الأطفال الذين سقوه الماء في تلك القرية المهجورة، لهذا أنتابه شعور بالخوف والوجل علي عائلته، هل تراهم ما زالوا موجودين؟ يتوقف محمد قليلاً ليستنط، لكن لا شيء سوى صوت ضربات قلبه يرتفع: دق... دق... دق...، وشئ ينقر علي رأسه ( كالنوبة )، لا حركة ولا ضوضاء، نظر محمد للأرض تحت أقدامه، لا اثر لإنسان أو حيوان، لا شيء سوى المجهول والصمت الرهيب يلف الوادي.
    يكرر محمد السؤال علي نفسه: هل يا ترى هم موجودون داخل هذا العدم المخيف؟ أم أنهم هاجروا إلي مكان ما؟ أم أنهم....
    ولكن لا. يرفض فكرة السؤال ويندفع في وجل نحو المنزل.
    أقترب محمد من المنزل الذي بدا حزيناً موحشاً. الأشجار التي أحاطت به بدت شاحبة مكفهرة وكأنها تعزى في مصيبة ما. زحفت الرمال علي البيت من الجهة الشمالية وتمكنت من اقتحامه في بعض المواقع. لم يتمكن محمد من التمييز بين أن يكون بالمنزل سكان أم لا لأن واجهة المنزل كانت إلي الشرق بينما أتي محمد من الغرب.
    استدار محمد حول البيت من الناحية الشمالية وقلبه يخفق في وجل وعند المدخل فوجئ بأخته الصغيرة بخيته. لقد بدت هزيلة وملابسها متسخة، وآثار دهن علي يدها وفمها حيث تجمعت صغار النمل لتلعق منه. نظرت بخيته إلي محمد نظرة اندهاش واستغراب، علها لم تعرفه. سلم عليها محمد في شوق وإشفاق، أخذها إلي حضنه وقبلها حتى علق النمل بفمه، وسالت دمعة حارة من مآقيه. ولما استفسرها عن والدته وأخيه الصغير، عرف منها أنهما ذهبا مع ما تبقي لهما من ماعز في وسط الوادي يقطعان لها الأغصان الخضراء من رؤوس شجر الهجليج لتقتات به. لا شىء يذكر بالخضرة والحياة سوى شجر الهجليج. بدأ محمد يتجول حول البيت يدور في رأسه الكثير من الأسئلة حتى وصل أخوه الصغير. سلم عليه محمد وسأله في تلهف عن والدته حيث اخبره بأنها تأخرت خلفه تشكو المقص الشديد. لم يستطع محمد انتظار وصولها للمنزل، اصطحب أخاه ورجع يقتفيان الأثر حيث عثر علي والدته منطرحه أرضا تتلوى ممسكةً علي بطنها. سألها محمد عن سبب ذلك فطمأنته بأنه عادى تعرض له أفراد القرية الذين بقوا وأنه نتج عن تغير الطعام. إذ أنهم اصبحوا يقتاتون علي الفاصوليا والعدس وزيت كبد الحوت وأشياء أخرى لا يعرفونها تقدمها لهم منظمات الإغاثة.
    ورغم حرج الموقف إلا أن محمد كان سعيداً بوجوده مع أسرته. لقد عرف أن الكثيرين من أهل القرية يشكون من المقص والإسهال والتقيوء، زار محمد اكثر من ثلاثة منازل مجاورة لهم، رائحة زيت كبد الحوت تزكم الأنوف. ما دخل بيتاً قط إلا واستقبلته رائحة زيت الإغاثة. يشمها في الإناء الذي يقدم له فيه الماء، وفي يده كلما سلم علي أحد، وما أكل أحد قط زيت الإغاثة إلا وعلقت رائحته بيده لا تبارحها بأي شيء غسلت، فإذا امسك بإناء دمغه بها، وإذا سلَّم على أحد علقت الرائحة بيده، رائحة كريهة كرائحة السمك أول ما يُستخرج من البحر. سحابة من الحزن غطت وجه محمد، الخير والبشر والبشاشة التي عهدها في القرية حل محلها الفقر والجوع والمرض والقحط، لم يفارقه الإحساس بالضياع والمجهول، بات محمد ليلته طاوٍ على الجوع لم يتناول شيئاً، فنفسه لم تستحسن ما قُدِّم له بالإضافة إلى خوفه من المرض، وفي الصباح تجول محمد حول أرجاء القرية، لا شئ غير الرمال والجفاف والقحط، الماشية انتهت جميعها، مجموعات الماعز الموتى مفرقة حول القرية في أوضاع وهيئات مختلفة وفي أزمنة مختلفة، بعضها صار عظاماً بيضاء مفرقة، وبعضها لم تتفرق عظامه والى جانبها رقع الجلود، بعضها ما زال ليناً مهترئاً تفوح منه رائحة كريهة، الحي منها في طريقه إلى نفس المصير يثير في النفس الشفقة ولا أمل، تراها بارزة عظامها وكأنها علي وشك أن تخترق الجلد الذي تساقط عنه الصوف وبدا جاهزاً لصناعة دف أو طبل وصاحبه لا يزال حي يسعى. تراها تائهة كالشبح ترفع رأسها لأعالي الأشجار التي أصابها القحط هي الأخرى ثم تخفضه إلي الأرض بحثاً عن شيء يمكن أكله دون جدوى، وتقطع مسافات بعيدة بحثاً عن قشه تقضمها وتعود بلا زاد، قرأ محمد في عيونها الحيرة والعذاب، الحمير لا يمكن ركبوها أو حمل شيء عليها لا يستطيع الواحد منها النهوض من علي الأرض إلا بمساعدة صاحبه بعد أن كانت تمرح وتنهق فتوة ونشاطاً، فسبحان مغير الأحوال من حال إلي حال، كل شيء في طريقه إلي أن يتلاشى ومازال أهل القرية ممن بقي بها ينتظرون المجهول، تقرأ القحط واليبس والجفاف في كل شيء ولا أثر لخريف محتمل القدوم. لقد كانت الأشجار في السابق تخضر قبل الخريف وفي مثل هذه المواعيد ولكنها لم تعد كما هو مفترض. زار محمد منزل خاله حسنين، لقد شاءت إرادة الله لتلك الأسرة الفقيرة المؤمنة أن تذوق مر الحياة في معسكر الأُبيّض بعد أن مات عائلها وطفل عزيز عليها. الكثير من الأطفال والصبيان والطلاب انقطعت بهم سبل الحياة فتاهوا في غياهب المدينة لا أحد يعرف الآن عنهم شيئاً.
    رجع محمد بعد جولته حول القرية متحسراً يائساً، إلا أن وجوده وسط والدته وأخوته وفرحته بنجاتهم حتى الآن وذكريات صباه الأولي بالقرية خففت عنه المرارة. وبينما محمد غارق في التفكير إذ بأحد أطفال القرية يولول فرحاً ويشير بيده ناحية الشمال الشرقي ويصيح :
    ( لقد طارت أم بشّار ).
    وتلفت الجميع لينعموا برؤية أول سحابة تحمل البشارة بقدوم الخريف. جميع منجمي تلك المناطق يجمعون علي أنه عندما تظهر سحابة غير مسبوقة في هذا الوقت بالذات وبهذا الحجم والشكل ومن هذا الاتجاه بالذات، فإن الخريف مضمونٌ مضمون.
    وحملق الجميع في السحابة وكلهم أمل ورجاء. وتمتم محمد بالشكر لفرّاج الكروب الذي شاء أن يجعل من بعد عسرٍ يسراً.
                  

08-28-2003, 01:08 PM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 752

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    ***
                  

08-28-2003, 04:49 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    شكرا يا استاذ احمد لانك قرأت ورفعت هذا الكاتب "المهمش". ربماتعرف كم ستكون جماهيريته كبيرة لو كان اسمه هيثومي او عصومي وكان من الرياض او الطائف ــ انت الناس ديل ليه ما سموا مكة ولا بغداد ولا القاهرة، خليك من نيروبي ولاغوس؟؟ ــ وكان يكتب عن الايسكريم وانقطاع الكهرباء والانترنت.. ولكنه مسكين اسمه حمد وبكتب عن الجوع والجفاف وعن كردفان والتصحر

    كلو باوانه


    تحياتي
                  

08-28-2003, 10:07 PM

Nada Amin

تاريخ التسجيل: 05-17-2003
مجموع المشاركات: 1626

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    الأخ الكريم الصاوي
    هذه القصة تجسد مأساة الانسانية المعذبة بكل أبعادها. و هي حافلة بأوصاف تصويرية قوية تعكس صراع الانسان الأبدي ضد عناصر الطبيعة الغاضبة و التي تتضامن معها بكل قسوة الأنسجة السياسية و العرقية الظالمة و التي تلقي بظلالها السوداء البغيضة على حياة أهلنا البسطاء المسحوقين فلا تزيدهم الا فقرا على فقر و بؤسا و شقاء و قلة حيلة.و تظل قضايا هؤلاء المهشمين هاجسا يؤرق مضجعي و مضجع الكثيرين و ذلك لادراكنا،مهما حاولنا بالقول أو الفعل، بعجزنا التام عن مقدرتنا على تغيير واقعهم القاسي الكئيب . وزي ما قلت كل شئ بأوانه . و بالرغم من حزني الشديد على حال ام حمد ساري الليل لكن تعليقك لاحمد المالك أضحكني كثيرا لو كان الكاتب اسمه عصومي و لا هيثومي كان البوست ده عمل ضجة...حقيقة فعلا بوست جدير بالقراءة و التأمل و يا ناس البورد فاتتكم لحظات انسانية رائعة.شكرا الصاوي فأنت أول من رحب بي في هذا البورد و أعطنا المزيد من هذه المواضيع الجادة... و دمت.
    ندى
                  

08-29-2003, 12:39 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)


    شكرا يا ندي على الطلة والكلمات الطيبة

    الحقيقة السودان دا كبير كبرة ما معقولة، وفيه من العجائب والغرائب والمجاهيل ما لا يحصيه عد، ولكن للاسف الكثيرون لا يعرفون سوى بعض احياء العاصمة، اقول بعض، لان منطقة في ام درمان اسمها انقولا "انظري لدلالة اختيار الاسماء مقارنة بالرياض مثلا" علمتني عن شعوب وثقافات جنوب السودان اكثر كثيرا من عشرات الكتب والقراءات والاحاديث، مجرد مثال

    لقد سافرت ذات مرة في الصحراء لمدة 7 ايام مستمرة ومتواصلة بالسيارة، لاجد بعضا من قبائل الكبابيش قرب الحدود الليبية وهم يعيشون في بيئة نسميها "الجزو" وهي اعشاب قليلة شبه جافة وصحراوية الله اعلم لماذا تنبت في ذلك المكان، تقتات عليها ابل الكبابيش. المدهش ان الكباشي يركب الجمل وعنده "مخلايتين" ــ جمع مخلاية وهي حقيبة من الجلد تحمل على ظهر الجمال ــ في احدها زاده وشرابه، وفي الاخرى، تصدقي، كتبه والاهم: الراديو، حيث يتابع، حينها، اخبار الاتحاد السوفيتي وجنوب افريقيا وحرب فيتنام!! ولكن الناس في الخرطوم لم يسمعوا بالجزو ولا بالذين يعيشون فيه


    حتى اذا قامت الحرب، قالوا: لماذا؟؟ قطاع طرق؟؟ متمردين؟؟ الخ الخ الخ

    امامنا الكثير لنتعلمه ونعمله

    وكلو باوانه

    ولكم الود والتحية
                  

08-29-2003, 03:56 PM

Nada Amin

تاريخ التسجيل: 05-17-2003
مجموع المشاركات: 1626

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    الأخ الصاوي
    شكرا على التعقيب الجميل و لتعاطفك الحقيقي مع قضايا المهمشين و الذي لمسته في كل بوستاتك السابقة.
    لكن شايفاك قايلني حنكوشة وتشرح لي معنى كلمة مخلاية و الله يعلم أني لست بحنكوشة بالرغم من اقامتي لمدة الثلاثة سنين الأخيرة في أمريكا.و قد عشت كل حياتي السابقة في السودان ما عدا سنة واحدة في مدينة دلفت الهولندية بغرض الدراسة، بالله كيف هولندا. طوال فترة اقامتي في السودان كنت أعمل مع منظمات الاغاثة و النازحين و لقد رأيت بعيني أنينهم و وجعهم الصامت الغير محسوس بيه سواء في معسكرات النازحين في الخرطوم أو في جنوب السودان مثل ملكال و ما جاورها من قرى تتلظى بنيران الفقر و تدهور صحة البيئة. حقيقي أشعر بتضامن غريب مع هؤلاء الغبش و الغلابة و أتمنى لو كنت أستطيع أن أفعل شيئا من أجلهم و لكن ماذا بيدي و أنا قليلة الحيلة أيضا؟لكن أخي الصاوي دعنا نستمر في محاولاتنا لتوصيل صوت من لا صوت لهم الى الآخرين و دعنا نأمل أيضا في هطول الغيمة.
    بالمناسبة كلامك صاح حسه لو البوست ده كان عنوانه فيه شكلة أو تهنيئة عيد ميلاد كان عدد قراءه وصل ألف... و لكم الله أهلنا الغبش...و المطره حتجي.
                  

08-29-2003, 09:04 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)


    الاخت الفاضلة ندا، لك التحية، وشكرا على تعقيبك

    اولا اعرف انك "ما حنكوشة" لسبب بسيط هو اهتمامك بالانسان، ومعرفتك العميقة. وثانيا، وهذا ربما من غرائب الصدف، أعرف من تكوني بالتحديد ليس بحكم اني من الابيض فحسب، بل لان لي علاقة نسب اعتز بها بالاستاذ محمد على المرضي، ولعلك تعرفين الباقي

    ثانيا نرجع لموضوعنا. نستطيع، انا وانت والاخرين، ان نفعل شيئا للغلابة الذين هم ملح ارضنا واساسها وعماد وجودها وثقافتها وحتى اقتصادها، مما لا يعرفه الكثيرون. نستطيع ان نحكي عنهم حتى لا يصيروا نسيا منسيا، ونستطيع ان نوضح حقوقهم على المتعلمين ناس العواصم والقصور السامية والاسامي الاجنبية والشنط السامسونايت، الذين لا يعرفون ان لحم اكتافهم، ودولارات دراستهم، وسياراتهم الحكومية، وكرفتاتهم الحريرية، هو من خير هؤلاء الغبش الغبر
    نستطيع ان ننشر ثقافنهم الثرية، وان نعكس اوضاعهم للدنيا وللعالم، واول شئ للسودان نفسه، فهو كبير كبير، ومجهول، وجاهل: اي ان بعضه يجهل بعضا
    ونستطيع ان نحتفظ لهم بالوفاء، وبالجميل، وان نرد لهم الدين ما استطعنا، على الاقل من باب الاقرار بالفضل، الا نستعلى عليهم والا نغمطهم حقوقهم والا ننظر اليهم نظرة الحقارة والدونية التي ينظر بها الكثيرون لكل من يقع خارج مثلث الانهار الثلاثة
    ونستطيع اكثر من ذلك

    لكن كلو باوانه

    ولك الود والسلام
                  

08-29-2003, 09:31 PM

Nada Amin

تاريخ التسجيل: 05-17-2003
مجموع المشاركات: 1626

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    الصاوي
    شنو المفاجأت الحلوة دي؟ يعني طلعنا أهل و أنا ما عارفه و لاشنو؟ طبعا عارف انه المرضي متزوج عمتي. بالله قرابتك معاهم شنو؟
    نعم كل الأشياء التي ذكرتها عن كيفية مساعدة أهلنا الغلابة صحيحة و أنا قد عملت بعضا منها و أتمنى أن أوفق في عمل المزيد. بس قصدي من البوست السابق انه بالرغم من كل الجهود التنموية المبذولة الا أني أحس في لحظات كثيرة باحساس عارم بالخيبة و الفشل فخريطة حياتهم الكئيبة لم تتغير و ...أخشى أنها لن تتغير أبدا .
                  

08-29-2003, 11:40 PM

bushra suleiman
<abushra suleiman
تاريخ التسجيل: 05-27-2003
مجموع المشاركات: 2627

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    عزيزى الصاوى
    لازال فينا امل ومازلنا نحلم بحروف معجونه بى عرق الناس وغبار رجلينهم،ويوما ما حمد انوارو تشع وكل الناس تعرفو
    شكرا ليك على هذا الشخص المدهش
                  

08-30-2003, 08:26 AM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)

    الاستاذ بشرى لك التحية والود ، والشكر على تشريف هذا البوست والاطلاع

    نحن في السودان يا استاذ لم نجعلها ثقافة وعادة عندنا ان نحترم كل الناس ونعطيهم قدرهم، قدر الواحد كانسان، كفرد متفرد وكمبدع، رايت وتألمت عندما اشار لك بعضهم اشارات يفهم منها ان مخالطتهم لبعض المبدعين تجعلهم فوق الناس الاخرين، وهم لا يعرفون انك انت احد اعمدة الابداع التي يستند عليها بعض المغنيين الذين ورد ذكرهم

    بلدنا الواسعة دي بدل توسع قلوبنا ومفاهيمنا، صرنا اضيق من خرم الابرة بصيرة ونظرا، فمتى نتعلم من اهلنا الدينكا والفور والحلفاويين اصول التعامل المتحضر، وهم الذين في اقاصي البلاد ولكن ثروتهم من التقاليد الراسخة والمرعية تكفي العالم كله، واسالوا دارسي الانثروبولوجي الخواجات

    ندا: نعم، وساكتب لك في المسنجر

    ولكم التحية والتقدير
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de