بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 09:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-02-2003, 03:21 AM

Husam Hilali
<aHusam Hilali
تاريخ التسجيل: 02-21-2003
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة

    إلى أعزائي البورداب
    أحيكم تحية محب أبعدته الظروف عن دروب التواصل
    وأدخل في موضوعي مباشرة :
    قبل عام مضى ، شرعت في كتابة قصة على ورق فلوسكاب غريب الشكل بقلم جاف أخضر (خضر الله أيامكم) ولكنني بعد أسطر متناسلة بلا طريقة للتوقف .. توقفت ! بعد أن خشيت السقوط في فخ رواية لا يمكن اكمالها في الوقت الراهن بالنسبة لي .. فكان جزاء كبرها – مقارنة مع أخواتها من بنات أفكاري – الابعاد ووضعها في الجانب القصي من الدرج .
    ولكني بعد مداولة مع نفسي ( الأمارة بالسوء ) أثرت على استئناف تدوينها بعيد أن تصفحتها بتمعن لعدة مرات بدت لي حروفها فيها تترجاني بأن أعاود انطوائي عليها حتى ولو كان لون القلم مختلفاً .. أو دون قلم .. فكان الكمبيوتر .. وكانت الانترنت ... وكانت ، سودانيز أون لاين .
    فقد اقترحت على نفسي ( نفسها ) أن أباشر كتابة القصة من جديد ، وبتسلسل عبر البورد - وإن كان مر على مولدها غير المكتمل عام - ..إلا أن ذلك يحدث لكي يحفزني ذلك ( مع وجود تجاوب أو صمت رضا ) على اكمالها بالشكل الأمثل .. يساعدني في ذلك اختمار صورتها داخل ذهني .
    وها أنا ذا أيها السادة .. أعرقل تصفحكم للبورد بالحلقة الأولى ، لقصة عنوانها ( في رثاء ثلاجة ) أرجو أن تنال منكم .. ما تستحق .






    في رثاء ثلاجة...

    الحلقة الأولى


    كانت تدرك تمام العلم أن زوجها سوف لن يأتي باكراً على غير ما كان عليه قبل عشرين عاماً مضت كالحلم، لقد اعتادت " ثريا " السهر حتى بزوغ الفجر في انتظار بعلها، وحين يفترض أن يكون طائلها قد أدرك. لا تنال ساعتها على علامات استفهامها – ثعبانية الانحناء على حد تقييم زوجها – سوى السباب... ويتطور الأمر أحياناً إلى الصفع والضرب.
    وخلال استمرارها في مسلسل انتظارها الليلي الطويل.. وامتطائها لرتابة عقارب ( ساعة الجيران ) خطوة بخطوة وثانية بثانية، يدخل ابنها الصغير إلى الحجرة دونما طرقات للاستئذان سائلاً أمه في براءة وهو يدعك بيده عينه اليسرى:
    - أمازلت ساهرة ؟
    -.. كالعادة !
    عينه بالكاد تفتحت:
    - لم يأتي بعد إذن !
    - ترى لو جاء هل كنت سأبقى مستيقظة على هذا النحو ؟
    الابن نادماً:
    - آسف ... أعلم أن أسئلتي ما زالت غبية.
    بلا تطيب لخاطره علقت:
    - حسناً.. يمكنك العودة لمواصلة نومك, فقد اعتدت طوال هذه السنين على شغل هذه الوظيفة وحدي.
    دقت أجراس ساعة الحائط في بيت الجيران – نسيت إخباركم أن ساعتهم قد بيعت – معلنةً عن بلوغ سهرها إلى الثالثة بعد منتصف الانتظار. وبعد أن أفرج القدر عن سراح فكرها المشغول به، أدخل الزوج مفتاحه في قفل الباب بيد مرتعشة محاولاً فتحه وهو الذي لم يسلم من اللعن. دخل الرجل أخيراً في خطوات مترنحة لأرجل تفرع عنها كيان مخمور حتى الثمالة. ينشد أغاني ليلية هابطة في بلد اللاصعود بصوت نشاز أقرب للتجشؤ:
    - يا ليل ... لا ترحم النائمين والكسالى
    الذين لا ( يشهق ) يعرفون متعة السهر
    حتى قدوم موعد السحر
    في الانشغال بالكلام و... السمر
    واحتساء الخمر... حتى ( شهقة ) السكر
    لتمل منهم النجوم والقمر.
    ( انتهت أغنيته البشعة )

    دخل " فتحي " فاتحاً لغرفه النوم دون قتال إلى الآن . ألقى نظرة حمراء على زوجته الملقاة على السرير لبريهة، ثم انقاد تسوقه رغبته إلى الراحة نحو خزانته لتغيير ملابسه، وبعد تغييرها ( مع بقاء الرائحة ) توجه تباعاً صوب مخدعه وفاهه يفغر متمتماً:
    - جئتك من أقصر الطرق. لا أريد ( يشهق ) سماع شيء ، ولا أريد مهاترات صباحية ، وإلا ...
    تكونت كلماته في المسامع فقاقيعاً ترغو، بحيث تكفيه لينعم بنوم هادئ حتى صباح الغابرين، وزوجته – التي لا تجرؤ على تفجير تلك الفقاقيع - تتحامل على نفسها من العبرات التي انتابتها كالنزيف في ساحة المعركة ، غير قادرة على إغلاق جفن بعد أن فتح " فتحي" غرفتهما ، ونام .
    يتبع ...

    (عدل بواسطة Husam Hilali on 08-03-2003, 05:20 PM)

                  

08-02-2003, 04:00 AM

Modic
<aModic
تاريخ التسجيل: 12-19-2002
مجموع المشاركات: 872

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    حســام أيها الرائع ..
    بدايه موفقه .. بانتظار البقيه ..
    صدقني حتكون تجربه مفيــده جدا ..
    و حنحاول نناقشها قدر الامكان ..
    لك المدي ..
    * ملاحظه : دخلت المسنجر أول ما لقيت رسالتك و ما لقيتك ..
    لي عــوده ..

    مــودك
                  

08-02-2003, 09:58 AM

AlRa7mabi
<aAlRa7mabi
تاريخ التسجيل: 08-15-2002
مجموع المشاركات: 1343

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)


    الرائع حسام

    .. بهذا – عوضاً عن العرقلة – نجدك تمهد لنا طريقاً حريراً نسحب أعيننا عليه ( الهوينا ) لا لكي نسـترق النـظر .. ولكـن لنطيـل ( الإدامة ) والتفرس في هذه الحروف التي تخللها خيطاً ملائكيا فصارت عقداً نضيد .. يا حسام هذا نسجاً ماهراً .. وحرفاً رشيقاً .. وإنا لمعاقرون هذه الكأس .. وإن ذهبنا ( أخريات ) الليل عند إنحناءات ساعة تهتز عقاربها على جدار حائط احترف الصمت

    .. لك الود أجزله وأجمله


    الرحمابي
                  

08-03-2003, 05:10 PM

Husam Hilali
<aHusam Hilali
تاريخ التسجيل: 02-21-2003
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    أعزائي ( ولا أقول عزيزاي فالواحد منكما عندي بمنزلة العشرة ) 1
    أشكر لكم شدة العضد هذه وأرجو أن تنال منكم الحلقة الثانية ما تستحق كذلك ..

    (عدل بواسطة Husam Hilali on 08-03-2003, 05:14 PM)

                  

08-03-2003, 05:19 PM

Husam Hilali
<aHusam Hilali
تاريخ التسجيل: 02-21-2003
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    الحلقة الثانية

    صباحاً، أزهرت " ثريا " في المطبخ، يفوح أريجها على الأطباق تبغي نشره في دواخل ابنيها.. والزوج المرمي هناك على السرير، وقد تناست صور الليالي الماضية بتكرر رغم تراكمها داخل كينونة الذاكرة . أخذت تعد شايها الصباحي رغم شح المعونة. واليد المبتورة التي لم تعد موجودة حتى بضيق ذاتها. كانت تتحمل ادقاع الفقر، وغرق الإفلاس. وهي مصممة على اعداد الشاي. بطريقة أسطورية تتفتق فيها عقليتها الاقتصادية: نصف ملعقة من الشاي تهطلها فوق الماء المغلي، تكمل بها ربع كوب لكل فرد من الأسرة، ثم تعاود تكرير ( التفل ) بزبده. بطريقة سرية لتنصف لكل كوبه. أما اللبن الذي تجلبه من عم " با بكر " البقاري الباقي على مهنة أجداده محافظاً بذلك على أصالته رغم كونهم في هذه المدينة البعيدة عن معاقل الريفيين المهمشين، فإنها لا تبدي إنزعاجاً من تخفيفه للبن ( المغشوش ) بماء الخور. وأحيانا ً بماء زير الفكي علي المبخر فخارها ببخور الصندل مما يعطي للماء نكهة فرح. وللبن طعم الازدواج. في الحقيقة.. لو لم يكن العم " با بكر " يصنع لبنه الخاص ( نزيف ثدي بقرة وانسكاب جوف زير ) لكانت " ثريا " ذاتها غشت اللبن بماء الصنبور، لضرورة اقتصادية بحتة.
    على عكس العالمين.. كانت تخزن السكر في ثلاجتها المفضلة ( وكأن لها غيرها ) تلك البيضاء الضاربة إلى الصفرة، فكانت تضع جويل السكر المرقع بعد إخراجه من الثلاجة في الزاوية المسقط عليها ضوء الشمس في ذلك الوقت من الصباح، على الطاولة، حتى تذيب الشمس غير قاصدة الهالة الثلجية المحيطة بالجوال الصغير، تفعل ذلك لكونها تعترف بوجود جحافل من النمل لا تهاب النعال الزؤام، تشاركهم جوعهم في جحرهم الكبير ذاك، وتضيف: لو كان هذا النمل موجوداً بدل أجداده أيام الملك سليمان ( تنسى قول: عليه السلام.. دائماً ) لما دبوا هاربين من جيوشه مصغيين بذلك لصاحبتهم الفصيحة الواردة في الكتاب !
    في الثلاجة أيضاً كانت تخزن العجين الذي يعتبر نواة الزلابيا* اللذيذة التي تصنعها، ولكنها امتنعت عن صنعها مؤخراً.. منذ آخر يوم دخل فيه دقيق القمح كمادة زائدة عن الحد إلى بيتها.
    تزاول وظيفتها التي تلازمها حتى الهبوط الأخير إلى القبر تنفيذاً لما ورد في عقد النكاح دونما انتظار لنيل أجر من أحد. فهي حتى اللحظة ما برحت – والقيظ يتسلل مع مرور النهار - تقوم بتقليب ذرات السكر بالملعقة، التي كان صليلها الناشئ من احتكاكها مع الأكواب الزجاجية - وهي تبدأ في تكوين صدأها رغم أن لا صلة رحم بينها وبين الحديد - يشابه جرساً يدق وهو مغطى بملاءة من قماش. وعلى مبعدة أمتار قليلة.. كان ابنها الأكبر " ربيع " – الذي ورث منصبه كبكر بعد أخ له رحل عن مقت هذه الدنيا – يغني بصوت أبرالي تحت زخات حمام خال من الصابون. وكأنما يلقي قداس أحد للا أحد. فيعطي بذلك للمشهد طابعاً كنائسياً.
    مر الابن " راشد " بقداس الحمام متجاوزاً إياه للولوج إلى المطبخ. شرع يصبح على والدته وزارعاً لقبلة على خدها المجعد بعد أن انحنت له لنيل ثغره، على غير البارحة تصيرت عينيه متفتحتين. فأوسعهما بمشهد المطبخ إلى أن وصل للزاوية الشرقية. حيث تقبع على الأرضية المهترئة بالخطى ثلاجة العائلة. أبصرها بملئ محجريه تعوم حول بؤبؤيه، حتى انسلت خلسة دمعة من عينيه ويده ممسكة لبطنه المغردة بكل ألحان الجوع. تقدم نحو الثلاجة، ثم استل ذراعه من جيبه الفارغ فاتحاً لبابها.. أخذ يجول بناظريه مجدداً ولكن هذه المرة داخلها (وأغنية: نفسي في داخلك أعاين تتناسل أصداؤها داخل ذاكرته المشوشة )، بينما كانت أمه على مقربة منه تتفرس ملامح وجهه الخائبة.
    أغلق بابها، وباب أضغاثه المجهضة.. وآخر طل من تلك الأغنية التي كانت آخر ما سمعه من جهاز التسجيل ( الكاسيت ) قبل أن يباع، ينسحب من رأسه تاركاً للجوع التهام ما تبقى من تلافيف دماغية صالحة للنسيان.
    خرج " ربيع " من حمامه لإكمال الطقوس الروتينية لهذا الفصل العادي من يوميات الفقر في بيتهم. تآكلت كل حصصهم من كسر الخبز اليابسة ببطء، وقد ساعدت هي نفسها على جفاف كؤوسهم المعبئة بالشاي حين كانوا يبللونها به. لعل قلوب الحكومة تلين عليهم.. كما يلين الخبز بالشاي (الأحمر).. إن كان يلين !
    انتهى وقت الإفطار. كالجنازة بعد دفنها.. في بطونهم، ثم شيعت الأم ابنيها حتى الباب في طريقهما إلى المدرسة. بينما ظل على الطاولة كوب واحد أصابته وحدته وبقاؤه ممتلئاً ببعض الهيبة امتداداً لسطوة صاحبه، الذي لا يزال على السرير مشخراً حتى الساعة، بلعت " ثريا " شيئاً من الريق.. واستعاذة من شياطينها. وأولهم الذي تدخل الآن الحجرة لإيقاظه، بصوت دافئ تطفو على نغمته ارتعاشة قالت:
    - عزيزي فتحي.. عزيزي، ألن تستيقظ ؟
    فتح إحدى عينيه الناعستين، وعبوس على وجهه كصباحه:
    - ماذا تريدين ؟
    - ألن تذهب إلى عملك ؟
    - كلا !
    - لماذا ؟
    - ذلك المكتب اللعين لا يجلب غير النحس.
    لم تفكر ملياً قبل التلفظ بعبارتها التالية:
    - يبدو أنك مازلت ثملاً !
    انتفض بعينين توسعتا غضباً:
    - ماذا تقولين يا عجوز النحس ؟
    بدبلوماسية هرة.. طالبت:
    - أرجوك قم، اذهب إلى عملك لعل الله يجلب لنا رزقا.
    - سحقاً لك . حتى وإن لم أذهب إلى العمل فسوف أفر من لسانك السليط .
    خرج " فتحي" من منزله بعد احتسائه لشايه الذي سخنته له زوجته مجدداً ، بعد مشاداتهما الصباحية ، التي وإن تظاهر بتذمره من عمله بالمكتب القريب فيها ، فإنه لم يكن بالجدارة التي تخوله للبحث عن مهنة أخرى .. بسهولة.

    يتبع...

    (عدل بواسطة Husam Hilali on 08-04-2003, 08:49 AM)
    (عدل بواسطة Husam Hilali on 08-04-2003, 08:50 AM)

                  

08-05-2003, 10:51 AM

Modic
<aModic
تاريخ التسجيل: 12-19-2002
مجموع المشاركات: 872

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    رائـــــــــــــع

    UP
                  

08-10-2003, 09:17 AM

Husam Hilali
<aHusam Hilali
تاريخ التسجيل: 02-21-2003
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    الحلقة الثالثة :

    وصل أخيراً بعد ترجله عن صهوة الطريق المعتادة . التي من تكرر معاودتها لقدمي " فتحي" جعلت من ذاكرته ذاكرة حمار . دلف إلى المكتب محيياً زميله الذي يعلوه مرتبة ً دوناً عن بقية الموظفين:
    - صباح الخير يا أستاذ " عوض " .
    اعتلت عينا " عوض " سفح التذمر بعد أن رمقتا الداخل من فوق زجاج النظارة وهي التي كانت مشغولة قبل لحظة بحسابات المكتب :
    - بل قل مساء الخير.. أ هذا وقت تأتي فيه لمزاولة عملك ؟
    - آسف يا أستاذ. لكن لدي ظروفي الخاصة.
    - لا ظروف ولا خطابات، نحن لا نعمل هنا في البوسطة ! كلنا لديه مثل أعذارك القبيحة ، لكننا لا نفرط في ثوابت المهنة التي نقتات منها .. سيكون محقاً ذلك الذي يفكر في تسريحك من المكتب . أنهى عبارته عسرة الهضم دون أن يترك مجالاً للملاحظة في رأس " فتحي" من شقها الأخير جراء دخول المدير إلى المكتب مرحباً بعبارات كان لها وقع الزئير عند الموظفين الذين وقفوا مستعيدين بذلك صور المدرسة الابتدائية، فقام "عوض" من مكتبه متوجهاً صوب مديره، وبتودد لا يخلو من نفاق ضبع يتقرب من أسد، في حين اكتفى زميله برد تحية من ثغر استعار انفراج أساريره من انقباض قلبه خوفاً من بطشات المدير التي قد تؤدي إلى قطع عنق الرزق ، قال المدير موجهاً كلامه له:
    - لدينا زبون ينتظر خارجاً.. بعثه إلي أحد أقاربي، يود استئجار شقة مفروشة (محترمة) من ثلاث حجرات ( استخدم راحته في الوصف مكوراً السبابة والإبهام وباسطاً بقية أصابعه ) ، خذ المفاتيح... ( تحرك إلى مكتبه عابراً قرب " فتحي" ) ولن أوصيك على معاملته، إياك أن تخجلني مع ابن خالتي !
    إجابة تلقائية:
    - كما تريد يا سيدي.
    وقبل أن يدخل لتفت إلى سامعه منوهاً وعلى سحنته ابتسامة مكر:
    - اسمع .. لا تقرب فاهك من الزبون ، ولا أريد أن أشتم رائحة فمك هذه مرة أخرى !
    لم يسع " عوض " بعد انتهاء الحوار ، إلى أن يستقبل في أنفه إفرازات من أنزيم التطفل ليصنع دردشة خاطفة مع زميله مستهلاً إياها بعبارات لؤم :
    - لست وحدك من يصنع ما صنعت ليلاً . و(لكننا) نلتمس الحذر والحيطة حتى في أوج الثمالة . لا يحتاج الأمر إلى نصيحة ، تناول أي شيء يقضي على تلك الرائحة .
    حاول التنكر بزي المسكنة رغم عدم حاجته للتصنع :
    - وكيف لي الإتيان بثمن ربطة نعناع مثلاً ؟!
    أجاب مخزياً سؤاله :
    - كف عن هذا يا رجل ! من يحتسي العرق وتوابعه يمكنه تناول أرطال مما يشتهي ، ولا تحاول إقناعي بمجانية شرابك ، أو أنك تسكر بالدين .
    - حسناً . ولكن ماذا بشأن احمرار العين ؟
    - الأمر بسيط .. اشتري نظارة شمسية ! ( ربت على كتفه بهزة طفيفة ) لكل مشكلة حل يا (أبو الفتوح) !
    انقطع الحوار بين الموظفين لرنين الهاتف الذي انبعث من على مكتب "عوض" الذي سارع في تلبية نداء المجهول ، بينما تسمر الآخر في وقفته يراجع نفسه فيما ورد عليه من حديث . قاطع "عوض" محادثه على الهاتف ووجه ملحوظة لزميله المتصنم :
    - هاي .. هناك من ينتظرك في الخارج .. هيا انقشع !
    لملم الرجل شتات نفسه المبعثرة بين علامـات الاسـتفهام الكبيرة . وذهب لحال سبيله المنصوب بـ " فتحي" نفسه الذي هام على وجه سئم من الأقنعة حتى نضبت رتوشه من سبل اختلاقها .
    شيعه الموظف الجاثم على الآلة الكاتبة بنظراته ، ثم تابع الجنازة المتجددة لـه وعزى بقوله : كم هو مسكين غبي !
    امتعضت لهجة "عوض" من وصف ( مسكين ). فاستقطع من محادثه برهة بتغطية السماعة وقال للكاتب :
    - الغبي من عيّنه ! ثم واصل ثرثرته .
    نظر الكاتب للموظف الرابع المنزوي هناك مشدوها بفم تكور لما حدث به "عوض" !

    في الظهيرة ، كان الجميع محلقين حول الطاولة الخشبية العتيقة منتظرين لساعدي " ثريا " وهي آتية بطعام الغداء . إن كان يعد غدائهم ذاك طعاماً ! ظلوا يتصببون عرقاً كأن رابعتهم في المائدة هي الشمس ، وصدر مائدتهم المستأصل بالتصاقه في الجدار هو مشرقها .
    مكثوا متخيلين في أذهانهم صوت المذياع وهو يلقي نشرة الأخبار التي إذا ما أخطأ المذيع بقراءة تقارير البارحة إبانها. لم يلاحظ أحد أن في الأمر خطاً ما . تستمر بثرثرة مزعجة ليس بمقدور أحد إسكاتها حتى ولو بإتلاف الأذنين : آخر ما أشعلت الحكومة سعره ليطير صاروخاً مستنجداً برب سابع سماء . نشرة النعي والوفيات . آخر الحوادث والجرائم التي لا يفلت مرتكبيها من العقاب ( إلا إذا كان مجرماً برتبة وزير فما فوق ) ماذا صرح المسئول وبمن اجتمع ومن استقبل إلى من بعث وماذا أرسل وأجرى ... إلى آخر القائمة .
    تنحنح ( أبو الفتوح ) في جلسته ، ليتمخط عن تقليبه لجيوبه المرقعة سيجارة استعارها . غير تلك التي نالها كبقشيش على خدمة صغيرة ليست مجانية في قانون عمله الخاص . ناولها لـ " ربيع " آمراً إياه بإشعالها دون سعرها ( المجاني ) . لم يكذب الربيع المصطاف في جحيم والده بالذهاب إلى المطبخ متجهاً نحو الفرن المشتعل بعين واحدة . تطاولت ألسنة اللهب دون شتائم أثناء تسخينها لحلة الغداء الفولية ، حتى بلغت مقدمة اللفافة التبغية التي كانت النار في ضفة منها ، و" ربيع " بالضفة الأخرى .. يطوقها بفمه . منتهزاً تلك الفرصة كي يشفط عدة أنفس من ذلك النعيم ( الهاري ) . التقطته عينا أمه وهو يمارس شعائره المجوسية . تركت حوض المطبخ ومياهه متذبذبة بين الانهمار والتسلل ثم أكالت لولدها صفعة على قفاه بكف لطخ بزغب الخبز الرخيص ورزاز الماء ، وجسد المصفوع في ركوع أمام الفرن الذي تلقى والده ثمناً له مقدماً ، ولم يوصله لصاحبه الجديد بعد .
    استدرك الابن الألم بعد ثوان ، فانهال صياحاً على أمه :
    - هذا ما كان ينقصني . أبي يصرخ طوال اليوم في وجهي ، والناظر يضربني في كفيّ بحافة المسطرة كل صباح مثل الطبلة تقرع للنشيد الوطني ، وصعاليك الصف في المدرسة يركلونني كلما طاب لهم الركل ، وتأتي حضرتك بعد كل هذا لتتفضلي بضربي على قفاي وأنا أنفذ أمر أبي !
    - راجع نفسك .. وستجد أنك سبب أي عقاب يقع عليك . وأضافت توبيخاً بسبابة تتأرجح : كما أن والدك لم يطلب منك إشعال السيجارة بتخميسك لها معه !
    - كفى !! لا أريد سماع شيء . !
    - أ هذه لهجة تحادث فيها أمك ؟!
    - فلتصمتي إذاً . إن كنت لا تودين سماع هذه اللهجة . بصق على الثلاجة – ظناً منه أنها ظل والدته – وبعد أن مضغ عدة أنفس من لفافة والده خرج من ربيعه وهو ظالم لنفسه ، وكان يتمنى أن تبيد هذه أبدا .
    انكفأت الأم على ذاتها ونار الفرن تتأجج .. أسرت لأذنيها بأقوال الشكوى للرب القريب على بعد ، ولامت نفسها وتحملت ما لا تصبر على تحمله الجبال ، شح صنبور الحوض فجأة سانحاً لعيني " ثريا " بمراودة النزيف لها .. دمعاً .
    يتبع ...

    (عدل بواسطة Husam Hilali on 08-15-2003, 09:58 AM)

                  

08-27-2003, 07:21 PM

Husam Hilali
<aHusam Hilali
تاريخ التسجيل: 02-21-2003
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    الحلقة الرابعة
    في الصالة ، قدم لوالده قربان التبغ المحترق . وعينا رب الأسرة
    تتأرجح بين اللفافة ، والابن الذي أصدر نحيباً دامعاً أناب فيه حنجرة أمه وحدقتاها المحترقتان كالقربان هذا. في تلك اللحظة بالذات لم يصعب على " فتحي " ارتداء قناع رجل عصابات . فأقحم لسانه في تقمص الدور .. ببذاءة لا يتوارى في إخفاءها متى راوده شيطانه في زيارة تفقدية :
    - من العار أن تفعل ذلك لأمك .. لا أم لك ! ألا يكفي أنها تشاركني سريري كي تبدي لها احتراماً يا فاسق ؟
    أنهى عبارته، ولما طفح كأس سطوته انساب ليسود أمام أعين أسرته، فلم يجد أقرب ليديه إلا خد ابنه فصفعه كما يعصف الإعصار ولم يزد شيئاً، بينما اكتفى " راشد " بالتحديق صامت العينين.
    بعد أن سكن الجو قليلاً زادت وتيرة الجوع، لتنمو عصافيره في البطون تزقزق عالية النغم والصوت.. وصل الأمر حد الصراخ من الفم فنطق الأصغر:
    - ما هو غداؤنا اليوم؟
    - كالعادة يا غبي.. (بوش)!
    محاولاً تقليد أخيه في التمرد:
    - أوه..... بوش، بوش، بوش، بوش.. لقد سئمت!
    قال الوالد وزفيره دخان:
    - ما شاء الله! صرنا نتذمر من البوش يا لعين؟ غيرنا لا يجد من خشاش الأرض ما يأكل وتتذمر من البوش يا ... نعته بلفظ تحذفه الرقابة!
    قال أخوه وألم الصفعة لم يبرح وجهه بعد:
    - ماذا تريد أن تأكل يا ترى.. بيض الكافار؟ أسقط الياء جهله بالطعم.
    - كلا.. ولكن نحن نأكل الفول وغيرنا يتناول اللحم في كل الوجبات!
    تنحنح الأب في جلسته كما يفعل أئمة السلطة على منابر الجمعة وتلا:
    - ( ليس لهم طعامٌ إلا من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع )
    جاءت الأم خالية الوفاض إلا من طبق عليه سائل باهت الرائحة لا يملك جاذبية حتى لجائع من الصحراء، قالت لولدها بعد أن ترجل الطبق من ذراعيها:
    - لحمهم كفولنا!
    نظر " راشد " للطبق وأردف:
    - حين يصير هذا فولاً بالأول. وأشار بعينيه الزائغتين عن الشبع.
    قال الأب معترضاً على تشبيه الوالدة:
    - سينحرون كالنعاج التي يأكلون لحمها!
    - من سينحر! قال " ربيع " متحمساً للمجزرة، ولكن إذا حضر الطعام سكتت الأفواه ممتلئة باللقم، إلا فم " راشد " الذي بدا كمضرب عن الطعام في هذا السجن الأبدي. انطلقت من الأم نظرة نحو ولدها صغير الفم.. استطاعت أن تستشف شهيته المقتولة تجاه المائدة ولكنها لم تستطع امتصاص حنقه على هذا التوزيع السيئ للغذاء فقالت مقترحة بعد أن بلعت ما في ملعقتها الصدئة:
    - إذا لم تكن لديك الشهية الكافية الآن، فبلإمكان ترك حصتك في الطبق ووضعها في الثلاجة لتأكلها بعد أن يطغى عليك الجوع.
    لم تلاقي الفكرة استحساناً لدى " فتحي " مجدداً فقال:
    - ماذا؟ في الثلاجة! كله على المائدة الآن ومن لا يود الطعام يتنازل لمن يود ذلك.. كما أنني أود أن تخففوا من استعمالكم لهذه الثلاجة المهترءة.
    مر بريق برأس " ثريا "، خففت من شدة المضغ للقمة التي أسكتت حنجرتها، وبدا صمت التفكير في عينيها في لويحظة، ثم قالت:
    - نخفف؟ منذ متى ونحن نثقل على الثلاجة؟ .. أين الطعام الذي يوضع في جوفها أصلاً؟!
    رمقها بنظرة مبهمة عززت باقتراب الحاجبين من حد الغضب.. أجاب:
    - كلي ودعينا نأكل.. نظر لابنه الصغير محاولاً توجيه دفة الأسئلة نحوه وهو المنكفئ على صمته دوناً عن الجميع لا يأكل. لكن زوجته أباءت محاولته للفشل:
    - لا تحاول التهرب.. أرى أنك تتحدث عن الثلاجة بنفس اللهجة التي أبديتها الجمعة الماضية بشأن الفرن! يبدو أن لعبته انكشقت.
    بعد أن طوق اللقمة بقاب فكين أو أدنى، قال بملئ فمه الماضغ ورزاز اللعاب يتطاير مع عباراته:
    - أنني أفكر في التخلص منها.. راوده شك سريع أن عبارته ستدع مجالاً للتمرد من قبل زوجته فأتبع الجملة بأخرى:
    - بل أنني قررت.
    مسح " ربيع " بقعة لعابٍ على خده لم يفرزها ومال للناحية التي لا يمكث فيها والده واقياً نفسه من طلقات فمه الأخرى، وتبادلت عيناه النظر بين أبيه وأمه، وفي قرارة نفسه أخذ يتحفز لقيام مشاجرة يزيل بها منتقماً ما تبقى من ألم وراء البقعة التي مسح منها بقعة الرزاز.
    قالت الأم قاطعة حبال التفكير مستهجنة:
    - تتخلص منها!! الثلاجة؟
    - نعم.
    - كيف يا ترى سيتخلص حضرة بعلي المحترم من ثلاجتنا ( المهترءة ) ؟
    - وكيف يتخلص أناس فقراء مثلنا من حاجياتهم وأثاثهم.. بالتبرع؟!
    فغرت فاهها ورفعت صوتها مكمماً الخوف صراخها:
    - ستبيعها؟
    حاول " فتحي " تجاوز غضبه لعلها تتعظ من ماضيهما، لكن ( اللعل ) التي رددها في نفسه لم تنفع، ولولا أن ابنه نطق لنطقت يده:
    - لماذا أنت متشائمة يا ماما؟ والدي يريد مفاجأتك بثلاجة أخرى جديدة. قال " راشد " لكنه أبدى تراخياً حين رأى نظرة لم تعجبه من والده المتلاعب دوماً بعينيه وأضاف لفكرته مخفضاً رأسه: ربما!
    انتهز أخوه الفرصة واندلع لسانه بالنقد:
    - يا لغباءك! يا أخي من أين لنا بالطعام كي نشتري ثلاجة جديدة. تدخلت الأم من تحت الطاولة راكلة ابنها بخفة، كي يسحب لسانه عن أخيه.. فاستشرى صمت يشبه ما قبل العاصفة.

    يتبع
                  

09-08-2003, 09:28 AM

Husam Hilali
<aHusam Hilali
تاريخ التسجيل: 02-21-2003
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    Down
                  

09-09-2003, 01:32 AM

هدهد

تاريخ التسجيل: 02-19-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بعد طول انقطاع : قصة مسلسلة (Re: Husam Hilali)

    فوووووق
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de