ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 12:19 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-23-2003, 10:12 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟


    السهم في كنانته: فاطمة أحمد إبراهيم والإمام محمد عبده
    بقلم/ د. عبد الله علي ابراهيم
    "الى روح اختي قمر القسوم (1936-2002) التي حال دون تعلىمها حائل. ولم تتوقف عن طلبه مع ذلك في حلقات الامية التي ادارها الاتحاد النسائي بحي الداخلة بعطبرة في نحو 1956. وكانت تأتيني بمجلة صوت المرأة، منبر الاتحاد النسائي، التي بها اهتديت الى معان غراء عن وجع ظاهر شغلت عمري. رحمها الله وأمطرها بشآبيب البرد والثلج والرحمات" .
    حدثت السيدة فاطمة أحمد ابراهيم كاتبة اسمها مهناز أفخامي بطرف من سيرتها في كتاب عنوانه "نساء في المنفى" صدر بالانجليزية في عام 1994 وجعلت الكاتبة لفصل فاطمة عنواناً هو "السهم في كنانته". ومصدر التسمية ان افخامي لما التقت فاطمة لم تصدق ان الذي سمعته عن طاقة وجهاد المرأة وقوة شكيمتها وعارضتها مما يمكن أن يحتمله هذا الجسد الناحل بحضوره الاريحي اللطيف أو ان يعبر عنه صوتها الخفيض الأجش. فبدت فاطمة للكاتبة سهماً في غمده ومحارباً في اجازة. وقالت إنها مثل السهم في كنانته يبدو آلة من الحطب والحديد لا خطر منها. وليس يتسنى للمرء ادراك شوكة هذه المراة وعزائمها المقاتلة حتى يراها في المعمعة الاجتماعية كما السهم يؤخذ من كنانته ويصوب بقوة وإرادة فيطعن غرضه بقوة وتصميم.
    ووجدت في حديث فاطمة السخي الى أفخامي زواية للنظر الى إسلوب فاطمة القيادي لم تقع لي قبلاً. فمنذ اول يوم استمعت الى فاطمة في الستينات الاولى بالقاعة رقم 102 بآداب جامعة الخرطوم وجدتها تربط بين حرصها على الحشمة (المبالغ فيها كما يراها البعض) في مظهرها وبين خدمة قضية المرأة في بلد يواتي خصوم تلك القضية من البطراكيين (عتاة المعتقدين في سلطة الرجل والممارسين لها) نصوص الاسلام لافسادها وضبطها. فقد حكت لنا كيف أنها ورفاق لها في الخمسينات الأولى كن يتحجبن من أعلى الى اسفل ليذهبن للشغل في مكتب مجلة صوت المرأة، الناطقة باسم الاتحاد النسائي، او المطبعة. وقالت إنهن اقبلن يوماً على المطبعة ولما رآهن أحد عمال المطبعة بادر بالقول: "الله يدينا ويديكم." فقد ظن العامل انهن من الفلسطينيات الملثمات اللائذات الى السودان ممن كن يضطررن احياناً لتكفف الناس.
    ولم يغر فاطمة تبدل الاحوال في الستينات ، الذي به كفت البطراكية عن النظر البوليسي لزي المرأة، لتغير من اسلوبها في الحشمة. فقد جاء في حديث فاطمة الى أفخامي أنها حين دخلت البرلمان في 1965 إمراة وحيدة بين (365) نائباً ذكراً احتشمت في اللبس كثيراً. وقد هزمت بذلك عتاة خصوم المرأة الذين لم يتأخروا ابداً بعد ذلك في التصويت لمشروعاتها بشأن تقدم المرأة. وقد أخذت أجيال تلت فاطمة في الحركة النسائية علىها الحاحها على الحشمة في المظهر والتضييق علىهن في ضوابط اللبس وغير اللبس. وقد استعانت فاطمة بنصوص من لينين، المظنون فيه السفه والمشاعية، في محاضرة لها يوماً لتزجر التقدميين عن الاسفاف الجنسي باسم التقدم. وربما بالغت فاطمة في المطابقة بين الحشمة واسلوب لبسها، الذي هو ثمرة بيئة تعنتت على المرأة في الخمسينات وماقبلها، تعنتاً كبيراً. غير انني لم اجد من نقدة اسلوب فاطمة هذا من كان في تفهم أفخامي له وحسن ادراكها لمغازيه. فقد قالت أفخامي بعد استماع مطول لحكاية فاطمة عن نفسها ومااضطرته لها دعوتها الى تحرر المرأة: "أنها لواقعة معذبة أن تكون مناضلاً مبادراً من اجل تحرير المرأة في بلد مسلم. فالشأن الشخصي لمثل هذه القائدة المبادرة يتحول الى شأن سياسي عام." وخطرت لي اغنية من اغاني الربوع الامريكية الرائجة هذه الايام تنعى على الناس انهم "لايرون الألم من وراء القناع."
    فلم تكن فاطمة بما ذكرته عن ليبرالية أسرتها وخفض عيشها بحاجة للبس هذا القناع الثقيل. كانت فاطمة في حل عن قيد الاسراف في اللبس لو لم تخرج من أمن بيتها الى العمل العام تنتصر لبنات جنسها الغبينات في ظل بطراكية الخمسينات المدججة. فقد كانت امها قارئة بالعربي والانجليزية وتدير مع ابنائها وبناتها جلسات مشتركة للمطارحة الشعرية. وكانت الاسرة في ذلك الزمان القصي تجلس الى مائدة واحدة لتناول الطعام. وكانت والدة فاطمة تقرأ لوالدها الصحف بينما يقرأ لها القرآن. وكانت توقر زوجها العالم مدرس علوم الدين في مفاوضة حسنة تحفظ له القوامة وتؤمن لنفسها مساحة مناسبة لحريتها في دفع بناتها واولادها في مدارج التعلىم. ومن عرف آل احمد ابراهيم عرف الآن من اي بئر نشلوا ماء همتهم في شغل الوطن وصدق عزيمتهم في الخدمة العامة وثاقب فصاحتهم في الزود عن حريته. فلم افهم ثقة صلاح احمد ابراهيم، شقيق فاطمة، في جنس المرأة ثقة لم تخالطها قشور الايدلوجية، الا بعد أن قرأت حديث فاطمة عن نشأتها الاولى.
    وقد أتاح لي سخاء افخامي في تفهم متاعب فاطمة أن أقارن بين دعوتها الى تحرير المرأة ودعوة هدى شعراوي في مصر. فالمعروف ان لحظة اطلاق نداء تحرير المرأة عند هدى كان هو خلع الحجاب بينما كان الرمز عند فاطمة هو ارتداء الحجاب او ماهو قريب منه. وربما رددنا الخلاف الى احوال تباين وضعي المرأة في مصر والسودان من حيث تقدم المجتمع وعلاقات الذكورة والانوثة فيه. غير انه يجب ان لا يغيب عنا ان دعوة فاطمة للتحرير اتجهت الى غمار النساء وفي اطار عمل طبقي شعبي شيوعي بينما كانت هدى ودعوتها بعضاً من نهضة برجوازية ثقافية في مصر. ولا يريد كل قائم بالأمر لغمار الناس أن يخرجوا من اليد بينما هم أرأف بالبرجوازيين والبرجوازيات. وقد سبقتني فاطمة الى لفت النظر الى هذا الفارق بين حركتي المرأة في مصر والسودان في ردها على مقال لاستاذنا عبد الخالق محجوب نشرته مجلة "الشيوعي"، المنبر الفكري الايدلوجي للحزب الشيوعي، في العدد رقم (132) لعام 1968 تحت توقيع "هاجر" وهو اسمها الحركي على تلك الايام.
    أعجبني من قول فاطمة للمرأة انها تؤمن بأن النسوية تقليد راسخ في ثقافة السودانيين وان مساواة الرجال والنساء مما يمكن أن نبلغه بالبناء فوق الاساس الصالح لهذه الثقافة. وقد وافق هذا ما كنت أقرأه لها منذ ايام في محاضرتها التي القتها امام طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم في 1980 وعنوانها "حول قضايا الاحوال الشخصية." وقد انتبهت الى عنصرين من عناصر منهجها التأصيلي. فقد بدأت بقانون الاحوال الشخصية (الموروث وليس الصادر عن هذه الحكومة بالطبع) ولم تجد ما تعترض علىه أصلاً غير بيت الطاعة. أما في بقية المواد فهي اما استحسنتها وتركتها على حالها مثل قوانين الحضانة أو ما طالبت ان يتم امام قاض مثل الطلاق وعقد الزواج وتعدد الزوجات وبشروط دقيقة. وقد وجدت فاطمة في بعض التشريعات الشرعية أثراً باقياً من نضالها هي نفسها ونضال الاتحاد النسائي مثل المنشور الشرعي رقم (54) لعام 1960 الذي كفل للفتاة الاستشارة حول من تقدم لزواجها. وقد جاء المنشور استجابة لمذكرة تقدم بها الاتحاد الى قاضي القضاة في 1954 يحتج على تزايد حالات الانتحار من فتيات لم يقبلن الاقتران بمن اختارته الاسر لهن. واميز من ذلك كله أن فاطمة طالبت بأن تجيز الحكومة الخصم من مرتب الأب ما يكفي لنفقة عياله. ولم تكن القوانين المالية (واحسبها لا تزال) تخصم اكثر من الربع. وقد تقيدت المحاكم المدنية بهذا القانون المالي بالطبع. اما المحاكم الشرعية، الواقفة على اوجاع النساء وفقيراتهن بالذات، كانت تلح، الحاح فاطمة، ان يخصم من الأب ما يعول اطفاله بغض النظر. وهكذا تقدمت المحكمة الشرعية في امر النفقة وتأخرت المحكمة المدنية الموصوفة بالحداثة اي العدل والاحسان في شرط الزمان والمكان.
    غير ان اكثر ما جذب انتباهي هو مرجع فاطمة في اصلاح قوانين الاحوال الشخصية الذي هو الامام محمد عبده (1905-1949) رحمه الله. فلم تأخذ مأخذاً على تلك القوانين الا وجدت له مخرجاً حسناً من فتاوى الامام. وهذا الذي ربما اقنع فاطمة بأن النسوية ربما كانت اقرب الينا من حبل الوريد. ولو تأملت فاطمة الأمر قليلاً لعرفت ان سماحة التقليد الشرعي وتفتحه لحقائق المجتمع كما اختبرته هي واتحادها النسائي انما يعود الفضل فيه للامام محمد عبده. وقد كتب عن فضل الامام هذا الدكتور ج ن ج أندرسن وتبعته باحسان الدكتورة كارولين فلهر- لوبان المعروفة باسم "مهيرة" بين معارفها الكثر من السودانيين.
    وأصل المسالة ان الامام، الذي شغف بالحداثة ورأى الاخذ منها بقوة وعافية فكرية، كان مشغولاً بترقية المحاكم الشرعية. وقد أظهر أحد تلاميذه وأحبابه، الشيخ القاضي محمد شاكر، ميلاً لاصلاح تلك المحاكم وقوانينها في مصر. فسأله الامام ان يكتب له تقريراً يوصي فيه بما يعن له من سبل الاصلاح. وقد فعل بعد طواف على المحاكم. وقد اعتمد الامام تقرير القاضي شاكر وتوسع فيه واطلع علىه المسئولين ونشره عام 1900 بعنوان "تقرير اصلاح المحاكم الشرعية." واراد الامام أن يمكن لاصلاحاته هذه في بلد بكر تحت التأسيس كالسودان لم تنهض فيه طبقة من تلك التي تخشى الاصلاح الديني وتتحفز لاطفائه. فأرسل القاضي شاكر في 1900 ليكون اول قاض للقضاة في السودان بعد قيام دولة الحكم الثنائي في 1898. واتاحت له العذرية القانونية في السودان ان يجرب اجتهادات شرعية قد يتعذر البدء بها في مصر المحروسة القديمة. فقد أصدر القاضي شاكر منشورات ما زال العمل بها سارياً وهي مما انتفعت به المرأة انتفاعاً كبيراً قضت بالتطليق للغيبة والاعسار والحبس والضرار مما تأخر الأخذ به في مصر نفسها حتى عام 1925.
    غفلة فاطمة عن مزايا التجديد الفقهي في التقليد الشرعي السوداني (1900-1983)، الذي تجسد في قوانين الاحوال الشخصية، هي غفلة عامة. فالاسلاميون اهملوا التنويه به والغزل على منواله لانشغالهم بأسلمة الدولة ذاتها. بل وانتكسوا عن محاسن التقليد حين جعلوا ضبط النساء والتجسس علىهن أكبر همهم بينما كان ذلك التقليد الديني رفيقاً رقيقاً بهن. يكفي انهن قد صرن بفضله قاضيات شريعة بفقه ذكي لمولانا شيخ الجزولي (وقد صليت لروحه الماهر التقدمي عند زيارتي لاضرحة الختمية بحلة حمد)، وبمصابرة جميلة لمولانا نجوى كمال فريد، اول قاضياتنا الشرعيات. وقد جففت الانقاذ هذا المصدر بغلظة عجيبة. وقد سمعت الجزولي يقول ان النساء أدرى بوجع النساء وأقرب الى ظلاماتهن وأن القاضيات سيوسعن من علم الشريعة وخيرها اذا عدلن بأحكام يتأدب بها المجتمع ويمتثل.
    ومن جهة أخرى تحاشى الفكر الجمهوري هذا التقليد الشرعي مع ان اصلهما واحد وهو الحداثة الاسلامية التي ركنها وحجتها الامام محمد عبده. وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السرية في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عبارتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة و الوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة احسان ذلك التقليد الشرعي أو اساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى ايام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من امثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من اعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن. ويكفي أن تقرأ ما كتبه الدكتور حسن احمد ابراهيم عن السيد عبدالرحمن المهدي لكي تتشكك في صواب هذه الذائعة عن أولئك الرجال. وقد دق حكم المحكمة الشرعية بردة المرحوم محمود محمد طه، علىه الرحمة، في 1968 إسفين الخصومة بين القضاة والمرحوم واختلط حابل تطوير الشريعة بعاديات السياسة وأطوارها وبمنطويات النفوس
    وقد دعتني هذه الغفلة العامة أن اتوفر على دراسة هذا التقليد الشرعي في مظانه الكثيرة خلال اكثر من عقد من الزمان. ورأيت خلافاً للتيارات الفكرية السودانية التي أتيت على ملابسات اهمالها له أنه ربما كان أكثر عنواين الاسلام عندنا خطراً. فالدارس له يقف على امور كبيرة مهمة. اولها خطأ الذين يقولون بأن الثقافة الاسلامية ظلت لها الهيمنة بشكل سرمدي في البلد (انظر الصندوق). فخلال العهد الاستعماري ومابعده كثيراً كان الاسلام ثقافة مغلوبة لا خطر لها في القوانين التي تحكم اقتصاد المسلمين او معاملاتهم او معادهم ولم يبق لها سوى حيز الاحوال الشخصية. وقد رأيت من الكتاب عندنا من جعل من هذا الكيد الاستعماري للاسلام طبيعة للسلام السوداني الصوفي العلماني بالفطرة الذي يتحاشى السياسة ويستثقلها. واستعجبت كيف يستقيم مثل هذا القول لبلد خرج من المهدية الى الاستعمار. فقاريء الدكتور عبدالرحمن الخليفة يجد أن من أوائل الأحكام القضائية التي صدرت في السودان بعد زوال المهدية كان بشأن خلاف حول هل المال المستلف للعب القمار مما يسترد. فقد قال عبدالرحمن لم يكن مثل هذا الخلاف مما تنظره المحاكم لمفارقة ممارسة القمار ذاتها للدين. كما استعجبت لماذا يريد لنا قوم ان نعتمد الاصل في الاسلام تلك الصورة التي أرادها له الاستعمار من فصل للدين عن السياسة لا الصورة او الصور التي يريدها اهلها له بالحسنى والموعظة الحسنة بعد تحررهم من حكم الأجانب.
    ولم يكن غلب الاسلام بالاستعمار غائباًًًً عنا في اليسار حين كنا نقول بشكل عام إننا نريد أن نسترد ثقافتنا الوطنية التي طغى الاستعمار علىها ومحاها. ثم زاغت عيوننا عن ذلك بفضل "الأزمة الفكرية في الحزب" التي إنتابت الشيوعيين منذ اوائل الستينات وحالت دونهم والنظر الراشد في امهات مسائل التحرر من الاستعمار. وهي الأزمة الناشبة بعقل الحزب الشيوعي وخياله حتى كتابة هذه السطور... وباعترافه ايضاً. ولما غاب ذلك النظر استعاض اليسار عنه بجفاء عام لذكر الشريعة أو تطبيقاتها في ملابسات " حرب الديك، سك الديك" مع الاسلاميين. ولم يكن الاسلاميون بأقل غفلة عن التقليد الشرعي السوداني.
    وثاني هذه الامور الخطرة التي تتصل بالتقليد الشرعي السوداني في القضائية هو ان الشريعة لم يرتج علىها بغلب الكفار الباهظ واستثمرت حتى ضواغط المستعمرين وأقباس حداثتهم الشحيحة لتخرج بقانون للأحوال الشخصية ناضج ولتعالج مسائل الرق وغيرها بذكاء وكفاءة. وستكون هذه المعاني الخطرة هي موضوع كتاباتي القادمة في هذه الزاوية من بعض فصول لكتاب أنشره في القاهرة عن قريب.
    قل ليه ما يهدر فرحتهم: صلاة سعادة المدير
    وجدت في كلمة نشرها المرحوم الفاتح النور، مؤسس جريدة ودار كردفان، ليس بياناً شافياً لهوان الاسلام على الاستعمار وحسب بل لكيف اقض هذا الهوان مضجع جمهرة المسلمين وباتوا منه على ضعة ومذلة. وهذا العار هو ما سماه بازل ديفدسون، المؤرخ لافريقيا، بـ " الخزي الخلقي للاستعمارCOLONIAL MORAL
    INJURY." وهو ما تتركه غربة الحاكم الدينية أو العرقية من جراح في الرعية التي فرطت في استقلالها
    فتمكن منها من لا تتواثق معه على شيء ابداً ولا يستشعر مثقال ذرة مما تشعر.
    ففي اول عهد الاستقلال تعين السيد مكاوي سليمان اكرت مديراً لمديرية كردفان. وجاء يوم صلاة الجمعة وحضر الصلاة. وهذا ما كتبه الفاتح عن هذه الصلاة المحضورة:
    فقد جاء ذات يوم السيد مكاوي سليمان اكرت مدير كردفان في زي وطني يقود عربة الدولة ذات العلمين لتأدية صلاة الجمعة بمسجد الابيض العتيق. وبهر المنظر المصلين. فما زالت سطوة المدير الانجليزي نافذة على عقلهم ونظرهم. وانتهت الصلاة. خرج سعادة المدير مكاوي والمصلون يتسابقون للتأكد من أنه سعادة المدير شخصياً.وكان عصر ذلك اليوم ومساؤه لاحديث للناس الا عن صلاة سعادة المدير. وطبعاً كل من شاهده يروي عن صلاته بمزيد من المشوقات للذين لم يحظوا برؤيته.
    وفي اليوم التالي السبت طلبني مولانا الشيخ الكبير محمد الامين القرشي وكان يومها قاضي شرعي مديرية كردفان. وهو رجل عظيم ومجاهد كبير في سبيل الاسلام لم يخلد ويكرم كما ينبغي (لبعض سيرته راجع كتاب الدكتور احمد عبدالرحيم نصر عن التبشير المسيحي والاسلامي في جبال النوبة). وعندما ذهبت اليه قال: قل لصاحبك المدير ما ينقطع عن صلاة الجمعة. وقل ليه صلاته امس صحت المسلمين ورفعت معنوياتهم وأحس ضعاف الايمان منهم والسذج بعظمة الاسلام بصلاته هذه. ومن واجبنا أن نسايرهم على قدر عقولهم. قل ليه ما يهدر فرحتهم ولا يتخلف عن صلاة الجمعة أبداً. وإذا كان الوضوء صعب علىه وكان البرد شديداً يجي بس بدون وضوء (جريدة الايام 4 يناير 199.
    وكان الاسلام المغلوب هو وحده العلماني. ولم تكن المسيحية. فقد كان المديرون الانجليز يؤدون صلوات الأحد في الكنائس الانجليكانية المبثوثة. وقد انعقدت اواصر دينية وسياسية شتى في هذه العتبات الدينية حكى عنها القس قوين "امام" كنيسة قصر الحاكم العام فيما روى عن كتشنر وونجت. ولا يزال بيننا من يحاجج ان الثقافة الاسلاموعربية ظلت ناشبة الاظفار في السودان ابداً بينما رأينا في النص رجلاً من عترة القرشي ود الزين يرخص للمدير الافندي ان يصلي بغير وضوء لرد الاعتبار للاسلام بعد ستين عاماً من هوانه على الناس
                  

05-23-2003, 10:16 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)




    :يف أدار القانون ظهره للشريعة الإسلامية

    خــلال الفتــرة الإسـتعماريــة ومــا بعدهــا
    بقلم/ د. عبد الله علي ابراهيم

    تحاول هذه الدراسة أن تجيب على سؤال أثاره الدكتور زكي مصطفى في كتابه القيِّم القانون السوداني القائم على القانون العام الانجليزي (1971) وهو: لماذا لم يستفد القضاة الانجليز وخلفهم من السودانيين من الشريعة الإسلامية في إنشاء قوانين السودان، في حين كان متاحاً لهم ذلك بفضل الصيغة الموجهة لعملهم القضائي والتشريعي القائلة إن بمقدورهم الاستعانة بأي قانون طالما لم يصادم العدالة والسوية واملاءات الوجدان السليم.

    وقد رأت الدراسة أن الإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نجدد النظرة في الخبرة الاستعمارية البريطانية ومنزلة الهند في استواء ونضج هذه الخبرة. يميل دارسو الامبراطورية البريطانية بشكل متزايد للبحث في دور الهند في إحداث هذه التشابهات الملفتة في التجربة البريطانية الاستعمارية، «والتهنيد» هو التعبير الذي اختاره تيموثي بارسونس لوصف المؤسسات البريطانية الاستعمارية التي تسربت عبر الهند الى الامبراطورية كلها. ففي رأي لبارسونس أن الثقافة والمؤسسات التي نشرها البريطانيون حول العالم كانت في الغالب هندية أكثر منها بريطانية. أما أي كوستا فيصور وحدة التجربة الامبريالية البريطانية في عبارات مأخوذة من علم البستنة. ويؤكد أن الأفكار الإدارية ولدت في حاضرة الامبريالية، وتمت تربيتها في محاضن الهند، وبلغت مرحلة النضج في إفريقيا.

    وقد وجد تعبير التهنيد صياغته الأكثر دقة حتى الآن في أعمال الكاتب الإفريقي محمود محمداني. فقد ناقش بصورة عرضية، ولكن بقوة، الوحدة الإدارية للإمبراطورية البريطانية. وأظهر أن إفريقيا، كآخر المعاقل الاستعمارية، تعرضت لأشكال من الإدارة كانت قد جُربت أولاً في الهند. وأضاف أن التفكير الاستعماري في ما يتعلق بإفريقيا كان وثيق الصلة بالتفكير البريطاني في إدارة الهند بصورة أعمق مما هو ظاهر للعيان. وإذا كان ثمة اختلاف ربما كان في أن الإجراءات التي اتخذها البريطانيون لعلاج داء تحلل المجتمع التقليدي في الهند، وهي المستعمرة الأقدم، تحولت الى تدابير وقائية لمنع ذات التحلل في إفريقيا. وقد أبانت عن هذا الجانب العلاجي الوقائي في السياسة الاستعمارية في الهند وإفريقيا كلمات حاكم عام السودان في 1908. فقد تفجع الحاكم من كون الطبقة السودانية الراقية رفضت إرسال بنيها لورش التدريب التي أنشأتها الإدارة، لأنهم يريدون لهم أن يصبحوا أفندية أي «موظفين صغار» تقليداً للأوربيين، وقد رأي في هذا نظيراً لما وقع في الهند في وقت مضى فقال متعجباً: «أليس في الإمكان الاعتقاد بأن بذور تجربة هندية ثانية قد تم بذرها هنا في السودان!!».

    ومظاهر الوقاية في إفريقيا من أعراض أمراض عالجها الانجليز في الهند كثيرة. فقد رأى البريطانيون في قادة التحركات الأولى للوطنيين السودانيين «الأفندية» صورة الثائر الوطني البنغالي في الهند والمعروف عندهم باسم «بابوس». وكنتيجة لذلك جهدت السلطات البريطانية -بصورة واعية- للحفاظ على ما توخت أنه الأصالة الثقافية لكلية غردون التذكارية في السودان. فمع اندلاع ثورة 1924، غيَّر البريطانيون قواعد الزي في الكلية، فقد طلبوا من الطلبة ارتداء الزي الوطني وهم من كانوا قد شجعوهم بادئ الأمر على ارتداء الزي الغربي الأوربي. وقد أملت التجربة الهندية أيضاً على البريطانيين أن يفطموا طموح الطبقة المتعلمة الناشئة في السودان وأن «يلزموها محلها» حتى لا يتكرر ما حدث لهم في الهند من تسييس لهذه الطبقة صوب الطموح الوطني. ولذا تحول البريطانيون عن الحكم المباشر، الذي يتم بواسطة الأفندية، الى الحكم غير المباشر الذي هو حكم الإدارة الأهلية ومشائخ القبائل. وسيتوضح الأثر السالب للإدارة الأهلية على الشريعة الإسلامية كتقليد شرعي «مشروع» لاحقاً.

    واحد من أخصب المجالات لدراسة تهنيد إفريقيا «أي تشكيلها - استعمارياً- على النمط الهندي» هو مجال استيراد ونقل ووضع القوانين. ففي السودان، كما في بقية إفريقيا، جرى نقل وفرض مجموعة القوانين الهندية التي كانت بدورها قد اشتقت من القانون الانجليزي العام. وسأجادل في هذا العرض أن الشريعة الإسلامية لم تعط مثقال فرصة للكشف عن قيمتها كمصدر محتمل لتحديث القانون خلال فترة الحكم الاستعماري. وسأشدد على أن التجاهل أو «التجنب» المتعمد للشريعة كان دالاً على تهنيد الامبراطورية البريطانية الذي اعتمد فيه البريطانيون على مخزون من تجربتهم الاستعمارية في الهند لتصحيح أخطائهم في حكم هذه الدرة في تاج امبراطوريتهم في إدارة مستعمراتهم الطارئة في إفريقيا. وفور استيلائهم على السودان بدأ البريطانيون في تأسيس نظام محكم لتدبير النظام العدلي. وقاد هذا في النهاية، وليس بالضرورة، الى نظام ثنائي للقضاء يشتمل على قسم للقانون المدني وآخر للقضاء الشرعي. وظلت هذه الثنائية معنا حتى أوائل الثمانينات حيث أجبر الرئيس نميري القضائية على توحيد نفسها وتخطي ثنائيتها.

    اختص القسم المدني بالقانون الجنائي والمدني بينما اقتصر القسم الشرعي على قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين من نكاح وطلاق وغيره. وبحصر الانجليز للشريعة في حيز الزواج والطلاق والميراث يمكن القول بأنها قد «أُنثت» بواسطة الاستعمار الغالب الذي وطئ السودانيين المسلمين وأذلهم. وقالت باحثة عن وقف التأنيث للشريعة كلمة بليغة. فقد قالت: «إنه بحصر الاستعمار للشريعة في شؤون الأسرة فقط فكأنه قد نقل الإسلام من أرض معارك شرسة الى غرف النوم».

    جاء البريطانيون للسودان بعد أن خلصوا على ضوء تجربتهم في الهند (بأقليتها المسلمة كثيرة العدد حيث كانت الشريعة هي قانون البلاد في ظل حكم المغول قبل الحكم البريطاني) الى أن القانون الإسلامي لا يصلح لدولة حديثة. وقد انقضى وقت كثير وجدل خصب قبل أن يستقر هذا المبدأ الانجليزي حول الشريعة في الهند ذاتها.

    اصطرعت في نهاية القرن الثامن عشر مدرستان استعماريتان في ما يتعلق بالتقليد القانوني الهندي قبل استعمارها. والمدرستان هما مدرسة الدولة الثيوقراطية «الدينية» التي تزعمها ورن هيستنق الحاكم العام للهند في عام 1772م. فكانت هذه المدرسة ترى أن دولة المغول المسلمة قبل استعمار الهند كانت قد أسست قواعد مفصلة للسلوك كان لها قوة القانون. ونظرت هذه المدرسة بجدية في شريعة المسلمين وسننهم القضائية واعتبرتها أساساً طيباً لتطوير المؤسسات العدلية البريطانية الاستعمارية. من الجهة الأخرى، وجد مبدأ زرع الأفكار والطرق الغربية في صلب المؤسسات الشرقية معارضة من المدرسة الأخرى. وهذه المدرسة مما يمكن وصفه بمدرسة «الدولة الشرقية الطاغية». فأهل هذه المدرسة يعتقدون أنه لو كان للهند شريعة «إسلامية» أو «هندوكية» سبقت قدوم الانجليز فإنها شريعة الحاكم الطاغية المستبد العشوائي. وقد وُصفت هذه الشرائع الموروثة باعتمادها على منطوقات القضاة لا على قانون ثابت مستقر. وعليه فالشرائع الهندية التقليدية، في نظر أصحاب هذه المدرسة، هي خبط عشواء واعتساف لقيامها على أمزجة القانونيين لا نصوص القانون.

    وانتهى اصطراع المدرستين بانتصار مدرسة الدولة الشرقية التي لا ترى أية ميزة أو نفع في شرائع أهل المستعمرة الهندية القديمة، وتمثل هذا الانتصار في الإصلاح القضائي الذي جرى في الهند في عام 1864م. وهو الإصلاح الذي جفف كل اهتمام أو بحث في شرائع الهند التقليدية إسلامية وغير إسلامية. فهذا التشريع جعل الهند حقلاً باكراً خالصاً لتزريع القانون الانجليزي العام بدون إيلاء أدنى اعتبار لتقاليد الهنود القانونية. وهكذا جاء الانجليز الى السودان وهم في حال جفاء مستحكم تجاه الشريعة الإسلامية ومزودين بالقوانين الهندية المتأصلة في القانون الانجليزي العام. وقد ساغ لهم تجاهل الشريعة في إنشاء قوانين السودان الجنائية والمدنية «الحديثة» لأنهم كانوا قد أطاحوا بطاغية شرقي هو المهدي عليه السلام الذي صوروه بأنه رأس دولة باغية فاسدة قائمة على الفوضى والظلم.

    وقد صور تدمير هذا الحاكم الشرقي المهدوي للانجليز بأن عليهم أن يبدأوا حكمهم في السودان من الصفر. فلم يكن هناك -حسب اعتقادهم- ثمة نظام إداري مستحق للاسم يبنون السودان «الحديث» من فوقه. وكما قال زكي مصطفى فقد تهيأ للانجليز أنهم بصدد خلق كل شئ، وعلى رأس ذلك النظام العدلي، من جديد، ولذا لم يكن ممكناً للسودان أن يتفادى مصير تبني القانون الانجليزي العام في صورته الهندية. فقد كان الانجليز يظنون أن قانونهم هذا هبة يمنون به على أهالي المستعمرات غير الأذكياء.

    انتهينا في السودان الى قوانين جنائية ومدنية متأصلة في القانون الانجليزي العام في نسختها الهندية. فقد جرى تبسيط وتكييف للقانون الجنائي الهندي وتم اعتماده في السودان، وقرر الانجليز أنه لا الشريعة الإسلامية ولا القانون المصري ولا حتى القانون الانجليزي العام بصالحة في كلياتها لاستنباط قانون مدني سوداني. وبناء عليه تضمن القانون المدني نصاً مستفاداً من الهند وجه القضاة أن يستعينوا لدى النظر في النزاعات المدنية بأي قانون يصطفونه طالما لم يصادموا أو يفارقوا العدالة والانصاف وأمالي الوجدان السليم.

    وهنا مربط الفرس. فقد استخدم القضاة الانجليز والرعيل الأول والثاني من القضاة السودانيين هذه العبارة، الداعية الى الإبداع والرحابة، لفرض القانون الانجليزي العام فرضاً في السودان. واستغرب زكي مصطفى كيف التوى هؤلاء القضاة بهذه العبارة السمحاء حتى أدخلوا من خلالها القانون الانجليزي العام وحده في متن القانون السوداني دون القوانين الأخرى مثل الشريعة والقانون المصري.

    ولما كانت هذه القوانين الجنائية والمدنية «مستوردة» وتفترض خلو السودان قبل الاستعمار من اقباس العدالة والشرائع فإنها قد أساءت الى السودانيين في عزتهم وخلقهم إساءة مرة. فقد وصف الدكتور عبد الرحمن ابراهيم الخليفة، وهو من أميز نقدة هذا الإرث القانوني الاستعماري والخبير القانوني للحكومة في مفاوضات مشاكوس، القانون الجنائي بأنه حشو على السودانيين وبعض أجزائه على طلاق صريح مع أخلاقهم وأعرافهم الإسلامية. ففي تحدٍ فاسق للشريعة أباح القانون الزنا طالما كانت المجامعة مع البكر أو الزوجة قد تمت برضا الأطراف. والزنا مما تعاقب عليه الشريعة بغير اعتبار للرضا أو عدمه. وأذن القانون باللواط طالما كان الفعل الجنسي مبنياً على الرضا أيضاً. ولم تكن انجلترا نفسها قد شرَّعت للواط وقتها. وقد تأخرت خمسين عاماً أخرى لتأذن به في عقر دارها بعد إذنها له في السودان في أوائل القرن الماضي. كما لم ير القانون الجنائي ممارسة الجنس مع حيوان جريمة يعاقب عليها القانون. كما سمح القانون بالسكر وبيع الخمور وفتح بيوت الدعارة. ومن الجهة الأخرى طال القانون كجرائم ممارسات لا يرى المسلمون فيها غضاضة. فقد اعتبر القانون ممارسة الزوج الجنس مع زوجته القاصر، غير البالغ، جريمة اغتصاب.

    وبلغ القانون الجنائي في مفارقته لأوضاع السودان حداً مبالغاً فيه اقترب فيه من الهزل. فقد نسخ من القانون الهندي نسخاً غير ذكي حين نظَّم القانون إجراءات التقاضي بشأن صراع الديكة والكباش وغيرها وهي ممارسات لم تكن متًَّبعة، ولا تزال غير معروفة، بين السودانيين الشماليين. وهذه إحدى مضحكات القانون المبكية في غربته كواقعة من وقائع القوة الاستعمارية الباطشة.

    لا يكل ولا يمل الدارسون الغربيون من التنويه بتلك الأجزاء من قانون العقوبات التي فارقت الأفكار والممارسات السائدة في السودان. فقد حرَّم القانون الرق وجعل الخفاض الفرعوني جريمة. والرق والطهور الفرعوني، كما هو معلوم، أمور كانت مقبولة ودارجة (ولا يزال الطهور الفرعوني) على أيام وضع قانون العقوبات المستمد في القانون الانجليزي العام. ولكن لا تجد هؤلاء الدارسين الغربيين يبدون أي ميل لشجب الإباحية المعلنة في قانون العقوبات التي سمحت بالزنا والسكر المحرمين في الإسلام وإن لم يبلغ استنكارهما بين العالمين مبلغ استنكار الرق. فهؤلاء الباحثون قد أجازوا قانون العقوبات وأطنبوا في مدحه لأنه، عن طريق تقنين الحد الأدنى من القواعد الأخلاقية قد حمى حياة الناس وحرياتهم وحقوقهم. ولم يطرأ لمن كالوا الثناء لقانون العقوبات أن يتعاطفوا مع جمهرة السودانيين المسلمين الذين تأذوا من فقرات القانون التي شرعت لصنوف من الإباحية والممارسات التي نهى عنها دينهم. ولا جدال أن أخلاق ذوي الصولة من الانجليز، واضعي القانون، هي التي سادت على حساب أخلاق هؤلاء المستضعفين المقهورين. ولم يطل طمس أخلاقيات هؤلاء المستضعفين طويلاً. ففي عقد من الزمان أو نحوه بعد نيل السودان استقلاله أصبح الخلق والأمثولة الإسلامية شاغلاً سياسياً لجمهرة المسلمين السودانيين. وقد اتخذوا الى تقارب القانون مع هويتهم الإسلامية والعربية طرائق شتى عبر تجارب مختلفة.

    مبحثي الذي بين يدي القارئ عودة منى الى سؤال أثاره مؤرخو القانون السوداني من ذوي الميل الى المراجعة النقدية لذلك القانون من أمثال زكي مصطفى وناتالي أكولوين وعبد الرحمن الخليفة. وهو سؤال من صميم الجدال الدائر حول الكيفية التي تلقي وتبني بها السودان، وغيره من المستعمرات، القوانين الاستعمارية. وفي لب هذه المراجعة يجابهنا سؤالنا الذي بدأنا به هذا المبحث وهو: لماذا لم تكن الشريعة مصدراً من ضمن مصادر إنتاج هذا القانون؟ ومما يشغل هؤلاء المؤرخون المراجعون هو ان كان بوسع الانجليز استصحاب الشريعة في تقنين الحداثة أم أن الحداثة والشريعة نقيضان متدابران؟

    كان زكي مصطفى، عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم الأسبق والنائب العام في منتصف عقد السبعينات، أول من أثار، وبصورة مهنية عالية، هذا السؤال. فقد تعجب زكي لماذا طابق القضاة الانجليز بين الصيغ الواردة في القانون المدني التي أذنت لهم أن يستعينوا بما شاءوا من التقاليد الشرعية طالما لم تفارق العدالة، والقسط واملاءات الوجدان السليم، وبين الاعتماد على القانون العام لانجليزي بصورة كلية. وواصل زكي مصطفى القول إن جعل هذه الصيغة الطليقة، المشروطة فقط بخيار العدل، باباً لاستيراد القانون الانجليزي العام، قد أفرغ الصيغة من المعنى، وضيق واسعها وجعل منها اسماً آخر للقانون الانجليزي. ومما يؤسف له أن المهنة القانونية في السودان قد تجاهلت طوال هذا الوقت الميل الفكري لهذه الفئة من المهتمين القانونيين من ذوي المزاج المراجع. ومما يزيد هذا الأسف بلة أن يقع هذا التجاهل في بلد كالسودان ظلت الشريعة تلقي بظل كثيف وتراجيدي أحياناً على مسار النقاش حول هوية القطر ونظم الحكم فيه.

    بمقدور المرء أن يفهم لماذا لم يلفت سؤال زكي المراجع انتباه أهل المهنة القانونية في الستينات والسبعينات التي هي أيام عرس الحداثة. والمفهوم أن الحداثة قد جاءت بديلاً للتقاليد شرعية وغير شرعية، وأنها الفكرة الصائبة الخالصة من باطل وعشوائية التقاليد. وبصدد الشريعة الإسلامية بالذات فقد جاءت الحداثة معبأة ضدها بلا لف ولا دوران بفضل أفكار ماكس فيبر الذي رأى الشريعة نقيضاً شديد البأس للحداثة. فمن رأي فيبر أن الشريعة، التي سماها بـ «عدل المولانات» غير منطقية ولذا فلا أمل للرأسمالية أن تتولد في بيئتها.

    إن زمان القبول «الفطري» بالثنائية المتباغضة للحداثة والتقليد قد شارف نهايته. فهذه الثنائية الآن قيد النظر الدقيق والمراجعة. فقد تأسف نقاد حديثون كيف لم يطل النقد والتمحيص إنتاج هذين المفهومين واستثمارنا المعرفي فيهما. فأنت تجد مثلاً من يبرر تجاهل الشريعة في بلورة القوانين الاستعمارية، الموصوفة بالحداثة، بأنها «متخلفة» من حيث سُلم العصرنة. ويتغاضى مثل هذا التبرير الحداثي عن حزازات المستعمرين وشوكتهم اللتين كانتا لهما القدح المعلى في تبخيس الشريعة وازدرائها كمصدر محتمل للقانون الاستعماري الحداثي. ووصف طلال أسد، الذي بدأ مهنته كعالم اجتماعي بدراسة مجتمع بادية الكبابيش السودانية في الستينات، فكر «ان الشريعة نظام خالف تخطته الحداثة» بأنها حيلة عجز يضطر إليه الإنسان بعد وقوع أمرلا يملك بإزائه صرفاً ولا عدلاً. وحيلة العجز هذه لا تأخذ في الاعتبار أن حلول القوانين الاستعمارية بأصولها الانجليزية بيننا إنما كان بفعل فاعل وتدبير مدبر هو الدولة الاستعمارية ذات الشوكة. والمعلوم أن هذه الدولة لم تترك أمر قوانينها لمباراة حبية بين الحداثة والتقليد يظفر فيها الغالب ويتوارى المغلوب. فقد جاء الاستعمار الى السودان بخبرة الهند كما رأينا وقد قرر سلفاً أن الشريعة الإسلامية مما لا يصلح للعصر.

    سيكون التحدي الماثل لثنائية الحداثة والتقليد نصب أعيننا ونحن ندير هذه الحجج حول عما إذا ما شكلت الشريعة، لو لم يتجاهلها المستعمرون، مدداً ومنهلاً طيباً للقانون الاستعماري. ومن رأينا أن السلف من القضاة البريطانيين والخلف السوداني لم يختبروا مناسبة الشريعة للحداثة، أو اعتبروا تبني بعض أقباس من وجوه عدلها، خلال تصريفهم لشأن العدل بين السودانيين. وفي الحالات الاستثنائية التي تسرب الشك في نفس قاضٍ من القضاة حول وجاهة تطبيق القانون الانجليزي في القضية المعروضة أمامه وجدنا الشريعة تسفر عن أقباس حداثة وعدل وتقدمية فاقت القانون البريطاني. ومن الجهة الأخرى قاد التطبيق الأعمى للقانون الانجليزي في السودان الى أحكام مناوئة للصيغة المعتمدة في القانون المدني وهي أن يلتزم القاضي، في انتخاب القانون الذي يريد تطبيقه، بالعدالة والانصاف وإملاءات الوجدان السليم. وضرب أحد مؤرخي القانون من مدرسة المراجعين مثلاً لذلك بقضية علي صبري ضد حكومة السودان (1922م). وقد اضطر بعض القضاة للأخذ بأقباس من الشريعة الإسلامية لما بدا لهم أن الحكم بمقتضاها هو إملاء عادل للوجدان السليم. ففي قضية ورثة النعيمة أحمد وقيع الله ضد الحاج أحمد محمد (1960) حكم القاضي، السيد بابكر عوض الله للشاكي، وهو من ورثة المرحومة نعيمة ، استناداً على حق الوريث شرعاً في التعويض لتقصير أجل المتوفي بفعل القتل. ولم يأخذ القانون الانجليزي بهذا الحق المثبت في شريعة الإسلام إلا في عام 1934م. ومنع واقع هامشية المحاكم السودانية من الأخذ بهذا الحق حتى حين أخذت به المحاكم الانجليزية. ولذا لجأ القاضي الى الشريعة الإسلامية متجاوزاً النص القانوني السوداني الذي تجمد على ما كان عليه القانون الانجليزي قبل عام 1934م.

    وختاماً، فإن تحليلاً دقيقاً للقضية المرفوعة من ورثة إمام ابراهيم ضد الأمين عبدالرحمن (1962م) يكشف عن دراما الصراع الذي اكتنف القضاة السودانيين بين حسهم الإسلامي السوي عن حقوق الأرملة في استمرار سكنها في البيت الذي وقَّع عقد إيجاره زوجها المتوفي، وبين سوابق القانون الانجليزي عندهم والتي تحرم بجفاء وقسوة الأرملة من وراثة عقد الإيجار هذا.

    وسنوالي هذه المسألة في الحلقة القادمة لنرى كيف أن الاستعمار قد شاغب الشريعة وضيق عليها حتى بعد أن هبط بها من منزلة التشريع الشامل الى قانون للأسرة المسلمة.
    الرأي العام 8 ابريل 2003م

                  

05-23-2003, 10:17 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)


    كيف أدار القانون السوداني الوضعي ظهره للشريعة الاسلامية خلال
    الفترة الاستعمارية وما بعدها؟
    بقلم/ د. عبد الله علي ابراهيم

    لعل منزلة الشريعة الاسلامية في الدستور والقانون كانت ولا تزال من أشد بؤر الخلاف التي اكتنفت تجديد التفاوض حول الوطن بغرض أن يصبح السودان المستعمرة امة لمواطنين لا حظيرة رعايا. وقد اندلق في سياق هذه المفاوضة حبر كثير ودم أكثر. ورأينا بما اسفر عن اتفاق مشاكوس بشأن القوانين اننا نكاد اتفقنا ان الشريعة مما أعيت حيلتنا وانها مما يفرق ويباعد لايجمع ويؤالف. وهذه خطة عاجزة سيبقى بها خطاب الشريعة قنبلة موقوتة تتربص بالوطن طال الزمن أو قصر.
    وبدا بعد النظر ان اصطراعنا حول الشريعة لا يدور حول صلاحيتها كمصدر لقوانين السودان وان خلنا ذلك. فالشريعة كتقليد قانوني اهل لذلك على وجاهة الاعتراض على بعض أنماط العقوبات فيها. فلم تمنع غلظة القانون الروماني أن يكون المرجع في بلاد تعد في أقاليم النور مثل فرنسا. وقد نبه الى ذلك بصفاء مولانا المرحوم مدثر الحجاز في مذكرة له عام 1956 يلتمس من لجنة الدستور اصطحاب الشريعة في عملها ومنتوجها. اما الذي جعل الشريعة عظمة خلاف في بناء الامة منذ الاستقلال فهو أنها قد أضحت شارة لهوية المسلمين وسبباً لتواليهم. والمقصود بالتوالي، في تعريف الدكتور الترابي، مناصرة المسلمين بعضهم بعضاً برباط العقيدة حرباً على غير المسلمين مهما اشتط خلافهم في سائر الامور الاخرى. وقد جاءت بهذا الفهم و المأخذ للشريعة الحركة الاسلامية لما صعدت حثيثاً في سلم السياسة واستثأرت دون جيل الحركة الوطنية الأزهري بالتعبير عن "الوطنية" الاسلامية. فقد كسدت بضاعة ذلك الجيل الأول كما هو معروف. وقد خالط هذا الطور من حياة الشريعة (اي طورها كهوية حضارية للمسلمين) نزاع مشاهد نرزح تحت وطأته لا نزال.
    أريد في المقالات التي انشرها متتابعة ان ارد الشريعة الي مطلبها الحق ان تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين. ولست أرى في مطلبها هذا بأساً او ظلماً لغير المسلمين. فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية" وبذلوا سماحتها للوطن لايفرقون بين اهله متوسلين الى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة. ولست ادعي علماً فيما يجد غير انني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وماتلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الاسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما اسميه "التقليد الشرعي السوداني (1898-1983)".
    في مقالة الاسبوع الماضي جددت سؤالاً قديماً طرحه الدكتور زكي مصطفي وهو: "لماذا لم يستفد القضاة الانجليز والرعيل الأول من القضاة السودانيين من الشريعة الاسلامية في انشاء قوانين السودان المدنية والجنائية في حين أنه لم يكن في الصيغة الموجهة لعملهم القضائي ما يمنع من ذلك. فلم تطلب منهم تلك الصيغة سوى تحرى أن القانون الذي يستعينون به، من اي مصدر جاء، لا يصادم العدالة والسوية والوجدان السليم. وقد استغرب الدكتور زكي كيف ضيق قضاة السودان من الانجليز والسودانيين واسع هذه الصيغة الرحيبة وجعلوها سبباً لتمكين القانون العام الانجليزي في السودان دون الشريعة وغيرها من القوانين الأقرب الى حياة السودانيين. وقد نسبت تجنب الانجليز للشريعة الى حالة استعمارية بريطانية سميتها "تهنيد الامبراطورية." والمقصود بهذا انه سبق للانجليز اسقاط الشريعة الاسلامية من اعتبارهم كمصدر لقوانين رعاياهم المسلمين حتى قبل أن يغزوا السودان. فقد استقر رأيهم وهم في الهند في منتصف القرن التاسع عشر أن شريعة المسلمين هي نظام قانوني سلفي لا مستقبل للحداثة به. وقد اكتفوا بخبرة الهند ولما يكلفوا انفسهم فحصها حين ضموا الى ملكهم مسلمي السودان او غيره. وهدتهم خبرتهم الهندية الغليظة الى انشاء قضائية ثنائية: قسم مدني وجنائي هواه هو القانون الانجليزي العام ومشتقاته الاستعمارية من جهة وقسم شرعي مختص بقوانين الأسرة المسلمة ومرجعه الشريعة على مذهب ابي حنيفة في الغالب. وهكذا يمكن القول أن زعم الانجليز بأن الشريعة نظام خالف لا يتفق والحداثة زعم باطل. فهم لم يطلبوا الحداثة من الشريعة أصلاً حتى يحكموا علىها بهتاناً كما فعلوا. وقد بينت انه في الحالات النادرة التي التمس من الشريعة قاض مثل مولانا بابكر عوض الله قبساً عدلياً جادت له في حين جحد القانون الانجليزي. وفي حديث اليوم اتعرض لوجه آخر من وجوه ظلم الانجليز للشريعة. فهم قد ضيقوا علىها حتى في اختصاصها كقانون للأسرة المسلمة في الثلاثينات حين سعوا لتمكين نظام الادارة الاهلية ومحاكمها. واضطرهم هذا الترتيب الاداري لمحو محاكم الشريعة من الريف السوداني وتفويض محاكم النظار لفض النزاعات الأسرية بالنظر الى أعراف القبيلة لا نصوص الشريعة. ثم سرعان ما استبانوا ضحى الغد ان الشريعة اعدل بالاسرة من آباء العشيرة البطراكيين.
    وسنوالي هذه المسالة في الحلقة القادمة لنرى كيف أجتازت الشريعة الاستعمار اختبار الحداثة على عهد الاستعمار فشرعت لالغاء الرق وعدلت مع النساء عدلاً ظاهراً.


                  

05-23-2003, 10:21 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)


    بقلم : د. عبدالله علي ابراهيم

    لعل منزلة الشريعة الاسلامية في الدستور والقانون كانت و ماتزال من أشد بؤر الخلاف التي اكتنفت تجديد التفاوض حول الوطن بغرض أن يصبح السودان المستعمرة امة لمواطنين لا حظيرة رعايا. وقد اندلق في سياق هذه المفاوضة حبر كثير ودم أكثر. ورأينا بما اسفر عن اتفاق مشاكوس بشان القوانين اننا نكاد اتفقنا ان الشريعة مما أعيت حيلتنا وانها مما يفرق ويباعد لايجمع ويؤالف. وهذه خطة عاجزة سيبقي بها خطاب الشريعة قنبلة مؤقوتة تتربص بالوطن طال الزمن أو قصر.

    وبدا بعد النظر ان اصطراعنا حول الشريعة لا يدور حول صلاحيتها كمصدر لقوانين السودان وان خلنا ذلك. فالشريعة كتقليد قانوني اهل لذلك علي وجاهة الاعتراض علي بعض أنماط العقوبات فيها. فلم تمنع غلظة القانون الروماني أن يكون المرجع في بلاد تعد في أقاليم النور مثل فرنسا. وقد نبه الي ذلك بصفاء مولانا المرحوم مدثر الحجاز في مذكرة له عام 1956 يلتمس من لجنة الدستور اصطحاب الشريعة في عملها ومنتوجها. اما الذي جعل الشريعة عظمة خلاف في بناء الامة منذ الاستقلال فهو أنها قد أضحت شارة لهوية المسلمين وسبباً لتواليهم. والمقصود بالتوالي، في تعريف الدكتور الترابي، مناصرة المسلمين بعضهم بعضاً برباط العقيدة حرباً علي غير المسلمين مها اشتط خلافهم في سائر الامور الاخري. وقد جاءت بهذا الفهم و المأخذ للشريعة الحركة الاسلامية لما صعدت حثيثاً في سلم السياسة واستثأرت دون جيل الحركة الوطنية الأزهري بالتعبير عن "الوطنية" الاسلامية. فقد كسدت بضاعة ذلك الجيل الأول كما هو معروف. وقد خالط هذا الطور من حياة الشريعة (اي طورها كهوية حضارية للمسلمين) نزاع مشاهد نرزح تحت وطأته ما نزال.

    أريد في المقالات التي انشرها متتابعة ان ارد الشريعة الي مطلبها الحق ان تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين. ولست اري في مطلبها هذا بأساً او ظلماً لغير المسلمين. فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متي خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية" وبذلوا سماحتها للوطن لايفرقون بين اهله متوسلين الي ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة. ولست ادعي علماً فيما يجد غير انني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية علي عهد الاستعمار وماتلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الاسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما اسميه "التقليد الشرعي السوداني 1898-1983).

    في مقالة الاسبوع الماضي جددت سؤالاً قديماً طرحه الدكتور زكي مصطفي وهو: "لماذا لم يستفد القضاة الانجليز والرعيل الأول من القضاة السودانيين من الشريعة الاسلامية في انشاء قوانين السودان المدنية والجنائية في حين أنه لم يكن في الصيغة الموجهة لعملهم القضائي ما يمنع من ذلك. فلم تطلب منهم تلك الصيغة سوي تحري أن القانون الذي يستعينون به، من اي مصدر جاء، لا يصادم العدالة والسوية والوجدان السليم. وقد استغرب الدكتور زكي كيف ضيق قضاة السودان من الانجليز والسودانيين واسع هذه الصيغة الرحيبة وجعلوها سبباً لتمكين القانون العام الانجليزي في السودان دون الشريعة وغيرها من القوانين الأقرب الي حياة السودايين. وقد نسبت تجنب الانجليز للشريعة الي حالة استعمارية بريطانية سميتها "تهنيد الامبراطورية." والمقصود بهذا انه سبق للانجليز اسقاط الشريعة الاسلامية من اعتبارهم كمصدر لقوانين رعاياهم المسلمين حتي قبل أن يغزوا السودان. فقد استقر رايهم وهم في الهند في منتصف القرن التاسع عشر أن شريعة المسلمين هي نظام قانوني سلفي لا مستقبل للحداثة به. وقد اكتفوا بخبرة الهند ولما يكلفوا انفسهم فحصها حين ضموا الي ملكهم مسلمي السودان او غيره. وهدتهم خبرتهم الهندية الغليظة الي انشاء قضائية ثنائية: قسم مدني وجنائي هواه هو القانون الانجليزي العام ومشتقاته الاستعمارية من جهة وقسم شرعي مختص بقوانين الأسرة المسلمة ومرجعه الشريعة علي مذهب ابي حنيفة في الغالب. وهكذا يمكن القول أن زعم الانجليز بأن الشريعة نظام خالف لا يتفق والحداثة زعم باطل. فهم لم يطلبوا الحداثة من الشريعة أصلاً حتي يحكموا عليها بهتاناً كما فعلوا. وقد بينت انه في الحالات النادرة التي التمس من الشريعة قاض مثل مولانا بابكر عوض الله قبساً عدلياً جادت له في حين جحد القانون الانجليزي. وفي حديث اليوم اتعرض لوجه آخر من وجوه ظلم الانجليز للشريعة. فهم قد ضيقوا عليها حتي في اختصاصها كقانون للأسرة المسلمة في الثلاثنيات حين سعوا لتمكين نظام الادارة الاهلية ومحاكمها. واضطرهم هذا الترتيب الاداري لمحو محاكم الشريعة من الريف السودان وتفويض محاكم النظار لفض النزاعات الأسرية بالنظر الي أعراف القبيلة لا نصوص الشريعة. ثم سرعان ما استبانوا ضحي الغد ان الشريعة اعدل بالاسرة من آباء العشيرة البطراكيين. فالي حديث اليوم.

    اتخذ طمس الشريعة من أن تكون مصدرًا للقانون الاستعمارى بالسودان شتى الأشكال . فحتى حين أنقص الإنجليز الشريعة بجعلها مجرد قانون للأحكام الشخصية مالوا إلى إنكار وحدتها وعالميتها كتشريع . وبرز هذا الاتجاه الاستعمارى بخاصة حين تبنى الإنجليز نظام الحكم غير المباشر فى عشرينيات القرن الماضى . وكانوا قد بيتوا النية بهذا النظام أن يكسروا شوكة الأفندية وحركتهم الوطنية . وكان الأفندية قد انتعشوا عددًا وطموحًا فى ظل حكم الإنجليز المباشر للسودان منذ مجيئهم فى 1898م . والمعروف أن الحكم غير المباشر هو الذى يخول لزعماء القبائل سلطات إدارية رعاياهم فى ما عرف بالإدارة الأهلية عندنا . والمعروف أيضًا أن الأفندية فى الحركة الوطنية قد ناصبوا الإدارة الأهلية العداء .

    نظر الإنجليز إلى المحكمة الشرعية ، التى اقتصر اختصاصها على أحوال المسلمين الشخصية ، كهيئة منافية لفكرتهم ومنهجهم فى الإدارة الأهلية . فالمحكمة الشرعية ، برغم اقتصارها على أحوال المسلمين الشخصية ، هيئة جامعة تستمد قانونها من شريعة ذات طبيعة عالمية . ويعطيها هذا الاستمداد طابعًا وطنيًا عامًا لا مكان له فى إعراب الإدارة الأهلية القائمة على الوحدات القبلية المتدابرة التى يكتفى كل منها بذاته عن الأخريات . وعليه قرر الإنجليز أن يتخلصوا من المحاكم الشرعية التى كانوا أسسوها فى مراكز الإدارات الأهلية الواسعة . وجعلوا من اختصاص محاكم الإدارة الأهلية النظر فى قضايا الأسرة على ضوء الشريعة . غير أنهم عَرَّفوا شريعة هذه المحاكم بأنها الشريعة كما يفهمها ويمارسها أفراد القبيلة المعنية حسب أعرافهم المحلية . وهذا تدبير مقصود أراد به الإنجليز فض عالمية أو وطنية الشريعة و » فكها « فى نسخ متعددة من الشرائع المحلية .

    ولم يقبل قضاة الشريعة السودانيون بهذا التبخيس للشريعة ودافعوا عن وحدة التقليد الشرعى وشروط كفاءة قضاته . فقد استنكر قاضى القضاة أن توصف شريعة محاكم نظار القبائل بأنها »أهلية« مستثنية قضاة الشرع المعروفين بالاسم من هذا القطاع الأهلي وهم من أهل السوان مثلهم فى ذلك مثل نظار القبائل . وصفوة الأمر أن تبخيس الشريعة هذا قد أنزل بها عواقب وخيمة . فقد حل عقيدتها القرآنية المركزية وعقدة تقليدها ومرونتها المشهودة لها بها حتى فى استصحاب عوائد وعادات الجماعات الإسلامية . فبدلاً عن هذا التقليد الشرعى الواحد وجدنا أن الإنجليز قد نجحوا فى استنساخ الشريعة وتفريغها فى شتات من الثقافات القبلية المختلفة . وسنفصل فى هذا الأمر أكثر فى الفصل الثالث .

    هناك قناعة رائجة بين الصفوة مفادها أن الاستعمار أعطى ما للإسلام للإسلام وما للإنجليز للإنجليز . فمما راج فى الكتب أن اللورد كرومر ، قنصل بريطانيا فى مصر ، الذى كان من وراء تأسيس إدارة السودان الاستعمارية ، دعا إلى سياسة احترام الدين الإسلامى والكف عن تدخل الحكومة فى شأن المسلمين الدينى . غير أن هذه الكتب تغفل عن سوء ظن كرومر الشديد بالإسلام وقناعته ، فى سريرة نفسه ، أن الشريعة ستذهب أدراج الرياح فى يوم قريب . فقد قال إن الشريعة قد طبقت فى مصر وهى ، فى قوله ، إن لم تكن لعهده قد شبعت موتًا فإنها فى حالة تفسخ وانحلال . وصفوة القول أن صيغة » العدالة والمساواة وإملاءات الوجدان السليم « التى سبق الحديث عنها ، كانت ستدمج الشريعة فى قوانين الاستعمار لولا ما رأيناه من تعصب البريطانيين ضد الشريعة وتنبؤهم إنها مما سيزيله زحف الحداثة .وجاء زكى مصطفى بكلمة سائغة فى هذا الشأن . فقد قال إنه كان بوسع الإنجليز ، إذا أنفذوا صيغتهم السمحاء تلك ، أن لا يشعروا بالحرج الناجم عن حكم بلد مسلم بتجاهل صريح لشريعته . والمسلمون ، من جهتهم ، لن يجدوا غضاضة فى هذه الصيغة المفتوحة لأنهم لا يعدون شريعتهم مما يصادم العدل والمساواة وإملاءات الوجدان السليم فحسب بل ويعتقدون أنها نبع العدل والإحسان . وقد أفرغ الصيغة من سماحتها ما قر فى ذهن السلف من القضاة الإنجليز والخلف من السودانيين أن القانون الذى ينبغى تطبيقه ، برغم رحابة الصيغة المعمول بها ، هو القانون الإنجليزى .

    شكل حجب الشريعة من أن تكون واحدًا من مصادر القانون الاستعمارى كارثة ثقافية وسياسية طوال عهد استقلالنا . ولأننا قد بخسنا الشريعة حقها ، ظلت تتعقب الأمة بشكل ثأرى ، وتنغص عليها قانونها ودستورها ، وتؤذى عملية بناء الأمة السودانية فى الصميم . فقد أخفقت الأمة المستقلة أن تدير حوارًا مسؤولاً ذا معنى لتقف على المرارة التى احتقنت بها الشريعة ، كتقليد قانونى، استبعده الإنجليز من عملية تحديث القانون من غير ذنب اقترفه .

    ولا خلاف أن أكثر اللوم فى هذا التجنب للشريعة على عهد الاستقلال خاصة وتأخيرها يقع على عاتق المهنيين السودانيين من ذوى التدريب الجيد فى القانون الإنجليزى العام . فقد تغلغلت فى هذه الجماعة المهنية ، من جراء غربتها عن الشريعة الإسلامية ، ما يعرف بـ »الاستشراق الداخلى« . والاستشراق كما نعلم حزازات وجهالات باطشة ترتبت عن دراسات المستشرقين للإسلام . والاستشراق الداخلى هو أن يستبطن المسلم المغلوب على أمره صورة المستشرقين الدونية عنه ، ويتبناها ، ويحكم بها على تاريخه وعقله ومكانه .

    لقد القى إهمال الشريعة فى استنباط القانون الاستعمارى خلال فترة الاستعمار وما بعدها ، باسم الحداثة ، ستارًا على هوان عظيم أحس به المسلمون خلال فترة الاستعمار . ومع ذلك ظل هذا الهوان بلا اسم وعنوان فى الدراسات عن الاستعمار . فلم تحفل دراسات الحركة الوطنية بتعيين ووصف هذا الصغار لتركيزها على أدبيات مقاومة الاستعمار . ومن شأن من يركز على المقاومة أن لا يعير هذا الهوان انتباهًا لأن المقاومة ، فى نظر كتبة هذه التواريخ ، هى ترياق للاستعمار ومطهر من أوجاعه ومهاناته . غير أن بازل ديفدسون ، المؤرخ لأفريقيا والناشط الذرب فى مسائل التحرر الأفريقى ، سمى هذا العار ، الذى يحسه المستعمرون لمحض استعمارهم بواسطة قوم ذى شوكة ، بـ (الإهانة الروحية ) . ويمكن تعريف هذا الوجع بالنسبة للمسلمين ، على ضوء مفهوم بازل ديفدسون ، بأنه الإهانة التى يشكلها الاستعمار لأسلوب المسلم فى الحياة . ومن أميز ما جاء به ديفدسون هو التفرقة بين الطريقة التى يغالب فيها كل من عامة المسلمين وصفوتهم هذا الوجع الروحى . فالصفوة من المسلمين ، فى قول ديفدسون ، لم تعان هذه الذلة والصغار الروحى بنفس الحدة التى اتصفت بها معاناة عامة المسلمين . فخلافًا لعامة المسلمين ، قبلت الصفوة بهذا الصغار الفاجع كثمن لا مهرب منه للتقدم واللحاق بالعالم المسرع بالخطوات المطردة فى مراقى الحداثة . وربما فسر لنا هذا التمايز فى الشعور بالهوان الأخلاقى لماذا ظل الموضوع برمته غير مدروس وبلا اسم . فالصفوة هى التى تبلور المفاهيم وتضفى عليها الاسم ، وحين لا تحس بالشئ يصبح كأنه لم يكن فى حين تكتوى به عامة المسلمين من غير إفصاح وإبانة عن مكنوناته .

    وكانت مهانة الاستعمار لعامة المسلمين السودانيين حقًا . فقد تغلغل هذا الجرح عميقًا فى قلوبهم فى اليوم الذى غلبوا فيه على أمرهم وتولى أمرهم قوم من الكفار ذوى الشوكة . فقد رثى أحمد أبو سعد ، مادح المهدية ، أيام المهدية الزاهرة التقية إذ رأى فى غلب الإنجليز للمهدية ائيذانًا بنهاية الدنيا وقال :

    إسلامنا إتربا ( أى جرى مسخه وتخليطه )

    وعلى المستوى الأخلاقى ربط المادح بين ظفر الإنجليز بالسودان وجعل شراب الخمر والمجون عملاً مشروعًا على خلاف ما كان عليه الحال أيام المهدية وقال :

    جاتنا المانديرا ومسخت الديرا

    و ( المانديرا ) كلمة تركية تعنى العلم . والعُرف أن ترفع الأنادى الأعلام ( حانات الشراب ) بمثابة إعلان أنها مستعدة لخدمة الزبائن . وأصبحت العبارة ( رفع مانديرا ) كناية للسلوك الخليع المبتدع الضال الذى يفارق خلق الجماعة المسلمة .

    ولم تتأخر دولة الاستعمار التى خلفت المهدية عن رفع المانديرا . فقد جعلت تعاطى الخمور ، والقمار ، والبغاء عملاً قانونيًا . وبدأت محاكم الإنجليز تنظر فى قضايا هى فى الأصل مما يصادم خلق المسلم وضوابطه الإسلامية : فقد نظر أحد القضاة الإنجليز فى 1900م قضية ربا وحكم أن سعر الفائدة فيها كان فاحشًا مما لا يسمح به القانون السودانى الاستعمارى الذى وجه القاضى أن يعتبر فى أحكامه ( المبنية على القانون الإنجليزى العام كما ورد ) العدل والمساواة وإملاءات الوجدان السليم . وقد نبه عبد الرحمن إبراهيم الخليفة ، الناقد المرموق للقانون الجنائى الاستعمارى ، إلى المفارقة المأساوية فى هذا الحكم . فالمحاكم المهدية ، فى قوله ، التى دالت دولتها قبل عامين من هذا الحكم ، ما كانت تقبل بالأساس أن تنظر فى قضية ربا سواء كانت الفائدة فاحشة أو ميسورة .
                  

05-23-2003, 10:23 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)


    بقلم/ د. عبد الله علي ابراهيم

    الدكتور عبد الله علي ابراهيم يوالي حلقاته عن القانون السوداني الوضعي الذي ا دار ظهره للشريعة الاسلامية.

    ما كاد السودان يستقل حتى نشأت الجماعات الدينية السياسية والتربوية التى جعلت هذا الألم الروحى نصب عينيها مركزة على المفارقة بين قانون المسلمين الأخلاقى المضمن فى الشريعة والقانون الوضعى السائد فى حقبتى الاستعمار وما بعد الاستعمار. وتعالت الدعوات لإصلاح هذا القانون الوضعى ليواطئ خلق المسلمين الشرعى. وتنامت هذه الدعوات تنامياً هز ساكن البلد وخطاب القانون هزاً شديداً. وعَرَّضت هذه الدعوات ومترتباتها شرعية الدولة، المورثة عن الاستعمار، إلى مساءلة وامتحان عسيرين. مثلاً، أصبح البغاء المسموح به فى قانون المستعمر الموروث، مادة لنقاش محتدم فى الستينات شارك فيه الذين يرون وجوب إلغائه. وأفضى ذلك بالتدرج إلى تسييس الدعوة إلى إزالة أثر الاستعمار من القانون بما فاق طاقة أهل مهنة القانون للاستجابة لها أو التعامل معها. وقد قصد أهل الدعوة لإزالة الأثر الاستعمارى عن قانون السودانيين المسلمين، إلى إحراج القسم المدنى فى القضائية ذى الصلف الذى لم يرد قضاته أن تمس القوانين التى ترعرعوا فى ظلها. وقد أراد أهل الدعوة بدعوتهم أن يبرزوا قضاة القسم المدنى فى عين العامة كحراس أشداء للإرث الاستعمارى .

    كانت المعالجة الإيجابية للمفارقة بين القانون الموروث وشريعة المسلمين بحاجة إلى قيادة مهنية قانونية ذات أريحية وألمعية. ومن الطريف أن الذى رأى لزوم هذه القيادة هو الأستاذ قاو المحاضر بكلية القانون بجامعة الخرطوم فى وقت باكر نسبياً هو عام 1951م. ففى سياق اجتماعات الجمعية الفلسفية السودانية فى شهر نوفمبر من ذلك العام، أى فى أصيل الفترة الاستعمارية، دعا قاو إلى وجوب إصدار تشريعات حول مسائل مبدأية تؤاخي بين القانون والخلق والسياسة فى الفترة التى ستلى الاستعمار. وهى الفترة التى سيتاح للسودانيين التشريع أصالة عن أنفسهم وبحرية. وأضاف أنه يستحيل فصل القانون عن السياسة لأن القانون هو الرابطة الواصلة بين الأفكار التى تعمر رأس السياسى وبين الهدف الذى يسعى هذا السياسى إلى تحقيقه. ونصح قاو أن تأخذ القوانين فى ظل السودان المستقل فى الاعتبار بشكل جدى الأفكار المستوطنة التى هى لحمة وسداة المجتمع السودانى فى ماضيه وحاضره ومستقبله. وهذه الأفكار، فى نظر قاو، هى أفكار سياسية لأنها تحمل بصمات السياقات الثقافية والتاريخية والأخلاقية والجغرافية للسودان. ولكى يشدد على عقيدته عن الأهمية السياسية للقانون، أوصى قاو بأن يكون على رأس كلية القانون بجامعة الخرطوم رجل ليس ضليعاً فى القانون وحسب، بل وعلى دراية ومعرفة عميقتين بعادات السودانيين ونفسياتهم. وقَدَّر قاو أن لب مهمة كليات القانون هذه أن تخرج رجالاً ذوى أذهان متعلقة بالقضايا الأساسية للحياة.

    والحسرة إن كلية القانون قد خذلت قاو وقصرت دون توقعاته الذكية. فقد أخفقت الكلية إخفاقًا مرموقًا فى مهمة أن تستكن الشريعة القانون السودانى الحديث. فما تسنم خريجو هذه الكلية من معتنقى القانون الإنجليزى قمم السلطة القضاية، حتى نشروا استشراقهم الداخلى وجعلوا منه الثقافة القانونية الواجبة المعرفة على سائر الأمة. وكان مانفستو هذا الاستشراق الداخلى هى المقالة التى نشرها مولانا جلال على لطفى فى عام 1967م بمجلة السودان القضائية.

    ففى هذه المقالة المانفستو رأى مولانا جلال أن الإصلاح القانونى سيكون بمثابة عملية تطورية لا ثورية. وغير خاف أن العملية الثورية هذه هى التى كان يدعو لها آنذاك دعاة العروبة، ممن طالبوا بتطبيق القانون المصرى فى السودان، ودعاة الإسلامية، الذين طالبوا بتطبيق الشريعة الإسلامية. وأوضح أن كلا الدعوتين تريد أن ترمى بالقانون السودانى المستمد من القانون الإنجليزى إلى سلة المهملات. ولم تكن غالب صفوة القانون الإنجليزى العام من خريجى جامعة الخرطوم من ذوى المزاج الثورى الذى يحل تقليدًا قانونيًا بتقليد قانونى آخر مختلف عنه أشد الاختلاف. فلم تكن هذه الصفوة ترى فى القانون السودانى ذى الأصل الإنجليزي تقليداً أجنبياً. فقد اعتقدوا حقاً أن ما كانوا يطبقونه فى محاكمهم هو بالحق قانون سودانى انبنى على المبادئ القانونية الإنجليزية ولم يصادم عوائد السودان ولا تقاليده.

    وكانت عقيدة هذه الصفوة من جامعة الخرطوم شديدة وصارمة واستعلت على الناصح والمراجع. فقد تكرر نصحهم بواسطة الدكتور ألوت فى مقال له فى سنة 1960م، وكذلك كليف تومسون فى كلمة له عام 1965، بوجوب إعادة النظر فى مواءمة القانون السودانى الموروث للبلد الذى نال استقلاله وأصبح أهله مواطنين لا رعايا. ومع ذلك أصرت هذه الصفوة أن القانون الذى درسوه وطبقوه فى المحاكمة، سيبقى لا محالة. وأنه سيتطور فى طريق الإصلاح لا طريق الثورة. وقد وصف مولانا جلال دعوات القوميين العرب والإسلاميين لاستبدال القانون السودانى الموروث ببدائل اتفقت لهم بأنها «رغائب سياسية» لجماعات من الأقليات الشواذ التى تحركها العاطفة بدلاً من العقل والضرورة.

    بالطبع لم تنس هذه الصفوة القانونية المهنية القائدة أن تُضَعِّف وتُجَرِّح الدعوة إلى تطبيق الشريعة بالإشارة إلى وجود أقليات غير مسلمة فى السودان. غير أن أكثر اعتراضات هذه الصفوة، كما تجسدت فى مقالة مولانا جلال، هى إعادة تعبئة لمآخذ استشراقية على الشريعة. ومن ذلك قوله إن القوانين الإسلامية لا تناسب الدولة الحديثة لأنها قد نشأت لحاجة مجتمع بدائى فى القرون الأولى. ووصف عقوبات مثل قطع اليد والرجم بأنها من بقايا البربرية. وأضاف بأن الشريعة لم تُقنَّن فى تشريع جامع بين دفتى كتاب مما يفضى إلى إنبهام دروب القضاة فيها بالنظر إلى تعدد المذاهب والاجتهادات والأحكام. واختتم بقوله إن الشريعة، كقانون سماوى مقدس، لا تأذن بالتغيير.

    ومن أشد ما يأسف له المرء أن هذا الاستشراق الداخلى، الذى تمكن من صفوة القانونيين، ممن هم على مذهب القانون الإنجليزى العام، ترسب كصدفة سميكة حجبت عن القانونيين هؤلاء أفضل النظرات المهنية والمعرفية القانونية التى تبرع بها أساتذتهم وزملاؤهم من الإنجليز سواء فى القضائية أو كلية القانون ممن انتهت عقود عملهم فى السودان نتيجة لحصول البلد على استقلاله. فقد نصح هؤلاء القانونيون الإنجليز، فى مغيب شمس الاستعمار، تلامذتهم وزملاءهم السودانيين أن يراجعوا بجذرية إدارة العدالة فى البلد بالنظر لأن مواطنيه قد أصبحوا مواطنى أمة مولودة بعد أن كانوا رعايا فى مستعمرة. وشتان بين الوضعين. ولم تستبن صفوة القائدة النصح إلا ضحى الغد. فهؤلاء القانونيون الذين استناموا لفكرة أن الإصلاح القانونى سيكون تطورياً لا ثورياً، فقد فوجئوا بالمطالب الثورية السياسية لتغيير القانون تطرق بابهم وتأخذهم على حين غرة.

    من أولئك الإنجليز الناصحين الدكتور توايننق الذى كان محاضراً بكلية القانون بجامعة الخرطوم فى خمسينات وستينات القرن الماضى. فقد كتب فى 1957م، والاستقلال لا يزال طفلاً، ينبه زملاءه وتلاميذه السودانيين أن مقتضيات السياسة ربما أملت عليهم تغييرات وإصلاحات قانونية قد يرونها فطيرة وعشوائية وما هى كذلك فى نظر أهل السياسة. فالقانون لا يتطور فقط بالخطوة المدروسة البطيئة بل قد يتطور بالخطوات القافزة الثورية. وضرب توايننق مثلاً على ذلك بتركيا. فلم تأخذ تركيا أكثر من ثمانية أشهر لتغير شرائعها الموروثة بالقانون المدنى المعمول به حالياً والذى استعارته من سويسرا بعد ترجمة عجلى جداً فى 1926م. ولم يكن المهنيون القانونيون الأتراك سعداء بهذا الانقلاب التشريعى بالطبع. إلا أنه لم تكن بيدهم حيلة. واتجه توايننق بنصحه إلى جهة أخرى.
    الرأي العام 6 مايو 2003م

                  

05-23-2003, 10:25 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)


    الشريعة التقدمية، الحداثة الرجعية: الشريعة والرق فى السودان
    from www.rayaam.net May 20th 2003
    بقلم/ د. عبد الله علي ابراهيم

    رأى المستعمرون أن الشريعة مما شرع للرق كممارسة قانونية. ومع ذلك رأوا أن يغضوا الطرف عن هذا الجانب من الشريعة الذى يتعارض مع مهمتهم التمدينية المزعومة. ولم يحملها المستعمرون على تعطيل هذا الجانب فى تشريعاتها إلا بمقدار. وتبنى الإنجليز عدة طرق للتأقلم على هذا النهج الانتهازى من تفادى تقحم الرق. فهم قد حجروا على المحاكم الشرعية النظر فى جملة من القضايا التى للرق أو الرقيق فيها طرف. فقد وجهت الإدارة الاستعمارية قضاة الشرع منذ عام 1907 أن لا يشملوا الرقيق ضمن التركات المعروضة على محاكمهم. كما استبعد الإنجليز المحكمة الشرعية من النظر فى القضايا التى قد تنشأ بين الورثة حول ملكية رقيق ما رضي أن يبقى مع أسرة سيده المتوفى. من الجهة الأخرى اختصت الحكومة المفتشين الإنجليز، دون قضاة الشرع، بنظر القضايا التى يرفعها الجنود يطالبون برد أخت أو قريبة من ربقة الرق. واختصر دور القضاة الشرعيين فى مثل هذه القضايا على الشهادة بمصداقية قسائم الزواج التى تقدم بها الأطراف. كما سألت الحكومة مديرى المديريات أن يحكموا دون غيرهم فى القضايا التى يطلب فيها سيد رقيق أن يرث رقيقه المتوفى. وجرى توجيه المحاكم الشرعية فى 1919 أن تعتبر الحرية هى الوضع الشرعى حين تنظر فى قضايا الزواج والولاية على القصر. ولم يثبت عن القضاة مقاومة لهذه الإجراءات تجيز لنا وصمهم أو وصم الشريعة بالتعلق العقدى بفقه ولى زمانه.

    لقد تبنى القضاة سياسة إلغاء الرق متى ما عرضت المسألة أمامهم ومتى ما تمتعوا بحرية إصدار قوانينهم المخصوصة لمعالجتها. ففى وقت باكر فى 1902 وجه قاضى القضاة محاكم الشريعة أن تحتاط وتحذر وتدقق فى الإثبات حين تنظر فى قضية يدعى فيها رجل أن جاريته هى زوجه أيضاً. فقد وجه قاضى القضاة المحكمة أن تنظر بعناية لتتأكد من صحة أوراق عتقه لها وزواجه بها ومن جهة مقدم الصداق ومتأخره خاصة. فإذا صحت للمحكمة هذه الأوراق حكمت له مُحَرِجة عليه، بعد أن تقدر له مقدار تكلفة معيشتها، أن يحسن إليها. علاوة على أن المنشور الشرعى رقم (2)، الصادر فى حوالى 1902، قرر أنه لا يمكن لرجل أن يدعى ملكية خادمته التى جرى منحها ورقة الحرية. وجاءت بعض هذه المنشورات بما يخالف صريح الشريعة. فالمنشور رقم (7)، الصادر حوالى 1906، أعطى الرقيق الحق فى وراثة أسيادهم.

    كان قضاة الشرع راغبين فى التعاون البناء مع الإنجليز لتنفيذ سياسة إلغاء الرق. فقد أدرك هؤلاء القضاة أمرين اثنين إدراكاً جيداً الأول وهو أن الرق قانونى فى شريعتهم مهما تلطفنا فى أمره. والأمر الثانى أن حيلتهما القانونية قليلة جداً فى وجود الاستعمار وسطوته. فقد قبلوا من جانبهم، مكرهين بالطبع، أن تقتصر الشريعة على قضاء الأسرة. والحق أنه لم يكن لهم رأي فى ذلك. فقد جرى تعليمهم وتدريبهم وتعيينهم فى سلك القضاء على أنهم قضاة أحوال شخصية لا غير. ولم يشاكسوا الدولة فى ترتيباتها، التى تقدم فيها رجلاً وتجر أخرى، لإلغاء الرق. وأخذوا فى التشريع لذلك الإلغاء المتراخى وإضفاء مباركة الشريعة له. فقد قبلوا بغير ضجر أن تصدر تشريعاتهم باعتبار أن الحرية هى الوضع الطبيعى للناس. وكانت أسطع عبارة شرعية تضمنت هذا الاعتبار هو الحكم رقم 65 لعام 1902 الذى أصدره القاضى محمد الحضرى، قاضى شرعى دنقلا. وظل القضاة يأخذون بهذا الاعتبار والحكم حتى وقت متأخر من عام 1983 و1984 فى القضايا القليلة التى تواقح فيها مدعوون بطلب حقوق مترتبة على حالة الرق مثل الذى طلب وراثة متوف لأن أباه كان يمتلك أم المتوفى وتسمى به (جريدة آخر خبر 24/7/1995). غير أن باحثًا حجة فى القانون مثل الدكتور عبد الله النعيم لا يزال يرى إلغاء الرق هو إنجاز أملاه قانون الاستعمار العلمانى وأن الشريعة فى السودان لم تعتبر مسألة الرق بجدية أومثابرة.

    ولم يمنع استمزاج القضاة الشرعيين لمقتضى الحداثة أن يرسموا بقوة الخط الفاصل بين شريعتهم والحادثات التى قد تفسد منطق الشريعة أو تطيح به. وكثيرًا ما أبانوا بصورة مقنعة عن منطق شريعتهم وكيفية الولاء له فى خضم الحادثات. فقد عبر قاضى القضاة فى رسالة إلى السكرتير القضائى عن عدم ارتياحه للصدام الناشىء بين الحقوق التى تمتع بها الأرقاء السابقون ممن نالوا ورقة الحرية، وبين عقود الزواج الإسلامية. وكان أكثر همه أن الجارية التى تحررت عن طريق مثل تلك الورقة ربما اعترفت بأنها كانت من ضمن ما ملكت أيمان سيدها المعروف فى حين تكذب أبوته لولدها. وهو تكذيب يترتب عليه أن يصبح هذا الولد ابن سفاح وهو وضع منكر فى الشريعة التى أصل منطقها تنظيم العلائق الجنسية بصورة توصد الباب

    عن المسألة بعدها. فقد إحتج أن هذا القصر غير معمول به فى مصر. ولا جدال أن حمل الزوجة حملاً للرجوع إلى بيت الزوج لا يزال من المسائل الشائكة فى زمننا وتحتاج لنظر شرعى دقيق بصير. وقد رأينا قبساً من هذا النظر حين استقل قضاة الشرع بقسمهم ونفوا هيمنة القسم المدنى بمقتضى قانون المحاكم الشرعية لعام 1967. فقد جاءت موجاتهم بشأن هذا الإرجاع القسرى حانية رصينة كما سنرى.

    كان لقضاة الشرع أيضًا نظرات اجتماعية ثاقبة فى مسألة بيت الطاعة. فقد اعتقدوا أن بطريكية العائلة، التى هى سلطة الرجال، ربما كانت سببًا قويًا فى نشوز الزوجة. ولذا كان من رأي قضاة الشرع أن الحكم ببيت الطاعة موجه بالفعل إلى هذه السلطة التى قد تفسد مابين الزوجين لخصومة لا أصل لها فى سكونهم واحدهما إلى الآخر. وكان من رأيهم أن حكم الطاعة قد يخرج الزوج المتهمة بالنشوز من حرج أن ترى كمن يفضل زوجها على قبيلها. وهناك حالات عديدة دالة على سداد هذه النظرة الاجتماعية الثاقبة للقضاة الشرعيين. غير أن ما إحتج عليه قاضى القضاة بشأن أحكام بيت الطاعة فهو عن زوجات رفضن العلاقة الزوجية بإباء وشمم على ما يظهر من نصوص القضايا المنشورة.

    وصفوة القول إننا ينبغى إلا أن نعد قضاة الشرع مجردين من الحساسية تجاه الفظاظة التى ينطوى عليها حكم بيت الطاعة. فحس أكثرهم بالحيف على النساء كان كبيراً. وقد نصروهن كثيراً فى أحكامهم حتى سماهم الرجال، المستنكرين لوقوفهم بجانب نسائهم، بـ «قضاة النسوان». وسنرى عن قريب فى هذا البحث جوانب من الشريعة اجتهد فيها القضاة الشرعيون اجتهاداً توافقوا فيه مع عصرهم واستحقوا ثناء من درسوا عملهم هذا. وقد نصيب فهمًا أفضل لأريحية القضاة الشرعيين إذا حملنا شكوى القضاة الشرعيين بخصوص أحكام بيت الطاعة وقصرها على ثلاث تنفيذات وغيرها محمل الاحتجاج على المحاكم المدنية الطاغية فى القضائية، التى اتفق لها تنفيذ أحكام الطاعة، لا محمل أنه استهانة من القضاة بحقوق النساء. وليس أدل على ذلك من أنه غالباً ما اتصل إلحاح القضاة على حكم بيت الطاعة، الذى يسوء أهل الحداثة، بشكواهم بطغيان القسم المدنى عليهم وتنفيذه أحكام المحكمة الشرعية دونهم. ولم يشفع لهم احتجاجهم الأزلى على هذا الضيم عند المرحوم محمود محمد طه، فى خصومته الطويلة معهم، الذى عد عجز قضاة الشرع عن تنفيذ أحكامهم نقصاً معيباً لأنه من باب الإيمان ببعض الكتاب. وظلت الشكوى من مصادرة حق التنفيذ من المحكمة الشرعية ديدن القضاة. ففى مؤتمر عام للقضاة عام 1974 حضره الرئيس نميرى، وقد أعيد توحيد القضائية تحت سلطة رئيس القضاة المدنى، اشتكى قاض شرعى من قرار كان نميرى قد أصدره بعدم تنفيذ أحكام بيت الطاعة. وقال المشتكى إن هذا يؤدى إلى إزدياد حالات النشوز التى تعلق المرأة فلا هى زوجة ولا هى طالق.

    وقد مال القضاة إلى اللطف فى أخذ حكم بيت الطاعة حين تمتع قسمهم باستقلاله الذاتى فى إطار القضائية بفضل التعديل الدستورى فى 1966 الذى جعل القسم الشرعي مسئولاً مباشرة إلى مجلس السيادة. وكان أميز ما فى قانون المحاكم الشرعية 1967 هو منح المحاكم الشرعية سلطات مدنية وجنائية لتنفيذ حكم الطاعة بموجب اللائحة الشرعية لإجراءات التنفيذ لعام 1968. ولما أصبح تنفيذ الطاعة من اختصاص القضاة لم يستبدوا بالأمر. ولم تبدر من القضاة غلظة أو ترويعاً فى إنفاذ حكم الطاعة. فقد قضت تلك اللائحة بأن يجرى تنفيذ حكم بيت الطاعة برفق بمنح المرأة التى حكم عليها بالطاعة أسبوعاً لتقبل الحكم والتهيئة لعيشها مع زوجها. فإن انقضى الأسبوع ولم تعد أمرت المحكمة باعتقالها وإعادتها بالقوة. فإذا هجرت زوجها مرة ثانية وجب على الزوج رفع قضية جديدة خلال ست شهور من تاريخه. وهكذا لم يغير القضاة الشرعيون حين آل إليهم أمر تنفيذ ببيت الطاعة شيئاً ذا بال فى الممارسة السابقة التى استنها الاستعمار. وهذه سماحة مشهودة فيمن ارتفع عن كاهله المتطفلون على خاصة أمره وشرعه.

    وتجدد خطاب حكم الطاعة بعد وصول نميرى للحكم فى 1969 بواسطة انقلاب يسارى أراد محو مكاسب الحلف الإسلامى، الموصوف بالرجعية من خصومه، بعيد قيام ثورة أكتوبر فى 1964، وكان ضمن خسائر القضاة فى حملة اليسار الانتقامية هو قرار نميرى بتجميد أحكام الطاعة التى تنتظر التنفيذ. وكتب قاضى القضاة يحتج على قرار دولة نميرى بشأن بيت الطاعة بأدب ثعلبى اشتهروا به فى أوقات الغلب والتقية كما مر ذكره. فبعد أن أبدى القاضى استعداد محاكمه لتنفيذ إرادة الحكومة فى إلغاء بيت الطاعة التمس منها بيان أمر أو أمرين. فقد نبه إلى أن أحكام بيت الطاعة فاشية فى بلاد العرب والمسلمين وكأنه يريد أن يوحى أن السودان، وهو على هامش مهمل من تلك البلدان، إنما يأتى أمراً إداً بإلغاء بيت الطاعة. ونقل القاضى للحكومة أنه شرع فى إلغاء تنفيذات بيت الطاعة بالفعل بعد استعراض للقضايا التى فى بابه. وقد وجدها غيضاً من فيض مما ينتظر محاكمه من قضايا. وهذه طريقة ثعلبية أخرى للقول إن قرار الحكومة هو زوبعة فى فنجان.

    وقد استثقلت فلوهر لوبان قرار نميرى بتعطيل أحكام الطاعة. فقد كانت أعجبت دائماً بالطريقة التى تطور بها قانون الأحوال الشخصية فى السودان نحو إكرام المرأة وإنصافها بمبادرة إبداعية مهنية للقضاة الشرعيين أخذت فى الاعتبار شروط العصر السياسية والاجتماعية. وبناء على ذلك رأت قرار نميرى أول صور التطفل من حكومة علمانية تعدل فى الشريعة بغير وسيط القضاة الشرعيين. ونبهت إلى ماجره القرار من خلط وما أنطوى عليه القضاة من خذلان من جرائه. وسيكون لوم القضاة الشرعيين على شكواهم من هذا القرار «التقدمى» للنميرى صعبًا. فمن العسير إقناعهم «بتقدمية» هذا القرار لأنهم يردونه إلى سياق صراع طويل بينهم وبين القضاة المدنيين. ولم يكن القرار، فى نظرهم، صراعًا بين التقدمية والرجعية وإنما حول السلطات والموارد والميزات فى القضائية الاستعمارية المزدوجة كما رأينا.

    وقد وقع هذا القرار الموصوف بالتقدمية فى إطار حملة «ثأرية» يسارية أرادت أن ترد القضائية إلى سابق عهدها وتنتزع من القسم الشرعى استقلاليته التى نالها فى 1967 كثمرة حلف سياسى آخر سابق.


    بيت الطاعة: شرعه وسياسته
    لم يجد مبدأ بيت الطاعة، الذى يخول للمحكمة رد الزوجة الناشز إلى بيت الزوجية، قبولاً من الإنجليز. وأصدروا توجيههم للسلطات المدنية والإدارية فى القضائية، التى كلفت بتنفيذ الأحكام التى يصدرها قضاة الشرع، أن يمتنعوا عن تنفيذ حكم بيت الطاعة متى ما أعادوا الزوجة ثلاث مرات ومازالت تهجر بيت الزوجية. كما اعتبرت تلك السلطات وقوع حكم الطاعة متى صافحت الزوجة الزوج أمام المحاكم ولا تنشغل تلك السلطات بما يحدث متى ترك الزوجان قاعة المحكمة. واستوجب هذا التوجيه على الزوج أن يرفع قضية جديدة إذا ما هجرته زوجته بعد الإرجاع الثالث لها. ولم يقبل قاضى القضاة بقصر إرجاع الزوجة الناشزة على مرات ثلاث تنفض الحكومة يدها
    نواصل
    بيني وبين جلق
    كتب اللواء (م) ابراهيم جلق يأخذ عليَّ بشدة ما جاء في مقال نشرته بهذه الصحيفة (25/2/2003). وقد ذكرت في المقال واقعة قلت إنها جمعت بين جلق والمرحوم السد العالي، لاعب الهلال المعروف، وجعلت من ثمرتها (وحتعمل بيها إيه يا جلق؟) عنواناً للمقال. وقد اتضح لي بعد التحري أن جلق لم يكن طرفاً في الواقعة غير أنني استمعت الى أسماء لاعبين كثيرين كطرف فيها مما جعلني اضرب عن ذكر اللاعب الذي خاطبه السد العالي بتلك العبارة.

    إنني شديد الأسف على هذا الخطأ واعتذر عنه للواء ابراهيم جلق وأسرته ممن كدَّرهم هذا الذكر المجانب للحق.
                  

05-23-2003, 10:27 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)




    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم



    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الاولى)



    (1)

    ليس في المعاني الانسانية ما هو أرفع من الدين ، فلقد نشأت المجتمعات على الأعراف الدينية ، فحفظتها ، بما ارست فيها من قواعد الأخلاق والسلوك .. فالدين أول ماعرف الانسان ، وسيكون آخر ما يعرف .. فقد تصور الانسان البدائي قوى الطبيعة المختلفة ، آلهة جبارة تتحكم في حياته ، ولا تأبه بمصيره ، فتزلف اليها ، وقرب لها القرابين ..وكان يرى اقرباءه الذين ماتوا في احلامه ، وهم يتحركون وكأنهم في حياتهم العادية ، ومن هنا نشأت فكرة الحياة الأخرى ، ومختلف التصورات عنها.. وزاد الخوف من بطش الآلهه ، اذ تعدى الأذى في الدنيا الى العذاب في الحياة الدائمة !! ولكن ذلك الخوف هو الذي حفز الانسان في مراقي التطور ، فخوفه من عناصر الطبيعة ، ومن الحيوانات المفترسة ، ومن اعدائه ممن هم مثله ، مدد خياله ، ووسع حيلته في التخفي ، والمناجزة ، وشحذ ذكاءه ، فاكتشف قوانين الطبيعة واستغلها في تصنيع سلاحه وتطويره من السلاح الحجري حتى القنبلة الهايدروجينية !! أما الخوف من عقاب الآلهه في الحياة الأخرى ، فقد اعانه على كبت رغائبه وشهواته، والخضوع لعرف الجماعة ، حتى في غياب الرقيب ، وضمان الأمن من بطشها ، ومن هنا نشأ الضمير الانساني في سحيق الآماد ..

    فلم يرسل الله الرسل ليخبروا الناس بان لهم إلهاً ، لأن ذلك سبقتهم اليه رسل العقول . فقد ادرك العقل البدائي الساذج بالتجربة المعاشة ، ان ليس هناك شئ صنع نفسه بنفسه .. فقام في خلده ان هذه الأرض الواسعة ، والجبال الهائلة ، والبحار والانهار والاشجار السامقة والسماء والشمس والقمر والنجوم ، لا يمكن الا ان تكون قد صنعت بيد صانع قدير ، أقوى وأحكم من الانسان !! وهكذا نشأ الدين في الأرض ، ثم ألمت به أسباب السماء ، على مكث ، وتلبث ، فهذبته ، وسيرته وفق أرادة هادية من ظلام الوثنيات الى نور التوحيد .. فعرفت أديان التوحيد الله للناس ، ووصفته لهم على قدر طاقتهم ، ومهدت طريق الرجعى له بمناهج العبادة وحسن الخلق ، والطقوس المختلفة ، مما نشرته الأديان على مر الأزمان ..


    (2)

    في تلك المراحل البدائية من مسيرة الدين ، كان هناك مشرفون على القرابين وحراس للنار ، وامكنة العبادة ، فأخذ هؤلاء يفسرون للعوام رغبة الآلهه ، ويستلمون الهدايا باسمها ، ويحافظون على مكانتهم بتلاوة التعاويز والرقي ، التي لا يفهمها عامة الناس !! فاذا ارتفع الدين في النفوس ، قام سدنة النار ، وحراس المعابد ، والكهنة بواجبهم تجاه الآلهه ، وتجاه المواطنين ، ومثلوا صوت العقل ، بينهم وبين الأقوياء ، الذين كانوا يغتصبون حقوق الجماعة ، ويبنون على آلامها امجادهم الشخصية .. وحين ينحط الدين في النفوس يخاف رجال الدين من الزعماء الأقوياء ، ويطمعون في عطاياهم ، فيهرعون لمساعدتهم في بسط نفوذهم على الفقراء ، والمساكين ، ويستعملون الحجج الدينية التي تدعو العامة للتسليم للزعماء ، والخضوع لهم ، والا غضبت عليهم الآلهه ، واستحقوا بطش الزعماء !! وهكذا يختل ميزان العدل ، ويسود الظلم والفساد ، ويجمع الطغاة الى السلطة الزمنية ، الني اغتصبوها بالقوة ، سلطة دينية تلحقهم برضا الآلهه يحققها لهم الكهان ورجال الدين .. وبسبب جهل العامة بالدين، لاحتكار رجال الدين لاسراره ، وبسبب ضعف علماء الدين ، وطمعهم ، جاء الحكام الأقوياء الذين ادعوا الآلوهية نفسها !! ومن هؤلاء الفراعنة الذين حكموا مصر ، وغيرهم ممن عاصرهم ، وسبقهم ، أو لحقهم من الملوك ..


    (3)

    وحين تأذن الله تعالى أن يسوق الوثنيات الى غايتها ، بعد ان استنفدت غرضها ، جاءت أديان التوحيد مواجهة لعقائد الشرك ، وللملوك الذين نصبوا أنفسهم آلهه على البشر ..فكانت ثورة أبراهيم الخليل ، عليه السلام ، على آلهة قومه ، وحواره المشهود مع النمروذ ، ذلك الملك الذي ادعى الالوهية .. ثم جاء موسى عليه السلام ينازع فرعون مصر الوهيته المزعومة ، ويخرج بني اسرائيل من بطشه وقهره ، ويهلكه وسدنته من رجال الديانة المصرية القديمة .. ولما كانت سطوة الملوك لا تزال قوية في النفوس ، والاتباع بعيدين عن الوعي الذي يؤهلهم لحكم انفسهم ، فقد ارسل الله الانبياء الملوك فجاء داؤد وسليمان عليهما السلام .. ولعل هذا ما جعل اليهود ينتظرون نبياً ملكاً ، فلما جاء عيسى عليه السلام فقيراً زاهداً ، رفضوه واغروا به حكامهم من الرومان .. ولقد كان فقهاء اليهود الذين يسمون الكتبة أو الفريسيين يحاولون بشتى الطرق ان يعزلوا المسيح عليه السلام عن الناس ، ويوقعوا بينه وبين الحاكم ، حين عجزوا من مناظرته ، وحواره .. ولقد كانو كمن سبقهم من الكهنة يتمسكون بقشور الشريعة ، ويفرطون في جوهر الدين !! ولقد وصفهم المسيح عليه السلام وأحسن وصفهم حين قال :

    لكن الويل لكم أيها الكتبة و الفريسيّون المراءوون ! فانكم تغلقون ملكوت السموات في وجوه الناس ، فلا انتم تدخلون ولا تدعون الداخلون يدخلون ! الويل لكم ايها الكتبة والفريسيّون المراءوون فانكم تلتهمون بيوت الارامل ، وتتذرعون باطالة صلواتكم لذلك ستنزل بكم دينونة أقسى ! الويل لكم أيها الكتبة والفريسيّون المراءوون ! فانكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا متهوداً واحداً فاذا تهود جعلتموه أهلاً لجهنم ضعف ما انتم عليه .. الويل لكم أيها القادة العميان ! الويل لكم ايها الكتبة والفريسيّون المراءوون فانكم تؤدون حتى عشور النعنع والشبث والكمون وقد أهملتم أهم ما في الشريعة : العدل والرحمة والأمانة ... ايها القادة العميان ! انكم تصّفون الماء من البعوضة ولكنكم تبلعون الجمل ! الويل لكم أيها الكتبة والفريسيّون المراءوون فانكم كالقبور المطلية بالكلس تبدو جميلة من الخارج ولكنها من الداخل ممتلئة بعظام الموتى وكل نجاسة ! كذلك انتم أيضاً تبدون للناس ابراراً ولكنكم من الداخل ممتلؤن بالرياء والنفاق !


    ولقذ تآمر الفريسيّون على عيسى عليه السلام ، وسلموه لقتلته ، وذلك أقصى ما بلغ رجال الدين من السوء ومن تزلف الحكام .. على ان المسيحية نفسها وقعت في شرك رجال الدين وتبريرهم لصلف الحكام !! فبعد بضع سنوات من عهد المسيح عليه السلام كتب القديس بولس " ومن يقاوم السلطان فانما يعاند ترتيب الله " !! وبعد فترة ظهر رجال الدين المسيحي الذين يستغلون أقدس المقدسات لمصلحتهم الشخصية .. وكانوا يبيعون صكوك الغفران للمذنبين ، ويرفلون في الحرير الى جانب الحكام ، ثم يثبطون من همم الثوار من الفقراء والمحرومين ، ويعدونهم بالجنة اذا هم خضعوا للملوك وأدوا عطاياهم للكنيسة !! وحتى يحكموا قبضتهم على رقاب الناس ، عقّد رجال الدين المسيحية ، وصبغوها بالكهنوت والاسرار ، وجعلوها طلاسم تصعب على العامة ، واخضعوا المكانة عند الله الى الدراسة والتخصص في علوم الكهنوت ، واصبحوا يشرعون لأتباعهم ما يناقض جوهر الدين المسيحي ويجوزونه باسمه !!


    (4)

    لقد كانت ثورة مارتن لوثر ( 1483-1546) تستهدف تخليص الدين المسيحي من عقابيل الكهنوت والغنوصية ، التي أزرت بهيبته في نفوس الأذكياء ، وكان اعتراضه على الكنيسة يتجه الى تعميم المعرفة التي كانت تحتكرها، وتوجيه النظر الى غاية الدين بدلاً عن مظاهره التي أغرقه فيها رجاله .. ومع ان المذهب البروتستانتي سار خطوات في طريق الاصلاح الا انه أيضاً أوجد رجال دينه بعد فترة ، مما ساق الى الاعتراض من جديد ، باساليب جديدة ..

    على ان الاعتراض هذه المرة ، جاء متأثراً بزخم الثورة الفرنسية وعنفوانها ، فلم يقف عند رجال الدين وانما تعداهم الى الدين نفسه !! ومن ابرز الفلسفات التي ثارت على المؤسسة الدينية ورفضت الدين من ثم ، فلسفة كارل ماركس (1818 – 1883 ) فقد رأى الدين كوسيلة في يد رجال يستغلون به البسطاء ، ويخدمون به مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة .. ورأى اتباع الدين عاجزون عن الادراك السليم لمأساتهم ، وكأنهم قد خدروا بواسطة الوعود والخطب الدينية ، فوصف الدين بانه " افيون الشعوب" !! وكل الافكار التي تلت الماركسية تأثرت بها بصورة من الصور ، وسعت بمختلف الوسائل والعلوم لتثبت صحة الزعم بان الدين ما هو الا تصور الانسان البدائي للطبيعة ، وهو تصور لا بد من تجاوزه كشرط من شروط تطور الواقع الجديد .. وهكذا تبنت مرحلة الحداثة التصور العلماني ، ونجحت أوربا في فصل الدين عن الدولة ، وعزلته عن دوره التشريعي والأخلاقي ، واقامت مفاهيمها على أديم الفكر المادي بشقيه الشيوعي والرأسمالي ..


    (5)

    وحين جاء الاسلام ، وضع نفسه من أول وهلة ضد ظاهرة رجال الدين .. وسحب البساط من تحت أرجلهم ، حين جعل منهاج المعرفة الاساسي التقوى بدلاً عن الدرس والاطلاع ، فكان رسوله أمّي وامته امّية !! قال تعالى "هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" .. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلم الناس ما لا تصح العبادة الا به عن طريق الهيئة ، فلم يتحدث عن فرائض الوضوء أو مستحباته ، وانما كان يتوضأ امام الأعرابي فيعلمه الوضوء ، وهكذا علمه جبريل عليه السلام .. ولقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم للأمة ان العلم الحقيقي لا يتأتى بكثرة الاطلاع ، واحتراف الحفظ والاستذكار ، وانما هو ثمرة التقوى ، وبلغهم قوله تعالى "واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم" وقال في شرح ذلك "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" !! .. ولهذا انشغل الأصحاب رضوان الله عليه بالعمل ، وكان أحدهم لا يحفظ الآيات التي تنزل حديثاً ، ما لم يكن قد طبق الآيات السابقة ، خشية النفاق !! وهم في ذلك ينظرون لقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون" !!

    وفي اتجاه المحاربة العملية لظاهرة رجال الدين ، لم يتميز النبي صلي الله عليه وسلم على اتباعه بلبس معين ، أو مكانة معينة ، حتى ان الأعرابي اذا قدم الى مجلسه سأل: أيكم محمد؟! ولقد تنبأ النبي صلي الله عليه وسلم للمسلمين بالانحدار، والمفارقة ، واتباع نفس انحرافات الامم السابقة فقال "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه !! قالوا : أأليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟! " !! ولقذ رأينا كيف ان الأمم السابقة ، ابتدعت ظاهرة رجال الدين ، الذين يتميزون بزي خاص ، ومكانة خاصة ، وكيف ان المتأخرين من علماء المسلمين وفقهائهم كانوا يلبسون ثياباً خاصة ، مميزة ، تشبه الى حد كبير لبس حاخامات اليهود وقساوسة النصارى !!

    ولعل اول اشارة في النعي على رجال الدين ما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها فقد رأت بعض الرجال يغطون روؤسهم ، ويمشون ببطء ، ويتظاهرون بالمسكنة ، ويخفضون أصواتهم ، فقالت : من هؤلاء ؟! قالوا : هؤلاء القراء !! قالت : أخبروهم لا يميتوا علينا ديننا !! فقد كان عمر أقرأ الناس ، وكان اذا تكلم أسمع ، واذا مشى أسرع ، واذا ضرب أوجع !!


    (6)

    على ان الفقهاء والوعاظ ورجال الدين لم يظهروا في شكل مؤسسة بالغة الأثر في حياة المسلمين الا بعد الفتنة الكبرى ، حين انتصر معاوية بن ابي سفيان على عليّ بن ابي طالب رضي الله عنه فتحولت الخلافة الى ملك عضوض !! ولما كان الملك وتوارث الحكم ، بدعة جديدة ، تفتقر الى السند الديني ، والتأييد الشعبي ، فقد اعتمد ملوك بني أميّة على الفقهاء ووعاظ السلاطين ليوطدوا سلطانهم ويبرروا ظلمهم ، وفسادهم !! ولم يحدث ذلك الانحراف في يوم وليلة ، وانما كان أوائل الفقهاء أقرب الى روح الدين ، فأعترض قلة منهم على بعض ملوك بني أميّة فنكلوا بهم ، وارهبوا بهم غيرهم ، حتى خضع سائر الفقهاء ، وعلماء الشريعة الى الحكام ، واصبح ذلك الخضوع المنكر ، ديدنهم منذ ذلك الوقت ..

    وبينما احتضنت دولة بني أميّة الفقهاء وعلماء الشريعة ، قتلت آل البيت ، وشردتهم ، ففروا بدينهم الى الفلوات ، وقضوا أوقاتهم في اللجأ الى الله ، والذكر والفكر ، بعيد عن بطش السلطة ، ومن هؤلاء نشأ التصوف الاسلامي ، كفكر واسلوب مغاير تماماً للفقهاء ومذاهبهم !! فحين شغل الفقهاء وقتهم بمداهنة الحكام ، وترقب عطاياهم ، والخوف من بطشهم ، والاجتهاد في تفصيل الفتاوى حسب مصالحهم وأهوائهم ، انشغل السادة الصوفية بتجويد العبادة والتوسل اليها بالزهد في الدنيا ، ثم حسن معاملة الناس ، بكف الأذى عنهم ، وتحمل أذاهم وتوصيل الخير لهم !!

    ومن حسن التوفيق الالهي ان السودان ، لم يفتح بالسيف كغيره من البلاد ، وانما توغل الدين في ربوعه عن طريق التصوف .. فلو كان الاسلام قد قدم الينا تحت ظلال السيوف ، لكان للفقهاء الذين يسيرون في ركاب الملوك ، الاثر البالغ على حياة الناس ، واخلاقهم ، وانشغالهم بمظهر الدين بدلاً من مخبره !! ومع ذلك فان السلطة التي وجدها الفقهاء في السودان ، انما كانت بسبب من اثر النفوذ المصري علينا ، فقد درس كثير من السودانيين في الأزهر ، وعادوا لينشؤا المعاهد الدينية التي يروجون من خلالها لآراء الفقهاء القدامى ، دون فهم لجوهر الدين ، أو اعتبار لتطور الحياة !!


    (7)

    كتب د. عبد الله علي ابراهيم ، الباحث والمؤرخ المعروف عدة مقالات نشرت في شهر ابريل الماضي بجريدة الرأي العام ، ولقد أوضح غرضه من كتابة هذه المقالات بقوله:

    أريد في المقالات التي انشرها متتابعة ان ارد الشريعة الى مطلبها الحق ان تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين . ولست أرى في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين . فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية" وبذلوا سماحتها للوطن لا يفرقون بين أهله متوسلين الى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة . ولست ادعي علماُ فيما يجد غير انني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين ألتزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها . وهي ما اسميه التقليد الشرعي السوداني 1898 -1983 .

    ومع ان مقالات الكاتب قد جاءت طويلة ومفصلة ، الا انه لم يخبرنا كيف ان الشريعة ، لوكانت هي مصدر القوانين ، لن يكون في ذلك ظلم لغير المسلمين ، أو ظلم للمرأة ، بل لم يعط القارئ أي نصوص مما تقوم عليه الشريعة ليدلل بها على ما يمكن ان تحققه من مساواة وعدالة .. كما انه لم يقف عند محاولات تطبيق الشريعة في السودان أو ايران أو باكستان ليحدثنا عن السبب في فشل تلك التجارب ، وضمان عدم فشل التجربة الجديدة لو أردنا تطبيق الشريعة مرة أخرى !!

    لقد اتجهت مقالات د. عبد الله علي ابراهيم لتؤكد ان محافظتنا على ديننا وثقافتنا تقتضي ان نجعل الشريعة مصدر كافة قوانينا بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية ، وينتج عن ذلك رد اعتبار الفقهاء وعلماء الشريعة الذين قلل الاستعمار من مكانتهم بسبب انهم كانوا رمز للوطنية لدفاعهم عن قوانين الشريعة في وجه القانون الانجليزي الوضعي !!

    ان محاولتي في هذه المقالات تتجه لأن توضح ان تمسكنا بالدين يقتضي الفهم الذي يميز بين الدين والشريعة ، فيدعو الى تطوير الشريعة حتى ترتفع الى جوهر الدين ، والى قامة العصر من تحقيق الحرية والديمقراطية ، وان غياب هذا الفهم هو الذي أدى الى فشل تطبيق الشريعة !! كما ان الفقه قد قصّر قصوراً مزرياً ، أخرجه عن جادة الشريعة دع عنك جوهر الدين .. ومن هنا جاء ظلم الفقهاء وعلماء الشريعة للمرأة ولغير المسلمين بصورة لا يمكن تعميتها ، بمثل محاولات د. عبدالله !! ولم يكن القضاة الشرعيين والفقهاء وطنيين وانما كانوا يخدمون غرض الاستعمار ، ويتسقطون رضاه !! ثم انهم ساروا من بعد الاستقلال في ركاب الطائفية ، واستغلوا بواسطة الجماعات الاسلامية ، لرفع شعار الدولة الدينية ، الذي تحول الى تصعيد للحرب الأهلية باسم الجهاد !! وهم بذلك كانوا يشوهون الدين بمساندتهم للسلطة ، وبرفضهم وتآمرهم على الصورة المتقدمة التي طرح بها في السودان منذ مطلع الخمسينات فيما عرف بالفكر الجمهوري ، ومن هنا كان لا بد من كشفهم ، ومواجهتهم حتى لا ينفر الاذكياء عن الدين ، بسبب سوء ممارسة رجال الدين ، ويرد شعبنا المعين الصافي بعد ان تطهر من اوضار الجهلات !!

    ان مقالات د. عبد الله علي ابراهيم ، قد جاءت في وقت مناسب يتحاور فيه السودانيون بالداخل والخارج ، حول مستقبل بلادهم ، ويسعون الى تحقيق السلام ، وتوسيع قاعدة المشاركة ، وهي بذلك تعطينا فرصة لنوضح ربما للكثيرين من ابنائنا وبناتنا جانب من تاريخنا ، وقع عليه كثير من التزييف لمصلحة قوى التخلف ، مما جعل قضية الدين والدولة أهم القضايا التي يجب ان نثيرها ، دون ان نمل الحديث فيهاً !!

    (نواصل )

    عمر القراي

                  

05-23-2003, 10:28 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ماذا يريد دكتور عبد الله ان يقول؟؟؟ (Re: baballa)



    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم

    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الثانية)



    (


    ان الافتراض الاساسي في مقالات د. عبد الله علي ابراهيم لجعل الشريعة مصدر القوانين في السودان ، وتحسره على عدم الأخذ بها منذ ان جلا الاستعمار عن هذه البلاد، هو ان الشريعة ليس بها " بأساً أو ظلماً لغير المسلمين " كما انها " انتصفت للمرأة ما وسعها" !! ولعل ما ساق لهذا الخطأ هو الخلط بين الدين وبين الشريعة ، وهو خلط قد جاز طويلاً على علماء المسلمين وعامتهم .. فالدين هو التوحيد ، وهو في بدايته الاقرار لله بالوحدانية ، وفي قمته التسليم التام له سبحانه وتعالى . وحين قال تعالى " ان الدين عند الله الاسلام " عنى التسليم للارادة الالهيه ، ولم يعن الاسلام بمعنى الشريعة التي اتى بها محمد صلى الله عليه وسلم !! وذلك لأن الاسلام سابق لهذه الشريعة وعن ذلك يقول تعالى " انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " ، فأنبياء بني اسرائيل قد كانوا مسلمين ، وابراهيم الخليل عليه السلام قد كان مسلماً ، قال تعالى " ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين * اذ قال له ربه أسلم قال اسلمت لرب العالمين " !! والدين بهذا المعني واحد ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي لا اله الا الله " .. ومع ان الدين واحد الا ان الشرائع قد اختلفت باختلاف الامم ، بسبب تطور الحياة ، ومن ثم تغيير المجتمعات .. ذلك ان الشريعة انما هي القوانين والاحكام ، التي تنزلت من الدين ، لتدرج المجتمات نحو غايات الدين العليا ، وهي لملامستها لواقع المجتمع تتأثر به ، وتراعي امكانات وطاقات افراده .. ولتوضيح هذا الأمر يضرب الاستاذ محمود محمد طه المثل باختلاف شريعة الزواج بين آدم عليه السلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فبينما كان زواج الأخ من أخته شريعة دينية في عهد آدم ، اصبح حراماً في شريعة محمد ، بل شمل التحريم ما هو أبعد من الأخت كالخالة و العمة وغيرها ، يقول الاستاذ محمود:


    فاذا كان هذ الاختلاف الشاسع بين الشريعتين سببه اختلاف مستويات الأمم ، وهو من غير أدنى ريب كذلك ، فان من الخطأ الشنيع ان يظن انسان ان الشريعة الاسلامية في القرن السابع تصلح بكل تفاصيلها ، للتطبيق في القرن العشرين . ذلك بان اختلاف مجتمع القرن السابع ، عن مستوى القرن العشرين ، أمر لا يقبل المقارنة ، ولا يحتاج العارف ليفصل فيه تفصيلاً ، وانما هو يتحدث عن نفسه . فيصبح الأمر عندنا أمام أحدى خصلتين: أما ان يكون الاسلام كما جاء به المعصوم بين دفتي المصحف ، قادراً على استيعاب طاقات القرن العشرين ، فيتولى توجيهه في مضمار التشريع ، وفي مضمار الأخلاق ، واما ان تكون قدرته قد نفدت ، وتوقفت عند حد تنظيم مجتمع الفرن السابع ، والمجتمعات التي تلته مما هي مثله . فيكون على بشرية القرن العشرين ان تخرج عنه ، وتلتمس حل مشاكلها في فلسفات اخريات ، وهذا ما لا يقول به مسلم .. ومع ذلك فان المسلمين غير واعين بضرورة تطوير الشريعة .. وهم يظنون ان مشاكل القرن العشرين يمكن ان يستوعبها وينهض بحلها ، نفس التشريع الذي استوعب ، ونهض بحل مشاكل القرن السابع ، وذلك جهل مفضوح ..


    ولما كان القرآن قد حوي كل شئ ، فان التطور الذي حدث لا يحتاج الى رسالة جديدة ، وان احتاج الى تشريع جديد !! ولقد حوى القرآن المكي الذي كان منسوخاً ، بسبب قصور المجتمع عن شأوه ، التشريع المناسب للبشرية في عصرنا الحاضر ، وانما بعث هذا التشريع لتفصل منه القوانين هو ما اسماه الاستاذ محمود محمد طه تطوير التشريع ، وزعم انه السبيل الوحيد لعودة الاسلام في حياة المسلمين .. هذه الفكرة التي فصلها الاستاذ محمود في حوالي الاربعين كتاباً ، وكتب حولها تلاميذه ما يربو على المائة وخمسين كتاباً ، وقاوم بسببها تطبيق قوانين سبتمبر التي زعمت كافة الجماعات الاسلامية بانها الشريعة ، حتى بذل حياته ثمناً لذلك ، لم تحظ من د. عبد الله علي ابراهيم بأي اشارة على الرغم من ان بحثه المطول قد كان حول الخلاف المحتدم حول القوانين الشرعية في السودان ، ولم ينس ان يذكر فيه حتى معارضة أو موافقة الاتحاد النسائي !!


    (9)


    أول ما تجدر الاشارة اليه في أمر الشريعة ، هو انها لا تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات لانها تقوم على العقيدة التي تفضل المسلم على غيره !! قال تعالى في ذلك "ان العزة لله ولرسوله وللمؤمنين" .. ولقد اتجه التطبيق العملي لهذا المفهوم الى قتال المشركين حتى يسلموا ، وقتال أهل الكتاب- اليهود والنصارى- حتى يسلموا أو يعطوا الجزية !! قال تعالى "فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم" .. ولقد حددت هذه الآية ، وهي من آخر ما نزل في شأن التعامل مع المشركين ، زمان قتالهم بانقضاء الاشهر الحرم ، وحددت مكان قتالهم بانه حيث وجدوا ، وحددت سبب قتالهم بانه كفرهم وعدم اقامتهم شعائر الاسلام ، وحددت وقف القتال معهم ، بدخولهم في الاسلام واقامتهم الشعائر !! واعتماداً على هذه الآية جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فان فعلوا عصموا مني دماءهم واموالهم وأمرهم الى الله"..

    أما أهل الكتاب فقد قال تعالى عنهم "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " !!
    ونزولاً عند هذا التوجيه ارسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائله المشهودة لملوك الفرس والروم "أسلموا تسلموا يكن لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فان ابيتم فادوا الجزية والا فاستعدوا للقتال" !! هذه هي خيارات الشريعة لليهود والنصارى : اما الاسلام ، أو الجزية ، أو القتال .. أما بالنسبة للمشركين فهما خياران لا ثالث لهما : الاسلام أو القتال !!

    والجزية ليست ضريبة دفاع ، يدفعها أهل الذمّة ، من يهود ونصارى ، للمسلمين الذين غزوا بلادهم وبسطوا سلطانهم عليها، لأنهم يقومون بحمايتهم فحسب ، لكنها الى جانب ذلك اقرار بالخضوع ، واظهار للطاعة ، واشعار بالمهانة والذل ، هدفه ان يسوق الذمي الى الاسلام .. جاء في تفسير قوله تعالى "عن يد وهم صاغرون" "أي عن قهر وغلبة .. وصاغرون أي ذليلون حقيرون مهانون ولذلك لا يجوز اعزاز أهل الذمّة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام واذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه الى أضيقه"

    ومعلوم ان غير المسلم لا يصح له ان يكون رئيساً للدولة المسلمة ، ولا ان يتولى قيادة الجيش لأن الجيش جيش جهاد !! وليس له الحق في تولي القضاء الذي يقوم على قوانين الشريعة الاسلامية !! ومن الناحية الاجتماعية لا يجوز له ان يتزوج المرأة المسلمة ، ولما كان دفعه للجزية الغرض منه اشعاره بالصغار ، فإنه لنفس الغرض لا يتولى المناصب الرفيعة ولا يؤتمن على اسرار المسلمين .. فقد روي ان ابو موسى الأشعري اتخذ كاتباً نصرانياً ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الا اتخذت حنيفياً ؟ قال: يا امير المؤمنين لي كتابته وله دينه !! قال عمر : لا اعزهم اذ اذلهم الله ولا ادنيهم اذ ابعدهم الله !! ثم قرأ قوله تعالى "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين" !!
    فهل يمكن لمثقف أمين ان يقول بان غير المسلم لا يتضرر بتطبيق قوانين الشريعة الاسلامية ؟!


    (10)


    ومما يترتب على الجهاد اتخاذ الاسرى رقيقاً ، ومع ان الاسلام وجد الرق سائداً في الجاهلية ، الا انه لم يلغه ، كما ألغى الزنا ، والربا ، والميسر ، وغيرها ، وذلك لانه فرض الجهاد ، فاضطر الى مجاراة عرف الحرب والاسر .. ولقد أقرت الشريعة الرق كنظام اجتماعي ، وتعايش المسلمون الأوائل مع عبيدهم يبيعونهم ، ويشترونهم ، ويعتقونهم احياناً اذا لزمت احدهم الكفارة .. ورغم ان الشريعة دعت الى حسن معاملة العبيد ، من الناحية الاخلاقية ، الا ان الوضع القانوني للعبد ، يجعله أقل في القيمة الانسانية من الحر ، فمع انه انسان الا انه اعتبر مثل المتاع الذي يملكه سيده .. وقد اسرف الفقهاء في بيان ذلك بمستوى ينفر منه الذوق السليم .. فالسيد اذا قتل العبد لا يقتل ، واذا اصابه دون القتل يقدر المصاب بالقيمة الماليه للعبد !! فقد ورد ان العبد "ان كسرت يده أو رجله ثم صح كسره فليس على من اصابه شئ فان اصاب كسره ذلك نقص أو عثل ( جبر على غير استواء) كان على من اصابه قدر ما نقص من ثمنه" !!

    وحين يتخذ الاسرى من الرجال عبيداً ، يتخذ الاسيرات من النساء اماء ، ويعتبرن مما ملكت يمين أسيادهن .. وقد أجازت الشريعة للمسلمين ان يعاشروا ما ملكت ايمانهم بغير زواج ، فاصبح للمسلم الحق في معاشرة عدد غير محدود من النساء .. قال تعالى "والذين هم لفروجهم حافظون * الا على ازواجهم أو ما ملكت ايمانهم فانهم غير ملومين" .. ويجوز للمسلم ان يبيع جاريته لغيره ، وان يشتري غيرها من الجواري ، يعاشرهن ثم يبيعهن مرة أخرى !! وهكذا نشأ سوق للجواري بجانب سوق العبيد ، واصبح نظام الاماء مثل نظام العبيد ، نظاماً اجتماعياُ راسخاً مرتبطاً أيضاً بالجهاد !!

    وقد يقول قائل ان نظام الرق والاماء قد كان سائداً في الماضي لكنه لا يعنينا الآن !! وفي الحق ان الدعوة لجعل الشريعة مصدراً للقوانين انما تسوق كنتيجة طبيعية الى اقامة الدولة الاسلامية .. ومتى ما قامت الدولة الاسلامية ، ولو بمجرد الادعاء ، فان حربها مع خصومها أو مع الاقليات غير المسلمة تعتبر جهاداً ، مما يعيد كل هذه الصور من جديد !!


    (11)


    عندما تعالت صيحات منظمات حقوق الانسان عن اعادة الرق في السودان في منتصف التسعينات ، قامت بعثة من المنظمة السودانية لحقوق الانسان بالسفر لجنوب السودان وكتبت في تقريرها الذي كان له اثر بالغ :


    خلال الفترة ما بين 17 و22 مايو عام 1999 قامت المنظمة السودانية لحقوق الانسان فرع القاهرة ، ممثلة في نائب رئيسها والامين العام بزيارة الى أقليم بحر الغزال في جنوب السودان ، بغرض الوقوف على أوضاع حقوق الانسان في المنطقة وللتحري في اتهامات بممارسة الرق. وقد اجرت المنطمة خلال الزيارة – التي شارك فيها ممثلون لمنظمة التضامن المسيحي ومجموعة تمثل التلفزيون والصحافة الكندية - تحقيقات ميدانية ومقابلات مباشرة مع كافة الاطراف ذات الصلة بقضية الرق من مواطنين تمت اعادتهم من الاسترقاق ، وتجار شاركوا في عمليات استعادة الرقيق ، وسلاطين وزعماء ، ومسؤولين عن الادارة الأهلية ، واهالي وذوي العائدين من الاسترقاق الى جانب مواطنين عرب يعيشون في المنطقة وتجار قادمين من الشمال. وابدت المنظمة اهتماماً خاصاً بافادات الاطفال وعملت على توثيق لقاءاتها المباشرة بالمعنيين عبر عدة وسائل للتوثيق وخلصت الى ما يلي :

    • ظاهرة الرق ليست مستحدثة بل قديمة وهي قد ارتبطت بداية بالصراعات القبلية في المنطقة غير انها اتسعت بشكل يدعو للقلق في ظل النظام الحالي الذي تقوم سلطاته بالتشجيع على ممارسة الرق وتنظيمها والاشراف عليها . وتقوم السلطات بتجنيد أعداد من ابناء المسيرية والرزيقات ضمن قوات الدفاع الشعبي وتوفر للمجند منهم حصاناً وبندقية كلاشنكوف ومبلغ 50 الف جنيه للقيام بغارات على القرى التي تشتبه السلطات في انها تدعم الحركة الشعبية لتحرير السودان ، ويحتفظ المغيرون من هؤلاء المجندين بما يحصلون عليه من رقيق وأبقار وممتلكات باعتبارها مغانم الحرب الجهادية .
    • يشارك في الغارات على القرى والبلدات المراحيل – وهو الاسم الذي يطلقه الأهالي المحليون على مجموعات المجندين – وافراد الدفاع الشعبي أو القوات المسلحة. وسواء تمت الغارات بمشاركة الاطراف الثلاثة أو عن طريق مجموعة واحدة منها يتم نقل حصيلة الغارات من رقيق وابقاروخلافه الى مناطق تقع تحت سمع وبصر السلطات السودانية.
    • يتم تجميع الرقيق والغنائم الاخرى في حظائر معدة لهذا الغرض تقوم بحراستها قوات نظامية ( قوات مسلحة و قوات دفاع شعبي ) وتقع هذه الحظائر على مسافة تتراوح بين 5 الى 7 ساعات سيراً على الأقدام من المناطق التي استهدفتها الغارات .
    • في مرحلة لاحقة ينقل الرقيق الى مدن المجلد والميرم عبر رحلات تستغرق من 6 الى 9 أيام ويتم أثناء هذه الرحلات إعدام أعداد كبيرة من الرجال بضربهم ، وهم مقيدي الايدي والأرجل ، بهراوات على الرأس ، كما يتم الاحتفاظ باعداد من الشباب كمجندين ، وتتعرض النساء الى عمليات أغتصاب متكرر بواسطة الحراس والعاملين على نقلهم ، ويتم أثناء الرحلة ربط كل 9 أو 10 من الرقيق بواسطة حبل طويل الى بعضهم البعض .
    • يتم بيع الرقيق الى اسياد جدد حيث تستخدم النساء في أعمال الزراعة والرعي وجلب الماء وطحن الذرة ( بلا مقابل ) بالاضافة لتقديم خدمات جنسية نزولاُ على رغبات اسيادهن ، ولا تتبدل معاملة الرقيق بعد انجابهن من سادتهن كما لا يعامل اطفالهن بذات المعاملة التي يحظى بها الاطفال الطبيعيون للسادة ويطلق على الرقيق اسماء جديدة تكون في الغالب اسماء عربية.


    ولعل من أهم ما جاء في هذا التقرير، الافادات العديدة المسجلة ، لأشخاص عانوا من تجربة الاسترقاق المريرة . ورغم قسوة هذه الافادات ومرارتها حتى لمن يقرأها الا انني ارى ان نورد واحدة منها كنموذج بالغ الدلالة على ما وصل اليه الحال تحت الحكومة التي تدعي تطبيق الشريعة . جاء في الافادة :


    من " كوروك" غرب "أويل" تم اختطافها قبل 14 شهراً ومعها حوالي 300 شخص من الدينكا تم اختطافهم بواسطة اعداد كبيرة من المهاجمين الذين كانوا خليطاً من الجنود النظاميين وقوات الدفاع الشعبي والمدنيين : ثم اخذنا الى "ابو مطارق" وفي الطريق تم إغتصابي بواسطة عدة اشخاص ، وقد تعرضت للضرب الشديد –زوجي "بول يول داو" قتل قبل عامين من اختطافي – تم اخذي من "ابو مطارق" بواسطة شخص اسمه علي وكان يعاملني بقسوة شديدة ، يضربني ويقذف بالأكل على الأرض ويطلب مني أكله وكان علي مرتبط بالزراعة في مكان بعيد من المنزل ، وكان يناديني "بنت الجانقي" وكان يطلب مني الصلاة وحين اذكر له اني لا اعرف كان يضربني ب "القنا" .... اصرّ سيدها على ان يقوم بطهارتها حتى يتزوجها ، وقد تم ذلك بعد ان تم تثبيتها على " العنقريب" بحضور زوجة سيدها وعدد آخر من النساء ، وقد تمت الطهارة دون بنج ، وكان الجرح ينزف لمدة أربعة أيام دون توقف ، وبالرغم من الألم والإرهاق بسبب النزيف ، فقد اجبرت على العمل في اليوم التالي مباشرة ، وقد ضاجعها سيدها بعد ثلاثة أشهر من "الطهارة".



    (12)


    ولقد يلاحظ ان السيدة الجنوبية ، التي وقع عليها هذا الاعتداء الاثيم ، اعتبرته اغتصاباً ، بينما اعتبره الرجل الذي يعتقد انه سيدها ، عملاً مقبولاً ، لانه يظنها مما ملكت يمينه !! وانه لذلك ، له الحق الشرعي في بيعها وشرائها وختانها ومضاجعتها !! فهل كان مثل هذا الفهم وهذه الممارسة يمكن ان تتم لو ان شعارات القوانين الاسلامية لم ترفع وطبول الجهاد لم تدق من كافة وسائل الاعلام ؟! أفان قال هذا الرجل ان عمله هذا يتفق مع الشريعة الاسلامية التي اجازت قتال الوثنيين وسبي نسائهم واتخاذهم جواري ومعاشرتهم بغير زواج ، وانه فعل ذلك تطبيقاً للقوانين الاسلامية ، واقتداء بالاصحاب رضوان الله عليهم ، فهل سيقبل د. عبد الله علي ابراهيم عمله هذا أم سيرفضه باعتبار انه "يصطدم مع العدالة واملاءات الوجدان السليم" ؟! فان كان سيرفضه فقد اجاب على سؤاله حيث قال " لماذا لم يستفد القضاة الانجليز وخلفهم من السودانيين من الشريعة الاسلامية في انشاء قوانين السودان في حين كان متاحاً لهم ذلك بفضل الصيغة الموجهه لعملهم القضائي والتشريعي القائله ان بمقدورهم الاستعانه بأي قانون طالما لم يصادم العدالة والسوية واملاءات الوجدان السليم" !! ذلك ان الشريعة في وقتنا الحاضر تصادم العدالة والسوية والوجدان السليم !! ان دعوة د. عبد الله علي ابراهيم ، لتطبيق الشريعة ، منذ الاستقلال ، لو حدثت بالفعل ، لكنا قد دخلنا في تجارب الجهاد ، والرق ، وما ملكت ايمانكم ، من قبل خمسين سنه !!
    ألم يكن "الافندية " الذين على اصرّوا ان يتبع القانون السوداني ، بعد الاستقلال القانون الانجليزي الوضعي ، ابعد نظراً ، واعرف بواقع التنوع الثقافي ، من دعاة تطبيق الشريعة ، ابتداء من الترابي ، ومروراً بالنميري وانتهاء بعبد الله علي ابراهيم ؟!

    ان حكومة الجبهة الاسلامية القومية ، الحاضرة ، انما تمارس تضليلاً واسعاً ، حين تزعم في مفاوضاتها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ، بانها تقبل ان تعفى مناطق تواجد غير المسلمين من قوانين الشريعة .. ذلك لأن الشريعة لا تعترف بالقوانين الأخرى بل تعتبرها مجرد أهواء البشر ، وتنهى لذلك الحاكم المسلم ان يحكم بها قال تعالى " وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق ..." !! فالشريعة لا تقوم فقط على ما ينبغي ان يطبقه المسلم على نفسه ، بل تقوم ايضاً على ما يجب ان يطبقه على غيره ، ولهذا شرعت الجهاد والجزية عقوبة لغير المسلمين ، ولم يمنعها من ذلك كونهم غير مسلمين !! فاذا تنازلت حكومة الجبهة عن تدخل الشريعة في حياة غير المسلمين ، فانما هو تكتيك سياسي مؤقت لا تسنده الشريعة ، ولا تلتزمه الجبهة الا ريثما تملك القدرة مرة اخرى على استئناف ما تعتبره جهاداً !!

    ومقالات د. عبد الله علي ابراهيم ، انما جاءت في هذا الوقت بالذات ، لتدعم من موقف الجبهة في المفاوضات الجارية ، فالجبهة تحتاج ان تؤكد بأن القوانين الاسلامية يؤيدها "مثقفون" من خارج تنظيمها وان هؤلاء يعتقدون ان قوانين الشريعة تضاهي القوانين الانسانية الرفيعة التي تحتوي على حقوق الانسان ، فلا يتضرر منها غير المسلمين ولا تضرر منها المرأة !! ولقد اوجزنا موقف الشريعة من غير المسلمين ، وسنحاول باذن الله ان نتطرق الى موقفها من المرأة في الحلقة القادمة ، حتى نفرغ لرجال الدين ..
    (نواصل)

    عمر القراي
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de