من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 10:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-05-2003, 05:28 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة


    في هذا الباب سأثبت تباعا بعضا من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه ابوقرجة وهي تتناول شئون شتي من هموم وشجون الإ سلام والسودان فالي المقال الأول
    ====================================
    التحدي الذي يواجه العالم !!
    إما المجتمع الكوكبي الإنساني الواحد ، وإما الاستعمار والحرب والدمار

    (1) من (3)
    سمُوها غزو العراق، وليس حرب الخليج الثالثة
    الشعب العراقي لم يطلب من الإدارة الأمريكية تحريره من صدام، فهل من الديموقراطية أن تفعل باسمه ما لم يأذن به؟
    فلتكف الإدارة الأمريكية عن دعوى توزيع الديموقراطية حول العالم

    [email protected] بقلم: طه إسماعيل أبو قرجة

    الشعب العراقي لم يطلب من الإدارة الأمريكية، ولا تابعتيها البريطانية والأسترالية، أن تحرره من حكم صدام. وهي لم تستطع أن تدَّعي ذلك، رغم أنها لم تتورع عن غمر العالم بسيل منهمر من الكذب الرخيص، المسيء إلى عقول الناس، يجترحه تنفيذيوها وعسكريوها على نحو مؤسف، دون أن يطرف لهم جفن، وكأنهم رجال عصابات أشرار، لا رجال دولة شرفاء.. يحاولون به كسب العالم في حين يخسرون أنفسهم.. ويصورون به أنفسهم صور الأخيار المتمدينين، فيسيئون إلى أنفسهم وشعوبهم أيما إساءة. ذلك السيل لم يكن أوله، ولا أسوؤه، تزوير مستندات للإيقاع بالعراق بأنها اشترت يورانيوم من النيجر. وهو تزوير فضحته المؤسسة الدولية للطاقة الذرية، مما دفع بأحد أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى المطالبة بإجراء تحقيق في تورط مسئولين أمريكيين في ذلك التزوير.

    بيد أن الإدارة الأمريكية حين حاولت، هي وتابعتيها، تبرير عدوانها على العراق بأنه عمل إنساني لتحرير الشعب العراقي من صدام، لم تستطع أن تصبر بعض الوقت حتى تجوز خدعتها على الناس، بل مضت في عجلة لتفضح نفسها وتؤكد ما يعلمه كل الناس بأنها إنما تهدف من الحرب إلى وضع النفط العراقي في قبضة أباطرة البترول الأمريكيين. فما بدأت الحرب حتى أعلن الرئيس الأمريكي أن عائدات النفط العراقي ستستغل، أول ما تستغل، لاسترداد نفقات هذه الحرب. عجباً!! الإدارة الأمريكية تحاول إيهام شعبها وكل شعوب الأرض بأنها تتبرع من منطلق إنساني محض لتخليص شعب العراق من صدام، ثم تعلن في ذات الوقت أنها ستكون المتصرف في عائدات النفط العراقي، بل وأنها ستحمِّل الشعب العراقي ثمن الحرب التي شنتها دون طلبه، ودون إذنه، وبها قتَّلته، ودمرت بنياته، وبيئته، باليورانيوم المستنفد وغيره من الأسلحة المحرَّمة دولياً وغير المحرمة- هذا إن كان في شِرْعَة الإنسانية أسلحة غير محرمة.

    من أعطى الإدارة الأمريكية الحق في التصرف في عائدات النفط العراقي؟ أليس هذا هو الاستعمار المكشوف؟ أوتظن الإدارة الأمريكية أن الشعوب الأخرى، لمجرد أنها لم تستطع أن تصنع ما تسميه بالصواريخ الذكية، هي من الغباء بحيث تجوز عليها هذه الأحابيل؟ إن الإدارة الأمريكية قد أفصحت بإعلانها هذا عن أنها ليست أفضل من الجنرال منقستو، حاكم إثيوبيا السابق، وأحد أسوأ دكتاتوريي القرن العشرين. فقد قيل عنه أنه كان يقتل خصومه بالرصاص ثم يطالب ذويهم بثمن الطلقات المستخدمة في قتلهم.

    إن مما يجب أن يعلمه أهل الأرض قاطبة أن الحرب التي تشنها الإدارة الأمريكية الآن على العراق ليست سوى ردة إلى عهود الاستعمار التقليدي الذي خرج منه العالم قبل عقود، وأن العراق ليس سوى الضحية الأولى، وأن العالم إن صمت اليوم عن ما يجري في العراق، فإنه سيفيق كل حين على غزو جديد، تنفذه إمبراطوريات المال الأمريكية، باسم الشعب الأمريكي، مستغلة الإدارة الأمريكية.

    إن هذه الإمبراطوريات قد عوَّقت تقدم الديموقراطية الأمريكية والديموقراطيات الغربية لمئات السنين، وأفرغتها من مضمونها. ولكنها اليوم تريد أن تعود بالبشرية كلها إلى الوراء، إلى عهود الاستعمار التقليدي السافر، ونشر الألوية الأجنبية على أراضي الشعوب الضعيفة، ونهب ثرواتها، وإدخال العالم في دوامة جديدة من الحروب الطواحن، والكره، والدمار. ونحن لا نعلم مستعمراً أفصح عن رغبته الحقيقية للمستعمرين، ولكننا نعلم أن كل المستعمرين يتصورون أن الشعوب الضعيفة هي من الغباء بحيث يمكن أن تنخدع بأن الجيوش الأجنبية تأتيها لتحسن إليها وتنهض بعبء الشعوب المتقدمة، سواء أكانت بيضاء أو غير بيضاء، نحوها. والحق أن أجيالاً سمعت خلال القرن الماضي في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية دعاوى جنرالات الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغرب عنها الشمس بأنهم إنما قطعوا آلاف الأميال من بريطانيا لخدمة تلك الشعوب، تسمع الآن ذات الادعاء الفج الكاذب من آلة الإعلام الأمريكية الضخمة المستغَلة أصلاً لتضليل الناس، داخل أمريكا، وخارجها.

    إننا في حقيقة الأمر أمام موجة جديدة من الاستعمار التقليدي. ولكن من حسن التوفيق أن هذه الموجة تجد الآن من الرفض والمقاومة داخل المجتمع الأمريكي والبريطاني بأكثر مما تجد من أي دولة أخرى، ومن أي شعب آخر. وبالرغم من أن خوف الدول من بطش الإدارة الأمريكية أمر مؤسف، إلا أن قوة الرفض الشعبي الأمريكي والبريطاني يخفف من الأسى، ويزيد من الأمل في أن تفتتح البشرية، في الأيام القريبة القادمة، دورة جديدة من دورات التاريخ على هذا الكوكب، تخلِّف بها الحرب، وتقلع بها عن العصبيات الوطنية، والقومية، والعرقية، والعقائدية، وتستبدلها بوشائج الإنسانية التي تربط بين كل أهل الكوكب، فتسقط بذلك اعتبارات اللون، واللغة، والعنصر، والعقيدة، والموقع الجغرافي، فيستبدل أهل الأرض قانون الغاب بقانون الإنسانية، ويحرصون على العدل فيما بينهم، ويأبون الظلم على غيرهم مثلما يأبوه على أنفسهم. ذلك هو عالم الغد المأمول، وذلك هو المجتمع الكوكبي، الإنساني، الذي سيكون مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالسهر والحمى. وهذا هو مخاضه، وسآتي للحديث عنه لاحقاً.

    ضرورة التمييز :
    أمران ينبغي أن لا يلتبس وجه الرأي فيهما، وألا يتخذ أولهما ذريعة إلى الآخر: سوء نظام صدام، وسوء الغزو الأجنبي. هذا ينبغي أن يكون واضحاً لكل الدول ولكل الأفراد حول العالم. فمهما كان الرأي سيئاً في صدام، يجب أن لا نشك لحظة بأن العمل العسكري الذي اجترحته الإدارة الأمريكية ضد العراق (وتبعتها فيه الحكومتان البريطانية والاسترالية)، ليس سوى غزو أجنبي، لا يقل في سوئه عن غزو الاتحاد السوفيتي السابق لأفغانستان في سنة 1979، بل هو أسوأ منه لأن الدولة التي تقوم به هي اليوم، بلا منازع، الدولة الأقوى في العالم التي يقع عليها أكبر واجب أدبي وقانوني في ترسيخ دور المنظمة الدولية التي ارتضتها دول العالم قاطبة كمنظمة يناط بها حفظ الأمن والسلام الدوليين. كما يجب أن لا نشك لحظة أن هذا العدوان إن أسقط صدام، فلن يحرز ديموقراطية في العراق، وإنما هو في أحسن أحواله سيأتي بحكام جدد قاماتهم أضأل من الكراسي التي سيضعهم عليها، ليعطوا أباطرة النفط الأمريكيين ما يريدون، ويمتصوا هم البقية. وذلك ما فعلته أمريكا وبريطانيا نفسهما حين أسقطتا حكومة مصدق الديموقراطية في إيران سنة 1953 بتدخل عسكري مباشر، لتعيدا السلطة إلى الشاه، ليعطيهما ما كانتا تبتغيانه من عائدات النفط الإيراني، ظلماً، فأوصلتا بذلك إيران إلى الحالة التي هي فيها الآن.

    إن عدم وضوح هذا الأمر قد ساق بعض الدول لتأييد الإدارة الأمريكية في غزوها العراق، أو للإحجام عن إدانتها، بسبب رأيها في نظام صدام، وانخداعها بالمهمة النبيلة التي تزعمها الإدارة الأمريكية بتحرير العراق. وبنفس القدر، فإن عدم وضوح هذا الأمر قد شلَّ تفكير كثير من الأفراد، فباتوا يتفرجون على الأحداث، ويتكهنون بنتائج الحرب، وما قد تستغرقه من وقت. وقد لعبت الإدارة الأمريكية لعبتها بإلهاء الناس بهذه المسائل عن عدوانها ومطامعها الاستعمارية.

    وليس أدل عندي على التباس وجه الرأي عند الناس من انطلاء الاسم الذي أعطته الإدارة الأمريكية لغزو العراق على أكثرهم، بمن فيهم المعارضين لهذا الغزو: حرب الخليج الثالثة!! فذلك اسم مضلل، قصدت الإدارة الأمريكية أن تسبغ به على غزوها ذات الشرعية التي حظيت بها الحرب المعروفة بحرب الخليج الثانية، التي أخرج بها المجتمع الدولي العراق من الكويت مطلع عام 1991 بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يوجب على كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة القيام بالعمل اللازم للحفاظ على سيادة وسلامة كل بلد من بلدان العالم إن تعرض للعدوان.

    النفط هو الدافع الحقيقي، والأهداف المعلنة ذرائع :
    لقد حاولَت الإدارة الأمريكية أن تخدع المواطن الأمريكي والرأي العام العالمي بأنها تحارب في العراق لسببين نزيهين خيِّرين، أحدهما هو تحرير الشعب العراقي من صدام، وثانيهما هو تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل التي تزعم أنها تشكِّل خطراً على الأمن القومي الأمريكي. بيد أن المواطن الأمريكي والرأي العالمي لم يفت عليهما أن هذه الحرب المؤسفة إنما تحركها رغبة استعمارية في الاستحواذ على النفط العراقي لصالح أباطرة النفط الأمريكيين، ولكنها تسوق ذرائع ومبررات أخرى بقصد التضليل.

    وقد أوردت بعض وسائل الإعلام العالمية معلومات مفصلة تفيد أن بعض أركان الإدارة الأمريكية الحالية كانوا موظفين كبار في شركات النفط الأمريكية، مشيرة إلى أنهم قد انتدبوا من تلك الشركات إلى البيت الأبيض لتحقيق مصالح تلك الشركات من مواقعهم الجديدة. ورغم أن المسألة لا تحتاج إلى سجل وظيفي لدى أولئك الأباطرة، إلا أن مما يؤيد تلك المعلومات أن مجموعة شركات هالبيرتون التي كان يديرها ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، حتى عام 2000، قد أعطتها الإدارة الأمريكية عقوداً لإطفاء حرائق في آبار النفط العراقي. وهذا يكشف أن هؤلاء لا ينطبق عليهم وصف "الصقور" بإزاء "الحمائم" على نحو ما حاولوا تضليل الناس، وإنما ينطبق عليهم أنهم مزيفو ديموقراطية ومستغلو مناصب عامة لتحقيق مصالح خاصة، وذلك عار الأبد. ومن أجل ذلك، سَرَت في داخل الولايات المتحدة موجة قوية من الاعتراض على هذه الحرب ترفع شعارات مثل: (لا لحرب البترول) و (ليس باسمنا) و (لا لمقايضة البترول بالدم) ونحو ذلك من الشعارات التي تكشف أهداف الحرب الحقيقية، وتعبِّر عن رفضها.

    ولأن هذين الهدفين هما مجرد ذرائع، فإنهما لم يُعْلَنا على هذا النحو إلا قبيل اندلاع الحرب. ولابد أن الناس يذكرون جيداً أن الرئيس الأمريكي بوش كان قد أعطى الرئيس العراقي صدام حسين وإبنيه مهلة 48 ساعة لمغادرة العراق كوسيلة لتجنب الحرب، ولكنه حين شعر أن صدام قد يفقدهم ذريعة احتلال العراق بالاستقالة ومغادرة العراق، عاد ليقول أن الجيش الأمريكي سيدخل العراق في كل الأحوال حتى لو استجاب صدام إلى الإنذار وغادر العراق، وذلك للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل. هذا بالرغم من أن التفتيش عن تلك الأسلحة ليس صلاحية الجيش الأمريكي، وإنما هو صلاحية اللجنة الدولية (UNMOVIC) والوكالة الدولية للطاقة الذرية، اللتين تعملان تحت رعاية مجلس الأمن الدولي، وهما المنوط بهما مباشرة التفتيش في كل الأحول، سواء أبحرب أو بدون حرب. ولا يفوت علينا أن مجلس الأمن إن كان قُدِّر له أن يجيز أي عمل عسكري ضد العراق من أجل التفتيش الفعال عن تلك الأسلحة، فإن ذلك العمل العسكري لن يكون من شأنه أن يخرِج مهمة التفتيش من يد اللجنة الدولية والوكالة الدولية ليضعها في يد الجيش الأمريكي أو أي جيش آخر.

    ومن هنا يتضح أن الإدارة الأمريكية قد ارتكبت سلسلة من الأخطاء الفادحة، لا خطأ واحداً، حين أعلنت أنها من أجل تفتيش فعال عن الأسلحة في العراق ستضرب العراق بدون قرار من مجلس الأمن، بدعوى أن مجلس الأمن تخلى عن مهمته. فالخطأ الأول هنا هو أن الإدارة الأمريكية قد اغتصبت بذلك صلاحيات مجلس الأمن، وأصدرت حكماً منفرداً على العراق ونفَّذته. والخطأ الثاني، أنها أضعفت منظمة الأمم المتحدة برمتها حين اتهمتها بالتفريط في واجبها، رغم أن واجب أمريكا كدولة مؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة، وكدولة أولى في العالم، بل وكدولة مقر، كان هو دعم منظمة الأمم المتحدة وتقويتها، لا إضعافها وإسقاط ما اكتسبته من هيبة وفعالية بعد انتهاء الحرب الباردة. أما الخطأ الثالث، فإن الإدارة الأمريكية واصلت مسلسل اغتصاب الصلاحيات، فاغتصبت لجيشها صلاحيات لجنة انموفيك (UNMOVIC) الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية وصلاحية مجلس الأمن في الإشراف على تينك اللجنتين.

    ومن المؤسف حقاً أن ذلك الخروج السافر عن الشرعية الدولية لم يجد التنبيه الكافي من القانونيين الدوليين، ولا من غيرهم، كما لم يجد الموقف الحاسم من دول العالم، ولا من الرأي العام العالمي. ويلاحظ الآن أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى تبرير عدوانها على العراق بالإعلان عن العثور على أسلحة كيماوية أو مصانع لها. وهذا إعلان عديم القيمة، ليس لأن تقاريرها العسكرية عن العمليات الحربية كانت كاذبة وتطعن في صدقها وتسيء إلى صورة المواطن الأمريكي والبريطاني بإظهاره بمظهر الكذاب الأشر، ولكن لأن الجيش الأمريكي ليس هو الجهة التي يناط بها حق التفتيش أو الإعلان عن ملكية العراق لسلاح دمار شامل أو مصنع له.

    إن المتابع للأحداث الجارية على الساحة الدولية يدرك بسرعة أن الإدارة الأمريكية قد قررت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أن تجعل من منظمة الأمم المتحدة مكتباً تابعاً لوزارة خارجيتها، تستصدر منه القرارات التي تسبغ الشرعية على سياساتها الرامية لحكم العالم بقبضتها الحديدية. وهي من أجل تحقيق هذا الغرض تمارس أفعالاً يندى لها الجبين. فهي تضغط على الأمين العام للأمم المتحدة ومساعديه وجهازه الوظيفي، وتوقف سداد التزاماتها المالية للمنظمة لتستصدر منها القرارات التي تبتغيها، بل وترشو الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن لتصوت معها، أو لتمتنع عن التصويت على أيسر تقدير، حتى أنها قد جعلت من عضوية مجلس الأمن باباً من أبواب المأكلة والرشا لبعض الدول، وبعض الحكام، بل وربما بعض المندوبين أيضاً. كل ما هنالك، أن لكلٍ ثمنه.

    أعود لأقول أن الذرائع التي أطلقتها الإدارة الأمريكية لتبرير عدوانها على العراق يجب أن تناقش، لا لأنها شكَّلت الأساس السياسي والقانوني والأخلاقي (Ethical) الذي اعتمدت عليه في ذلك الغزو فحسب، ولكن لأنها، في جوهرها، ستشكل الأساس الذي يمكن أن تطلق به الإدارة الأمريكية يدها وآلتها العسكرية الضخمة لتغزو دولاً كثيرة وتفتك بشعوب عديدة حول العالم. وذلك أمر إن لم يتفطن له المواطن الأمريكي والمواطن العالمي منذ اليوم ويوقفه، فإنه سيفيق كل حين على غزوة جديدة للإدارة الأمريكية في ناحية من الأرض. فمن المفروغ منه أن "كل تجربة لا تورث حكمة، تكرر نفسها"، كما قال الأستاذ محمود محمد طه. فإن المجتمع الكوكبي، بما فيه المجتمع الأمريكي، إن لم يتعظ من تجربة غزو العراق ويواجه الإدارة الأمريكية بما يجب من حكمة وحزم، سيكون بذلك التقاعس قد أدخل نفسه حقبة من البلبلة المنكرة والشر المستطير.

    أمريكا لا توزِّع الديموقراطية ، وهي ليست معنية بها :
    وأبدأ بمواجهة الحجة الأولى المتمثلة في تحرير شعب العراق من حكم صدام، وأسوق بشأنها النقاط التالية:-
    (1) إن الغاية لا تبرر الوسيلة. ولذلك فإن سوء نظام صدام حسين لا يبرر الغزو الأجنبي. فالغايات الصحيحة لا يتوسل إليها بالوسائل الخاطئة. كما أن الوسائل الخاطئة لا توصل إلى نتائج طيبة. والحق أن خطأ الوسائل يدل على خطأ المقاصد وينبيء بسوء النتائج.

    (2) إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لم تكونا ديموقراطيتين حين تخلتا عن طرح مشروع قراراهما بشأن العراق على مجلس الأمن حين شعرتا بأن أغلبية مجلس الأمن ترفضه. ولذلك لا يمكن أن تنطلي علينا أكاذيبها بأنهما سيجتاحان العراق لتحرير الشعب العراقي ومنحه الديموقراطية. لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

    (3) إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لم تكونا ديموقراطيتين حين اغتصبتا إرادة الشعب العراقي وقررتا تخليصه من صدام دون أن يطلب منهما الشعب العراقي ذلك. ولما كانتا بهذا الصنيع أيضاً غير ديموقراطيتين، فإنهما لم يقصدا منح الشعب العراقي ديموقراطية، ولن يستطيعا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

    (4) إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لا تباليان بالشعب العراقي، وإنما بمصالحهما. فحين غررتا بصدام عام 1979 ليحارب إيران ليوقف مساعي تصدير الثورة "الإسلامية"، أعانتا صدام على تقتيل الشيعة العراقيين المؤيدين لإيران. هذا على أيسر تقدير ما قاله المرجع الشيعي، الحكيم، في تبرير حياد الشيعة العراقيين حالياً.

    (5) إن الأمر الذي كان مطروحاً على مجلس الأمن بشأن العراق لم يكن يتعلق بتحرير شعب العراق من حكم صدام، وإنما بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل. وذلك هو الأمر الوحيد الذي ظلت الحكومتان الأمريكية والبريطانية تسعيان إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بشأنه. ولا جدال أن مجلس الأمن إن كان قُدِّر له أن يصدر قراراً يعلن به عدم تعاون العراق ويأذن فيه بعمل عسكري، فإن مثل ذلك القرار لا يمكن أن يعني إقصاء صدام حسين، لأن ذلك أمر داخلي لا يحق لمجلس الأمن التدخل فيه، وإنما هو قد يعني تفتيش أسلحة الدمار الشامل في العراق بالقوة، وإبادتها، ووضع مراقبين دائمين لضمان عدم إنتاجها مستقبلاً، ووضع أي شروط مناسبة تحول دون استيراد أي تكنولوجيا أو مواد تعين على إنتاجها. ومن هنا يتضح أن ادعاء الحكومتين الأمريكية والبريطانية بأنهما تهدفان إلى تحرير العراقيين من صدام ليس سوى غطاء دبلوماسي، ودعاية عسكرية أريد بها عزل النظام العراقي عن شعبه لتسهيل المهمة العسكرية أمام الجيشين الأمريكي والبريطاني. ومن حسن التوفيق أن تلك الدعاية السطحية لم تجز على أكثر العراقيين. وحتى الذين لم يقاوموا الجيش الغازي، إنما ينتظرونه ليخلصهم من صدام، ليتخلصوا هم من بقيته.

    (6) إن العالم مليء بالحكام الدكتاتوريين الذين سطوا على السلطة في بلدانهم بحد السلاح، وأذلوا شعوبهم. وصدام حسين وحزب البعث هم نموذج لأولئك الحكام الجائرين، ونحن في السودان قد رزئنا بأسوأ أصنافهم. بيد أن تحرير الشعوب من شاكلة أولئك الحكام الفاسدين هو واجب الشعوب نفسها، لا واجب الدول الأخرى. وذلك لأسباب عديدة، أهمها أن هذه الشعوب بعد أن جلا عنها الاستعمار التقليدي نحو منتصف القرن العشرين، أخذت تتعلم كيف تحكم نفسها. وهذه الدكتاتوريات هي جزء من عملية التعلم نفسها. وهذه الشعوب ما زالت تتلمس طريقها، وتختزن الحكمة من تجاربها. والمرارات التي تكابدها في هذا الشأن هي ثمن تعلمها، وهو ثمن ضروري، بل هو لا غنى عنه، من أجل أن تدرك قيمة الديموقراطية، فتحرص عليها، وتحققها، وتحافظ عليها.

    (7) إن الشعوب لا تُعْطَى الديموقراطية، وإنما هي تنتزعها انتزاعاً. ويوم تعرف جموعها قيمة الديموقراطية بمكابدة الدكتاتوريات، ستناضل من أجلها، وتنتزعها، ثم تحسن التصرف فيها، بحكم نفسها حكماً ديموقراطياً رشيداً. أما إن لم تعرف قيمة الديموقراطية، فإنها لا تستميت من أجلها.. وإن هي أعطيت لها دون أن تكون قد عرفت قيمتها، أضاعتها مرة إثر أخرى. ولعل نموذج السودان هو خير نموذج في هذا الشأن. فبريطانيا كدولة مستعمرة للسودان منذ عام 1898 قد مهدت، على نحو ما، لأن يحكم السودانيون أنفسهم حكماً ديموقراطياً بعد استقلالهم عام 1956، ولكن كانت النتيجة أن ملأوا أوعية الديموقراطية ببضاعتهم المزجاة.. ملأوا هياكل الديموقراطية -من أحزاب وانتخابات وبرلمانات وأجهزة حكم- بالطائفية والعشائرية، فأساءوا بذلك إلى الديموقراطية أيما إساءة، وباتت على أيديهم عاجزة عقيمة لا يصح تسميتها إلا بالدكتاتورية المدنية، وبسبب ذلك تواترت الانقلابات العسكرية. ومن أجل ذلك، فمن الخير للشعوب أن تتركها أمريكا ليستوفى كتابها من التعليم أجله، فتدرك قيمة الديموقراطية من خلال تجارب الدكتاتورية القاسية، فتبني ديموقراطيات حقيقية، وتسهر على حمايتها، وترقيتها. ذلك أمر لا معدى عنه، مهما طال أمده، ومهما فدح ثمنه.

    إن الشعوب-كل الشعوب- هي مثل الأفراد، لديها حق الخطأ، لتتعلم من أخطائها. والديموقراطية في أدق وأرفع تعريفاتها، هي حق الخطأ.. هي حق أن نعمل ونخطيء لنتعلم من خطئنا كيف نصيب. ومع هذا، فإن الدول المتقدمة نسبياً في مضمار الديموقراطية، كأمريكا وبريطانيا، يمكنها أن تساعد الشعوب المتأخرة بوسائل شتى لتعينها على اختصار الطريق وتقصير أمد المعاناة بتحقيق الديموقراطية بسرعة أكبر. وهي يمكن أن تساعد الشعوب الضعيفة بوسيلتين أساسيتين.. أحدهما الإسهام في رفع الوعي عند الشعوب، لأن وعي الشعوب شرط لازم للديموقراطية.. وثانيهما الكف عن استغلال ضعف هذه الشعوب بنهب ثرواتها بشروط الاستثمار والتجارة المجحفة التي تبرمها مع حكوماتها الدكتاتورية الجاهلة، وبدفن النفايات النووية والكيماوية في أرضها بعد رشوة حكامها الفاسدين، وبإرهاقها بالديون التي تعطيها لتلك الحكومات الدكتاتورية وهي تعرف مسبقاً أنها ديون لا تذهب للشعوب وإنما لجيوب أولئك الحكام الفاسدين لينتهي بها المطاف في بنوك الدول الغنية ذاتها التي تستمر في تحصيل ما يسمى بخدمات الديون أبد الدهر، فتبقي بذلك الشعوب في براثن الجوع والمرض والجهل وقبضة الحكام الدكتاتوريين. ولا شك عندي أن دولة تجترح مثل تلك الفظائع في حق الشعوب الضعيفة لا يمكنها الادعاء بأنها تقاتل من أجل تحرير الشعوب.

    ( إن سجل أمريكا في الساحة الدولية لا يسمح لها بأن تدَّعي بأنها رجل محسن يطوف حول العالم، كبابا نويل، ليمنح الشعوب الديموقراطية. والحق أن سجل أمريكا يقول عكس ذلك. سجل أمريكا يقول أنها تسعى فقط إلى تحقيق مصالحها.. وحين تكون تلك المصالح ممكنة التحقيق تحت أنظمة دكتاتورية -وهي غالباً كذلك- فإنها تقيم تلك الأنظمة الدكتاتورية، وتحميها، وتسحق تطلعات شعوبها إلى الديموقراطية. أليست أمريكا هي التي تدخلت على نحو مباشر هي وبريطانيا بعملية أجاكس (Operation Ajax) لإسقاط حكومة مصدق الديموقراطية في إيران عام 1953 لتعيد الشاه إلى السلطة من أجل الاستحواذ من خلاله على النفط الإيراني؟ بل أليست هي التي تآمرت على سلفادور الليندي في تشيلي عام 1973 بعد انتخابه انتخاباً حراً لتطيح به بانقلاب عسكري على يدي سيء السمعة الجنرال بينوشيه؟ بل أليست هي التي ظلت تدعم أنظمة النفط في الشرق الأوسط على مدى أكثر من نصف قرن من أجل البترول؟

    (9) ثم دعونا نناقش الأمور في أصولها!! ما هو الأساس الذي تقوم عليه سياسية أمريكا الخارجية؟ إنها إن كانت تقوم على فلسفة، فهي إنما تقوم على مساهمة أمريكا الوحيدة في الفلسفة البشرية-البراجماتية (Pragmatism).. أما إن كانت لا تستند على أي فلسفة، فهي إنما ترمي إلى أمر واحد، هو تحقيق المصالح الأمريكية في إطار التنافس الذي هو سمة ما تسميه بسياسة السوق، التي اعتبرها فوكاياما، أحد ألمع مفكريها المعاصرين، نهاية التاريخ. هل هنالك غير أحد هذين الأساسين لسياسة امريكا الخارجية (إن صحَّ أنهما ليس شيئاً واحداً)؟ اللهم لا!! وبالطبع ليست في البراجماتية ولا سياسة المصالح والسوق أي "يوتوبيا"، ولا إحسان، اللهم إلا الهبات (Benevolence) التي تُقدَّم للمسحوقين من أجل تخفيف الضرر الواقع عليهم من تلك السياسات نفسها، لا من غيرها، على غرار الـقـول السوداني المأثور (يفلق ويداوي)، وأحياناً من أجل ذر الرماد على العيون. هذا بطبيعة الحال لا ينفي أن هناك عدد كبير من المواطنين الغربيين الذين يمنحون أموالهم ووقتهم للضعفاء حول العالم تعبيراً عن تعاطف إنساني صادق عميق، كما هو لا ينفي وجود بذرة الخير حتى في نفوس أصحاب الشركات الكبرى الوالغة في دماء الشعوب. غير أن هؤلاء المتعاطفين الإنسانيين، على كثرتهم، لا يشكلون سياسة أمريكا الخارجية، ولا الداخلية، لأن تلك السياسة تشكلها حتى الآن مراكز صناعة القرار، وهي الشركات الضخمة المشهورة التي لا يهمها عموماً إلا المال والنفوذ، ولا ترحم أحداً، لا داخل أمريكا، ولا خارجها، والمواطن الأمريكي نفسه مكتوٍ منها، يجهد ليله ونهاره ليقابل فواتيره الشهرية. وأمثال هؤلاء المانحين الإنسانيين هم الذين يسيِّرون الآن المسيرات الضخمة في كل أرجاء الولايات المتحدة يعارضون غزو العراق، ليس لأنهم يحبون صدام، ولا العرب، ولا المسلمين، ولا الشرق أوسطيين، ولكن لأنهم ضد الحرب، والتقتيل، والاستحواذ على ثروات الشعوب الأخرى بالاحتيال والقهر وقانون الغابة.

    وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هناك حركة أمريكية نشطة آخذة في الاتساع ترمي إلى تصحيح الديموقراطية الأمريكية. وهذه الحركة ترى أن الديموقراطية الأمريكية الحالية صورية، ولا ينطبق عليها تعريف الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لنكولن للديموقراطية بأنها (حكم الشعب، بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب). فهي تراها الآن حكم الشعب، بواسطة الشركات الكبرى، لمصلحة أصحاب الشركات الكبرى. هي ترى أن الانتخابات الدورية رغم نزاهتها الإجرائية العالية ليست سوى وسيلة للإتيان بممثلي أصحاب النفوذ الاقتصادي ليديروا البلاد نيابة عنهم لا عن الشعب، وعلى النحو الذي يحقق مصالحهم هم لا مصالح الشعب. وقد قامت هذه الحركة في العيد الوطني للولايات المتحدة الأمريكية في 4 يوليو 2001 بتصميم ورفع علم أمريكي مغاير، استبدلت فيه النجوم الخمسين التي ترمز إلى الولايات بشعارات الشركات الخمسين النافذة التي تدير الولايات المتحدة لمصلحتها، باعتبار أن السياسيين والتنفيذيين في الإدارة الأمريكية ليسوا سوى ممثلين لتلك الشركات. وبالإضافة إلى هذه الحركة، هناك بالطبع الديموقراطيون الاشتراكيون الذين يرون أن الديموقراطية الأمريكية ستظل شكلية في ظل النظام الرأسمالي.

    لعل هذا يكفي في مواجهة دعوى الديموقراطية الزائفة التي تذيعها الإدارة الأمريكية كمبرر لغزو العراق. والحق أن تصرفات الإدارة الأمريكية منذ بدء الغزو تغنينا عن الإفاضة في تأكيد أن ما تقوم به في العراق، بمساعدة الحكومتين البريطانية والاسترالية، هو استعمار مكشوف لا صلة له بالشرعية الدولية. وقد كان الضباط الأمريكيون منطقيين مع أنفسهم حين أنزلوا العلم العراقي من سارية مدينة الفاو العراقية ورفعوا مكانه العلم الأمريكي، قبل أن يتذمر العالم (وربما بريطانيا أيضاً التي لم يُرْفَع علمها بجانب العلم الأمريكي). كما أن منح عدد من الشركات الأمريكية عقوداً تتعلق بتأهيل قطاع النفط العراقي، وبإدارة ميناء أم قصر، وبإطفاء الحرائق يدلل على أن المسألة ليست سوى استعمار مكشوف. وعندي أن زيارة بلير، رئيس وزراء بريطانيا المزمعة هذا الأسبوع لأمريكا إنما للاحتجاج على الإجحاف الذي حاق ببريطانيا في قسمة غنيمة الحرب، رغم أنها فقدت بسببها بشرياً ودبلوماسياً وعسكرياً وأدبياً. فبلير وبوش ليسا عسكريين، ليلتقيا لمناقشة سير العمليات الحربية، كما هو معلن، وإنما هما يلتقيان لقسمة الموارد العراقية بينهما.

    بهذا أفرغ لمواجهة الدعوى الأخرى المتصلة بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل.

    ذريعة أسلحة الدمار الشامل :
    غير خاف بالطبع أن التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق قد تعثر طويلاً. وهناك شعور عام لدى المجتمع الدولي بأن النظام العراقي كان يراوغ لوقت طويل، ولكنه في الشهور الأخيرة (بعد أن آلت مهمة التفتيش إلى لجنة انموفيك والوكالة الدولية للطاقة الذرية) أبدى مرونة وتعاوناً. وذلك ما أكدته تقارير رئيس لجنة انموفيك ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية المقدمة إلى مجلس الأمن. وقد جاء في هذه التقارير أن التفتيش لم يسفر عن دلائل تناقض إعلان العراق بأنه قد استجاب للقرارات الدولية ذات الصلة. وقد قال المفتشون أنهم بحاجة إلى بضع شهور للتأكيد بأن العراق خال من الأسلحة المحظورة.

    وهذا الموقف الأخير من جانب العراق هو المهم. كما أن دوافع المراوغة والإحجام في الماضي يجب أن تجد التفهم. فالتفتيش عن الأسلحة على هذا النحو هو أمر جديد لم يصبح ممكناً إلا بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد كان العراق أول تجربة في هذا الشأن. كما أن العراق ظل يشكو مما يسميه "سياسة الكيل بمكيالين"، مشيراً إلى أن هذا الإجراء لم يشمل إسرائيل التي تمتلك أسلحة أخطر وتقف معه في حالة عداء، وهو يقول أن الدوافع الأساسية للقرار كانت حماية إسرائيل. ومن المعلوم أن العراق كان مرتاباً من تصرفات ريتشارد بتلر رئيس اللجنة الدولية السابقة (UNSCOM)، واتهمه بالعمل لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وإسرائيل. وقد قادت تلك التعقيدات إلى استبدال لجنة أونسكوم بلجنة انموفيك في ديسمبر 1999. ولعل السيد روبن كوك، وزير الشئون البرلمانية البريطاني، قد ألمح عند استقالته من منصبه بسبب سياسة حكومة بلير المتعلقة بالعراق إلى أن أمريكا وبريطانيا لا يحق لهما وصف العراق بالتلكؤ في تنفيذ قرار مجلس الأمن القاضي بنزع أسلحته طالما أنهما تدعمان إسرائيل التي لا تزال ممتنعة عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رغم 242 الصادر منذ نحو أربعين سنة.

    ثم أننا لابد أن ننتبه إلى أن التكنولوجيا العراقية لتصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي تكنولوجيا أمريكية وبريطانية، منحت للعراق لضرب الإيرانيين خلال حرب الخليج الأولى. كما لابد أن ننتبه إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في حالة حرب مع العراق، وليست بينهما عداوة تبرر القول بأن مثل تلك الأسلحة تشكل تهديداً على أمنها القومي.. اللهم إلا إذا كانت أمريكا تعمل لحساب إسرائيل. وهذا ما تنكره في العلن. وقد كان أحرى بالإدارة الأمريكية أن تبذل جهداً حقيقياً بين العرب وإسرائيل لتوصلهم إلى سلام دائم ونهائي وشامل، بدل أن تسعى لتقوية إسرائيل وإضعاف العرب، ومحاولة خداعهم في مثل هذه الظروف بإعلانات فارغة، كإعلانها الأخير عن ما تسميه خريطة الطريق، وكأنها تتعامل مع أطفال صغار. صحيح أن العرب قد دللوا على مدى أكثر من نصف قرن على أنهم خفاف العقول، بإدامتهم الصراع مع إسرائيل في محاولة لرميها في البحر، رغم أن المجتمع الدولي قد التزم بالمحافظة على وجودها وأمنها وسلامتها منذ قبولها مشروع التقسيم عام 1947، ولكن العرب يجلسون على آذانهم، ويحاول زعماؤهم منذ عبد الناصر بناء زعاماتهم بإطلاق صيحات الوعيد الفارغة ضد إسرائيل. كل ذلك صحيح، ولكن واجب الإدارة الأمريكية ليس استغلال ضعفهم، ومحاربتهم نيابة عن إسرائيل، وإنما واجبها هو مساعدتهم ومساعدة إسرائيل على الوصول إلى سلام. فكلهم أبناء عمومة في روح الحرب، مثلما هم أبناء عمومة بالدم، وأبناء عمومة في مفارقة أديانهم تتابعوا في سَنَنِها حذو النعل إلى جحر الضب الخرب. ذلك كان واجب أمريكا إن كانت مؤهلة له، وإن كانت مؤهلة لقيادة القافلة البشرية في هذا الظرف الدقيق.

    مهما يكن، فإن العمل العسكري الذي أقدمت عليه الإدارة الأمريكية وتبعتها فيه الحكومتان البريطانية والأسترالية، هو عدوان، وتعدي على سيادة دولة، وغزو استعماري مكشوف، وخروج سافر عن الشرعية الدولية، وتقويض لدور منظمة الأمم المتحدة. وهو قد أوقف جهود لجنة انموفيك التي كان أعضاؤها يمارسون أعمالهم بالعراق على نحو مقبول لدى مجلس الأمن، وكان رئيسها مزمعاً العودة إلى العراق بعد أن قدَّم تقريراً إيجابيا إلى مجلس الأمن.

    إن أمريكا التي كان من الواجب أن تبقى بمثابة الدولة الكبرى المتمدينة العاقلة التي تدعو الدول الأخرى إلى ضبط النفس، وتمارس من التأثير الإيجابي ما توقف به النزاعات الإقليمية والدولية، قد باتت بهذا الغزو خرقاء، طائشة، تشكل أكبر خطر على سلامة الشعوب وأمنها واستقلالها. وذلك أمر مؤسف، ودعوة بلسان الحال إلى عهد جديد من البلطجة الدولية، شعارها من غلب سلب.

    بهذا أفرغ من الحديث عن بطلان ادعاءات الإدارة الأمريكية والبريطانية بشأن غزوهما العراق، وستكون الحلقة الثانية من هذا المقال عن الموقف الدولي المطلوب، من الحكومات، ومن الأفراد والمنظمات حول العالم.

    يتبع (2)

                  

العنوان الكاتب Date
من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-05-03, 05:28 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة ولياب05-06-03, 05:11 AM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة Mandingoo05-06-03, 08:55 AM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-06-03, 03:36 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-07-03, 06:02 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-09-03, 02:33 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de