من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-09-2003, 02:33 AM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)


    اتفاقية ماتشاكوس .. هدية لشعبنا !!
    عسى أن يتنبه !! وأن يحمل قضيته في يده !!
    بقلم : طه إسماعيل أبو قرجة
    1 من 3
    اتفاقيـة ماتشاكوس صفَّت الإخوان المسلمين فكرياً وقبرت شعـار الحاكمية وأنهت عقوداً من الدجل

    ((تَـولِّي جميع المناصب، بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة، وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو الأعراف)).

    هكذا سقط شعار الحاكمية، وسقطت الثوابت كلها، وأصبحت المواطَنة بديلاً لشرع الله. فهذا أحد البنود التي حسمت مسألة "الدين والدولة" في اتفاقية ماتشاكوس، بكينيا، التي وقعتها حكومة الإخوان المسلمين مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في العشرين من يوليو المنصرم (2002).

    ولولا أن هذه الاتفاقية من شأنها أن تقود إلى إيقاف المقتلة الهائلة التي ذهبت بأرواح أكثر من مليوني مواطن، لقلت أن هذا هو أهم بنودها. ذلك لأنه، ومعه بنود أخرى مماثلة، قد صفَّـى حركة الإخوان المسلمين تصفية فكرية تامة، ولم يذر لها بقية من مسوح تضلل به أولئك السذج الأغرار الذين كانوا حتى الأمس القريب تنتفخ أوداجهم وتطفح أفواههم زبداً بفعل شعارات الحاكمية والجهاد، التي ساقتهم بها حركة الإخوان المسلمين على مدى سنوات طوال مغمضي الأعين إلى ساحات حرب فاجرة، ليقتلوا الأبرياء، الذين حاقت بهم "مظالم تاريخية" على حد تعبير اتفاقية ماتشاكوس. والحق أن هذه التصفية الفكرية لتنظيم الإخوان المسلمين هي عينها التي تجعل السلام ممكناً. [ويلاحظ أني سميتهم بالاسم الذي ظهروا به أول أمرهم، ولم أحفل بتبديلهم لأسمائهم في الحقب المختلفة، كجبهة الميثاق الإسلامي، والاتجاه الإسلامي، والجبهة القومية الإسلامية، والحركة الإسلامية، ثم المؤتمر الوطني].

    لقد نسفت هذه الاتفاقية ذات الشعار الذي اتخذه الإخوان المسلمون مبرراً لوجودهم الفكري والتنظيمي، وذريعة لولوجهم معترك السياسة السودانية منذ نحو أربعين سنة، وهو شعار "الحاكمية"، أي تحكيم "شرع الله"، الذي أصموا به آذاننا على مدى عقود. لقد تأذن الله بأن يقبر هذا الشعار أخيراً بنيروبي، دون أن ينوح عليه أحد من أهله. فالكاميرات قد أظهرت السيد غازي صلاح الدين، رئيس وفد الحكومة، لحظة مصافحته السيد سيلفا كير رئيس وفد الحركة الشعبية، وقد رسم على وجهه ابتسامة جَهِدَ عبثاً أن يخفي بها سيماء العنف التي طبع بها تنظيم الإخوان المسلمين أعضاءه بفعل التربية السياسية الشائهة.

    إن دخول الإخوان المسلمين معترك السياسة تحت شعار "الحاكمية" إنما هو أمر معلوم. كما هو معلوم أيضاً أنهم منذ دخولهم لم يزيدوا على أن استخدموا شعار "لا بديل لشرع الله"، ليباشروا تحته كل صنوف التهريج، والتضليل، والعنف، والهوس، ومصادرة حقوق الآخرين، والفساد. فبذلك الشعار الأخرق، الذي لا صلة له بالدين، ولا بالعقل، ولا بالخلق، عوقوا تطور هذا البلد، وانحدروا به في هاوية سحيقة من الردة الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وأوسعوا أهله تقتيلاً، وجرُّوا عليهم من المآسي ما يفوق الوصف.

    ومن أجل ذلك، فإن القيمة الكبرى لهذه الاتفاقية تكمن في أنها قد أنهت عقوداً من الدجل الذي ظل يروج له الإخوان المسلمون منذ أن ولجوا معترك الحياة السياسية. وتوقيعهم على هذه الاتفاقية إنما هو، في الحق، توقيع على صك تصفيتهم الفكرية، كمقدمة لتصفيتهم السياسية، وليس الجسدية. وسيجيء يوم، قريباً إن شاء الله، يعرف الناس فيه لاتفاقية ماتشاكوس هذه القيمة العظيمة، ويحفظون فيه للحركة الشعبية لتحرير السودان هذا الفضل الكبير، المتمثل في جر الإخوان المسلمين إلى هذه التصفية، وإشهارها على الملأ.
    دجل الإخوان المسلمين ..
    بالأمس الدين هو الأساس !!
    واليوم الدين ليس هو الأساس !!
    وموقف الإخوان المسلمين الجديد، الذي أعلنوا به أن تكون المواطنة، وليس الدين ولا العقيدة، هي الأساس في تولي المناصب العامة، بما في ذلك رئاسة الدولة، يوجب تذكيرهم بأن الشعب السوداني لم ينس موقفهم المعلن حول هذه القضية منذ دخولهم مسرح الحياة السياسية في السودان بعد ثورة أكتوبر.

    إذ يحدثنا المجلد الثاني من محضر مداولات "اللجنة القومية للدستور الدائم للسودان" أن الدكتور حسن الترابي، زعيم جبهة الميثاق الإسلامي يومئذ، بعد أن قدَّم مشروع الدستور الإسلامي كدستور دائم للسودان، قد ووجه في إحدى جلسات اللجنة بسؤال عن أهلية غير المسلم لتولِّي منصب رئيس الدولة تحت الدستور الإسلامي، فحاول المراوغة، فحوصر، حتى اضطر أن يعترف بأنه لا يجوز لغير المسلم أن يكون رئيساً للدولة. وإليكم نص المواجهة نقلاً عن كتاب الأستاذ محمود محمد طه: (الدستور الإسلامي؟ نعم.. ولا!!)، الصادر في يناير 1968، حيث جاء:-
    (السيد موسى المبارك: جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة حول الدستور الإسلامي في صفحة "7" أن يكون رأس الدولة مسلماً، أود أن أسأل هل لغير المسلم الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟
    السيد حسن الترابي: ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من انتخاب الرئيس المسلم. الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين، أما فيا يتعلق بالمسائل الاجتهادية فإذا لم يكن هناك نص يترك الأمر للمواطنين عموماً، لأن الأمر يكون عندئذ متوقفاً على المصلحة، ويترك للمواطنين عموماً أن يقدروا هذه المصلحة، وليس هناك ما يمنع غير المسلمين أن يشتركوا في انتخاب المسلم، أو أن يشتركوا في البرلمان لوضع القوانين الاجتهادية التي لا تقيدها نصوص من الشريعة.
    السيد فيليب عباس غبوش: أود أن أسال يا سيدي الرئيس، فهل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيختار ليكون رئيساً للدولة؟
    الدكتور حسن الترابي: الجواب واضح يا سيدي الرئيس، فهناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة مثلاً، وأن يكون غير مرتكب جريمة، والجنسية، وما إلى مثل هذه الشروط القانونية.
    السيد الرئيس: السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى.
    السيد فيليب عباس غبوش: سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين- فقط هذا الكلام بالعكس- فهل من الممكن أن يختار في الدولة-في إطار الدولة بالذات-رجل غير مسلم ليكون رئيساً للدولة؟
    الدكتور حسن الترابي: لا يا سيدي الرئيس).

    وبعد أن أورد نص هذا الحوار من مضابط اللجنة القومية للدستور، مضى الأستاذ محمود محمد طه يحدثنا قائلاً:-
    (هذه صورة مما جرى في بداية معارضة اقتراح الدستور الإسلامي الكامل.. ويلاحظ محاولة الدكتور الترابي التهرب من الإجابة، مما اضطر معه السيد رئيس الجلسة أن يطلب من السيد فيليب عباس ليعيد السؤال، بغية أن يتلقى عليه إجابة محددة، لأنه سؤال، في حد ذاته، محدد.. فلما أعاده، لم يجد الدكتور الترابي بداً من الإجابة، فأجاب بـ "لا"!! ومن تلك اللحظة بدأت المعارضة التي انتهت بهزيمة اقتراح الدستور الإسلامي الكامل، وهي معارضة قد رصدت كلها في محاضر مداولات اللجنة القومية للدستور، فلتراجع..). انتهى
    لماذا فرضوا معيار الدين بالأمس؟
    ولماذا استـبـعدوه اليــوم؟؟
    إن تبديل الإخوان المسلمين لإرثهم السياسي المتصل بشعار "الحاكمية" واعتبار العقيدة الدينية هي الأساس لتحديد الحقوق والواجبات، قد يسوق البعض للتساؤل: لماذا فرض الإخوان المسلمون معيار العقيدة بالأمس؟ ولماذا استبعدوها اليوم؟

    والجواب جد قريب. وهو أن الدين لا يهمهم، كما حاولوا دائماً إيهام الشعب، وإنما تهمهم كراسي الحكم. وحين بدا لهم في الماضي أن رفع شعار الدين من شأنه أن يوصلهم إلى كراسي الحكم، رفعوه. وحين بدا لهم اليوم أن إسقاط الدين هو الذي يبقيهم في كراسي الحكم، أسقطوه. هذا هو الأمر في بساطة. وهو أمر، على بشاعته، لا يعدو الحق قيد أنملة.

    فهم حين نادوا باتخاذ العقيدة الدينية معياراً للحقوق والواجبات، إنما كانوا يهدفون لإقصاء الآخرين باسم الدين. كانوا يريدون خلق تبرير ديني لممارساتهم المنافية لكل قانون، وكل خلق، وكل عرف، وكل قيمة. كانوا يريدون خلق غطاء ديني للتآمر، وقتل الناس، ومصادرة حقوق التفكير، والتنظيم، والتعبير، حتى يسهل لهم تحقيق هدفهم، وهو الوصول إلى كراسي الحكم. وحين بدا لهم في نهاية الثمانينات أنهم قد قطعوا شوطاً في مؤامرتهم وبوسعهم إكمال فصولها، استولوا على السلطة، بالغدر، وبحد السلاح، واستأثروا بها ثلاثة عشر سنة، انتزعوا خلالها لقمة العيش من أفواه البؤساء.. ثم اصطرعوا فيما بينهم على ما نهبوه من سلطة وثروة، بعد أن أقصوا كل من عداهم.

    ثم حين بدا لهم مؤخراً أنهم سيخسرون السلطة بكاملها إذا لم يضعوا حداً للمأساة الإنسانية الدائرة في الجنوب والتي أعطت دولاً مهابة الجانب ذريعةً قويةً للتدخل، رضخوا، فكانت هذه الاتفاقية. ولما كان من شأن الاتفاقية أن يتم اقتسام السلطة مع أهل الجنوب، كان لابد أن يتنازلوا عن الشعار الذي برروا به وجودهم السياسي كله.. وهو شعار الحاكمية.. فارتضوا أن تكون المواطنة هي الأساس، وليس الدين ولا العقيدة. ألا ترونهم اليوم يقولون : "المواطنة بديل لشرع الله"، قلباً لشعارهم القديم "لا بديل لشرع الله"؟؟ أي بؤس هذا؟!

    فالتقرير الصحيح إذن، هو أن لإخوان المسلمين قد رفعوا شعار العقيدة الدينية أول أمرهم من أجل الكراسي.. وأنهم قد أسقطوه الآن من أجل الكراسي أيضاً. فهنيئاً لهم بطلبتهم، وهنيئاً لكل غر ساذج وظَّف نفسه في خدمة هذا الغرض الدنيء وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وأنه يخدم في دين الله.
    الإخوان المسلمون ساقوا الشعب
    في التيه نحواً من أربعين سنة !!
    إذا اتضح مما تقدم أن الإخوان المسلمين قد بدءوا برفع شعار الدين لإقصاء خصومهم السياسيين وكسب السلطة، وأنهم الآن تخلوا عن الدين كأساس لتحديد الحقوق والواجبات في الدولة من أجل البقاء في السلطة، لاتضح جلياً أن لا شعب من شعوب الأرض قد بُـلِي بجماعة سياسية هي من الجهل، ومن سوء الخلق، كما بُلِي الشعب السوداني بهذه الجماعة، التي لا تزال تتربع على دست الحكم.

    والحق أن المرء لو استرجع المنعطفات الخطيرة في تاريخ هذا الشعب منذ ولوج الإخوان المسلمين المسرح السياسي بعد ثورة أكتوبر 1964، لوجدهم دائماً هناك، يحيكون الدسائس والمؤامرات، ويضللون مسعى الشعب، ليردوا به موارد الحتوف. فهم الذين ضلعوا بالتلفيق والكذب الصريح في مؤامرة محكمة الردة ضد الأستاذ محمود محمد طه في 18 نوفمبر 1968 بدعوى حماية الشريعة، كأول محاكمة من نوعها في التاريخ الحديث. وهم الذين تولوا كِبْـر حل الحزب الشيوعي السوداني عام 1965 بدعوى محاربة الإلحاد. وهم الذين وظَّفوا كل طاقاتهم لتمرير مؤامرة الدستور الإسلامي المزيف، طيلة العهد النيابي الثاني، مما قوض ذلك العهد بانقلاب نميري.. ثم هم الذين سوَّلوا لنميري أن يعلن نفسه إماماً ويفرض قوانين سبتمبر 1983. وهم الذين سخَّروا أنفسهم لتطبيق تلك القوانين فيما أسموه بمحاكم العدالة الناجزة، ببتر الأيدي والأرجل، والجلد، والإهانة، والإذلال، والقتل، والتفتيش، وحرق الكتب.. وهم الذين حالوا دون إلغاء تلك القوانين السيئة بعد انتفاضة إبريل 1985. وهم الذين ناهضوا كل جهد لإيقاف الحرب الأهلية، ووصفوا مساعي السلام بأنها مساعي استسلام، وأسموا مؤيدي السلام بالطابور الخامس، وأطلقوا النار على منزل السيد محمد عثمان الميرغني عقب توقيعه مبادرة السلام المشهورة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في نوفمبر 1988، بغرض إخافة كل من يسعى للسلام.. ثم هم الذين انقلبوا على الحياة النيابية بليل في 1989، حين بدا لهم أن تيار الحل السلمي للحرب الأهلية قد تنامى.. ثم هم الذين شرَّدوا عشرات الآلاف من السودانيين الشرفاء من الخدمة المدنية والعسكرية باسم الصالح العام، ووظفوا كل طاقات البلاد لخدمة مصالحهم الشخصية الضيقة. وهم الذين ساقوا الأطفال والشباب إلى محرقة الحرب الأهلية تحت دعاوى الجهاد والشهادة، وعقدوا للقتلى والمفقودين منهم زيجات على الحور العين، وسيروا مواكب أعراس الشهداء، وأزهقوا أكثر من مليونين من أرواح المظلومين في حرب أهلية فاجرة رفضوا إيقافها رغم كل الجهود المخلصة، بدعوى أن لديهم "ثوابت" لا يتعدونها. ثم عادوا اليوم ليسقطوا تلك "الثوابت"، وليعترفوا بأن الحرب قد نشأت أصلاً بسبب مظالم تاريخية عانى منها أهلنا بالجنوب!! أرأيتم كيف سار الشعب على حداء جهلاء، ضلوا، وأضلوا؟؟
    اسألوا الإخوان المسلمين !!
    إن الشعب يجب أن يسأل الإخوان المسلمين. يجب أن يسأل قادتهم، من أمثال الترابي، وعلى عثمان، وعلي الحاج، وغازي صلاح الدين، وعمر البشير، وأضرابهم من المدنيين والعسكريين، الذين جرُّوا البلاد إلى هذه الهاوية. كما يجب أن يسأل قاعدتهم من البسطاء الذين سخَّروا أنفسهم لخدمة مطامع أولئك القادة الأشرار. يجب أن يسألهم الشعب حيث وجدهم: لماذا جررتم البلاد منذ انتصار ثورة أكتوبر في خط زعمتم أنه الدين، وأنه "شرع الله" الذي لا بديل عنه، ثم أدرتم له ظهركم اليوم؟ أين هو الحق؟ هل هو في التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة كما ظللتم تزعمون منذ الستينات؟ أم هو في اعتبار "المواطنة هي الأساس" كما قلتم اليوم؟ هل دينكم هو قولكم بالأمس أم قولكم اليوم؟ أما كان من الخير لكم ولهذا الشعب المسكين أن تجلسوا في بيوتكم حتى تصلوا لرأي ثاقب بدلاً من هذا العبث والتقلب؟ فكم راح من ضحايا ما بين ضلالكم بالأمس وهدايتكم اليوم، إن كان قد اهتديتم فعلاً؟ ألا تظنون أنكم محاسبون؟!

    إن يوم الحساب قد دنا، ما في ذلك أدنى ريب. ومن الخير للإخوان المسلمين أن يعدوا أنفسهم لهذا اليوم الداني. وهم لن يجدوا عن الحساب مصرفا، إلا إذا حاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم.. يفعل ذلك كل واحد منهم بنفسه.

    وأول ما يجب أن يبدءوا به، هو أن يدعوا قول الزور. وذلك بأن يقلعوا عن تصايحهم الحالي بأن حكومتهم هي التي استطاعت، دون سائر الحكومات الأخرى، أن توقع اتفاقاً من شأنه أن يضع حداً للمأساة في جنوب البلاد!! فمن خلق المأساة أصلاً؟؟ وماذا كان تبريركم "الأخلاقي" و "السياسي" لانقلابكم العسكري في ليلة الثلاثين من يونيو 1989؟ ألم تقولوا بأنكم قمتم بانقلابكم لإيقاف اتفاقية "استسلام" الميرغني-قرنق المشهورة؟ أم هل عساكم نسيتم؟ أم هل تظنون أن الشعب قد نسي؟ إن من الخير لكم أن توقفوا هذا التبجح القبيح الذي أخذتم تذيعونه على الناس اليوم، فما هو إلا مظهر لعدم الحياء الذي أخذتم عليه عقوداً.
    من تاجر بقضية الدين ؟
    إن مما يأسف له المرء أن الإخوان المسلمين قد يصعب عليهم ترك الكذب والتضليل. فهاهي جريدة "الخرطوم" في عددها بتاريخ 27/7/2002 نقلت لنا الخبر التالي في صفحتها الأولى:- (من جانبه قال عبد الرحمن إبراهيم، عضو الوفد المفاوض، أن كل المفاوضات السابقة كانت تفشلها قضية فصل الدين عن الدولة مشيراً إلى أن هذه الجولة بدأت بهذه القضية وبعد نقاش وجدال اتضح لنا أن البعض استغل قصة الدين لتحقيق مكاسب ذاتية من أحزاب شمالية وأجنده غربية تريد مصالحها الخاصة)!!

    ألا ترون التلفيق؟ ألا ترونه يحاول إنكار مسئولية الحكومة عن فشل المفاوضات السابقة بدعوى "الثوابت"؟ وإذا لم يكن هذا القول تلفيقاً، فأي حزب شمالي كان يفاوض الحركة الشعبية في الجولات السابقة التي فشلت حتى يقال عنه أنه استغل الدين؟ أليس هو حزب الحكومة؟؟ {كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. إن يقولون إلا كذبا}!!

    إن محاولات التنصل عن المسئولية لا تجدي، كما أن الكذب ومحاولات التضليل لا تجدي. ولو كانت تجدي، لما وجد الإخوان المسلمون أنفسهم في هذا الموضع بعد عقود من الكذب وتحري الكذب. ومن أجل ذلك ينبغي عليهم أن يدَعوا خطهم القديم.. خط الكذب والنفاق. ويعترفوا فوراً بأنهم جرَّوا هذا الشعب المسكين في نفق من المأساة التي تعز على الوصف، وأنهم أضاعوا عليه بالتهريج السياسي عقوداً عزيزة كان من الممكن أن يستغلها في التنمية الاجتماعية بكافة جوانبها. إن هذا الاعتراف هو السبيل الوحيد الذي يصل به الإخوان المسلمون إلى قلوب أبناء هذا الشعب، المنطوية أبداً على الصفح والعفو والتسامح، مهما عظم الذنب. هذا الاعتراف آت. وهو اليوم أكرم لهم من الغد، وأجدى.
    الإخوان المسلمـون
    بلا أدنى حس إنساني !!
    إن المرء ليأسى حين يطالع أن الإخوان المسلمين قد سجلوا في الاتفاقية انتباههم لفداحة نتائج الحرب. اقرؤوا معي مرة أخرى هذه الفقرة من مقدمة الاتفاقية: ((منتبهين إلى أن النزاع السوداني أطول النزاعات الحالية في كل إفريقيا، وأنه حصد أرواح الملايين، ودمَّر البنيات التحتية للبلاد، وأهدر الموارد الاقتصادية، وتسبب في معاناة تفوق الوصف، وخاصة بالنسبة لشعب جنوب السودان))!!

    إن من حق كل مواطن سوداني أن يسأل: ألم تنتبهوا لهذه المأساة إلا مؤخراً؟ وإذا زعمتم أنكم قد انتبهتم مبكراً، فلماذا تعللتم بما أسميتموه "بالثوابت" لتتقاعسوا عدة سنوات عن توقيع "إعلان المبادئ" الذي وضعته دول الإيقاد ووقعته الحركة الشعبية، وهو الإعلان الذي اعتبره الاتفاق الحالي أساساً لحل سلمي شامل؟

    أما إذا كنتم من العمى ومن انعدام الإحساس بحيث لم تـنتبهوا لهذه المأساة إلا بعد أن حصدت الحرب أرواح الملايين، على نحو ما اعترفتم، فما هي مؤهلاتكم لتسنم السلطة في هذه البلاد الحزينة؟ ولماذا سعيتم إلى السلطة أصلاً؟؟ لماذا سعيتم إلى السلطة خلال العهود النيابية، فسممتموها بجهالاتكم ورعوناتكم؟؟ ثم لماذا ساقكم الحرص على السلطة لتسرقوها بليل؟ هل كنتم في عجلة من أمركم "لتحصدوا أرواح الملايين، وتدمروا البنيات التحتية للبلاد، وتهدروا الموارد الاقتصادية، وتتسببوا في معاناة تفوق الوصف"؟

    لقد نقلت لنا الأنباء يوم 28/7/2002 أن وزير الدفاع بدولة أوكرانيا قدَّم استقالته لأن طائرة عسكرية سقطت خلال استعراض جوي وتسببت في مقتل 78 شخص. ألا ترون أنه رجل يستقيل بسبب رهافة الحس الإنساني؟! فهذا الحادث يمكن أن يقع رغم كل الاحتياطات. والاستقالة من المنصب لأسباب كهذه، أمر عادي وشائع في العالم المتحضر. ولكني أسأل كل أخ مسلم تقلَّد منصباً في حكومتهم هذه أو لم يتقلد: إذا كانت رهافة الحس الإنساني قد ساقت وزير الدفاع الأوكراني إلى الاستقالة لأن 78 شخصاً (فقط) لقوا حتفهم بسبب حادث طائرة تابعة له، فماذا تحسون أنتم الآن وقد حصدت حربكم أرواح الملايين؟ قولوا لي بربكم!! ألا يزال رؤساؤكم يطمعون أن يستمروا زعماء كما كانوا؟؟ أم هل عسى بعضهم يطمع في مناصب أكبر؟!؟ ألا زالوا يخططون لجولة ثانية من التضليل والإفك؟؟ ثم ألا زالت قاعدتكم باقية على غفلتها تعين أولئك الرؤساء؟ ألا ترون أنه يحسن بكم أن تتركوا الحياة العامة، وترجعوا إلى بيوتكم، فتكونوا أحلاسها، ولو إلى حين، لتلتمسوا بهذا الرجوع نوراً يضيء ذراري جلودكم التي لم يعرف الحس الإنساني إليها سبيلا؟
    اتركوا الشعب، يترككم
    خيراً فعل بعضكم. فقد أوردت الصحف قبل فترة وجيزة أن السيد أمين بناني قد استقال من حزبكم، وقال إن من ضمن أهداف استقالته أن يتطهر من تاريخ "الحركة الإسلامية". حسناً فعل السيد أمين بناني. ونوبة الصحو تحمد للمرء، حتى إن بدا لنا أنها جاءت متأخرة. فهي متى جاءت، فقد جاءت في وقتها. فإنما (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر). هكذا حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

    هل أنا بحاجة لأن أقول لكم أن كل الشعب السوداني قد ناله منكم أشد الأذى؟ بل هل أنا بحاجة لأن أقول لكم أن كل بيت في السودان قد تضرر منكم؟؟ كل بيت.. اللهم إلا بيوتكم أنتم، التي باتت كبيوت النمل، تنقلون إليها خيرات غيركم، ولا ينال الناس منها إلا الأذى.

    ثمة أمر واحد يظفركم بمغفرة من ربكم، وعفو من شعبكم: التوبة النصوح. أتعلمون أركانها؟ إنها ثلاثة: الإقلاع الفوري، والندم على ما فات، والإصرار على عدم العودة. أقلعوا الآن عن ما أنتم فيه. أخرجوا من هذا التنظيم زرافات ووحدانا.. واندموا على ما قضيتم فيه من وقت، وعلى ما اجترحتم فيه من عمل، الله يعلمه، وإن لم يعلمه الناس.. وردُّوا المظالم إلى أهلها.. ردوا المظالم إلى أهلها.. ثم أصروا على أن لا تعودوا إلى ذلك أبداً. إنكم إن فعلتم هذا، غفر الله لكم، وعفا الشعب عنكم.. وكان ذلك نصيبكم من هدية ماتشاكوس.

    هذا موجه بنحو خاص إلى البسطاء منكم، الذين ظنوا أن هدف تنظيمكم هذا هو إقامة الدين، فدخلوه.. ثم حين فوجئوا بصور الفساد المريع بعد استيلاء التنظيم على السلطة، ظنوا أنهم يمكنهم البقاء في التنظيم طالما هو يعمل لإقامة الدين، وسيسألوا هم عن ما فعلوا ويسأل المفسدون عن ما يفعلون. فها قد انكشف لهم أمر التنظيم، فماذا هم فاعلون؟

    ثمة أمور لا ريبة فيها، ينبغي أن تدركوها:-
    أولها، أن تنظيمكم هذا فتنة، القعود عنها خير من القيام فيها. وهو تنظيم ضل سعي أهله في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
    وثانيها، أن حكومتكم هذه ما كان لها أن تأبى توقيع هذه الاتفاقية. فهي قد أدركت بالتجربة العملية أن ما كنتم تنادون به لا يصلح للواقع. وهذا أمر قد قيل لكم منذ عقود، ولكنكم كنتم به تستهزئون، ونسيتم أنه ثابت في تدبير العزيز الحكيم أن (من لم يسر إلى الله بلطائف الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان).
    وثالثها، أنكم اليوم مساقون للخروج من هذا التنظيم سوقاً لا تملكون عنه فكاكاً. فإن لم تسلسوا قيادكم، أعنتُّـم أنفسكم.

    فاخرجوا من هذا التنظيم الآن، وارجعوا إلى ربكم، وراجعوا أنفسكم. ذلكم خير لكم، فإنكم بحالكم هذا لن تزيدوا الناس إلا وبالا.


    2 من 3
    قوى التجمع تائهة، ولابد أن تدرك الدور المطلوب

    في الحلقة الأولى حاولت أن أفرغ من أمر الإخوان المسلمين. ويهمني هنا أمر قوى التجمع الوطني الديموقراطي، وبخاصة القوى الشمالية. كما يهمني مستقبل المفاوضات، وبرنامج الفترة الانتقالية. فبقدر ما تسدد هذه القوى، وتقارب، وبقدر ما يأتي برنامج الفترة الانتقالية مسدداً، يتيسر للبلاد أن تخرج من هذا النفق المظلم الذي دخلت فيه منذ فجر الحركة الوطنية.

    ضعف المعارضة الشمالية
    أفقدها فرصة المشاركـة
    ليس سراً أن المعارضة الشمالية ليست سوى معارضة اسمية. فهي لا تملك القوة الفكرية، ولا السياسية، ولا الدبلوماسية، ولا الإعلامية، ولا العسكرية، التي تستطيع أن تفرض بها وجودها كطرف أصيل في مفاوضات السلام المقبلة. فهي لم تستطع أن تبني جيشاً، ولا حركة جماهيرية تشكل ضغطاً على النظام، وإن حاولت بعض فصائلها أحياناً إيهام الشعب بأنها تعد العدة للإطاحة بالنظام من الخارج، وما عليه إلا أن ينتظر. وبسبب إدراك المعارضة الشمالية لعجزها، فإنها تنازلت قبل سنوات عن مطمحها في اقتلاع النظام، وارتضت الحل السلمي. وبسبب ضعفها، فقد ازدراها النظام كثيراً، وسخر منها، ولا يزال. فمنطق أهل العنف يقول إن الذي لا يستطيع أن يقيم حرباً لا يُرجَى منه أن يعطي سلاماً.

    ورغم أن النظام قد بدر منه في بعض الأحيان ما يوحي برغبته في تحقيق مصالحة مع المعارضة، إلا أنه كان يهدف إلى جر بعض فصائلها إلى جانبه. وقد أفلح بالفعل في جر حزب الأمة، الذي لم يكن راضياً عن مقررات أسمرا للقضايا المصيرية، وكان النظام أقرب إلى قلبه وعقله.

    هذا الضعف من المعارضة الشمالية، قابله من الجانب الآخر قوة الجيش الشعبي لتحرير السودان، وحجم المأساة الإنسانية في الجنوب، واهتمام دول الإيقاد وكثير من الدول الغربية بهذه المأساة. كل ذلك أجبر الحكومة على الاستمرار في التفاوض مع الحركة الشعبية. ولما كانت دول الإيقاد تركِّز اهتمامها بالجنوب، فقد جاء إعلان المبادئ الذي صاغته مركِّزاً على وضع الجنوب في حالتي الوحدة والانفصال، ولم يول اهتماماً منفصلاً بالشمال.

    من أجل ذلك، فإن إطار الإيقاد لم يسمح للحركة الشعبية بالإصرار على ضم حلفائها للمفاوضات، رغم حرصها على توسيع إطار الحل ليضم كل قوى التجمع. وهذا أمر يعرفه أهل التجمع جيداً، وقد سبق أن اعترفوا به صراحة.

    هذا الوضع المعقد يوجب على قوى التجمع أن لا تلوم الحركة الشعبية على الوصول لاتفاق ثنائي مع الحكومة، وإنما يوجب عليها أن تلوم نفسها على عجزها عن إجبار الحكومة على التفاوض معها. كما أن قوى التجمع يجب أن تقدِّر أن الحركة الشعبية تقف عن قرب على مآسي الحرب والمجاعات بالجنوب، وتقدِّم أفراداً للموت كل يوم، مما يدفعها دفعاً لإحلال السلام، ولو باتفاق ثنائي. كما على قوى التجمع أن تحاول الخروج من مأزقها الحالي بشيء من المهارة، بدل تخذيل الحركة الشعبية، وإرباكها، ومحاولة إثنائها عن خط السلام الذي فتحته هذه الاتفاقية. وخيراً فعلت الحركة الشعبية بأن مضت في سبيلها.

    إن قوى التجمع قد انزعجت، لأنها كانت تأمل أن تستفيد من تضحيات الحركة الشعبية، فتجلس يوماً على طاولة المفاوضات، مثلما يجلس رجال الحركة الشعبية، وتنال ما تريد، دون أن تكون قد دفعت ثمناً. لكن اتفاقية ماتشاكوس بددت هذا الحلم، وفضحت الضعف. والحق أنهم كانوا يحلمون بإحدى الحسنيين: إما أن تضمهم الحركة الشعبية للمفاوضات فينالوا ما يريدون دون ثمن منهم ويعودوا أبطالاً.. وإما أن تحدث ثورة شعبية في الداخل، فيزعموا أنهم حركوها من الخارج بأصابعهم السحرية ويعودوا عودة الأبطال دون أن يكونوا قد فعلوا شيئاً، تماماً مثلما عادت قيادات حزب الأمة العام الماضي، بلا نتيجة، ولا هدف، ولا مبرر، إلا العجز. وتلك خلة قديمة.
    المعارضة بلا بوصلة
    لا يبدو أن المعارضة الشمالية قد فهمت ما يدور. وهي ما لم تفهم، لن تعرف واجبها في المرحلة المقبلة، وستغيب حتماً. وآية عدم فهمها، أنها بدأت بانتقاد الاتفاقية حتى قبل أن تقف على محتواها. وقد ساق هذا الموقف، غير المستغرب، الدكتور منصور خالد للقول في لقاء صحفي أجرته معه جريدة الشرق الأوسط في عددها بتاريخ 26 يوليو 2002 :- (أفهم أن يفاجأ البعض بالاتفاق، ولا أفهم أن يصدروا الأحكام بدون قراءة النص). بيد أن هذه القوى رجعت، فأيدت الاتفاقية، مبدية تحفظاتها واهتماماتها. وذلك خير لها، وللشعب برمته. ويؤمل لها أن تسير خطوات إلى الأمام.

    إن المعارضة الشمالية يجب أن تدرك أنها إذا لم تكن تملك فرض مشاركتها في هذه المحادثات، فهي بالضرورة لا تملك إيقافها. وهذه البديهة تملي عليها أن تقبل المشاركة في المفاوضات المستقبلية بالصفة المتاحة لها، وهي صفة المستشار، عسى أن تتاح لها، من خلال عملية التفاوض نفسها، صفة أفضل. وعليها أن تبذل جهدها من خلال هذه المشاركة لتذلل أي عقبات تعترض المفاوضات المستقبلية، ولتعين الأطراف للتوصل إلى اتفاق سلام مسدد، يتلافى أي عيوب ربما شابت اتفاقية ماتشاكوس، أو أي سوء فهم قد ينشأ عن نصوصها المقتضبة. كما عليها أن تفكر منذ الآن في كيفية إخصاب الفترة الانتقالية، وتحقيق أهدافها. هذا الدور يناسب، على أيسر تقدير، إطار المفاوضات الحالية، المحكوم بإعلان مبادئ الإيقاد، الذي لا يسمح بدخول أطراف أخرى إلا إذا ارتضى الطرفان الأصليان. وهو دور جليل وخطير، إن استطاعت هذه القوى أن تباشره بذكاء واقتدار.

    هل الحكومة الانتقالية ثنائية؟؟
    معلوم أن السيد رئيس الحكومة قد رفض طلب الدكتور قرنق لإشراك القوى الأخرى في المفاوضات بصفة أصلية، ووافق فقط على إشراكهم كمستشارين. والحركة الشعبية لا تستطيع أن تصر على طلبها، وإلا بدت وكأنها تعوق المفاوضات والسلام. ومن أجل ذلك، على قوى التجمع أن تقبل المشاركة بهذه الصفة التي لم تتفضل عليها الحكومة بأحسن منها، وأن تشد من أزر الحركة الشعبية، والحكومة أيضاً، في المفاوضات المقبلة، خصوصاً أنها مفاوضات هامة يتوقف عليها مستقبل السلام. بيد أن بعض قوى التجمع قد أعلنت رفض المشاركة بهذه الصفة، وذلك رفض ليس له ما يبرره. وهو رفض ينذرها، على كل حال، بإخلاء الساحة منذ الآن. ولربما يحسن لقوى التجمع أن تعلم أنها إذا رفضت المشاركة بهذه الصفة، فإنها لن تزيد بهذا الرفض على أن تترك الحركة الشعبية وحيدة في جبهة السلام، بعد أن تركتها وحيدة في جبهة الحرب على مدى السنوات الفائتة.

    ومن الواضح أن قوى التجمع لم ترفض الطبيعة الاستشارية للمشاركة في حد ذاتها، وإنما هي ترفض أمراً تتوهمه وليس له من وجود إلا في أذهان بعض أطرافها. ذلكم هو الفهم الخاطئ الذي أشاعته اللجنة الدستورية والقانونية للتجمع، من موقعها بالقاهرة. ومفاده أن الترتيبات الانتقالية الواردة في اتفاقية ماتشاكوس (تقوم على شراكة مغلقة بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية ولا مكان فيها لطرف ثالث).

    إن هذا لموقف مؤسف من تلك اللجنة. وهو لخطورة المنعطف يضطرني للقول بأن لا صلة له بالفهم القانوني السليم، ولا بمصلحة البلاد، ولا شعبها. وهو يضطرني أيضاً للتعرض لبعض بنود الاتفاقية، محاولاً تحاشي الإسهاب.

    وأول ما يجب ملاحظته في هذا الشأن هو أن الجزء (ب) من الاتفاقية، المتعلق بالعملية الانتقالية، قد بدأ بهذا النص:-
    (من أجل حل النزاع لضمان مستقبل يعمه الأمن والرخاء لكل شعب السودان، ومن أجل التعاون في حكم البلاد، يتفق الطرفان على تطبيق اتفاقية السلام وفق الترتيب والأطر الزمنية والمراحل المنصوص عليها أدناه).

    والمراحل المنصوص عليها هي مرحلتان:- (1) الفترة التمهيدية.. ومدتها ستة أشهر، ويبدو أنها تسري اعتباراً من إبرام اتفاق السلام. (2) الفترة الانتقالية.. ومدتها ست سنوات، وتبدأ بنهاية الفترة التمهيدية، وفي نهايتها يمارس أهل الجنوب حق تقرير المصير بالاستفتاء.

    ولما كانت اتفاقية ماتشاكوس هي اتفاقية إطار، فإنها لم تدخل في تفاصيل الحكومة الانتقالية، وإنما هي وضعت أسساً عامة. ومن تلك الأسس، النص الوارد أعلاه، والذي يستفاد منه أن الطرفين يجب أن يتفقا في اتفاق السلام على الشروط التي توفر مستقبلاً ((يعمه الأمن والرخاء لكل شعب السودان))، وكذلك على الشروط التي تحقق ((التعاون في حكم البلاد))، كما يجب تطبيق ذلك. وهذا يعني أن طرفي الاتفاقية قد ألزما نفسهما بموجب هذا النص بأن يضمِّنا اتفاق السلام شروطاً تحقق مستقبلاً ((يعمه الأمن والرخاء لكل شعب السودان))، وشروطاً تحقق ((التعاون في حكم البلاد)). وبطبيعة الحال فإن أيسر هذه الشروط هو أن تقوم حكومة انتقالية وطنية، تمثل كل الأطراف المرتضية للاتفاقية ولبرنامج الفترة الانتقالية.

    كما نص البند (2-1-أ) على تأسيس الهيئات والآليات المنصوص عليها في اتفاق السلام خلال الفترة التمهيدية. وهذه هي الهيئات والآليات التي تعمل خلال الفترة الانتقالية. فإذا كان اتفاق السلام هو الذي سيحدد هذه الهيئات والآليات، فلا يجوز القول بأن اتفاقية ماتشاكوس أسست شراكة مغلقة بين طرفين.

    كما نص البند (3-1-2) على أن (تكوَّن لجنة قومية لمراجعة الدستور خلال الفترة التمهيدية وسيكون على رأس مهامها صياغة الدستور والقانون). ومعلوم بالطبع أن الدستور هو دائماً الذي يحدد أجهزة الحكم، وكيفية تشكيلها، وعلائقها ببعضها، وغير ذلك. وقد نصت المادة (3-1-1) من الاتفاقية على ذلك. فإذا كان الدستور ستضعه لجنة قومية، فهل يجوز الزعم بأن الترتيبات الانتقالية الواردة في اتفاقية ماتشاكوس "تقوم على شراكة مغلقة بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية ولا مكان فيها لطرف ثالث"؟؟

    ثم إن البند (3-1-3) قد نص على أن يجاز الدستور والقانون وفق آلية يتفق عليها الطرفان. فإذا أوجبت الاتفاقية أن تضع الدستور والقانون لجنة قومية، فيخطئ من يظن أن الآلية التي سيتفق عليها الطرفان لإجازة الدستور والقانون هي بالضرورة مكونة من الطرفين فقط. وعلى كل حال، فإن الطرفين إذا لم يتفقا حتى الآن على هذه الآلية، فإن الزعم بأنها مغلقة عليهما، إنما هو ضرب من التنجيم.

    أما إذا جئنا للبند (3-2-1)، وهو البند الوحيد الذي ينص صراحة على شكل الحكومة الانتقالية، فنجده ينص صراحة على حكومة وطنية. والبند يقرأ:- (يتفق على تكوين حكومة وطنية لتمارس الوظائف وتجيز القوانين التي تتطلب طبيعتها أن تجاز وتمارس من قبل سلطة عليا ذات سيادة وعلى المستوى القومي. وستأخذ الحكومة الوطنية في الاعتبار، في كل القوانين التي تجيزها، الطبيعة التعددية للشعب السوداني دينياً وثقافياً).

    والنص على تشكيل حكومة وطنية، يفتح الباب على مصراعيه لأن تشرك في الحكومة الوطنية أكثر، إن لم يكن كل، القوى المؤيدة لاتفاقية ماتشاكوس. وهذا في حد ذاته يجب أن يطمئن قوى التجمع، ويلجمها عن القول بأن الاتفاقية "تقوم على شراكة مغلقة بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية ولا مكان فيها لطرف ثالث". إن هذا القول لا يخدم أحداً في حقيقة الأمر.. لا، ولا حتى الذين تسرهم رؤيته. وهذا أمر لا مراء فيه.

    ثمة أمور أخرى بالاتفاقية شغلت اللجنة الدستورية والقانونية للتجمع، وجاءت في مذكرتها. بيد أني لا أرى أن مخاوف اللجنة بشأنها مبررة، وسأتطرق لبعضها لاحقاً.

    إن على كثير من أطراف التجمع أن تضع في اعتبارها أن الظروف التي اكتنفت التوصل لهذه الاتفاقية كان من شأنها أن تجيء بها على هذا النحو. ويجب علينا كلنا أن ندرك أن القيمة الكبرى لهذه الاتفاقية هي أنها قد أفلحت في كسر الحاجز الرئيسي الذي حال دون السلام قرابة العقدين الماضيين، وهو حاجز إصرار الحكومة على ربط الدولة بالعقيدة الدينية. والحق أن كل الحواجز الأخرى تبقى هينة بعد كسر هذا الحاجز الرئيسي. بيد أن الأمر يتطلب سعة الفهم والحنكة. ولو أدركت قوى التجمع ذلك، لأمكنها، من موقعها الاستشاري، إعانة الطرفين للتوصل لاتفاق سلام مسدد. أما مسألة الطبيعة الوطنية للحكم الانتقالي، فهو أمر قد حسمته الاتفاقية سلفاً، وينبغي أن لا يشغل بال أحد.
    حكومة الإخوان قد تحاول التراجع
    عن الاتفاق على الحكومة الوطنية
    رغم وضوح نصوص الاتفاقية فيما يتعلق بالحكومة الانتقالية، إلا أن الإخوان المسلمين قد يحاولون استبعاد المعارضة الشمالية من اقتسام الحكومة الانتقالية. وهم قد لوحوا بذلك فعلاً، وذلك حين رفض الرئيس البشير طلب الدكتور جون قرنق لإشراك هذه القوى في المفاوضات. فقد نقلت لنا جريدة الحياة في عددها بتاريخ 29 يوليو قوله بأنهم يقبلون فقط بمشاركة القوى الأخرى كمستشارين في هذه المرحلة، وأنه (بعد الاتفاق النهائي يمكن للطرفين المتفاوضين إشراك الفصائل المتحالفة معها في الحكومة القومية)!!

    بيد أن مشاركة هذه القوى في الحكومة الانتقالية لا تقبل التعويم بعبارة مثل "يمكن". فذلك أمر حسمته الاتفاقية سلفاً. كما هو أمر تمليه اعتبارات عديدة، يتوقف عليها نجاح عملية السلام نفسها. وعلى الإخوان المسلمين أن يفهموا ذلك. عليهم أن يفهموا بصورة خاصة أن القوى الوطنية التي سعت للسلام طيلة الثمانينات، وكانوا هم يسمونها الطابور الخامس، هي طرف أصيل في السلام بأكثر منهم. وعليهم أن يفهموا أن رغبتهم في استبعاد تلك القوى إنما يشكك في حرصهم على السلام، وهو أصلاً موضع شك. كما عليهم أن يفهموا أن الأطراف الراعية لمساعي السلام الحالية تفهم ذلك، وهي تحرص على تحقيق كل ما من شأنه أن يعين على ترسيخ السلام. وعلى المعارضة الشمالية أيضاً أن تفهم ذلك، وأن تتهيأ له، ليس بمد الرقاب إلى المناصب، وإنما بوضع البرنامج المناسب للفترة الانتقالية.

    أحذروا الصادق المهدي، لا يربككم !!

    كنت آمل أن يكون تعليق اللجنة الدستورية والقانونية بالتجمع الوطني، خير من مذكرتها التي نشرتها هذا الأسبوع. فهي لم تشتمل على أي تحفظ مقبول، أو معقول. وأخشى ما أخشاه هو أن يشفق أهل التجمع، بسبب هذه المذكرة، من احتمال استبعادهم من الحكومة الانتقالية، فينجرُّوا وراء مشفق آخر حمله إشفاقه على التماس ضالته في نصوص المبادرة المشتركة، على نحو ما جاء في بيان حزب الأمة حول اتفاقية ماتشاكوس.

    والغريب في الأمر، أن السيد الصادق المهدي قد فهم أن اتفاقية ماتشاكوس قد نصت على حكومة وطنية، بينما لم تفهم ذلك اللجنة الدستورية والقانونية بالتجمع. وهو من منطلق فهمه بدأ يجهد لجر القوى السياسية لحسم أوزان الأطراف في الحكومة الوطنية وفق أحكام المبادرة المشتركة. الأمر المؤسف هو أن اللجنة الدستورية والقانونية بالتجمع كان فهمها دون فهم السيد الصادق. وهذا يؤهلها للسير خلفه. وتلك كارثة. فهو إنما يريد جر القوى السياسية إلى مبادرة خلَّفتها الأحداث وراءها، وهي مبادرة كان هو من تسبب أصلاً في إدخالها حيز الوجود. وقد بعثر بها جهود السلام سنين عددا. وهو يريد أن يبعثها اليوم ليرتد بالناس إلى الوراء، ليخدم حاجة في نفسه، لا إذِن الله له بقضائها.

    وعلى ذكر السيد الصادق المهدي، فإنه يحسن للقوى السياسية الوطنية الآن أن تتجنب مسايرته، وأن تفر منه فرارها من الأسد. فيبدو أنه يود العودة بالناس إلى نقاطه، وتوضيحاته، ومواثيقه التي لا تلوح لها نهاية. فهاهي جريدة الشرق الأوسط قد نقلت لنا في عددها بتاريخ 29/7/2002 قوله بأن (حزب الأمة انتهى من إعداد الميثاق الوطني تمهيداً لتوقيع كل القوى السياسية عليه لتوحيد رؤى الشعب في دعم السلام والعبور من حالة البؤس إلى السلام والحل السياسي الشامل)!!

    وليته وقف عند المناداة بميثاق وطني!! فهاهي جريدة الخرطوم بتاريخ 22/7/2002 تفيدنا بأنه ينادي بميثاق آخر للتعايش الثقافي، وذلك بقوله:- (لابد من الاعتذار للجنوبيين على الاستعلاء الثقافي بوضع ميثاق للتعايش الثقافي)!! فهل سمع الناس قبل اليوم باعتذار بموجب ميثاق؟ أرأيتم كيف يمكن لهذا الرجل أن يبلبل رؤوس الناس، ويربكهم، ويشتت تركيزهم؟ فلو أطاعوه، لجاءهم كل حين بميثاق جديد. ومن أجل ذلك، فمن الخير لكل الناس أن يضربوا عنه صفحاً، وأن يطووا كشحاً.

    والسيد الصادق سيسعى للتأثير على كافة القوى، ليجد لنفسه دوراً. وقد نقل لنا ذات العدد من صحيفة الخرطوم أنه كشف (عن اتصالات سيجريها الحزب مع دولتي المبادرة لتفعيل جهودهما في عملية السلام بالسودان إضافة إلى الاتصال بالحركة الشعبية وبقية القوى السياسية لتوحيد الرؤى..)!! فليحذر الناس.

    إن عملية السلام قد خلَّفت السيد الصادق المهدي وراءها. وتلك علامة خير كبير. فهو الآن ليس شريكاً لأي طرف. فإذا جاءت الحكومة بشركائها كمستشارين، فهو ليس منهم.. وإذا جاءت الحركة الشعبية بشركائها كمستشارين، فهو ليس منهم. وهو قد أدرك ذلك، وانزعج أيما انزعاج. وهو من أجل ذلك يبحث له عن دور، فشرع يقترح الميثاق تلو الآخر، كما طفق يهرول في كل اتجاه. إن علامة الخير هي أن السيد الصادق المهدي، الذي ينوء كاهله بالعبء الأكبر من وزر المأساة التي حاقت بهذا الشعب منذ أن بلغ هو سن الثلاثين، يقف الآن بعيداً، ومعزولاً، في موقع يؤمل فيه أن لا يسمم حياتنا من جديد. ذلك تدبير العزيز الحكيم.. ومع ذلك، يجب على الناس أن يحذروه، فقد دلَّت التجربة أنه لا يأتي من قبله خير أبداً.. وأي برهان خير من التجربة؟

    وبطبيعة الحال، فإن من علامات الخير الكبرى أيضاً أن الدكتور الترابي معزول هو الآخر عن التأثير على مجريات الأمور. وهو قد مدَّ لنفسه في هذه العزلة، بأن هاجم اتفاقية ماتشاكوس لمخالفتها الشريعة. ومعارضته لاتفاقية ماتشاكوس تسلبه وتسلب حزبه حق المشاركة في الحكومة الوطنية الانتقالية. وهذا أمر سيجيء شرحه في الجزء الأخير من هذا المقال.
    مهام المرحلة الانتقالية
    طالما نصت اتفاقية ماتشاكوس على حكومة انتقالية وطنية، فقد وجب أن لا ينشغل أهل التجمع بهذا الأمر، وأن ينشغلوا بما هو مهم. وجب أن يهتموا بإعداد أنفسهم للدور الذي عليهم أن يلعبوه كمستشارين في المفاوضات القادمة. يجب مثلاً أن يحددوا المبادئ العامة التي يجب أن يتضمنها اتفاق السلام، الذي يوشك الطرفان أن يجلسا لوضعه. كما يجب أن يعملوا على وضع برنامج الفترة الانتقالية، الذي يهدف، فيما يهدف، إلى إزالة العوامل التي أنتجت المأساة الراهنة، والتي ستسوق حتماً إلى قسمة الشعب والبلاد إن هي استمرت خلال الفترة الانتقالية. والبرنامج الانتقالي سيكون تفريعاً وتفصيلاً للمبادئ الأساسية والعامة المضمنة في اتفاق السلام.

    هذا يعني أنه يجب على قوى التجمع أن تحرص على المشاركة بصفة مستشارين في جولات المفاوضات المقبلة، ليعينوا الأطراف كافة على الخروج باتفاق السلام مبرأ من العيوب. ومما لا ريب فيه أن الناس إذا دخلوا المفاوضات المقبلة دون هدف واضح، فلن يجني الشعب سلاماً، ولا وحدة، ولا خيراً. فلابد من معرفة مشكلات البلد الأساسية، ومخاطبتها في اتفاق السلام، ومحاولة علاجها في الفترة الانتقالية. ذلك هو موضوع اتفاق السلام، وموضوع الفترة الانتقالية.

    وبطبيعة الحال فإني لا أطمع في وضع برنامج، وإنما يهمني أن أشير إلى بعض الأمور التي من شأنها أن ترسخ فرص الأمن، والسلام، والعدل، والوحدة، والتنمية. وسيكون ذلك في الحلقة الثالثة من هذا المقال.
    3 من 3
    عقلية السلام غير عقلية الحرب.. ولابد من إعادة تأهيل الإنسان ..ولابد أن يستيقظ الشعب

    ثمة تحديات عديدة أمام جهود السلام، خلال مفاوضات السلام، وخلال المرحلة الانتقالية. وأكثر التحديات ترتبط بالعامل البشري. وذلك لأن مشكلة بلادنا هي أصلاً مشكلة إنسان، وليست مشكلة موارد اقتصادية. ولعل أهم التحديات هي:-
    1- توفر عقلية السلام عند الأطراف المعنية.
    2- التوصل لاتفاق سلام منسجم يخاطب أصل المشكلة.
    3- صياغة برنامج انتقالي علمي وواضح.
    4- تكوين حكومة انتقالية مقتدرة لتنفيذ البرنامج الانتقالي.
    5- إعادة تأهيل الإنسان السوداني.. باعتبار أن ذلك هو الحل، لا إعادة تأهيل البنيات الاقتصادية وحدها.
    6- إشراك الشعب في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية.
    7- توفر اليقظة والوعي عند الشعب لمراقبة السياسيين والتنفيذيين.
    وسأحاول فيما يلي أن أوجز القول في بعض ما يتعلق بهذه الأمور.
    إننا لن نجني سلاماً بعقلية الحرب
    لعله من نافلة القول أن الأطراف المرتقب جلوسها للتوصل لاتفاق السلام، ولإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، لن تحقق سلاماً إذا دخلت المفاوضات أو الفترة الانتقالية بعقلية الحرب. فإنها إن فعلت ذلك، أنفقت الوقت في المناورة، والمنافسة، والشقاق، ومواصلة الحرب بأسلحة أخرى أشد خطراً من أسلحة القتال الجسدي. ورغم أن الناس يظنون بمقاييس الوقت الحاضر أن طرفي الحرب عادةً رابح وخاسر، إلا أن كليها خاسران، لدى الدقة. ولذلك، فمن الواجب أن نستقبل المرحلة القادمة بعقلية السلام. وعقلية السلام قد برئت من البغض، والعداء، والالتواء، والمناورة. وهي منصفة، ومستقيمة، ولا ترى نفسها خاسرة حين تعطي الناس أشياءهم، وإنما تراها رابحة. والمظهر العملي لعقلية السلام في المفاوضات هو أن تعطي الطرف الآخر حقه قبل أن يطالب به. أما عقلية الحرب، فتسعى للكسب على حساب الطرف الآخر، وتجاذبه حقه حين يطالب به.

    إن استمرار الحرب لوقت طويل يدفعني للإشفاق من دخول الأطراف المعنية مفاوضات السلام بعقلية الحرب. بيد أن اتفاقية ماتشاكوس قد فتحت باباً للأمل. فالطرفان قد اعترفا فيها بأن الحرب الأهلية في الجنوب إنما نشأت بسبب المظالم التاريخية. وهذا يعني أمرين. أولهما أن المقاتلين من أهلنا بالجنوب لم يكونوا متمردين ولا خوارج، وإنما هم مظاليم استخدموا العنف كوسيلة لرفع الظلم عنهم، مما يبشر بإمكانية دخولهم المرحلة المقبلة بعقلية السلام، لأن عقلية الحرب ليست عقلية أصلية عندهم، وإنما هو تحول أملاه الظلم. وثانيهما، أن اعتراف أهل الشمال- ممثلين في الحكومة- بأسباب الحرب الحقيقية، يبشِّر بدنو الوقت الذي يحرص فيه أهل الشمال على رفع هذا الظلم التاريخي، بعقلية السلام.

    إننا نحتاج أن ندخل العهد الجديد بفكر جديد، يبريء حركتنا السياسية من أدوائها التاريخية. فهذه الأدواء هي التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع المأساوي. ومن ثم فلا أمل لنا إلا إذا برئنا من تلك الأدواء. وبغير ذلك، سنكرر الفشل، وسنحصد الندم. وقد يكون فشلنا منذ الوهلة الأولى، بالعجز عن التوصل لاتفاق سلام. لكنا إن دارينا فشلنا، بتوقيع اتفاق سلام هش، ومعيب، ومتناقض، لا يعكس إلا اختلافنا، فإننا سنخرج من المفاوضات بروح ليست هي روح السلام، فننقل التـناحر إلى الحياة العامة في الفترة الانتقالية. وسيسوق ذلك، بلا ريب، إما إلى انهيار اتفاق السلام كما حدث في تجارب بلدان أخرى، أو إلى تعميق عدم الثقة، وبالتالي قسمة البلاد والشعب عند تقرير المصير. هذه هي فرصنا. فلينظر كل امرئ وكل فريق مشارك في هذه المفاوضات أين يضع نفسه.
    عدم صلاحية الشريعة هـي
    مسألة تاريخ وليست جغرافيا
    كما قلت آنفاً، فإن الاعتراف الذي تم بأصل المشكلة يبشر بميلاد عقلية السلام. ولقد سارت الحكومة شوطاً في إزالة بعض صور الظلم التاريخي. وذلك حين قبلت بأن يتم استبدال العقيدة الدينية بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات، بما في ذلك حق غير المسلم ليكون رئيساً للدولة. وهذه خطوة جيدة يجب مواصلة اتجاهها. ولكني أرى دفناً للرؤوس في الرمال، بغرض الاحتفاظ بالكيان السياسي بأساليب تضر بالبلاد. ومن ذلك أن الحكومة قد أصرت على اعتبار الشريعة مصدراً للتشريع بالشمال. وهي بهذا كأنما تحاول أن تأخذ بالشمال ما أعطته باليمين.

    فقبول الحكومة استبدال العقيدة الدينية بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات يعني أنها قد تخلت عن تطبيق الشريعة، واعترفت بعدم صلاحيتها في هذا الجانب. ولذلك كان يجب على الحكومة أن لا تصر على إدخال نص في الاتفاق يهيئ لتطبيق الشريعة في الشمال. فعدم صلاحية الشريعة في بعض صورها المتعلقة بالمجتمع، ليست مسألة جغرافيا، وإنما هي مسألة تاريخ. فما من شيء يجعل أحكام الشريعة المرادة غير صالحة في الرنك، وصالحة في جودة. هي ببساطة غير صالحة في هذا الوقت من عمر المجتمع البشري، لا في الرنك، ولا في جودة. واعتراف الحكومة بعدم صلاحية الشريعة في الجنوب بالإضافة إلى عدم صلاحيتها كأساس لتحديد الحقوق والواجبات حتى في الشمال، إنما هو مقدمة لسحبها من التداول. ويحسن أن يتم ذلك دون إبطاء. فأي إبطاء له ضحايا، ويضر بفرص السلام والوحدة.
    رئيس دولة غير كفء للشهادة؟!
    وإذا لم يكن الأمر كذلك، فليقل لنا أهل الحكومة: ما معنى الإصرار على أن تكون الشريعة مصدراً رئيسياً للتشريع في الشمال في حين أن رئيس الدولة بكاملها يمكن أن يكون غير مسلم؟

    ثم ما معنى الإصرار على الشريعة في الشمال في حين أن الشريعة تشترط العقيدة الإسلامية حتى لكفاءة الشاهد في كثير من الحالات؟ ألم تقل لنا الشريعة ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) أي من المسلمين؟ هل يجوز أن يكون لدينا رئيس دولة غير مسلم ثم ترده المحكمة عن الشهادة لعدم الكفاءة تحت أحكام الشريعة؟ ما معنى أن يكون لدينا مواطنين عاديين ووزراء ومدراء وساسة وبرلمانيين من الجنوبيين في العاصمة القومية، الخرطوم، وهم غير أكفاء للشهادة في كثير من الأمور؟ وأين الدستورية وحقوق الإنسان في ذلك؟ أم أننا نقول ما لا نعني؟ هل الحكومة جادة حين تقول أنها توصلت لاتفاق يمهد للسلام؟ إن كانت الحكومة تزعم الجد، فعليها أن تعلم أن الكرامة لا تتجزأ، وأن أهل الجنوب لم يثوروا من أجل الخبز، وإنما ثاروا من أجل الكرامة.

    ثم هل ستحتفظ الحكومة بمادة الردة من قانون العقوبات؟ وكيف يسهم المواطنون بالرأي في شئون بلدهم وحياتهم ومستقبل أبنائهم في ظل مثل هذه المادة الشرعية التي وضعتها الحكومة لتكميم الأفواه؟ وما هي فرص التقدم المتاحة لشعب يسير برأي واحد، مهما كان حظه من الصواب، ويحكم في أرضه على الرأي الثاني بالإعدام؟ وأي كرامة في ذلك؟ ثم ماذا تفعل الحكومة لو أبدى جنوبي رأيه في الإسلام وهو بالشمال؟ هل ستعدّه محارباً وتقتله؟؟ أم ستعفيه من حكم الشريعة في هذا الشأن؟؟

    إن أهل الحكومة بحاجة لأن يعلموا أن اشتراطهم بقاء الشريعة في الشمال لا يدل على عدم إحرازهم عقلية السلام فحسب، وإنما هو أول دليل قاطع على أنهم غير جادين في أمر السلام، ولا أمر الوحدة، وإنما هم يريدون المناورة، وشراء هدنة. وهذا يقضي بأن نقول لهم أن سبيلهم واحد لإقناعنا بجديتهم في أمر السلام، وهو أن يتـفوقوا على أنفسهم في بداية جولة المفاوضات المقبلة بالتخلي عن اشتراط الشريعة في الشمال. وبغير ذلك، أخشى أن يكون هناك ما يبرر القول بأن الحكومة لا تهدف إلا لاتفاقية سلام من شاكلة اتفاقيات سلامها السابقة.

    يبدو أن أهل الحكومة يحسبون أن لهم من الحنكة والمهارة ما يمكِّنهم من خلق ظروف توهم الناس بأنهم حققوا سلاماً، ليستقطبوا بذلك بعض المال من الدول الراعية لعملية السلام، فيحولوه لمصالحهم مثلما حولوا موارد البلد. إننا سنرى مهارة أهل الحكومة بازاء رعاة السلام. ولكن أحسب أن رعاة السلام يتطلعون الآن ليروا جداً وصدقاً. أحسبهم يتطلعون لرؤية أناس جدد، يهمهم شعبهم، وبلدهم، وليس أنفسهم فحسب. وإن كان أهل الحكومة يودون تدفق الاستثمار الأجنبي، فهم لابد يدركون أن فرص الاستثمار ضئيلة في ظل اتفاق هش للسلام، كما يدركون أن فرص الاستقرار والأمن هي أول ما يدرسه المستثمر الأجنبي.
    رد المظالم في الشمال أول مؤشر على الجدية وتوفر عقلية السلام
    إن اتفاقية ماتشاكوس تهدف أصلاً إلى حل الأزمة من جذورها برفع المظالم التاريخية عن أهل الجنوب، وذلك بخلق إطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الإنسان. ولكي تقنع الحكومة كل الأطراف بأنها حريصة فعلاً على رفع المظالم عن أهل الجنوب، مثلما وعدت في الاتفاقية، فعليها أن ترفع بعض (وأكرر بعض) المظالم في الشمال. فإن ذلك يعين على دعم عقلية السلام لدى الطرف الآخر. وإن لم ترفع الحكومة مظالم أهل الشمال الذين تربطها بهم روابط العقيدة والعنصر، سيصعب على أهل الجنوب (وهم أذكياء بالفطرة) أن ينتظروا منها رفع مظالمهم. ومن أجل ذلك فإن الحكومة مطالبة برفع المظالم التالية فوراً وإرجاع الحقوق إلى أهلها:-
    1- إرجاع المفصولين تحت الصالح العام من الخدمة المدنية والعسكرية إلى العمل فوراً، في الشمال والجنوب. على أن يتم ذلك بقرار عام، وليس بموجب أي ترتيبات يقدِّم بها أولئك المفصولين طلبات لإرجاعهم للعمل، أو أي ترتيبات مماثلة. فإن ذلك يلحق بهم مزيداً من الإهانة.
    2- رفع حالة الطوارئ.
    3- إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وكذلك كل مواد القانون المقيدة للحريات، ومنها مادة الردة من قانون العقوبات.
    4- الاعتراف بالأحزاب السياسية فوراً ورفع أي حظر سياسي وأي قيد عليها إلا القيود التي كانت قائمة بموجب القوانين التي كانت سارية قبل صبيحة 30/6/1989، وعدم تقييدها بأي قيد إلا بموجب قوانين قد تسنها الهيئات المنوط بها سن قوانين الفترة الانتقالية.
    5- الاعتراف بالجمعيات وكافة منظمات المجتمع المدني.
    6- الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين، وإيقاف الاعتقالات السياسية.
    7- رد أي أموال مصادرة، سواء أكانت مملوكة لأحزاب أو هيئات أخرى أو أشخاص.
    8- رفع أي حظر قائم على أي شخص أو مجموعة بسبب الرأي أو الموقف السياسي.
    9- الاعتراف بحرية الفكر، والتعبير، والتنظيم.
    10- فتح وسائل الإعلام للرأي الآخر. فهي أصلاً ملك للشعب، وليس للحكومة.. والشعب هو الذي ينفق عليها، ولذلك يجب أن تسخر لمناقشة ما يهم حاضره ومستقبله، وليس للحكومة، أو لقبيل واحد فقط.

    هذه بعض المظالم. ورفعها الفوري له دلالة حسنة، ويمكن أن يتم كبادرة حسن نية تعلنها الحكومة قبل أو عند افتتاح جولة المفاوضات المقبلة. هذا العمل سيدعم ثقة أهل الجنوب، وغيرهم، في الحكومة. ولا يُقبل من أحد القول بأن الاعتراف بهذه الحقوق يحتاج لقوانين تصدر لاحقاً. إذ أن هذه الحقوق هي حقوق أساسية، كالهواء والماء، والوضع الطبيعي هي أن لا تسلب أصلاً، وليس أن تمنح.
    لابد من حكومة انتقالية مقتدرة
    اقتسام مقاعد الحكومة الوطنية وغيرها من الأجهزة الانتقالية بين القوى السياسية هو أحد المآزق التي ستواجه المفاوضات والفترة الانتقالية. ولا أريد هنا استباق الأحداث، لكن أخشى أن ينعكس الحديث عن عدم تفكيك الإنقاذ على هذا الأمر. والعقلية التي تصر على عدم تفكيك الإنقاذ ليست هي عقلية سلام، لأن سلطة الإنقاذ هي سلطة مغتصبة. ومن لا يبتغي أن يرد ما اغتصبه، لا يرجى منه أن يرفع ظلماً، أو يقيم عدلاً، أو يصنع سلاماً.

    ومن المتوقع أن تتنازع القوى الوطنية حول نسب تمثيلها في أجهزة الحكم الانتقالي. وأعتقد أن أفضل مخرج من ذلك هو أن يتفقوا على برنامج الفترة الانتقالية وعلى أن المهم هو تنفيذ البرنامج، وليس المناصب.. وبناء على ذلك، يتسلم البعض المناصب الرسمية للتنفيذ، ويقف الآخرون مراقبين ومساعدين بهدف ضمان تنفيذ البرنامج. هذا في حد ذاته سيكون بداية لتعليم الشعب مراقبة الأداء الحكومي. وذلك أمر نحتاجه أشد الحاجة، فما انساقت البلاد في هذه الهاوية إلا لأن الشعب لا يعرف حقه ولا يحمي مصالحه بمراقبة حكامه.
    ترسيخ مبدأ الرقابة الشعبية هو الحل
    إن ترسيخ مفهوم المشاركة من خلال الرقابة الشعبية من شأنه أن يعيننا أيضاً على تدارك عيب أساسي في حركتنا السياسية. فقد دلت التجارب أن أزمة السودان في جنوبه ليست أزمة اتفاقيات ومواثيق، وإنما هي أزمة وفاء بالعهود. هي أزمة استقامة. هي أزمة فكر وتربية أساسية. وقد بيَّن ذلك السيد أبيل الير في كتابه القيم، الذي رصد فيه هذا التاريخ المخزي للسياسيين الشماليين.

    وهذا يعني أن طبيعة السياسيين والتنفيذيين الذين يناط بهم النهوض بأعباء الفترة الانتقالية هو أمر في غاية الأهمية. بيد أننا لا يمكننا استيراد أجانب لإدارة بلادنا. فيكفينا خزياً أننا بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال لا نزال عاجزين عن إحلال السلام، والأمن، وعن إدارة خلافاتنا، ونحتاج لتدخل الدول الأخرى، مثلما يحتاج الأطفال لتدخل الكبار في مشاكلهم. إن في هذا مدعاة للأسف الشديد. بيد أن بعضنا ربما لا يرى بأساً بذلك، بل هو يسيل لعاباً للعون الذي ستدفعه هذه الدول بعد توقيع بعض الأوراق.

    إن المخرج الوحيد من هذه الأزمة العميقة هو ترسيخ مبدأ الرقابة الشعبية، وتوعية الشعب به، ولفه حوله، حتى يجبر السياسيين والتنفيذيين على الاستقامة. ولا بد من ضبط لهذا الأمر.
    قبول الاتفاقية شرط أساسي
    للمشاركة في الحكومة الانتقالية
    وبمعزل عن الأزمة العميقة التي أشرت إليها أعلاه، فلابد من الانسجام في أجهزة الفترة الانتقالية كلها. وهذا يعني أن لا يختار لها أي شخص يعترض اعتراضاً أساسياً على اتفاقية ماتشاكوس. وهذه بداهة ما كان ينبغي أن تحتاج التقرير. إذ لا يمكن أن يسند تنفيذ أي جزء من برنامج الفترة الانتقالية لمجموعة تعترض على الاتفاقية التي تمخضت عن أجهزة الحكم الانتقالي نفسها، وتعترض بالضرورة على اتفاق السلام وبرنامج الفترة الانتقالية. ومن المؤسف إن بعض المشتغلين بالسياسة حالياً لا يدركون شروط أهلية المشاركة في الحكومة الانتقالية. فقد طالب بعضهم بإشراك حزب المؤتمر الشعبي (حزب الترابي). ومعلوم أن حزب الترابي رفض اتفاقية ماتشاكوس لأنها تخالف الشريعة. فقد أفادت صحيفة الخرطوم في عددها بتاريخ 24/7/2002 أن المؤتمر الشعبي أصدر بياناً وجَّه فيه انتقادات حادة لاتفاقية ماتشاكوس وورد فيه أن الاتفاق (أتاح التدخل الأجنبي وأغفل الديموقراطية والحريات العامة وألغى الشريعة مما يفقده الشرعية والاستمرارية والسند الشعبي)، كما قالت الصحيفة أن البيان وصف الدستور الاتحادي بأنه "علماني".

    فإذا كان ذلك هو موقف المؤتمر الشعبي، فلا مجال لأحد للمناداة بإشراكه في المفاوضات المقبلة، ولا في الحكومة الانتقالية. ولكن السياسيين في هذا البلد المنكوب ليس لديهم أي معيار، ولا أهلية، ولا مرجعية لتحديد الموقف السياسي، وإنما هم حاطبو ليل. من الصحيح أن ينادي الناس بالإفراج عن الترابي من المعتقل، ولكن ليس من الصحيح أن ينادوا بإشراك حزبه في المفاوضات أو في الحكومة الانتقالية، لأنه يعارض ذات الاتفاقية التي تجري تحتها المفاوضات والتي ستتمخض عنها الحكومة الانتقالية. والمناداة بإشراك حزب الترابي أو أي حزب مماثل في الحكومة الانتقالية، هي محاولة غير موفقة لإظهار روح ديموقراطي، ولا تنم إلا عن غفلة سياسية منكرة.

    والحق أن اعتراض حزب الترابي على اتفاقية ماتشاكوس بسبب إلغائها الشريعة إنما يكشف عدم جدية الإخوان المسلمين، وتشبعهم بروح المناورة السياسية المجردة من كل خلق. فالترابي سبق له أن توصل لاتفاق مع الحركة الشعبية، وقال أن الحرب في الجنوب ليست جهاداً، وأن أهل الجنوب يدافعون عن حقهم، وأفاض في ذلك. وقد اعتقلته الحكومة متذرعة بذلك الاتفاق الذي اعتبرته خيانة للشهداء. ثم حين جاءت الحكومة اليوم لتعقد اتفاقاً مع الحركة، سعى هو لسحب قاعدتها منها باسم الشريعة. ماذا يعني هذا؟ هل كان هذا الرجل جاداً حين أبرم اتفاقاً مع الحركة الشعبية قبل شهور؟
    محتوى اتفاق السلام حاسم لمستقبل السلام
    لنجاح الفترة الانتقالية لابد من اتفاق سلام منسجم لا تتجاذبه الدوافع والفهوم المتعارضة. وذلك لأن اتفاق السلام سيكون بمثابة فلسفة الحكم خلال الفترة الانتقالية. بعبارة أخرى، فإنه سيكون النموذج النظري الذي سيحاول الشعب تطبيقه في أرض الواقع خلال الفترة الانتقالية بواسطة الأجهزة الانتقالية. ولن تصل الأطراف لاتفاق سلام منسجم إلا إذا خاضوا المفاوضات بعقلية السلام.

    واتفاق السلام لا ينحصر في إجراءات فصل القوات ووقف إطلاق النار وإنهاء المواجهة العسكرية، كما قد يظن البعض. هذه نتائج عملية وتفصيلية قد تجيء في صورة ملاحق لاتفاق السلام. فلأن اتفاقية ماتشاكوس تهدف أصلاً إلى حل الأزمة من جذورها برفع المظالم التاريخية عن أهل الجنوب بخلق إطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الإنسان، فإن اتفاق السلام يجب أن يخاطب المشكلة في هذا المستوى، ويضع الأسس الكافية لحلها. لابد أن يشتمل اتفاق السلام على المبادئ الأساسية التي بموجبها يرفع الظلم التاريخي، والتي سيصاغ على ضوئها البرنامج التفصيلي للفترة الانتقالية، وهو البرنامج الذي يؤمل به تحقيق الهدف المنشود في السلام الحقيقي، والوحدة، والتنمية. وأعتقد أنه من الأفضل، أن يكون هذا البرنامج نفسه ملحقاً لاتفاق السلام، حتى يأخذ قوتها، فلا تسير بعض القوى الانتقالية لتنفيذ أهداف تتعارض معه. ولا بأس من أخذ أي وقت لإعداد الملاحق الكافية لاتفاق السلام. فإن أي وقت يصرف في ذلك، أفضل من العجلة التي قد تتسبب في انهيار الاتفاق نفسه لاحقاً. ويمكن أن توقع الأطراف اتفاق السلام وكل ملحق يتم الاتفاق عليه بمجرد إعداده، وتواصل السير في بقية الملاحق.
    ضرورة إعادة تأهيل السودانيين !!
    كما ورد آنفاً، فإن الخروج باتفاق سلام منسجم ومتحد الأهداف أمر حاسم لنجاح مساعي السلام الحالية. كما يجب أن تتبع ذلك صياغة برنامج مفصل للفترة الانتقالية. وعلى القوى الوطنية كلها أن تصيغ برنامجاً علمياً واضحاً منذ الآن. وسأحاول هنا أن أذكر أموراً هامة أرى ضرورة أن يشتمل عليها البرنامج.

    وقبل ذكر تلك الأمور تحسن الإشارة إلى أن كثيراً من السياسيين يظنون أن نجاح مساعي السلام الحالية رهين بدعم من الدول الراعية للسلام يعاد به تأهيل البنيات التحتية. وهم يعنون بذلك البنيات الاقتصادية، كالطرق والاتصالات والمشروعات. ويبدو أن الدول التي ترعى المفاوضات تنوي بالفعل تقديم دعم للسودان. وهناك رغبة واضحة لدى الساسة السودانيين في استقطاب الدعم الأجنبي، لمآرب شتى.

    والحق أن السودانيين قد استلموا بلدهم عند الاستقلال وبها من البنيات الاقتصادية ما كان مناسباً بحساب ذلك الوقت، ولكنهم حطموها بكفاءة واقتدار. ومن أجل ذلك، فإن أي اتجاه للدعم في الوقت الحاضر يجب أن يتجه للإنسان السوداني نفسه. هذا، بطبيعة الحال، لا يعني أن البنيات الاقتصادية لا تحتاج البناء وإعادة التأهيل، ولكنه يعني أن أكبر من يحتاج إعادة التأهيل هو الإنسان السوداني نفسه، وخصوصاً المهنيين والمشتغلين بالخدمة العامة. وبغير ذلك، سيتحطم ما يبنى بالدعم الجديد، مثلما تحطم سابقه. لابد من برنامج لإعادة تأهيل المتعلمين، ولابد من إعادة تعليم بعضهم. فإن كان حقاً أن الأمية الأبجدية هي أحد مشاكل السودان، فإن الأمية المهنية والوظيفية هي مشكلة أكبر.

    والحق أنه ليس هناك من دعم يمكن أن تقدمه الدول الراعية للسلام هو أهم من تأهيل الإنسان السوداني نفسه. فإن أي تأهيل مادي لا يصاقبه تأهيل للإنسان، مقضي عليه بالفشل والهزيمة منذ أول وهلة. إن من حسن الطالع أن بريطانيا هي الآن من الدول التي ترعى العملية السلمية. فهي تعرف أين تركت السودان في عام 1956 وأين هو السودان الآن.
    الأمية المهنية حاضرة دوماً
    الأمية المهنية تلف حياتنا كلها. وهي من أكبر علله. وما من دليل على الأمية المهنية والسياسية أكبر عندي من النص الذي ظل ثابتاً في دساتيرنا ووثائقنا الأساسية منذ عقود بأن الشريعة هي مصدر رئيسي للتشريع. فليس من شأن الدساتير التي تستحق اسمها أن تنص على مصادر التشريع، وإنما من شأنها أن تنص على المعيار الذي يجب أن يستوفاه أي تشريع، وهو معيار الدستورية.. أي أن يكون التشريع دستورياً. فإذا استوفى التشريع هذا الشرط اللازم، فلا شأن للناس بمصدره. وبنفس القدر، إذا فشل أي تشريع في الوفاء بهذا الشرط، كان باطلاً، دون أدنى اعتبار لمصدره، ولا يشفع له أن أي وثيقة قد نصت على اعتبار مصدره مصدراً رئيسياً للتشريع. إذ لا يصح أن نأخذ من أي مصدر إلا ما كان منطبقاً على الدستور.

    هذه أبجديات خلَّفها العالم قبل أكثر من قرن. ولكن الحكومة أصرت على إدراج نص في الاتفاقية يفيد بأن الشريعة هي مصدر رئيسي للتشريع في الشمال. كما أن لجنة الدستور والقانون بالتجمع الوطني بدت منزعجة من هذا النص. هذا نص عديم القيمة، وهو جهالة تتلبس الدين. ولكن لا يمكننا الاحتراز من هذه الجهالة إلا بقضاء يستحق اسمه.
    ضرورة بناء القضاء من الصفر
    ولكن هل لدينا قضاء بالسودان؟ لا. ولم يكن لنا منذ عقود. ويكفي القول بأن نميري ربما تعذّر عليه تكسير اتفاقية أديس أبابا لو كان هناك قضاء يستحق اسمه. وبالطبع، ليس هناك أدنى أمل في عدل، ولا أمن، ولا سلام، في غياب قضاء مؤهل فنياً وخلقياً. فالقضاء هو صمام الأمان، وهو الذي يحفظ ويرد للناس حقوقهم. وغياب القضاء الحر، يفتح الباب للفوضى فوراً. وليس من سبيل لقضاء حر، إلا ببناء سلطة قضائية كفؤة، من الصفر. ولا يتم ذلك إلا بإعادة تأهيل عدد مناسب من قضاة جدد، وخصوصاً في المحاكم الأعلى، وبخاصة المحكمة العليا التي ترعى الدستور والحقوق الأساسية. لابد من محكمة عليا مؤهلة علمياً وخلقياً لتوقف الاستغلال التاريخي للقضاء من جانب السلطة التنفيذية، والتغول التاريخي عليه. وما يقال عن القضاء، يقال عن بقية الأجهزة العدلية. ويقال عن الشرطة على وجه الخصوص. لابد من تأهيل مكثف بموجب برنامج إسعافي، واضح الأهداف، يركز على الثقافة القانونية الحقة، وعلى ثقافة حقوق الإنسان. وما يقال عن الأجهزة العدلية، يقال أيضاً عن كثير من المؤسسات القومية ومرافق الخدمة العامة.
    تحقيق الأمن لازم لنجاح الفترة الانتقالية
    إن تحقيق الأمن شرط لازم لحياة الإنسان وحريته. ولابد أن يبذل الأطراف أقصى جهد للحيلولة دون زعزعة الأمن في الفترة القادمة. فحالة الحرب ساقت لتكوين مليشيات عديدة، وتسليح قبائل، وغير ذلك. لابد من تأهيل القوات المنوط بها حماية الأمن في كل منطقة تأهيلاً فنياً ومادياً لحفظ الأمن. وربما كان من الأفضل قيام لجنة أمن مركزية، ولجان فرعية، وخصوصاً في مناطق التماس، حتى لا تؤدي أي صدامات في هذه المناطق إلى إحياء العداءات القديمة. ولابد في هذا الإطار من إعادة تكوين الجيش السوداني بموجب أهداف وأسس قومية.

    وبمعزل من مسائل الأمن المرتبطة بالمليشيات والنهب المسلح، لابد من تأهيل الشرطة علمياً داخل المدن والأرياف، لتعين الناس على ممارسة حقوقهم، لا لتصادرها. إن جهاز الشرطة جهاز خطير، ولابد من تثقيف كوادره لوقف إساءة استخدام السلطة. ولابد من اختيار ضباط الشرطة كلهم من الجامعيين المتميزين مستقبلاً.
    حرروا أجهزة الإعلام المحتكرة
    لقد دللت التجارب أن حكوماتنا، عسكرية ونيابية، تحتكر وسائل الإعلام، وتديرها لصالحها. واعتقد أن من أهم عوامل الإصلاح، تأسيس أجهزة إعلام (محطات إذاعية وتلفزيونية)، بمعزل عن الحكومة، وعن الأجهزة الحالية التي قد يستعصي على الحكومات تسخيرها للشعب. ولابد أن يكون هدف هذه الوسائل توعية الشعب. ولابد أن تدار هذه الأجهزة، وكذلك الأجهزة الحالية، بواسطة كفاءات لها دراية برسالة الإعلام في بلد كهذا. ولابد من توفير مادة مفيدة في إطار الدعم الثقافي الذي قد تقدمه الدول الراعية. ولابد من قانون يقطع دابر التغول الحكومي والتسلط بجميع صوره على رسالة الإعلام.
    الطرق والاتصالات
    إن شعباً لا تربط بينه وسائل المواصلات والاتصالات ليس مقضي عليه بالانفصال مستقبلاً، وإنما هو منفصل فعلاً. ولذلك أعتقد أن إنشاء شبكة طرق حديثة تربط الجنوب بالشمال وأجزاء القطر كلها ببعضها هو أهم وأول عمل يمكن أن تنفذه الدول الراعية لعملية السلام. ولابد من إعادة تعمير، وتوسيع، السكك الحديدية. وينطبق ذلك على وسائل الاتصال.
    الدعم الأجنبي ومشاريع التنمية
    معلوم أن الدعم الأجنبي الذي تنوي تقديمه الدول الراعية لعملية السلام سيوزع بمراعاة لمبدأ التوازن، بحيث تنال القسط الأكبر منه الأقاليم الأكثر افتقاراً للدعم، وعلى رأسها الجنوب. بيد أن العمل الإسعافي والإغاثي يجب أن لا يستغرق إلا جزءاً ضئيلاً من الدعم. فلابد من إنشاء مشاريع إنمائية كبرى تؤهل المواطنين لكسب العيش الكريم بأنفسهم على المدى المتوسط والطويل. والشروع في إنشاء هذه المشاريع فوراً سيوفر فرص عمل ومجال رزق للمواطنين منذ أول وهلة. وذلك أفضل لهم من التبطل وانتظار الإغاثة. وأعتقد أن عنصر الإدارة هو عنصر يستحق أن توليه هذه الدول عناية خاصة بكافة المشاريع الإنمائية، بما في ذلك المشاريع القائمة.
    الإصلاح التعليمي ضرورة عاجلة
    إذا كنا نتحدث عن إعادة تأهيل المتعلمين السودانيين، فهذا يعني أن المناهج والأساليب التعليمية قاصرة. وهذا يعني أن نجفف منابع الأزمة، بإصلاح التعليم، حتى تنشأ أجيالنا القادمة وقد نالت تعليماً صحيحاً ومفيداً. إن التعليم قد ناله التخريب عن جهل وعن عمد أيضاً. وإنشاء أجيال متعلمة تعليماً صحيحاً هو الحل الأفضل والمستقر لمشاكلنا.
    ثنائية التعليم أكبر خطر على الشعب
    إن ثنائية التعليم هي من أكبر الأخطار على هذا الشعب. فالتعليم الديني الذي يقوم في المعاهد والجامعات الدينية اليوم إنما يتوفر بصورة أساسية على دراسة الفقه الإسلامي الذي نشأ قبل قرون، وهو لا صلة له بحياتنا الراهنة. بل هو يقوم على ثقافة خلَّفها الوقت. وهذه المعاهد والجامعات هي ماكينات زمن حقيقية (Time Machines)، إذ يدخلها الشاب من هذا القرن، فيتخرج منها وكأنه من قرون سلفت. ولقد ركَّـزت الحكومة الحالية على التعليم الديني في إطار برنامج "التوجه الحضاري" و"التخطيط الاجتماعي"، وذلك لتحويل المجتمع برمته إلى أمة من العصور السالفة، حتى يتواءم مع معارف تلك العصور.

    ولعل الناس يذكرون دور مؤسسة كالمركز الإسلامي الإفريقي في تحويل عدد من ضباط القوات المسلحة من ضباط ينتمون لمؤسسة قومية إلى ضباط حزبيين. كما يذكر الناس أن ذلك قد تم على سمع وبصر ومشاركة ومباركة السيد الصادق المهدي، رئيس وزراء العهد النيابي، ربما في غفلة من غفلاته.

    من أجل ذلك، لابد من تصفية التعليم الديني، والنظر في تأهيل خريجيه في مجالات نافعة لأنفسهم وللناس من حولهم. هذا أمر بالغ الأهمية، ولا يطففه إلا غافل، أو مغرض.

    إن ما يمكن أن يقال في هذا الجانب كثير. ومن ما يؤرق المرء أن القوى السياسية لا تبدو منتبهة لهذه المأساة. بل إن أكبر هذه القوى لا يرى مشكلة غير بعده عن مواقع السلطة. وهو إن جاء إلى موقع السلطة، فإنما يجيء بلا رؤية، وبلا هدف، إلا هدفاً صغيراً أو خاصاً.
    أين هو الشعب من قضيته؟!
    لقد أحس الشعب السوداني بفطرته عمق المأساة. لكن لابد أن يعرف الشعب أبعاد الأزمة، ولابد أن يباشر المثقفون تبصير الشعب بكيفية إدارة هذه الأزمة. وهذا ما من أجله اقترحت إصلاح التعليم، وإعادة تأهيل الأجهزة الحساسة، والاهتمام بالقضاء، والأمن، ووسائل الإعلام.

    إن الشعب يجب أن يملك المعلومات. يجب أن يعرف ماذا يعمل الساسة والتنفيذيون. يجب، مثلاً، أن تنشر الاتفاقيات والوثائق المتعلقة باستغلال موارد الشعب الطبيعية، وغيرها من الاتفاقيات والوثائق المرتبطة بحقوق ومصالح الشعب. فالموارد الطبيعية هي ملك للشعب، وليس للسياسيين والتنفيذيين. إننا نريد سياسيين وتنفيذيين شفافين، كما نريد شركاء شفافين.

    لابد أن يعرف الشعب أن السياسيين والتنفيذيين هم خدمه، لا سادته. ومن ثم، فهو لابد أن يراقبهم، وأن يحاسبهم. لابد أن يعرف الشعب أن الشعوب الأخرى لم تنهض إلا لأنها عرفت حقوقها، ونافحت عن حقوقها، وراقبت حكامها، وحاسبتهم.

    وعلى زعمائنا وسياسيينا أن يقلعوا عن عادتهم الكريهة في اختزال دور الشعب في الهتاف والتصفيق والتهليل لهم. عليهم أن يوقفوا ذلك. عليهم أن يطلبوا من الشعب إذا ابتدرهم بالتصفيق والتهليل أن يوقف التصفيق والتهليل، وأن يسمع ما يقولون، ويفهم ما يقولون، ويقول رأيه فيما يقولون. وذلك يقتضي أن يخاطبوا عقله لا عاطفته. وذلك يقتضي أن يسمعوا من الشعب أيضاً، لا أن يظهروا أمامه للخطابة الفارغة، وإظهار التأييد بالهتاف.

    فهل يا ترى يجد زعماؤنا في نفوسهم ميلاً أو استعداداً لذلك؟ هذا سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة إن شاء الله، وعلى ضوء الإجابة عليه ستتحدد مواقعهم من هذا الشعب. فلابد للشعب أن يرتفع، ليمسك قضيته في يده، ويملك القدرة على التمييز. ويومئذ لن يطمع فيه جاهل ولا مضلل.

    إن الشعب قد خاض تجربة جد مريرة، ويرجى له أن يكون قد تعلم منها ما يغنيه عن أخرى. بيد أن آية تعلمه هو أن ينهض ليحمي حقوقه، ويراقب حكامه.

                  

العنوان الكاتب Date
من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-05-03, 05:28 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة ولياب05-06-03, 05:11 AM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة Mandingoo05-06-03, 08:55 AM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-06-03, 03:36 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-07-03, 06:02 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-09-03, 02:33 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de