الإنقاذ وفقه الأسماء ... رباح الصادق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 10:27 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-29-2003, 10:43 PM

إسماعيل وراق
<aإسماعيل وراق
تاريخ التسجيل: 05-04-2003
مجموع المشاركات: 9391

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنقاذ وفقه الأسماء ... رباح الصادق

    الإنقاذ وفقه الأسماء

    رباح الصادق المهدي


    بسم الله الرحمن الرحيم
    حول اللفظ والمعنى

    إن من أخطر ما يصيب الأمم من بوار في العزائم وبرود تجاه التحديات هو فك الارتباط بين المعاني والألفاظ. وبالطبع فإن العلاقة الفلسفية بين اللفظ والمعنى مسألة عميقة لا يتسنى لمثل هذا المنبر الإحاطة بها. فهنالك من يغلّب المعنى على اللفظ ويجعله الكمال الذي يقع اللفظ دون الوصول له كما بين المثال والصورة. وهنالك من يعلي من شأن اللفظ بإعطاء المسألة بعدا نوعيا ويقال أن المعنى أنثى واللفظ ذكر، ولا قيمة للأول بدون الأخير الذي يوجده، بافتراض أن قيمة الأنثى في خصوبتها ووجودها في إخصابها. وبغض النظر عن أيهما يحكم الآخر (المعنى أم اللفظ) فإن الحديث عن ارتباطهما العضوي شيء أساسي.
    وللإمام المجتهد محمد أبو زهرة –رحمه الله- كتيبا قيما حول الديانات القديمة، يتطرق فيه لأهم تلك الديانات والفلسفات ومنها الكونفوشية والتي تحدث عن ابتدائها بنظرية تعيين المعنى واللفظ وتعيين الأسماء والمسميات. يقول أبو زهرة عن ذلك: "وهي النظرية التي ابتدأ بها أيضا سقراط من بعد كونفشيوس وذلك لما تشابهت فيه أحوال العصرين" من اضطراب خلقي، وتلاعب في نظم الحكم، وعبث بمصالح الدولة، واللعب بالألفاظ لتوهين الأخلاق، فكان لا بد من العمل على تعيين المعاني الدالة على الألفاظ ليثبت المعنى مستقيما لكي لا يمكن التلاعب به وإفساد الاستدلال من طريق ذلك التلاعب. وتحدث أيضا عما وجده سقراط لدى السوفسطائيين الذين اتخذوا من اللعب بالألفاظ طريقا للعبث بكل ما هو فاضل وكان أول ما دعا إليه سقراط تعيين المعاني الدالة عليها الألفاظ حتى لا يتخذ المفسدون من بريق اللفظ ما يفسد الاستدلال والتفكير. دعا كونفشيوس إلى العناية بمعاني الأسماء، والألفاظ الدالة على المسميات، وألحف في تلك الدعوة ليقطع على المضللين سبيل التضليل، ويفتح الباب ليستقيم طريق المعرفة من غير تمويه، ولذا جاء في كتاب الحوار لكونفشيوس أن أحد تلاميذه سأله "بأي شيء يبتدئ سياسته إن تولى حكم الإمارة" فقال: "لا بد من تصحيح الأسماء" لأنه إذا لم تكن الأسماء صحيحة لا يوافق الكلام حقائق الأشياء، وإذا لم يكن الكلام موافقا للحقائق وقع الخلط في اللغة وفسدت الأمور.
    هذه الفلسفة التي اهتم لإظهارها الإمام أبو زهرة هي من باب " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها"، ولكن هنالك باب أهم وأوسع يدخلنا به القرآن الكريم لذات الموضوع.
    إن الأسماء ومعرفتها شيء قدره المولى قدرا عاليا فقد استحق آدم أن يسجد له الملائكة وكان الدليل الذي أظهره المولى للملائكة للبرهنة على أن لآدم قيمة يستحق بها التشريف أنه نبّئ الأسماء كلها، والتفاسير تختلف هل هي أسماء الأشياء كلها من مخلوقات وأفعال أم هي دون ذلك. ولكن قيمة معرفة الأسماء لا يكون لها معنى إذا فك الارتباط بين الاسم ومسماه وأطلق الفعل على غير وجهه المعروف، أو إذا جعل الاسم وفق الهوى نغيره كيف نشاء. لذلك نجد الغضبة الربانية المضرية على أهل الكتاب: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) وأيضا: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه). جاء في لسان العرب: تحريف الكلم عن مواضعه تغييره والتحريف في القرآن تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشباه. وجاء في تفسير تلاوة الكتاب حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزل ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا غير تأويله. والتحريف هنا هو تغيير اللفظ بلفظ شبيه ليوافق هوى المحرّف، وهو مربوط من نواحي شبيهة بالتأويل (الذي يمكن وصفه بأنه خبيث) الذي يلتف على المعنى (المعقول) للفظ للخروج بمعنى جديد يوافق هوى المؤول. فالتحريف والتأويل الخبيث وكلاهما ذمهما الدين الإسلامي هما بابان لفك الارتباط المعقول بين اللفظ المعين والمعنى المعين، ففي التحريف يتم تغيير اللفظ لصالح معنى جديد، وفي التأويل الخبيث يتم تغيير المعنى لذات اللفظ.
    وإذا نظرنا لمسألة اللفظ والمعنى في إطارها السوداني فيمكننا القول أننا بحاجة ماسة إلى دعوة تعيد ذلك الرباط المقدس بينهما. إن حكومة الإنقاذ الحالية نظام سادر في كل من تحريف الكلم وتأويله بغرض خبيث. وهو نظام قد اتخذ جملة من السياسات وارتكب جملة من التصرفات التي فكت الارتباط بشكل كبير بين اللفظ والمعنى بحيث صارت المفارقة بين المقال (الذي يسمعه الجمهور) والمدرك (الذي يقر في صدر الجمهور) عظيمة للغاية. وسنتطرق في الحلقة القادمة من هذا المقال لهذه الخاصية لبرهان ما ألقيناه هنا على عواهنه بالدليل. ولكننا نختتم هذا المقال بتقرير أن الإنقاذ لم تكن بدعا في الزمان بذلك، فكثير مما أتت به نابع من سمات ثقافية متجذرة سبقت "الإنقاذ" وربما كانت –أي الانقاذ- ورجالها في غالبهم فرائس أسهل لذهنية فك الارتباط بين المعنى واللفظ من غيرهم. وهذا الحديث الأخير يتسق مع مقال كتبه الدكتور عبد الله بولا يعلق فيه على مقولة أديبنا الطيب صالح في مطلع أيام الإنقاذ "من هؤلاء ومن أين أتوا؟" مقال بولا كان بعنوان (أطروحة في أن الغول لم يهبط من السماء) يبدو فيه غاضبا من محاولة بعض المعارضين للنظام الحديث كأن نظام الإنقاذ اختلق السوء اختلاقا في السودان ومن عدم. والحقيقة التي تقرها نواميس الكون هي أن التيارات والاتجاهات الإنسانية لا تأتي من فراغ. إن (الإنقاذ) تبد لنفس ثقافتنا التي نحملها وإن كانت التيارات والدعوات الثقافية يمكن أن تنحو بالمجتمعات مناح مختلفة حميدة أو خبيثة، فإن الإنقاذ قد وصلت بمجتمعنا –واستنادا على ثقافته الذاتية- لنهايات السوء القصوى في ملفات عديدة ليس أولها ولا آخرها ملف فك الارتباط بين اللفظ والمعنى. إن فك الارتباط بين اللفظ والمعنى جعل الكثيرين يقولون من وراء الانقلابيين لانقلاباتهم ثورات، ويسمون حكوماتهم الشمولية ديمقراطيات (ولما أتت الديمقراطية الثالثة مثلا أزلنا كلمة ديمقراطية التي تسمت بها جمهوريتنا على عهد النميري)!. وباب فك الارتباط بين اللفظ والمعنى يفتح مشرعا أثناء الديكتاتوريات وهذا شيء من طبيعة الديكتاتورية وإعلامها المضلل، وقد يلزمنا بحث أكبر لتلمس فك الارتباط حتى في الثقافة العادية، ولكننا نؤجله –أي البحث- لأجل غير مسمى لنناقش الآن تبديات التلاعب بالألفاظ لدى الإنقاذ
    الشريعة والعلمانية كمثال.

    تبديات التلاعب بالألفاظ: الشريعة والعلمانية كمثال
    كنا في الجزء الأول من هذا المقال قد تطرقنا لأهمية الرباط المقدس بين المعنى واللفظ، وأشرنا لما وصل له الفلاسفة الأقدمون من ضرورة تصحيح الأسماء. ووصفنا جانبا من الهدي الإسلامي والغضبة الربانية من تحريف الكلم عن مواضعه باستبدال الكلمات بأخرى تفيد معان جديدة أو تأويل ذات اللفظ لصالح معنى جديد. ثم ختمنا بتقرير أن حكومة الإنقاذ هذه سادرة في تحريف الأسماء وتأويلها تلاعبا بها وفكا للرباط الواجب والمعقول بين الألفاظ ومعانيها، وذلك لطبيعة الديكتاتورية المرتبطة بالإعلام المضلل والتلاعب بالحقائق، و/ أو لسمات ثقافية متجذرة في المجتمع الذي أتى بالإنقاذ بالرغم من أنها –أي الإنقاذ- ربما وصلت بذلك السوء لقمة ماردة سيصعب معها علينا ردها لما كان قبل الإنقاذ.
    ويمكننا هنا إضافة أن الإنقاذ قد اتخذت جملة سياسات، وأتت بعدة ممارسات ثقافية كلها تصب لصالح فك الرباط بين المعنى واللفظ. ونشير فقط إلى ما جرى على المناهج اللغوية. لقد أتتني مرة صغيرة من أقربائي وهي في الصف الثالث من مرحلة الأساس جزعة من قطعة للمطالعة كانت تتحدث عن معاناة المسلمين في مكة والهجرة إلى المدينة. وقد هالني ما أجزعها فقد كانت الأسئلة على القطعة لا علاقة لها بما في القطعة من معلومات، كان واضع المنهج يتوقع أن يجيب التلاميذ بمضامين لم ترد في القطعة المعنية، وذلك لعمري أبلغ ما يمكن فعله لفكفكة الأسلوب العلمي في التعامل مع اللغة في ذهن المتلقي الصغير، ولفك الرباط بين اللفظ والمعنى.
    ولأننا لا يمكننا متابعة كل أمثلة الضلال فيما يتعلق باللفظ والمعنى على عهد الإنقاذ، فإننا وكما أسلفنا سنركز في إثبات ذلك على لفظتي: الشريعة والعلمانية.

    الشريعة كمثال:
    الشريعة في اللغة تعني المواضع التي ينحدر إلى الماء منها، و الشريعة في كلام العرب مشرعة الماء وهي مورد الشاربة المستديمة بلا انقطاع التي يشرعها الناس، كما جاء في لسان العرب لابن منظور، وجاء أيضا: "والشريعة و الشرعة ما سن الله من الدين وأمر به كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أعمال البر". وفي المصطلح فإن الشريعة تعني ما جاء به الدين فالشريعة عامة شاملة لكل الأحكام العقائدية والأخلاقية والعملية من معاملات مالية وأسرية وعقوبات..الخ، وهي ما جاء به الكتاب والسنة ولا يجوز مخالفته. وهي تختلف عن الفقه الذي يفسرها (ويعمل العقل لتبيان طرق تنزيلها) ويقتصر على بعض أوجهها فقط وهي تلك المتعلقة بالعبادات والمعاملات (المسائل المالية والعقود)، والأحوال الشخصية والعقوبات، ويعتمد النظر والفكر والاستنباط من النصوص، وتجوز مخالفته لمن اعتمد دليلاً أقوى وأرجح، كما تختلف في بعض وجوهه الحجج حسب الزمان والمكان. أما العقائد فإن ما يبينها هو علم الكلام.
    ولكن أهل الإنقاذ يتعاملون مع الشريعة كأنها تطابق فقههم لحزمة من الأحكام والعقوبات، من أفتى في وسائل تطبيقها وأولويات ذلك التطبيق أو تحدث عن هامش التطبيق الإسلامي (التنزيل) المتروك لحكمة المؤمنين أو لقسطهم أو لميزانهم، فإنه قد عارض الشريعة، مع أنه لا يمكن لمسلم معارضة الشريعة بتعريفها نفسه وبتعريف الإسلام، ولا يهمهم تكفير المؤمنين في شيء طالما أنهم لا يذهبون مذهبهم السياسي. والحق أنه يجوز معارضة فقه المتفقهين ومذاهب المتمذهبين كما ورد عن أئمة المذاهب في لفظ تقليد الأسبقين، وهو ما قاله الإمام المهدي : "ولا تعرضوا لي بنصوصكم عن الأقدمين إنما لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال". وورد عندهم –أي أئمة الفقه- اختلاف الرؤى والاجتهادات واحتمال ذلك داخل الدين وكانوا يقولون عن اجتهاداتهم "قولنا صواب يحتمل الخطأ وقولهم خطأ يحتمل الصواب".. وقد أفتى الإمام أبو حنيفة يوما فقال له أحد الحاضرين: "أهذا هو الحق الذي لا شك فيه:؟" فقال له الإمام: " وقد يكون الباطل الذي لا شك فيه".!.
    وفي داخل منظومة المعاملات والعبادات التي هي جزء من الشريعة، فإن أهل "الإنقاذ" ولغرابة الأمر يلتزمون بمسميات إسلامية ويطلقونها على ممارسات هي أسوأ حتى من النظم الوضعية التي أنقذ الإسلام الناس منها. مثل بيع السلم والمضاربة والمرابحة.. وكلها معاملات يطلق عليها اسم إسلامي وهي فادحة في ربويتها وأسوأ حتى من سعر الفائدة واستغلالية لحاجة المحتاج ، خاصة المزارعين.
    وهم مثلا يأخذون الزكاة من أموال الموظفين بصورة لا تراعي حكمة مشروعية الزكاة ولا تعريفها الشرعي، إذ هي ما يخرج المزكي من ماله الذي زاد عن الحاجة وبلغ نصابا وحال عليه الحول. ولكن الإنقاذ استقدمت زكاة تؤخذ من رواتب الموظفين ليس فقط قبل أن يحول حولها بل قبل أن يبدأ شهرها وحاجة صاحبها لم تقض بل الرواتب تنفد قبل أن تستلمها الأيدي من الديون المتراكمة ووضع "طاقية" هذا على رأس ذاك.. إن الزكاة في تعريف الإنقاذ هي ضريبة وضعية أكثر إرهاقا للناس بل وأسوأ مبدئيا لأنها كأنما عقوبة على اعتناق الإسلام!!.
    وأخيرا، فلنستحضر في هذا الباب حقيقة بسيطة عن الإنقاذ كسلطة أتت من على ظهر الدبابات لتفرض على السودانيين برنامجا معينا: إن الإنقاذ التي تتحدث عن الشريعة المفداة بالمهج والأرواح -وهو ما جاء في خطاب رئيس الإنقاذ حينما التقى بالهيئة التي تزعم الدفاع عن الشريعة- وأنها إنما أتت لكي تسود، أتت لنا في شكل خدعة، فالبيان الأول كان باسم القيادة العامة للقوات المسلحة، وبعد حين اتضح أن تلك كانت كذبة.. ورسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام كان قد رد على المتسائلين بأن المؤمن قد يرتكب كثيرا من الآثام، ولكنه لا يكذب.
    كل ذلك من باب تسمية الأشياء بغير أسمائها. فلا الشريعة شريعة، ولا القيادة العامة القيادة العامة، ولا الزكاة زكاة ولا المرابحة مرابحة ولا الصلاة صلاة (هل سمعتم بصلاة الشكر الجماعية؟) ولا العرس عرس (هل سمعتم بعقد قران الحور العين والبخور والجرتق في عرس الشهيد؟) ولا الجهاد جهاد (بضوابطه حيث تعلنه سلطة شرعية) ولا البيعة بيعة (بل تعددت البيعات لرأسي النظام حينها وهي كانت بيعات بعدية أي بعد اغتصاب السلطة بينما البيعة في الإسلام قبلية: رضي الله عن ابن الخطاب الذي قال: من بايع أحدا بغير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه تغرة أن يقتلا)، ولا السجن سجن (ألم يقبض أهل الإنقاذ على عشيرتهم الأقربين بعد الإنقلاب تعمية وباتفاق مسبق؟) ولا الإجماع إجماع (أم لعلكم ما تسامعتم بالإجماع السكوتي؟ والإجماع يكون حول رأي بقول إيجابي، ولا يكون السكوت دلالة إيجابية إلا تحت نحلة: "السكوت علامة الرضا المثبوت"، وقد ارتبطت بالشأن الخاص إذا خالطه ما يستدعي الحياء، أما في الشأن العام؟ فهذه بدعة لا تحمد!) .. وكل شيء كان للسلطة والحفاظ عليها، ولكن هنالك رقصة شهيرة "ينزل" فيها كل أساطين الإنقاذ من أعلى رأس لهم إلى بوقاتهم وطبولهم يقال فيها: كل شيء لله.. لا للسلطة ولا للجاه!.
    إن السودانيين كانوا قد أدركوا حديث القيادة العامة بدون وسيلة ظاهرة للنفي كأنهم محدّثين، وظلوا كلما قال أهل الإنقاذ كلمة يحاولون بها إخفاء معنى حقيقي وإظهار معنى مختلق، فإنهم يدركون المعنى المقصود، حتى لكأنها لعبة جديدة توازي لعبة الكلمات المتقاطعة، وهنا فهي الكلمات "المتحاشية"، وقد كان المتصوفة يقولون من شدة الظهور الخفاء، ولدى السودانيين مع أهل الإنقاذ: من شدة الخفاء الظهور.. فانظروا! .

    العلمانية كمثال:
    كنا قد تطرقنا أعلاه لأهمية الرباط المقدس بين المعنى واللفظ، وتتبعنا تلاعب الإنقاذ بمفهوم الشريعة وبمصطلحات شرعية وفقيهة كثيرة مثل الزكاة والجهاد والشهادة والبيعة والحور والسلم..الخ. والآن نأتي لمثلنا الثاني كدليل على تحريف الكلم عن مواضعه، في الضجة التي تنعق بها أبواق الإنقاذ الآن ومن بعد "إعلان القاهرة" الذي وقعه الزعماء الثلاثة: محمد عثمان الميرغني، والصادق المهدي، وجون قرنق في 24 مايو 2003م.. حول العلمانية. لقد كنا تطرقنا من قبل في مقال بجريدة الصحافة بعنوان "النباح القراح حول إعلان القاهرة: صحو سنة أم مس جنة؟" لأن تلك الضجة نفسها أفتعلت بعد حين حتى أن المراقب ليدهش هل ذلك من مس جنّة؟ وأجبنا أنه ما هو بجنة بل أرادت الإنقاذ أن تخفي جزعها السياسي من الاتفاق بحلة دينية.
    فأول الحقائق أن الإعلان خلا من كلمة العلمانية واحتوى بدلا عنها على كلمة القومية، بأن تكون العاصمة تابعة للدستور الاتحادي الذي تصادق عليه الطرفان –الحكومة والحركة- في مشاكوس في 20 يوليو 2002م. فهل كان أهل النظام يظنون القومية التي اتفقوا عليها في الدستور الاتحادي لتحكم كل ما دونها أنها علمانية؟.
    وثاني الحقائق متعلقة بالعلمانية وتعريفها. فالعلمانية اشتقاق على غير قياس من العالم المشاهد. كلمة secularism مكونة من مقطعين: العالم والآن. وهي فلسفة تدير ظهرها لكل الغيب ولا تأبه بغير التجربة المحسوسة في العالم المنظور، والفكرة الشائعة أنها مشتقة من علم أو الاحتكام للعلم غير صحيحة، ولو صحت المطابقة بين العلم والعلمانية لكنا نتحدث ليس عن العلمية ولكن عن العلموية (وهذه تعني الاحتكام للعقل والتجربة وحدهما بدون الالتفات لأن هنالك أشياء لا يطالها العقل وأولها الغيب)..
    وقد نظّرت العلمانية كفلسفة لوراثة عقلية العصور الوسطى في أوربا حين تحكمت الكنيسة في كل شيء في العلم والحكم والاقتصاد والفن، بأن تقلب الطاولة على رأس الدين وقد صك الكلمة ماكس ويبر. وقد كانت تبديات تلك الفلسفة ملموسة أكثر في جوانب الحياة العامة، حيث تراجع المتحمسون علمانيا في الغرب عن الدعوة لمحو المعتقدات الدينية حتى في الدوائر الخاصة (الشخصية والعبادية والعقدية)، وركزوا جهدهم على ألا يكون لتلك العقائد أي وجود في الحياة العامة باعتبارها أولا خارج القياس الموضوعي وثانيا أسباب للفرقة والاقتتال بين العقائد المختلفة وثالثا باب للتسلط الثيوقراطي. ولأن العلمانية غير ممكنة التطبيق فلا يمكن فصل الدين عن الحياة، فقد انتهت الشعوب الغربية إلى الحديث عن العلمانية إسميا، وممارسة أنواع ظاهرة من التدين في الحياة العامة تختلف من بلد لآخر. والواقع الآن أن الأديان كلها تعيش صحوةً وانتعاشا في العالم بما فيه الغرب. وأنه صارت تكثر المنابر العامة التي تتخذ صبغات دينية فيه.
    النقطة الثالثة: ما هي العلمانية بالنسبة لنا؟ إننا لم نمر بظروف تحكم كنيسة، وديننا يتيح التعايش بين الأديان لأنه يعترف بحرية العقيدة وبكرامة الإنسان لمجرد إنسانيته وبدون أن يؤمن – فالإنسان ساقط في الخطيئة في نظر المسيحية لا ينقذه إلا الإيمان بفداء السيد المسيح له- كما أن الدولة عندنا مدنية وليست دينية، وكل الأقوال التي حاولت جر الفقه لأقوال شبيهة لما دار لدى الكنيسة ردت عليها اصوات فقهية أمتن في مرجعيتها وعلمها. وحتى الذين حاولوا فرض برامج دينية قهرية علينا - ومنهم أهل الإنقاذ- لم يكن مسلم لهم بأنهم يمثلون الدين وخرجت ألوية معارضتهم ومعارضة اجتهاداتهم باعتبارها تشويها للدين من داخل الشعار الإسلامي، وظلت اختلافات الاجتهادات الفقهية رحمة لنا من تسلط ثيوقراطي. ووثائق السودانيين في الحكم وفي المعارضة لم تكن تتحدث عن إدارة الظهر للغيب وللمعتقدات الدينية، كما أننا لم نسمع أحدا يتحدث عن "سخف الدين" أو هرطقته أو أنه أفيون أو شيء مما ساد على عهد أوجست كومت أو كارل ماركس، وحتى الحركة الشعبية تحدثت عن جناح روحي لها.
    صحيح كان هنالك بعض من يحتجون بتعدد الأديان وصعوبة التعامل بين المؤمنين في مختلف الديانات، باعتبار ذلك لا يتم إلا عبر العلمانية على أن الأديان عامل فرقة. ولكن الوثائق السياسية السودانية تجاوزت تلك النقطة منذ ميثاق أسمرا 1995م الذي ضبط علاقة الدين بالدولة على أسس إيجابية للأديان (بالتعايش بينها) وليست سلبية (بطردها عن الحياة العامة). وكان بروتكول ميشاكوس محطة في هذا الدرب حيث تم الاحتفاظ بحق التأصيل الديني والثقافي لكل الجماعات في الشمال والجنوب، للدرجة التي اعتبرها الأستاذ علي محمود حسنين تفرقة على أساس الدين حيث صارت المرجعية في الشمال الدين الإسلامي وفي الجنوب الأديان الأفريقية، والحقيقة أنها لم تكن تفرقة دينية بقدر ما كانت إتاحة للحرية الدينية وللحق الثقافي والطموح المحمود للتأصيل بضوابط المواطنة والتعايش والاجماع الشعبي. إن التأصيل الذي كان في الماضي شأن بعض الجماعات الدينية والثقافية الخاص، صار مطلوبا عالميا الآن، ومن يطلع على تقرير لجنة الثقافة والتنمية العالمية الصادر بعنوان "التنوع البشري الخلاق" يدرك كيف تم اعتبار التأصيل الثقافي الباب الوحيد المتاح للتقدم فالتطور من خارج الثقافة نمو بلا روح.
    إن الحديث عن الدستور الاتحادي وقوميته هو أشبه بصحيفة المدينة التي نظمت الحقوق بين المسلمين ومواطنيهم من الديانات الأخرى. ولا يمكن لأحد أن يقول أن المدينة على عهد رسول الله كانت علمانية، أو إن عاصمة السودان التي يحكمها عهد قومي علمانية.. إنه تحريف للكلم عن مواضعه. ولا يحتجن أحد علينا بحديث الدكتور جون قرنق عن ظفره بالعلمانية في العاصمة فلئن كان قرنق يفهم قومية العاصمة على أنها علمانية فهذا معناه أنه يفهم الدستور الاتحادي على أنه علماني، وإنها مهمة أهل النظام الأولى الرد بأن العهد القومي لم ولا ولن يعني العلمانية، وذلك ببساطة لأن العلمانية ليست فقط عهود على شراكة وطنية. إنها تذهب لأبعد من ذلك. كما أننا نذكر الجميع بأن بين الحركة الشعبية والآخرين من المعارضين مواثيق أغلظها ميثاق أسمرا الذي ظل مرجعية حتى إعلان القاهرة الأخير، والذي حل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة برسم أسس تحقق المواطنة والتعايش وتعطي الشعب وجماعاته حريتها الدينية وحقوقها الثقافية، ولات من علمانية.
    إن الإنقاذ قد صكت آذاننا حديثا عن العلمانية، باعتبار أنها الوحيدة المتمسكة بالشريعة وأن من عداها علمانيون، وهي في ذلك تلعب بالألفاظ وتخلط ما بين الفقه –فقهها هي القاصر- وبين شريعة رب العالمين، وتتخذ كل مسميات الشريعة لتجعلها مسخا شائها للمعنى الأصلي، وتزويرا للهدي الرباني كما بينا آنفا.. إن أساطين الإنقاذ حينما يتحدثون عن الشريعة فإننا نسأل سؤالا واحدا بكل خلجاتنا: شريعة من؟! لأنها قطعا ليست شرعة الرحمة والعدل والقسطاس والمساواة والحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا، إنها شرعة بعض الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ويظل قليلا حتى ولو تكدست به الجيوب وانتفخت الأوداج، فهل ذهب قارون بماله؟ وقد ضرب المولى لنا من قبل الأمثال!.
    إن للأستاذ عبد الوهاب الأفندي في كتابه "الدولة الحديثة في الإسلام" رأيا يستحق الاعتبار به، وقذفه في وجه أولئك الذين يملئون الدنيا صراخا من العلمانية وتخوفا منها فهل يا ترى عجزا عن إدراك جوهر المعاني أم قصدا لتضليل الآخرين وسوقهم كالعير في مركبهم القاصد للسلطة الغاصب لها حيث لم يستح بعض أولئك من الاعتراف بتلوث مركبهم ذاك بالأموال الحرام والاختلاسات وما إليها وكم هالنا ويهولنا كل يوم خبر جديد لم يكن أوله ولا آخره عمود الزميلة لبنى أحمد حسين بتاريخ 25 يونيو الجاري الذي يتحدث عن آخر فضائح المال العام.. ولنعد للأفندي الذي يقول بأن النظرية الإسلامية التقليدية هي الجذر الأساس للتناقضات مع جوهر الدين، فنظرة تلك النظرية لمفهوم المعصية وعدم اعتبار اغتصاب السلطة والتصرف غير المشروع في أموال الأمة من الكبائر، تعبر –في رأيه- عن موقف ليس علمانيا وحسب "بل إنه عبر عن أحط درجات العلمانية".. فمن ذا الذي اقترف هذا وذاك؟!.
    قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعفوا عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين).
    اللهم إن عفونا فإنهم يستزيدون، وإن أخذنا عليهم فهم يستزيدون، فافتح بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاتحين.

    المقال منقول من سودانايل
                  

06-30-2003, 09:01 AM

نصار
<aنصار
تاريخ التسجيل: 09-17-2002
مجموع المشاركات: 11660

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنقاذ وفقه الأسماء ... رباح الصادق (Re: إسماعيل وراق)

    الفكر هو سنام النضال

    الازمة الفكرية كجزء من الازمات التى اصابت الوطن بقصد مبيت من حكومة 30 يونيو المجرمة تتطلب منا ان نصعد فوق حدودنا السياسية ليكون لنا الوطن حداً اعلى نلتقى عنده لمعالجة ما حاق بواقعنا بكل تفاصيله و ما ان انتهينا من ذلك لنا ان نستمسك بتوجهاتنا الرامية الى خير الوطن الواحد
    الامل المستمد من هذا الوعى المدرك هو القابل الامثل لضجيج السلطة فى ما تدعيه من احتفاء بواحد من احلك الايام فى مسيرتنا الوطنية و ما تعالى صياحهم الا دلالة على احساسهم بامأزق الذى يتجهون نحوه و خوفهم مما قد يصيبهم بعد ان اورثوا قطاعات الشعب من ضغائن نحوهم و حرقهم لكل مراكب العودة الى ساحة الوطن المعافى
                  

06-30-2003, 09:59 AM

lana mahdi
<alana mahdi
تاريخ التسجيل: 05-07-2003
مجموع المشاركات: 16049

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنقاذ وفقه الأسماء ... رباح الصادق (Re: إسماعيل وراق)

    الحبيب اسماعيل
    شكرا لاعادتك رباح - مقاليا - الى البوردبهذا الموضوع الرائع ، و احب ان اقول لك ان كمبيوترك مفيرس اعيتنا الحيل فى الاتصال بك من يومين
    لقد جن جنون كمبيوترك و اصبح يرسل لوحده و من نفسه رسائل انجليزية مختلفة المضمون
    كمبيوترك انجليزى الثقافة
    ارجو الانتباه للمشكل
    و حله كى لا يتدمر جهازك
    مع محبتى
                  

07-01-2003, 03:15 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الإنقاذ وفقه الأسماء ... رباح الصادق (Re: lana mahdi)

    فوق
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de