|
|
 هل هناك شعرية جديدة في السودان؟
|
إن سيادة الجديد وسلطته على القديم قائمة دون شك في خاتمة المطاف‚ ولكن قبل ان يحدث ذلك الأمر لا بد للقديم ان يفرض اشكالا سلطوية تكتسب نوعا من القداسة‚ وربما الرسوخ المغلف بدعوة الحفاظ على ثوابت الشعوب وتقاليدها‚‚ وإذا كان من الصعب ان نضع فواصل زمانية نحدد بها زمن انتهاء الأول‚ وبداية الثاني‚ فإن هناك وحدة حس داخلي تجعل ثمة رابطا لا مرئيا يصل الحاضر بالماضي‚ وبتطبيق هذا الفهم على منجز الشعر السوداني الحديث ما بين جيلين قديم وجديد‚ فإننا سنجد تمثلا لهذا الرابط اللا مرئي على الرغم من وجود اتجاهات فردية في التعبير لا تلتزم بأي مرجعية عامة‚ إن القراءة الثاقبة ـ من وجهة نظري ـ يجب ان تقوم على استبعاد فكرة التراكم التاريخي اللحظي‚ وان تعيد التفكير في وعي الشعرية السودانية بمفهوم كلي متكامل‚ يتحرك بحرية كاملة عبر مركب التاريخ‚ ومركب الافكار‚ حيث ان الأخير لا يلتزم بشروط تعايش مباشر مع خط التاريخ‚‚لكن رغم ما ذهبنا إليه بشأن امكانية القراءة الكلية لوعي النص الشعري السوداني كحلقة متكاملة إلا ان ثمة تيارات تحاول ان تعتبر تجربة الجيل القديم ـ ما قبل التسعينيات ـ هي النموذج الكامل الذي ختم حركة الشعرية السودانية‚ وحكم مفرداتها التعبيرية‚ والشكلية‚ ليكون هناك نوع من التهميش المباشر والمفتعل تجاه تجربة ما بعد الحداثة في الشعر السوداني‚‚وعندما نتحدث عن حداثة شعرية فإننا نعني تبدلا في قيم رؤيا العالم‚ ولا نقصد المعنى بالمحدود الشكلي‚ وبهذا فإن تجربة ما بعد الحداثة تعني تجاوزا لما فوق رؤيا العالم‚ ليكون للنص الشعري دور في ابتكار عالمه المفرد دون استناد لأي قواعد معرفية واقعية مباشرة‚ كما حدث في طور التحديث‚ وإن كان شعر التسعينيات قد تميز بخصائص متعددة مثل سرعة الايقاع‚ واللمحات وانتقاء المفردات الشعورية إلا ان ما حققه في جوهر الأمر التجاوز السريع والواقعي لنظرة الشعر الأرثوذكسية لبناء العالم‚ وفق موجهات الجغرافيا والمكان‚ كما بدا واضحا في تجربة القديم‚ ونعني بشكل مباشر ما افرزته حقبة الستينيات من القرن الماضي من مدارس أدبية وفنية مثل مشروع الغابة والصحراء والذي حاول ان يُرمّز الجغرافيا في إطار فكري‚ ينتمي للذات السودانية‚ ومهما كانت التبريرات لذلك الموقف‚ إلا ان حركة الزمان الابداعي‚ تفرض وتعلن ضرورة إجراء تحولات مغايرة‚ ليس بسبب وفعل الاختلاف كهدف لذاته‚ وانما لأن هناك تحولا مدهشا وكبيرا حدث فعليا في الابداعية ما بين قديمها وجديدها‚ وهذا ما سنحاول ان نعالجه من خلال هذه الدراسة‚ يذهب الناقد محمد الربيع محمد صالح‚ والذي يحب ان يتحرك دائما في فضاءات القراءة الحفرية للنص ـ أركولوجيا ـ إلى ان اتساع الأنا المدنية‚ أحدث تغييرا في مستويات الرؤية والانفعال الشعري عند الجيل الجديد‚ ليؤكد اتساع مفهوم الشعرية‚ لكن ما ذهب إليه الربيع قد لا يكون مقبولا بشرطية قراءة ناقد من الحركة القديمة‚ إذ ان عبد الله علي ابراهيم‚ يرى ان الربيع يتحدث بردة الفعل وان المجتمع قد اسقط الشعر من حياته‚ ويقول: إننا تجمدنا عند الغابة والصحراء وهي رؤية تخالف ما أكدناه في التقديم من محاولة القراءة الخطية لحركة الشعر من قبل الكثيرين كما ن هناك عدم اعتراف جازم من هذه الفئة الرافضة بعدم تحولات الشعرية السودانية‚ وفي مستوى الاعتراف بالتجربة الجديدة كما عند الدكتور محمد المهدي بشري‚ نجد استبطانا يقول بتهميش التجربة وغياب ذاتيتها‚ بمعنى مباشر انها تجربة ليست جديرة بالرسوخ والقراءة‚ فهي منبتة عن الجذور‚ إذ يرى بشري بشكل مباشر ان الشعراء الجدد يشتركون في قاموس لغوي واحد‚ جاء من تأثيرات أدونيس‚ ودرويش‚‚ وانهم منقطعون عن تراث الشعب السوداني‚‚ إذ لا علاقة بينهم وبين رموز الشعر السوداني‚ هناك ثمة حركة واضحة‚ وخفية أحيانا‚ تهدف لحذف مجمل التجربة الشعرية الجديدة في السودان‚ وبأشكال مختلفة من المبررات المغلفة بطابع الوعي الشكلي الأرثوذكسي‚‚ مثل الابتعاد عن الجذور والتراث ـ ان الحركة الشعرية توقفت عند الغابة والصحراء وللأسف فإن هذا النوع من التهميش ينطبق ليس على الشعر فحسب‚ بل على جملة الفنون الابداعية كالرواية‚ والقصة القصيرة‚ والفنون التشكيلية‚ وهو أمر محبط بكل المعاني للجيل الجديد‚ وقد ذكرني أكاديمي سوادني مختص في قراءة الابعاد الدينية في النص الابداعي‚ بأن الشعرية الجديدة‚ هي مجرد موضة عابرة ولن تستطيع البقاء طويلا‚ لكن الواقع يفضح ما هو مغاير لرؤية الرجل من التفاف عريض‚ لا سيما في شرائح شباب الجامعات السودانية‚ حول عقد النوع الجديد من الشعر الذي يرفضه الكبار‚ لكن هناك من حمل رؤية صدعت بالحق‚ تجاه إنصاف تجربة الجيل الجديد‚ وان جاء هذا الانصاف بشكل غير مباشر في الاعتراف بأن هناك شعرا ومفكرين ومبدعين جددا‚ لن خطاب الشعر التسعيني وان كان قد تجاوز حدود الرؤية المسطحة للعالم وقضاياه عند البعض‚ إلا أن هذا الخطاب عانى إشكاليات عند الكثيرين‚ تجاوزت التكوين الظاهري والبناء المعماري للنص الشعري إلى الاطروحة الشعرية في حد ذاتها‚ مع عدم قدرة على التعامل مع الواقع المعاش‚ واكتشاف اغوار الذات الانسانية‚ وما ينتج عن تفجير وعيها من قراءة كلية لمركبات الوجود‚‚ ويمكن ان نستبعد هذه الفئة من قراءة الشعر الجديد‚ باعتبار ان أي حركة تجديدية‚ لا بد وأن في داخلها اخفاقات‚ إذ من غير الممكن ان نجعل مجمل التشكيل الشعري الجديد قائما بذات القدرة على الرؤية والاستنطاق الابداعي‚ لكن الخطاب العام ـ المهمش ـ يعمل على محاولة تحرير الذات ـ ذات الجيل الثالث ـ عبر وعي معرفي‚ قادر على التفاعل مع الآخر‚ وبلورة مفهوم الوعي الجمعي بما ينمي قوانين جديدة لحركة الشعر السوداني‚
منقول من موقع جريدة الوطن القطرية
http://www.al-watan.com
|
|
 
|
|
|
|
محمد حلا
Yassir Mahgoub
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست