|
دارفور وصدى نظرية المؤامرة
|
ربما أخالف الكثيرين إذا قلت أن السودان أصبح من الدول المشهورة في العالم ، ليس لأنه طوّر نظام الأنسجة البشرية ، أو ابتكر نوعاً جديداً من العقار الطبي ، بحيث يجعل مرض الملاريا يهرب من بلادنا ويقول أغيثوني ..أغيثوني ، ليس هذا ولا ذاك ، شهرة السودان انبعثت من نظام الإنقاذ ، والتي جعلته طبقاً دسماً يتناوله الكبار في مجلس الأمن ، كل الكوارث الطبيعية والإنسانية فرّخت في العش السوداني ، حروب مدمرة ، فيضانات تقضي علي آلاف المنازل ، أمراض وأوبئة ، مجاعات وجفاف وتصحر ، أضف عليه فساد حكومي كبير حوّل الشعب السوداني إلي قارعة التسول . هذه هي صورة السودان في نظر العالم الخارجي ، بلد تآخي مع الأزمات ، يحمل حكامه تصورات كبيرة لحكم العالم ، ولكنهم لا يعرفون متي ترتفع مناسيب النيل ، وما هو الفرق بين الكوليرا والإسهال المائي ،ربما يعرف المحللون لماذا ارتفعت أسعار البترول في العالم ، لكنهم لن يدركوا أين ذهبت أموال البترول السودانية ؟؟؟ ولماذا هناك لاجئين سودانيين في تشاد وكينيا ويوغندا ، عددهم يصل إلي الملايين ، يتكاثرون في تلك البلدان ،ويعيشون علي المساعدات الإنسانية . صديق لي سألني بخبث عن التالي : لماذا وافقت الإنقاذ علي نشر قوات أممية في الجنوب ورفضت ذلك في دارفور ؟؟ لماذا كان تعامل الإنقاذ مع الجنوب المسيحي والوثني أفضل من تعاملها مع أهل دارفور ، إذا وضعنا في الاعتبار أن دارفور يدين أهلها بالدين الإسلامي بنسبة مائة في المائة ؟؟ لماذا كانت هناك جرائم في دارفور موجهة ضد الكرامة مثل الاغتصاب ، فهذه الممارسة ليست شائعة في الحروب بين الدول ، فكيف بها تصبح أمراً عادياً في حربٍ أطرافها أبناء الوطن الواحد ؟؟ نعم وافقت الإنقاذ علي نشر قوات أممية في الجنوب ، وهذه القوات ليست قوات مراقبة فقط كما تروّج صحافة الإنقاذ ، ولكن سطوة قوات الحركة الشعبية في الجنوب ، وسيطرتها الشبه الكاملة علي الوضع الأمني في هذه المنطقة ، كل ذلك ، جعل مهمة القوات الدولية في غاية السهولة ، لذلك لم تحتاج إلي زيادة الصلاحيات ، عامل آخر لعب دوراً كبيراً في تلطيف الأجواء ، هو حرص شريكي السلام الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني علي انسياب البترول ، مما جعل التوقف عند نقطة نشر القوات الدولية أمر لا يرغب فيه الطرفان ، طالما هناك مصلحة اقتصادية جمعت الشريكان علي طاولة واحدة ، من الملاحظ أيضاً ، أن وسائل الإعلام الحكومية في الخرطوم لم تكن تغطي الانتشار السلس للقوات الأممية في الجنوب ، ولنقل أنها تغاضت النظر عنه لحاجة في نفس يعقوب . النقطة الثانية ، لماذا كان تعاملها مع المسلمين في دارفور أكثر وحشية من تعاملها مع الجنوبيين المسيحيين في الجنوب ؟؟ هذا المحك نجد له إجابة واحدة ، أن الحروب في السودان جرت لأسباب إثنية واجتماعية واقتصادية ولكن ليس لأسباب دينية ، صحيح أن الإنقاذ استخدمت الدين كمحفز لتوفير مزيد من الوقود للحرب ، ولكن إذا نظرنا إلي بؤر الصراع في الجنوب ، فسوف نجده منحصراً في المناطق التي ترقد فوق بحيرات البترول ، فقد كانت الحرب من أجل الذهب الأسود ، بالتأكيد هناك فظائع وقعت في حرب الجنوب ، وجرائم حرب علي مستوي عال أحاطت بالمدنيين ، ولكن الطبيعة الجغرافية القاسية لم تمكن وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان من توثيق هذه الجرائم ، كما أن الموقعين علي اتفاق نيفاشا حرصوا علي تقاسم السلطة والثروة وأهملوا الجوانب الإنسانية في الاتفاق ، لذلك تم طمر هذا الملف في حفرة عميقة ، علي عكس ما حدث في دارفور والتي كانت منطقة مكشوفة لوسائل الإعلام العالمية ، وبها حضور مكثف لمنظمات حقوق الإنسان منذ اندلاع الصراع . ولذلك أصبح من المستحيل أن نحكم أن الإنقاذ كانت أكثر رأفة بالجنوبيين ، وما حدث في دارفور من تجاوزات حدث أيضاً في الجنوب وبنسبة كبيرة ، ولكن كما أسلفنا أن الإعلام العالمي لم يغطي تلك المأساة ، والحركة الشعبية تعاملت مع الإنقاذ بمبدأ عفا الله عما سلف ، وقدمت المصلحة الاقتصادية قبل المصلحة الإنسانية ، مما جعل الإنقاذ تعيد الكرة في دارفور ، وتمارس هذه المرة جريمتها في العلن . والباحث المتفحص لحكومة الوحدة الوطنية يُلاحظ أمراً واحداً ، أن هذه الحكومة لا تمثل كل فئات الشعب السوداني ، هي حكومة حزب واحد تتحكم فيه الجهويات ، والتي يكون فيها الولاء للقبيلة والعرق أكثر من الولاء للوطن ، وهذا ما جعل مهمة قوات الحكومة في دارفور تتخذ طابعاً عرقياً محدداً ، فالحرب لم تكن بين دولة وثلة من المتمردين ، بل هي بين نظامين اجتماعيين متناقضين في الجذور والتاريخ ، هي نتاج لحقد نشأ في المجتمع السوداني بعد قيام الثورة المهدية ، واستمر في أيام الخليفة عبد الله ، إلي أن وصل المخلص الإنجليزي ووضع الأمور في هذا النصاب ، الخليفة عبد الله هًزم في الداخل قبل أن يلاقي الإنجليز في كرري ، قوات الفتح دخلت إلي العمق السوداني بسهولة ، لأن هناك من سهّل مهمتها من أبناء الشمال ، ومعركة كرري الحقيقية كانت في الداخل ، وهي كانت بين من ينظر للفاتح الإنجليزي بأنه مُحرر ، وبين من رأي في الإنجليز خطراً وشيكاً ، محصلته الثأر لمقتل غردون ووضع السودان تحت الاحتلال ، والذين تصدوا لكتشنر بالحراب والسكاكين في كرري لم يكونوا يمثلون كل أهل السودان ، حمدان أبو عنجة ومحمود ود أحمد ويونس الدكيم والزاكي طمل و شيخ الدين وعثمان دقنة والخليفة عبد الله ، هذه هي المهدية ، وهؤلاء النجوم هم قوادها ، ولكن هل شفع هذا التاريخ الطيب لأهل غرب السودان ؟؟ لم يشفع لهم ذلك ، لأن هناك من قرأ التاريخ بصوت كتشنر ، وواصل حملة الغزو والانتقام ، فهناك من يري أن كتشنر لم يقم بالواجب فتكفّل هو بالباقي بعد نصف قرن . قصف القرى الآمنة بالطائرات ، وطمر آبار المياه وحرق المدارس والمساجد ، أمور لا يفعلها حتى المستعمر الخارجي ، ولم نقرأ في التاريخ أن الإنجليز قاموا بتدمير شندي ودنقلا والمتمة والدامر وكريمة وأبو حمد ، ولكن الإنقاذ دمرت العديد من القرى في دارفور . ومطلوب من إنسان دارفور أن يختار من الأتي : الفناء من الوجود ومعيشة الذل تحت جناح الإنقاذ ، وإما محاربة الإنقاذ بالشكل الذي تراه ، وفي هذه الحالة سوف نخسر كثيراً ، لأن الحرب ليست في القرير أو شندي أو حوش بانقا ، بل هي في الجنينة والفاشر وكتم وبرام ونيالا ، سوف يدفع المواطن المسكين تقلبات الحرب ونكباتها . فلم يتبقى أمامنا خيار سوي اللجوء لحماية القوات الدولية ، لأننا شعب تحكمه إرادة المليشيا ويتحكم فيه هوى القبيلة وغرورها وصلفها وكبريائها ، فرفض القوات الدولية من قبل سكان الخرطوم الحاكمين أمر فيه الكثير من الترف والمزايدة ، لأنها بالنسبة لإنسان دارفور هي طوق النجاة الذي ينتشله من غضب المدافع وأزيز الطائرات وبطش الجنجويد . سارة عيسي
|
|
|
|
|
|
|
|
|