من شعراء الدويم- الشباب- / أحمد محمود الشايقي(الجزء الأول)

تجربة الشاب الأستاذ أحمد محمود الشايقي المحامي من خلال قصيدة:

من خلال المتابعة اللصيقة للأعمال الأولى للأستاذ أحمد, نلاحظ أنه أسير بحر الكامل مثل شاعرنا الكبير مصطفى سند والجيل الذي تبعه؛ مثل معز عمر بخيت، الطيب برير وآخرون . كانت التجارب الأولى (كلاسيكية ) بحتة من ناحية الوزن والمضمون. تشبه شعر عمر بن أبي ربيعة في تزلفه للمرأة. وابن الفارض في بث لواعج الشوق مع نفس صوفي لا يخفى، يتوسل للمضمون بالكنايات والأسماء المستعارة. حتى الخمر عنده فهي رمزية . وإن كان الغالب في شعر أحمد محمود - ذلك الوقت - الرومانطيقية.
أما قصيدة مكتوم فهي تطور جديد في سيرة الشاعر. فهي لوحة تشكيلية مليئة بالإلغاز، لكن القارئ يخرج منها بقدر ما يجيش بنفسه هو، لا ما يجري في ذهن الشاعر. مارس الشاعر فيها شيئا من التعالي على سامعه أو قارئه . إما قاصدا أن يخفي انفعالاته كما يفعل كجراي و الفيتوري . أو أنه لم يهتم أصلا بالتواصل مع القارئ بقصد النشر- لأنه ضنين بشعره، عفا الله عنه - ولكني اليوم أفاجئه بالنشر. الشايقي – الشاعر - لا تجد في نفسه استعدادا لأن يشرح العنوان الغريب (مكتوم). حتى وهو يناولني النص لأقرأه ، أحسست كأنه يريد أن يورطني بما أفهمه ثم يقيم ما أقول.
توفر للقصيدة أشياء لا تتوفر لكثير من مدعي كتابة الشعر- هذه الأيام ، خاصة الشباب - الذين يهربون من الأوزان و يسمون قولهم شعرا حديثا - أو ينثرون كلاما لا معنى له ثم يسمونه القصيدة النثرية . وأبلغ رد عليهم مقالة شيخنا عبد الله البشير: الشعر هو الشعر والنثر هو النثر. أو يقوم بعضهم كما يقول الأستاذ المرحوم فراج الطيب السراج بكتابة صفحة من (الفلوسكاب) ثم يأتي بممحاة فيمسح وسط الورقة بشكل رأسي من الأعلى للأسفل حتى يتم لها الشكل الهندسي للقصيدة. ولكن شاعرنا الشاب، متمكن من عروض الشعر بالسليقة. نظم على كثير من بحور الشعر في صغره مجاراة للفحول ثم أحب بحر الكامل، ومارس فيه فنون العروض وتجويزاته كالخبن والكف وغيره فطريا أيضا- أعني أنه قد درس الحقوق لا الشعر - فنجده أحيانا يغير تفعيلة متفاعلن إلى مفتعلن أو إلى مفاعلن بشكل راقٍ جدا وهذا ما يعرف بالزحاف في علم العروض .يقول سيبويه عن الزحاف: ( قد يكون الزحاف في الشعر أحلى من الأصل).
أحمد متمكن من النحو حتى إنك لا تجد خطأ نحويا إطلاقا. كذلك اهتمامه بالجرس الموسيقى أحيانا من خلال القافية أو التفعيلة نفسها. وأهم من ذلك الدفق الجياش حتى أنك تحس أن الشاعر قد توقف وكبح جماح نفسه من الاسترسال وفي نفسه الكثير. ولو واصل الكتابة لما انتهى النص. وهذا ما أشارت إليه (نازك الملائكة) وهو أن النص الحديث صعب الختام ولذلك يلجأ الشعراء لاستخدام عبارات مثل ظل وبات(الفاظ تحمل معنى الاستمرار) ، في نهاية القصيدة ولم ينجُ شاعرنا من ذلك ، فاستخدم لفظة (وبقيت سرا) في آخر النص ، وكأنه يقول وستبقى سرا أو ستظل شعرا ، ليفضح نفسه ويكشف سرا هو أن هنالك سرا لا يريد البوح به.
إذن أحمد يمتلك وسائل الشعر وأولها الموهبة. ولكن اللغز الحقيقي أن شاعرنا لا يحرص على النشر، رغم ثقته في نفسه. أحمد لا يحدثك إذا كان في حالة تلبس بالشعر ولا يقرأ شعره للآخرين وأنا واثق أنه لا يخشى النقد كما يتبادر للآخرين .أو لأن الشجاعة تنقصه وهو خطيب مارس الخطابة منذ الحادية عشرة من عمره . وهذا دور قد أعده له جــده بابكر الفضيل . نعم في شعر مراهقته بعض التشبيب وذكر اسم المحبوبة ولكن مضى الزمن الذي يخشى فيه معرفة الاسم فلماذا يكتم الأستاذ أحمد نفثات فؤاده ؟ ولأدلل على ما أقول ، هاهو الشاعر نفسه يقول :
أسميته مكتوم
أسماؤنا محض اصطلاح
ما كانت الأسماء تروينا القراح
لكنها بعض اجتراح البوح إن عز الصراح (النص)
الشاعر متردد بين البوح والكتمان. يحتاج لأن يبوح بمقدار لا يسلبه (خصوصية ) الأمر فيستعمل الأساليب الغريبة . يرمي بنا في أحضان الأسى ولا نستطيع أن نشاركه مأساته بالإشارة الواضحة إلى موضع الألم . فكيف يعطي الطبيب الدواء وكيف يشخص الداء؟ أرفق بنفسك شاعرنا واطرح ما بنفسك. فهو الدواء.
ملاحظة أخرى هامة وهي تصرف الأستاذ أحمد في صرف بعض الكلمات - بالذات في هذه القصيدة - مثله مثل الشاعر عالم عباس والشاعرفضيلى جماع وغيرهم الذي ينحتون المفردة نحتا يجافي السماع وإن كان قياسيا- وهذه مدرسة خاصة بهم و تجد في نفسي استحسانا- ومثال ذلك في شعره تنفض على وزن تفعل بتشديد العين أو (اليفع) ، الحداد(صفة وليس مصدرا) و مجاهيل(جمع تكسير لمجهول) ، فكلها قياسي ولكنه غير سماعي، وذلك لا أعده عيبا .
يستعمل الشاعر بعض المفردات فتبدو غريبة على صحتها مثل أرفده, العراض, المآلات اجتــراح, الطبــاب و المذاعــة ...
وأحيانا غرابة الأسلوب نفسه ، مثل
فذهبت أرفـده من الإرث الذي افترض الجلال
أو
فقال لا قدري البقاء
أو قوله
أيقنت أن الغيب يمليه اصطفاء

يبقى أحمد المتصوف الصغير في شعره بعد الثلاثين ولا يزال يلبس أسمال الدراويش ويبدو هذا في أجمل مقطع في القصيدة

لكـنه في الجمــعة الأولى تنفــض يســتفيق
وأهل رسم بشارة طبعت على وجه الرفيق
من أين جئت .. أناسك يهوى السياحة
في مجاهيل الطريق؟
أم أنك الدرويش في الأسبال يعتنق الطهارة
أم غــــــريق؟
أم كنت أهل الكهف ويحك يا فتى
أم تهت في غور عميق
بل إن كثيرا من الألفاظ والأساليب تبدو صوفية فهو قد استعمل مفردات لها اصطلاحاتها عند المتصوفة الأول.
مثل نهايات ، الوصول، السفر, اصطفاء ، السياحة ،البشارة ، الفناء والمثال.
وأهم ما في النص كله أن أحمد يكاد يصيبني بالدوار بكثرة الأسئلة التي لا جواب لها عندي ولا عند (مكتوم) نفسه ولا عند الشاعر ولا الرفيق المشار إليه في النص. بل ولا عند القارئ لشعره. صرعـــة من الأسئلة تزداد في تصاعد هرمي مخيف فتتأزم القضية وتقتل الشاعر نفسه . إذن فالشاعر ينتحر بغوصــه في عمق يجهل أبعاده وربما كانت هذه هي الحرمة التي قصــدها بتعليقه على النص بقوله: (الشعر الحرام). دوامــة من الألغاز يستفزني الشاعر بها حين يكتب الأقواس حول المفردات أو الجمل، مثل القوسين حول كلمة(انتفاض). ماذا يريد أن يقول؟ هل يعني معنى غير المعنى اللغوي المعروف؟ هل يحاول أن يقول لنا : إن مكتوم عنيد جدا كما أشار صراحة في بيت آخر:
قد عدت بالأنواء يا لك من عنيد
ولكن هذا واضح لأن مكتوم العنيد عاد وحوله الأنواء كناية عن الجلبة فعودته ليست مثل عودة الآخرين . وإشارة أخرى لعناده:
لكنه في الجمعة الأولى تنفض يستفيق

فالانتفاض والاستفاقة فعلان لا يقدر عليهما كثير من الناس إلا ذوي العناد. الانتفاض من الضغوط المفروضة ، الإفاقة من محيطات تفرض السبات قهرا.

هنالك ألفاظ أخرى بين قوسين مثل (الدرويش)، (القراح) و(في قومنا). بل أحيانا تجد الأقواس حول شطرة كاملة تشكل تفعيلة شعرية تامة (بيت شعر) ، مثل:
(قد رحت أغشاه فأعياني الوصول).

نعم حرام قتل النفس بالكتمان . حرام (كتمان ) الشعر الجميل عن الناس في زمن الشعر الغث والشعراء الدجالين.
بقي أن أقول : إن هذه القصيدة بالذات تشكل مرحلة هامة في شعر الأستاذ أحمد – القانوني الجاد- والرجل الشديد الحياء . وربما دفعه إلى ذلك النوع من الشعر غرابة المضمون وحرص مولانا على التكتم . وأقول له مازحا : والله لن نحملك أي مسؤولية قانونية إذا ذكرت لنا ما تريده علنا ولن يشنقك أهل محبوبة لذكر اسمها فقط.
إلى الأمام أستاذ أحمد محمود الشايقي المحامي ولتـُـعـِـدْ للقانونيين مجد محمد أحمد المحجوب.

النص:
مكتوم
الشعر الحرام

هو من عرفت مراسه
من بدء أيام المخاض
وأملت أن يلقى حظوظ السعد أن يرقى
المآلات العراض
قد كان شغل الأمس جياش الوفاض
قد كان خوفي أن يرى منه (انتفاض)
فذهبت أرفده من الإرث الذي افترض الجلال
فشأنه (في قومنا) شأن الرجال
سأل الصحاب
في البدء لم أدرِ المقال
أطلقت ذاك الاسم إذ كثر السؤال
أسميته (مكتوم)
أسماؤنا محض اصطلاح
ما كانت الأسماء تروينا (القراح)
لكنها بعض اجتراح البوح إن عز الصراح
مكتوم كان
طوقا من الأحلام يجتاح الخيال
لحنا من الأنغام والشعر الزلال
كونا من الأفراح والعمر المثال
ذوقا من الأطياب
كالشهد الحلال
مكتوم كان
يبدي المهابة صمته والسمت عال
إن المذاعة سبة لا تستطاب
لكنه في الحالة الأولى تغشاه اكتئاب
قد رحت أرجو الطب لم يجد الطباب
وأجرب الملهاة تعزية ، وآخر أمره
مكتوم غاب
مرت سنون العمر طال الغياب
وأشق ظهر الأرض لا ألقى الجواب
وأسائل الغادين لا ألقى الجواب
وأهيم لا ألقى سوى (مكتوم غاب)
لكنه في الجمعة الأولى تنفض يستفيق
وأهل رسم بشارة طبعت على وجه الرفيق
من أين جئت .. أناسك يهوى السياحة
في مجاهيل الطريق
أم أنك (الدرويش) في الأسبال يعتنق الطهارة
أم غريق؟
أم كنت (أهل الكهف) ويحك يا فتى
أم تهت في غور عميق
فتلفت المسكين يرهب همستي ويرى السؤال
واحتار أي القول أحرى أن يقال
واختار الصدق من حق الصديق
ها قد أتيتك صاحبي ها قد أتيت
و لأين يا مكتوم وجهة السفر السحيق
قل لي بربك صاحبي
ما يرجى منك أن تجفو الرفيق
فأطل قال:
ما غبت يا مسكين إني لا أزال
الهائم المفتون في نسم الشمال
كان الغياب (ستار) حال
كان اعتكاف الصفو في صوغ الكمال
يا مرحبا بالعز إن كان ارتحال
مكتوم عاد
وأطل مهتاجا له زهو الجياد
يهتز ذات الهزة الأولى ويغوى في ازدياد
وله اتقاد البرق بالومض الشديد
قد عدت بالأنواء يا لك من عنيد
رغم الأسى المبذول والدهر الحداد
قد عدت يا مكتوم في زمن الشقاء
أ فبعد هجري الزهو في درب الفناء؟
هل عدت يا مكتوم ، فورة كبرياء
فقال لا قدري البقاء
إني سموت إلى نهايات الوفاء
الموت مستعصٍ علي فلا أزول
(قد رحت أغشاه فأعياني الوصول)
أيقنت أن الغيب يمليه اصطفاء
وبقيت سرا لا يبارحه الخفاء



مـَكـْـتـُوْمُ عَـادْ
هَـزَمَـنا جـَمـِيـْعـَا ً ثـُمَّ آبْ
ارْتــَادَ آفــَـاقَ الرِّضَـى
وَرَدَ المَوَارِدَ العـــِـذابْ
بـَارََكـْـتُ فـِـيـْـهُ عِـنـَادَه ُ
بالـرَّغـْمِ مـِنْ نـَهـْـشِ الكلابْ

* * * * * * * * *

مَضَىْ يُـوَشـِّحـُهُ الْجــَلالْ
وَ عـَـاد َ يـَـكـْـسـُـوهُ الجـَـمـَالْ
مكتوم عاد مفتشا عنا ثم راحْ
(يا مرحبا بالعز إن كان ارتحال)
كنا غيابا أو أسارى في عـِـقـالْ
لما طفقنا نشعل في الدار الحريقْ
كنا نعاهد بعضنا
أن لا يعود مظفرا ألقُ الشبابْ

وطـَفـِقـْتُ أُلْحـِفُ في السـُّؤَالْ . . .
من يعتق الأرواح من أجسادها
مـَنْ يـَرْقـُبُ الهـِلالَ تِـلْـوَ الهـِلالْ ؟


* * * * * * * * *
لا الحزن يشفي سـَـوْرَتيْ
كلا و لا مـُـرُّ الشـَّـرَابْ
بل توبة منا تـُـضـِـئُ لـَنـَا الطـَّـرِيـْـقْ
حتماً يعودُ مغرداً
كالطـَّـيرِ إنْ ألـِـفَ الديارْ
حتما سيفهم عذرنا
ويعود للدار البريقْ

(كـَانَ الغـِيـَابُ سـِتـَارَ) جـَهـْـلـِنـَا..
وَ كـَانَ لـَنـَا العـَذَابْ
لما ذهبنا نشعل في الدار الحريق
مـِسـْـكـِـيـْـنُ مـَنْ سـَـلـَبَ الحـَقـِيـْـقـَـةَ جـِلـْـدَهـَا
حـَرَقَ الإِهـَابْ
*** *** ***
مكتوم عاد ؟
مكتوم ساجٍ في القلوب .. و لا مجالْ.