ولعل المثل الأبرز الآخر لتسييس العمل الخيري الغربي في إفريقيا يأتي من الحالة الدارفورية، فقد دأبت كثير من هذه المؤسسات الخيرية والنشطاء الغربيون في توصيف الصراع على غير حقيقته باعتباره صداما بين العرب والأفارقة، ومارست هذه المنظمات الخيرية والحقوقية الغربية ضغوطا شديدة على حكوماتها للتدخل المباشر في دارفور، وربما يكون ذلك وراء توصيف الكونجرس وإدارة الرئيس بوش للصراع الدارفوري عام 2004 على أنه إبادة جماعية.
واللافت للنظر حقا أن تحالف إنقاذ دارفور "Save Darfur Coalition" يزعم أنه يمثل نحو 130 مليون شخص، يضم نحو (180) منظمة دينية وحقوقية وإنسانية، من بينها بطبيعة الحال منظمات كنسية يمينية ويهودية صهيونية، وقد تمكن هذا التحالف بشكل غير مسبوق من جعل قضية دارفور محور اهتمام الرأي العام الدولي والخروج بها من إطارها الوطني المحدود.
يطرح ذلك كله أكثر من علامة استفهام واحدة، فالحملات العدائية التي تشنها هذه المنظمات على الحكومة السودانية مثل المطالبة بوقف الطيران فوق الإقليم يمكن أن تضر بتدفقات الأعمال الخيرية والإغاثية بالإقليم.
كما أن الأوضاع داخل دارفور ازدادت تعقيدا، حيث أصبحت هذه المنظمات (الإنسانية) قاطرة للتدخل الأجنبي في السودان، وذلك من أجل تحقيق أهداف وغايات هي أبعد ما تكون عن الإنسانية والخيرية العامة.
إن كثيرا من الكتابات النقدية لسياسات المساعدات الغربية تنفي عنها الوجه الإنساني الصرف، وتعترف بأن لها أهدافا أخرى تتراوح بين المكاسب المادية أو السياسية وما شاكلها، وثمة من يزعم أن مساعدات الغذاء نادرا ما تكون من أعمال التطوع والخير.. إنها أضحت تجارة كبيرة، وتحقق أرباحا طائلة للمنخرطين فيها.
يقول تشارلز وارلدج Charles Worledge أحد مسئولي شركة شحن "Sealift" الناقل الرئيسي لبرنامج الغذاء الأمريكي ضد الجوع:
"لقد كنت أعتقد أن هذه المساعدات الغذائية هي عمل خيري.. إنها ليست كذلك.. إنها مجرد تجارة".
ولا شك أن إفريقيا تمثل سوقا ضخمة لتجارة المساعدات الغذائية، حيث تحقق جميع الأطراف الفاعلة ربحا معلوما منها، فتكلفة شحن المواد الغذائية لمسافات طويلة قد تكفي في بعض الحالات لتلبية المتطلبات المالية اللازمة للبحث عن مصادر محلية لإنتاج الغذاء وقت الأزمات.
ولا شك أن أزمة الغذاء الراهنة قد استغلت من جانب البعض باعتبارها فرصة مواتية لضخ المحاصيل المعدلة وراثيا في الأسواق والدفع بها إلى الجوعى والمحتاجين، إذ إن هؤلاء لا يستطيعون في ظل أوضاعهم المادية المتردية حماية أنفسهم من هذه السياسات الغربية البغيضة التي تنظر إليهم باعتبارهم فئران تجارب.
وقد استخدمت قنوات المساعدات الغذائية لترويج الحبوب الغذائية المعدلة بالتكنولوجيا العضوية، ولعل أحد أبرز الأمثلة الفاضحة على فساد سياسات المساعدات الغذائية تتمثل في حالة الغذاء المسمم في الإكوادور عام 2001 والصويا المسممة في المساعدات الموجهة إلى كولومبيا، وهو الأمر الذي دفع بعض البلدان إلى رفض وجود حبوب معدلة وراثيا ضمن مساعدات الغذاء؛ فقد رفضت زامبيا عام 2002 هذه المنتجات المعدلة وراثيا والتي شحنت إليها ضمن برنامج المساعدات الغذائية.
وعندما ضربت موجة من الحر الشديد كلا من أنجولا والسودان عام 2004، وفي ظل المواقف الصراعية العنيفة التي تعاني منها كلا منهما، قامت وكالة التنمية الدولية الأمريكية وبرنامج الغذاء العالمي بممارسة ضغوط شديدة على حكومتي البلدين من أجل قبول مساعدات غذائية تتضمن مواد مهجنة عضويا.
ولا تزال الاختبارات المعملية تظهر وجود مواد مسممة في المساعدات الغذائية الموجهة للبلدان الإفريقية.
فهل يمكن القول إن الغرب يحاول أن يتجمل بإظهار وجهه الإنساني في حين أنه يخفي وراءه وجها آخر لا إنسانيا؟! ________________ أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة