"أسطورة السودان".. جدل الذات والآخر

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 11:27 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-22-2009, 01:59 AM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
"أسطورة السودان".. جدل الذات والآخر



    "أسطورة السودان".. جدل الذات والآخر

    لمراجعة جذر من جذور الإشكال فإننا نجد غالباً ما يضع تعريف (السودان) بالمعني الجغرافي، الدارسين في إرباكات يكون الخروج منها؛ بوضع تحديد افتراضي ينطلق منه الباحث، ومن أمثلة ذلك أن الدكتور مكي شبيكة عندما سطر أول عباراته في مجلد (السودان عبر القرون) ذهب إلى أن السودان, حسب افتراضه: "يشمل كل الأراضي التي تقع جنوبي الشلال الأول عند مدنية أسوان" . وكان هذا الافتراض مبينا لغرض الدراسة التاريخية للسودان.
    لكن الدكتور مكي شبيكة وقع في أول إشكال عندما نظر آلي السودان بناء على "المركزية المصرية", وجاءت نظرته هذه واضحة في العبارات التي تلت ما افترض به معنى السودان وتحديده، إذ قال بعد أن ذكر مدينة أسوان كمحدد: "إذ كانت كل الحضارات والدول التي تعاقبت على الحكم في مصر تقف عند أسوان, وتنظر إلى الأراضي الجنوبية على أنها خارجة عنها" , فهو وبشكل واضح لم يغادر فكرة "المركزية" وبالتالي لم يلجأ إلى ابتكار طريقة جديدة "خاصة" لتعريف السودان، بشكل ذاتي ودقيق يمكن أن يساهم في وعي العقل السوداني، أي مقولة تقوم على وعي الذات من خلال الذات، وليس من خلال "الآخر".
    وتبسيط الوضع فإن السودان في تقدير شبيكة هو "خارج مصر", دون أن يمضي ليحدد لنا النقاط الأخرى التي ترسم حدود السودان جنوبا، شرقا، كان أم غربا، حيث يترك الأمر، ليس لغياب أي "مركز" في الاتجاهات الثلاث المشار إليها، أو لأن "المركز" قائم في الشمال فحسب، بل لأن شبيكة انطلق من وعي "لا أسطوري" في نفي "أسطورة" السودان في حد ذاتها، والانطلاق بما هو قبلها افتراضا، وهو ذات المفهوم ( ما وراء الأسطورة)، أي رد الأشياء إلى ما قبل التكوين الذي فيه شيء من العقلانية.
    ولاحقا نجد محاولات أخرى لقراءة السودان بناء على طريقة أكثر حداثة، من خلال امتداده الشرقي ممثلا في الحبشة، وهي أيضا طريقة تغيب "العقلنة" المطلوبة للتحرر من ما وراء الأساطير. كذلك ثمة محاولات تتحدث عن كينونة السودان التي هي مهد العروبة كما في دعوة الدكتور جعفر ميرغني، وهو حديث أنتج في "سنوات البشير" كجزء من مشروع التأسيس للدولة الإسلامية العالمية أو حلم الترابي، إذ كانت الخرطوم، والسودان بشكل عام يحتاج إلى دعم تاريخي يمكنه من الوثبة كمركزية لـ "الإشعاع الحضاري" القادم لـ "إنارة العالم من جديد".
    غير أن جزءا كبيرا من جملة الإشكال واللبس وقع بسبب غياب الدراسات الحفرية التي تثبت أن هناك حضارات تحركت اتجاه السودان أو تحرك نحوها, في الاتجاهات الأخرى، عدا الشمال، الأمر الذي كرس لأن تكون مصر هي بوصلة السودان باعتبارها في الجهة الشمالية، وبالتالي كانت هي التي تؤثر في السودان ويؤثر فيها – بدرجة أقل وفق المفهوم السائد - ليفهم من خلالها.
    ويركز شبيكة على أن الاتصالات منذ القدم كانت من ذلك الاتجاه الواحد ففي تقديره أن تاريخ السودان في مختلف عصوره وعهوده يتأثر بالحضارات والدول التي قامت في مصر وكل تغيير يحدث هناك يكون له أثره على (أقاليم السودان).
    هذا التقدير صحيح إلى المدى الذي نفهمه من خلال ما أتيح من دراسات ومصادر إلى الآن. وهو مضبوط إلى درجة كبيرة - دون مبالغة - في حدود الفترة 3400 ق.م وما بعدها. لان ما وراء هذا التاريخ ظل مجهولا للمؤرخين, ومن ناحية أخرى فإنه حتى الفترة 1600ق.م فإن تاريخ السودان غير مدرك بالمعني الحقيقي, لان حدود ما شمله اجتهاد علماء الآثار أن افترضوا ثلاث مجموعات أطلق عليها (أ) و(ب) و(ج), للفترة 3400 ق.م إلى 1600 ق.م, "وذكروا مميزات كل حضارة (أو مجموعة) حسب ما علموه على وجه التحقيق، أو الترجيح من آثارهم وخاصة من قبورهم" .
    إذن فالجذر العميق لتكوين أو ترسبات العقل السوداني, يظل غائباً وغير مكتشف وهو ما يوازيه غياب أي تأسيس لمفهوم السودان الحديث بطريقة تكشف عن معنى الهوية. ومن الواضح أن السودان وبفعل دراسات كهذه التي قدمها شبيكة، بات في حكم "التابع" جغرافيا وعقلا. أو أنه مجرد "عقل متوهم" منذ تلك المجموعات "المتوهمة".
    ويلاحظ كل من يقرأ كتاب شبيكة, في الجزء الأول الذي يناقش البدايات ويؤرخ لها، أي تاريخ المجموعة المتوهمة؛ غلبة مفردات تعكس مفهوم "دونية العقل السوداني" في مقابل "عقل المركز الشمالي", ومثال على ذلك كلمات مثل: توسع/ تأديب/تسول له نفسه/فروض الولاء والطاعة/ وغيرها.. ولا يحتاج القارئ ليفكر كثيرا ليربط كل كلمة قصاد صاحبها, فالتأديب دون شك سيكون من مصير (العقل السوداني ), الذي عليه أن يؤدي (فروض الولاء و الطاعة), ومن تسول له نفسه, هو ذات العقل .
    ولا يحتاج الكاتب أن يسترسل في طرح حشد من هذه المفردات التي تعكس، أن مؤرخنا "بجهده العظيم" وقع في فخ فكرة المركز المصنوعة. ولكن لا بأس من ذكر تجربة "حضارة كرمة" التي عقبت المجموعة المتوهمة (ج)، حيث كتب شبيكة: "المرجح أن سكان حضارة كرمة هم الأصل الذي يرجع إليه الكوشيون وأن عملهم في التجارة مع مصر, جعلهم يعيشون في رغد من العيش, وتقدم في الحضارة والمدنية مقتفين أثر الحضارة المصرية لاتصالهم الوثيق بها".
    والأمر الواضح هنا، من خلال هذا السرد أنه منذ أن نهض العقل السوداني وعاش رغده, كان ذلك بفعل المؤثر الشمالي, بعد أن احتك مع "المركز"، فلولا الشمال المصري لما كان العقل السوداني قد تشكّل أصلا بغياب الظروف الموضوعية للحياة الرغدة والتحضر.


                  

03-22-2009, 02:02 AM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أجيال جديدة في محاولة لإعادة اكتشاف "العقل السوداني": (Re: emadblake)

    أجيال جديدة في محاولة لإعادة اكتشاف "العقل السوداني":
    إن أي أطروحة تحاول دراسة "العقل السوداني"، وبشكل متعمق يكون عليها أن تنطلق من الجذور، ومن خلال التحليل الدقيق للأبعاد غير المرئية، بعيدا عن الثقافة الاجترارية السائدة، في محاولات الفهم. فالبحث الأكثر حداثة والذي بإمكانه أن يلعب دورا مستقبليا والذي من شأنه أن يقدم أطروحات فكرية فاعلة بخصوص العقل السوداني، عليه أن يدرس التاريخ برغبة في إدراك تلك المركبات غير المباشرة، ومن ثم معرفة كيف كان تأثيراتها وانعكاساتها على الراهن. بعيدا عن أسلوب الأحكام المسبقة والنهائية التي تنطلق من "عقائد" أو أيديولوجيات أو رغبات ذاتية بهدف فرض رؤى معينة دون سواها، وهو أسلوب لا يخدم في إدراك الذات بقدر ما يتوّه ويباعد المسافة بين الممكن واللاممكن.
    وإذا كانت "سنوات البشير" قد ردت الاعتبار للسؤال من جديد عن ماهية العقل السوداني من خلال الممارسة والتنظير، ومشروعات الحرب والسلم وإعادة توزيع الثروة وغيرها من أشكال البحث عن الذات، وتمت محاولات للإجابة على السؤال بأكثر من طريقة، ببروز تيارات لم تكن ذات وجود من قبل، بالمعنى الظاهري، حيث أنها كان لها وجودها الخفي في البنى التقليدية، إلا أن واحدة من الإشكاليات التي لا يمكن إغفالها بخصوص هذا البحث، تتعلق بالأجيال الأكثر شبابا، تلك التي عاشت معظم سنوات حياتها بين فترتين من "الحكم الشمولي"، النميري والبشير لاحقا، حيث أن الفترة الديمقراطية كانت قصيرة جدا، قياسا لهاتين الفترتين.
    هذه الأجيال الشابة، كان البعض يظن أنها قادرة على إنتاج تيارات أكثر تقاطعا مع لغة العصر والتحديث الذي غزا العالم، وما رادف ذلك من ثورة التقنيات والمعلومات والانترنت، بيد أن ما تم واقعا أنهم بقدر ما وظفوا هذه "الأساطير الجديدة" إلا أنهم كانوا "كائنات" لا واقعية، حالمة وإلى مدى كبير لم يتخلصوا من التفكير الماوراء أسطوري الذي تعزز بقوة في العشرين سنة الماضية في السودان.
    لهذا فإن الأطروحات التي قدموها بخلاف الأطروحات التي قدمها "السلف" من "رواد الحداثة السودانية" ومن أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة، مشاركين في الحياة الثقافية والفكرية؛ كانت بقدر انشغالها بالسؤال القديم: الذات السودانية، الهوية، العروبة والإفريقانية الخ.. إلا أنها آثرت البعد عن مساءلة المشكلات بطريقة مباشرة وبقصدية، حيث لجأت إلى أساليب الترميز والبعد عن المشروع الهادف والمنظم، برغم أن ثقافة بعض من هؤلاء، كانت قد تقاطعت مع المهجر الذي عاشوا فيه، الغرب بشكل خاص، وهذا يعني أنه من المفترض قد عمل على رفدهم بالمخيال الإبداعي الذي يساهم في تركيب الأشياء من خلال تفكيكها.
    لهذا سنجد أجيال بقدر ما هي تقترب من أسئلة واقعها وبلدها هي منبتة عنه، وهي خيالية في المعالجة، وذات جرأة في غير محلها. ولذلك لم يعملوا على إنتاج خطاب واضح الملامح، مثل غيرهم، بخلاف جيل واحد كان إلى حد ما له تأسيس مبدئي سرعان ما تضعضع، وهو تيار التحديث الأولي ممثلا في التيجاني يوسف بشير وعرفات محمد عبد الله وآخرون، رغم أنه له أيضا إشكالات تتعلق بعدم تخلصه من العقل المأسطر والذي لم يتخلص من النظرة الكلاسيكية للدين، حتى لو تبنى مقولات تبدو شكلاني مفارقة للديني.
    فالطريقة التي نظرت بها الأجيال الجديدة للأسئلة القديمة، وفي ظل الدعم الواسع للنظم غير المرئية في تشكيل الذهن، وهي نظم داخلية مرتبطة بالمجتمع السوداني، حتى لو أن الفرد كان يعيش خارجه. هذه الطريقة جاءت لتعكس حالة تشظي وتناثر في التفكير وإعادة التفكير، حتى لو أنها اقتربت من الجوانب غير المنظورة سابقا، من تلك التي لم يكن لـ "السلف" قصب السبق في اكتشافها. كما أن الاقتراب تم في غياب دافعية بناء رؤى متكاملة أو افتراضات جدلية كبرى، يكون ممكنا لها بالحراك البحثي والتقادم التجريبي خلق حالة من الإحساس بأن ثمة شيء ما له معنى، على الأقل في الحاضر. فالمعالجات الجديدة بقدر ما اقتربت من "اللامنظور" أو "اللامفكر فيه" أو "المسكوت عنه" ، بقدر ما كان اقترابها مسطحا دون الغوص في المدنسات والمخفيات داخل المشكل المكتشف.
    وبتطبيق الحالة على سؤال العقل السوداني، يسمي خالد عويس، المنتمي للأجيال الجديدة، هذه المندسات بـ "المكونات الجوهرية" , ويرى عدم قدرة الفكر السوداني على "تبحر المكونات الجوهرية التي غذت الشخصية السودانية"، كما أن العقل السوداني كان هشا في الاستجابة لشروط الخارج كمؤثر وفاعل، ويأتي هذا "من غير عناء التعمق". فهو يشير إلى غياب عملية الفرز ومن ثم استشفاف الذاتي والخاص، وقد انعكس ذلك بوضوح في جملة تجارب المدنية والسلطان في التاريخ السوداني كما تم تبين ذلك في الفصول السابقة.
    وينبه عويس إلى أن أي دراسة للعقل السوداني تخلوا من العودة إلى بداية التكوين السوداني لتتبع الحراك التاريخي وصولا إلى ما سماه بـ "الشخصية المضمرة"،, لن تكون إلا مجرد إضافة إلى المجهودات التي كرست واقعا من العزلة. فهو يتوصل إلى اكتشاف مفهوم "العزلة السودانية" لكنه لا يعمل على تعميق هذا المفهوم بتأسيسات أكثر تعميقا من خلال القراءة والمقاربة للإنتاج الثقافي: الأدبي والفني، والحراك السياسي وقانون الحياة الجديدة. فالدراسات التي يقدمها عويس وكثيرون من الجيل الذي ولد في سنوات النميري، هي مجرد ومضات، أو إشراقات غير مكتملة البزوغ، تحتاج إلى المزيد من العمل المضن والتفكير الجاد بشأن تطويرها إلى أطروحات تساهم في إعادة بناء التصورات الكبرى للحياة والمجتمع السوداني.
    إن "عزلة العقل السوداني" ليست نتاج اللحظة الراهنة التي توصل فيها عويس إلى هذه النتيجة، بمعنى أنها ليست كردة فعل للنظام السياسي والاجتماعي في "سنوات البشير"، وإن كان النظام قد عمل نوعا ما على تكريسها، رغم الانفتاح الشكلاني للجيل الجديد. بل هي تكاد تكون نتيجة حتمية لانفتاح وتأثر سطحيين بالوافد، طالما كان المكتشف من التاريخ السوداني في أغلب تصوراته يقوم على "اكتشافات الوافد"، ويلاحظ هذا جملة الحركة الثقافية السودانية منذ أيام المدرسة الاستعمارية، الأمر الذي ترتب عنه تراكم حالة الانفصام وغياب الوعي الخلاق في رؤية الأسباب والمسببات.
    وقد لاحظنا كيف أن نموذج شبيكة على سبيل المثال، مارس دوره في توليد "فتوحات ذهنية" مغلقة، لم يكن لها شأن كبير في ترسيخ "السودانوية"، وبدلا من أن يكون رافدا للانفتاح الإيجابي على الذات، كان عاملا من عوامل الضعف وهوان الذات. وبشكل عام كانت الأجيال المتلاحقة خلال القرن العشرين – قرن الحداثة السودانية – وإلى الدخول في الألفية الثالثة، تسعى إلى إنتاج فتوحاتها بخصوص إدراك ماهية العقل السوداني، وماهية محركاته من خلال إشكاليات متراكبة ومجترة، حيث كان وعي الذات دائما ما يبدأ بوعي الآخر، في عملية مضادة للتفكير العلمي، أيضا الديني، الذي يعتقد بأن النفس تفهم من خلال التبصر الداخلي لماهيتها وليس من خلال الخارج.
    إذن بالإضافة إلى عدم القدرة على تبصر المكونات الجوهرية للذات، الذي أدى لتغييب "الشخصية المضمرة"، فإن جملة الدراسات والتجارب التي تمت على مدار قرن من السودانيين تنظيرا وممارسة، كانت تعمل على بنى فوقية ولاوعي جمعي سيطر لمئات السنين، مما جعلها مجرد مكرسات لمزيد من العزلة والانعزال، وبالتالي تعميق ما وصفّه محمد أبو القاسم حاج حمد بـ "المأزق التاريخي". وإذا كان عويس يطرح الحل في البحث عن "الشخصية المضمرة"، إلا أنه في ظل الشروط الآنية والمطروح من تفكير "ما وراء أسطوري" يتسم بالخيال غير العملي، واللامنطقية في العقل، لن تنجز أي إفادات مهمة وإستراتيجية على المدى القريب.
    يعبر نموذج خالد عويس، عن حالة من الرفض المبطن للحظة الراهنة، وبطبقة ثانية من التفكير فهو يعبر عن رفض مجمل التجربة السودانية، باعتبارها لم تؤسس أسطورتها بعد. الأمر الذي يجعل السؤال غير متعلق بالبحث عن الأسطورة أو الجذور، بقدر تعلقه بتشكيل أسطورة وليدة من خلال المتوفر حاليا من بنى لامرئية وهي مهمة إشكالية صعبة. فما يبحث عنه عويس هو في واقع الأمر ليس العقل القديم، بل إبداع عقل جديد مفارق للماضي، حتى لو أنه استفاد نوعا ما من مركبات الأمس، الإيجابي منها. وكل ذلك يعكس حالة من الفوران في إطار البحث عن البديل انطلاقا من الافتراض بأن (العقل السوداني) الحاضر والقائم حاليا، لا يعبر عن حقيقة ما هو مضمر وغائب، أو غير مكتشف.
    ويمكن لفهم المسألة بوضوح، تلخيصها في التالي: لا يعدو الأمر برمته أشواق تأملية لبناء عقل جديد، وأن مجرد هذه الأشواق لن يكون كافيا ما لم يتم تطوير حالة التفكير بتغيبيب حالة التفكير المأسطر، لأن فكرة كـ "الشخصية المضمرة" وبتفكير عميق فيها وتقليبها ستبدو جزءا من الأساطير الجديدة التي ساقتها ظروف آنية. لكن الإيجابي في المشهد، تلك الرغبة في الإبداع والتخلص من إرث الأمس، أي الرغبة في الإنتاج من خلال شروط غير تقليدية للأشياء ومناظير الحياة.
    إن خطاب عويس رغم تبديه بجمالية نقدية تستوحي تمظهرات الراهن السياسي والاجتماعي السوداني في سنوات ما بعد الثلاثين من يونيو، وانطلاقه من نظرية الهدم من أجل البناء المؤسس، إلا أن ذات الخطاب يعبر عن ذات متشتتة الرؤى، غير قادرة على نسج أطروحة متوازنة مع الأسئلة الأكثر إلحاحا، فالأفكار تأتي دون ناظم منطقي، ودون سياقة أهداف واضحة للمطلوب من فعل الكتابة، كما لا يمكن وصف حالة الكتابة بأنها حالة تجريبية. وهذا يجعل الكشف عن مؤشرات ذات فاعلية في تأسيس المستقبل من خلال خطاب كهذا، شبه مستحيلة، لأن الفكرة داخل الخطاب تقود غالبا لأكثر من تأويل، تعمل جميعها كمتضادات لبعضها البعض.
    وعويس ليس إلا نموذجا لانعكاسات سيطرة تيار ما وراء الأسطورة في الحياة السودانية، متجلية هنا في إطار الكتابة والإبداع الفكري. وبالنظر إلى عويس على أنه خارج منظومة التفكير الإسلامي – بتصنيف غير دقيق (المعني الإسلاميين/السلطة)– حيث أنه يلتزم منهجيا بإتباع نمط التيار المهدوي حيث أنه من كوادر "حزب الأمة"، وهو حزب راديكالي إسلامي حتى لو تمظهر بالحداثة. فإن تفسير حالة عويس تصبح أكثر إرباكا، سواء في مشروعه النقدي أو الإبداعي. فالقلق الذي ينعكس على رغبته في إنتاج عقل جديد، أو إعادة التفكير في العقل الراهن، ما هو إلا حالة ارتدادية لمسوقات ما هو ظرفي وآني. ويفسر على أنه "ظرف سياسي"، لاسيما أن ذات الكاتب حاول أن ينتقد مشروع "سنوات البشير" في عمله الروائي "وطن خلف القضبان"، والتي يعرفها الناشر على أنها رواية "تعرض كيفية انتقال المجتمع السوداني، رويدا رويدا، إلى مجتمع قائم على لغة القتل سبيلا وحيدا للحياة" . وهو تلخيص مخل.
    من خلال مشروع "وطن خلف القضبان" ينكشف الحجاب عن ثيمة من ثيمات "القلق السلبي" وتيار "ما وراء الأسطورة" في كتاب لا يقدم أي أسئلة واضحة، دعك عن إجابات، حيث أن الإجابات دليل على القطعية التي تعني محدودية الأفق وتعني أيضا إدعاء امتلاك "الحقيقة المطلقة". فالمشروع برمته كتابة مشوشة، تستعير مقولات: القيمة والأخلاق، والدين، في تغيبب الوعي بالمعني ولو نسبيا بهذه المفردات. أيضا كتابة تعيد اجترار كلمات جرت العادة على تكرارها في سنوات ما بعد يونيو، بفعل أسلوب ردة الفعل "السلبية" لما تقوم به السلطة الإسلامية. كلمات مثل: ميري، زنوجة، الخ.. تكشف عن خطاب غير مؤسس ويفتقد للرؤية، حتى في نزوحه نحو مقاومة ممارسات "النظام/السلطة" بالنص. والغريب أن الطرف الثاني يحقق استجابته لهذه "المقاومة الشكلية" فيقوم على مصادرة "الفكر" ومنع الكتاب من دخول السودان. وهي المسألة التي اشتغل عليها الكاتب (عويس) مستغلا فضاء الإنترنت "الرخيص"، ومستدرا حوله "عطف" ما يمكن تسميتهم بـ "الغوغائيون الافتراضيون"، الذين ولدتهم ثقافة العولمة دون التماس الحقيقي والواعي والجاد معها.
    هذه الحالة "العويسية" هي مثال واضح، لاستمرار فشل "النخبة السودانية" باستعارة طريقة تحليل منصور خالد، حيث تختلط الرغبة في إنتاج الكائن الحداثوي، بالرغبة في الالتزام بشروط الأمس (الأيدلوجية)، مع غياب الاستقرار الذهني الذي يخلق فرز يؤشر لبصيص من إمكانية أن تعاد قراءة الأمور بشكل أفضل.
                  

03-22-2009, 02:04 AM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكريس حالة فقدان الوعي بالذات: (Re: emadblake)


    تكريس حالة فقدان الوعي بالذات:

    قد تراكمت الأسئلة دون إجابات، ودون فتح أسئلة جديدة أكثر إبداعا في التماس مع شروط الحياة الجديدة، وعزز تيار "ما وراء الأسطورة" حالات الانفصام والتوهان، فكان الإرباك واضحا على كافة أشكال الحياة السودانية، في الداخل والخارج. فكانت الصورة العامة هي فردانية، تبحث عن خلاصها الذاتي في سبل المعاش، وخلاصها الفكري في سبل الأنا الضيقة التي ليس أمامها أي مثال أو "صورة من صور الكمال الإنساني"، فانعكس ذلك في تأزم الذوات وتفاقم التشظي وتغيبب "العقل الغائب"، والذي لم يكتشف بعد، أو يخترع.
    هذه "المشهدية" لقمة الأزمة، أشار إليها منصور خالد بـ "حالة فقدان الوعي بالذات" ، وهي حالة نتجت عن تأزم تراكمت عبره الأسئلة المكررة، وغير الخلاقة، لقرون. ذلك لأن خيار "إلى ماذا ننتمي؟" لم يكن مطروحا ذات يوم بتفكير عقلاني أو بتعبير منصور يعود فقدان الوعي بالذات إلى أننا أمة مأزومة لم تحدد بعد إلى ماذا تنتمي!..
    وبشهادة منصور فإن الجيل الجديد – من الواضح أنه الجيل الذي حقق انعتاقه الشكلي في سنوات البشير - وقع في أسر الخصام مع الأجيال التي سبقته. وهي شهادة "مجروحة" لأنها غير دقيقة من خلال التحليل السابق، فالجيل الجديد لم يقع في أي خصام، وقد رأى منصور الأمور وقيّمها من ناحية ظاهرية، حيث أن الباطن التقييم الباطني والمتريث يكشف أن ممارسات "الجديد" ما هي إلا امتداد لذات الفعل القديم في لامنطقيته وخياله غير المبرمج، ورغبته في صناعة أساطير ليس لها أي تأسيسات معرفية.
    وإذا كان منصور خالد يحمل جيله تبعة ما حدث، في كونه لعب دوره في تشكيل ثقافة "أسر الخصام" مع الجيل الجديد، فثمة جزء من "الحقيقة" والمنطق هنا، في غياب التفاعل والحراك الجدلي بين الأجيال بالطريق المباشر، ولكن برؤية ثانية فإن الخصام لم يقع أصلا، لأن التفاعل تم بطرق غير مباشرة، إذ أن السؤال الذي يطرح: كيف تأتي للجيل الجديد أن يؤسس "مقولاته" عن الحياة السودانية؟!.. هذه "المقولات" لم تنتج عن فراغ، بل عن تفاعل أصيل مع الأمس ومع الأجيال السابقة، فلا يزال "الجديد" يعيد ابتكار ذات المفردات القديمة في علاقة السياسة بالأدب، وفي إعادة إنتاج التقسيم الأرثوذكسي للحراك السياسي: يسار ويمين، مؤيد ومعارض. دون أن تتولد تيارات لها صفة "الحياد". ورغم أن تيارا جامعيا نشأ باسم "حركة المحايدين" إلا أنه لا يحمل من هذه الصفة إلا الاسم.
    يسوق منصور تحليلا "رائعا"، في إطلاق مفهوم "خميرة التطور" التي يرى أنها ضرورة من ضرورات الاستمرار، و"استعمار المستقبل"، تلك الخميرة التي هي مواز لـ "صراع الأجيال"، وهي عبارة ركيكة تكشف عن حمولة ذات بعد "ما وراء أسطوري" في التفكير. فتكريس مفاهيم كصراع، تشير إلى أن ذات المشكل قائم، حيث يكون الأكثر عقلانية وعلمية استخدام مفردة مثل "تفاعل"، بهدف دفع الحياة نحو إيجابية "استعمار المستقبل". كما أن ذات العبارة الأخيرة - هي الأخرى - تشير إلى رغبات السلطة ومندسات خطابها، في المدنية السودانية، باعتبار أن مفردة "استعمار" ذات دلالة غير إيجابية تماما، فالعلاقة بين الإنسان والزمن، لاسيما المستقبل، ليست هي علاقة استعمارية، بل علاقة جدل فاعل ومتغير يكون للإنسان فيه دور صنع منجزه في إطار ما يعرف بالزمن. ولكن بالرجوع إلى الذهنية التي تولدت عنها المفردة وتحليل تراكم تجربتها "السلطوية" فإن ذلك يكشف لماذا لا يمكن لمنصور أن يستخدم عبارة بديلة.
    ويبدو إصرار منصور على استخدام مفردة "استعمار" في قوله: "إن كان أبناء جيلنا قد استعمروا الماضي كله, فما زال بينهم من وطد العزم على استعمار المستقبل, بالرغم من أن العصر ليس هو نفس العصر, ولا المطامح هي ذات المطامح". الأمر الذي يؤكد مسألة العقلية السلطوية التي ورثها منصور – مع جيله – من إرث الرغبات السلطانية المتوارث في التاريخ السوداني. أيضا يعطي استخدامه لمفردة "مطامح" بدلا عن مفردة كـ "طموح" تصورا عن "العقل السوداني" الذي يكرس للمدنية المتسلطة، فالطموح شيء إيجابي وتفاعلي، فيما المطامح فعل "قذر" يستبعد الآخر ويستقصيه تماما ويتجرد عن الحب. ولعل استخدام مثل هذه المفردات يكشف أن منصور، يقوم بدور لاواعي في تأكيد واحدة من صفات جيله والتي بدأ الجيل الجديد يرثها كتبعة، وهي صفة الرغبة تكريس فكر الكراهية في المجتمع السوداني.
    هذا "الصراع", ساهم في خلق مرض الشتات الذهني الموازي للشتات المكاني لدى الجيل الجديد, ورسب الانكفاء على الذات، غير أن الوجه المشرق لحقيقة "الصراع" ولّد المساءلة بشأن ما هو قائم وما يفترض أن يكون بناء على وعي جديد للتاريخ, بعكس ما ساد من أسلوب تسفيه العقل وتسطحيه. ولئن كانت الصورة مجرد بذور إلا أنها حتما سوف تأتي بشكل مختلف، على المدى البعيد عن قرب، إن لم يكن قريبا.
    ورغم أن منصور خالد دافع عن الجيل الجديد, بدعوته لطرد "الاستعمار" القائم من الجيل القديم, إلا أنه وقع في إشكال الحكم المبكر على إنتاج الجيل الجديد وعلاقته الجدلية مع العالم, حيث قرر أن أبناء الجيل الجديد "ما بقي لهم ما يقتاتون غير الإحساس بالإحباط، إن لم يكن الهزيمة الداخلية، و(كلما ازددنا إصرارا) على العودة بهؤلاء إلى ماض أبغضته قلوبهم انكفأوا على ذواتهم يغوصون في بحر بلا شطان".
    هذه الطريقة في وضع الأحكام النهائية، على طريقة فرانسيس فوكوياما في نظرية "نهاية التاريخ" التي أثبتت فشلها، هي طريقة قديمة/متجددة، تميزت بها "النخبة السودانية الفاشلة"، حيث إطلاق الأحكام أسهل شيء، وحيث يرغبون دائما في صناعة أساطيرهم من خلال نفي الآخر، ليس الخصم الوقتي المباشر، وإنما الخصم البعيد الذي لم يتشكل بعد. كما أن الإصرار على استخدام ضمير (نا) في الجزء المقوس أعلاه، يدلل على المركزية العالية التي ينطلق منها كاتب النص، تلك التي تعتقد أنها تمتلك محاكمة الأمس والمستقبل، والحكم على نتاج جيل لم تكتمل تجربته بعد.
    وهكذا يساهم "المستعمرون الوطنيون" في تكريس عزلة العقل السوداني، بتغييب العقل وتعميق الأزمات في ظل عجزهم عن التفاعل الإيجابي مع ذواتهم دعك عن تفاعل مع "المستعمرون الوطنيون القادمون". وليس من المنطق القول بأن المحصلة: أنه واقع لا مناص منه. بل على العكس فالمقدمات إذا ما أحسن صياغتها تسوق إلى نتائج جيدة. وفي "خميرة التطور" ما يمكن أن يجعل المستقبل جميلا ومشرقا، وليس هذا من مجرد قبيل التفاؤل، بل بنظرة موضوعية تتطلب إعادة بناء الوعي من خلال الممكنات الراهنة، بتعديل نظم الذهن، بدلا عن هدمها تماما. لكن العقل، أي عقل لن يكون قادرا على "اختراع البدائل الواقعية" إلا من خلال فهم الذات أولا، وقبل ذلك تأكيد ورغبة جازمة على هذا الافتراض قبل أي مبتدأ تجريبي عملي.



                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de