تصريحات المستشار والصعود نحو الهاوية (١ من ٢)
أثارت التصريحات التي أدلى بها الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس السوداني في مؤتمر صحافي عقده في الرياض يوم الاثنين الماضي ونشرت «الشرق الأوسط» جزءا منه، ردود فعل واسعة دفعت السلطات السودانية إلى محاولة التنصل من التصريحات، بل وإلقاء اللوم على «الشرق الأوسط» بالقول إن التصريحات نقلت بطريقة غير دقيقة. وكانت «الشرق الأوسط» قد نقلت عن الدكتور إسماعيل قوله أثناء المؤتمر الصحافي ردا على سؤال حول طريقة تعامل الخرطوم مع الأزمة الناجمة عن مذكرة اتهام الرئيس عمر البشير «لو كنا نتعامل بالعنتريات، لما كان حال السودان اليوم مقارنة بما كان حاله من قبل. هذه الحكومة عندما جاءت إلي السلطة، الشعب السوداني كان مثل الشحاتين.. حينما جاءت هذه الحكومة لم يكن هناك سكر، الشعب السوداني كان يشرب الشاي بالجكه». لست هنا بصدد تاكيد الخبر من عدمه ، لأن تصريح المستشار مسجل وموثّق ، ولكننى اتساءل مع القارىء عن اسباب التصريح وفى اعتقادى يوجد سببين احدهما نظرى شعورى وهو يتعلق بطبيعة المنظمات العقائدية حين تبارك للعضو حقه فى التعالى على المجتمع بمجرد حصوله على بطاقة العضوية وتقدم له الادب الذى يبرر له ذلك، ومكتبة اهل الاسلام السياسى مليئة بكتب سيد قضب والمودودى وغيرها والتى تبشّر العضو بما تسميه (بجاهلية القرن العشرين) وان المجتمع على باطل مطلق وان العضو مطالب بالتغيير الجذرى العنيف حتى يعود المجتمع الى جادة الطريق ، وهى دعوة كان يعبّر عنها وزراء (الانقاذ) فى عدد من المناسبات حينما يتحدثون باستهانة واضحة عن افتراض هلاك ثلثى الشعب لا يهم ما دام قد بقى ثلثه على طريق (الهداية) التى يتقدمون صفوفها ! اما السبب الثانى الذى يدعو سيادة المستشار الى احتقار شعبه فهو سبب داخلى لاشعورى يرتبط باحساسه بدنو نهاية نظامه وان التأييد الذى يحشدون له فى اوساط الشعب لن يمكّنهم من البقاء فى السلطة، وهو يعلم ان عدد كبير ممن يقف ضد قرار المحكمة الجنائية، انما يفعل ذلك اما بسبب القمع والارهاب الذى تمارسه الحكومة والذى عبّر عن نفسه من خلال تصريحات مدير عام جهاز الامن والمخابرات ، او الممارسات العملية لميشيات امن المؤتمر الوطنى والتى كان اخرها اعتداء عدد منهم فى جامعة الخرطوم على حلقة نقاش كانت تديرها حركة حق ، حيث تمّ الاعتداء على الطلاب واقتيد بعضهم الى اقبية الامن لتعذيبهم . وقد رايت عدد من الصور فى الشيكة العنكبوتية للطالب تاج السر وبجسمه عدد من الكدمات الواضحة بفعل الضرب الذى تعرّض له هناك. كما ان هناك شواهد عديدة على استخدام العنق فى وجه من اعلن تاييده لقرار المحكمة الجنائية القاضى بتوقيف البشير، فى عدد من الجامعات السودانية. وربما كان التحرك الجماهيرى بسبب المعلومات المغلوطة التى ظلت تقدمها الحكومة فى ظروف الاحتكار الاعلامى وسياط قانون الرقابة القبلية على الصحف ، وفى تقديرى انه تأييد مؤقت مرتبط بمخاوف معينة وليس من بينها على الطلاق اكذوبة الولاء لنظام المؤتمر الوطنى الحاكم. خلاصة القول ان التصريحات جاءت تعبّر عن احساس المستشار بأن التأييد الشعبى العفوى الذى ركزّوا عليه فى مواجهة قرار الجنائية لن يصمد كثيرا امام القوى الدولية المنظمة التى تدعم قرار المحكمة، وان دخول القضية ردهات المحكمة يعتبر تحوّلا نوعيا فيها - قضية التحقيق فى مذابح دارفور- وان مجلس الامن الذى يعبّر عن الشق السياسى فى القضية لا يستطيع ان يفعل اكثر من التأجيل . اذن فالادانة قد اخذت طابعا (اخلاقيا) امام كل الامم والشعوب من استراليا وجنوب الباسيفيك وحتى جذر الامير ادوارد فى المحيط الاطلسى الشمالى . وربما كان وصف الرجل لبنات وابناء السودان بانهم كانوا كالشحاتين لولا (ثورة الانقاذ) التى انقذتهم من (واقع عالم الشحاتة) يعكس عدم ثقة فى ادّعاءات النظام المتكررة حول السند الشعبى الذى يحظى به الرئيس او (مدى حب الناس له)، ولذلك جاءت تصريحاته كنوع من (المن) وعلى سبيل التذكير بذلك الفضل المزيف.. تجدنى عزيزى القارىء مثلك ولاسباب كثيرة جدا اختلف مع تصريحات المستشار، و اول تلك الاسباب كونها و ببساطة غير صحيحة اذ من الثابت ان الانقاذ هى اول حكومة وطنية بعد الاستقلال كانت قد مارست التشريد الجماعى من الخدمة المدنية باسم الصالح العام ، ومارست التعذيب الجماعى والقتل احيانا فى بيوت الاشباح ، واحترفت القتل الجماعى فى محارق جبال النوبة والجنوب ، واخيرا فى دارفور. وان كل العالم كان قد شهد تدفق مئات الالاف من اللاجئين على دول العالم لاول مرّة فى تاريخ السودان كان على عهد الانقاذ حيث اضطّر البعض الى الهجرة حتى الى اسرائيل !!! اما عن القضاء السودانى وعن عدم تاهيله للتحقيق فى مظالم دارفور فهى واضحة بعد ان (سلبته) الانقاذ اىّ استقلالية ممكنة وحولته الى مطبل للسلطة التنفيذية يسبح بحمدها، ودونكم فقط التماطل فى التحقيق مع احمد هارون وكشيب ، ودونكم رفض المحكمة الدستورية للتظلّم الذى كان قد رفعه دكتور فاروق محمد ابراهيم النور حول قضية تعذيبه فى بيوت الاشباح ، حين افتت المحكمة بسقوط حق الدكتور فى التقاضى بسبب التقادم!!!! ولذلك دعنى اندهش معك ايها القارىء ، وان اتساءل مثلك : فى اىّ عالم يعيش هذا المستشار؟
اواصل فى سرد حكاية فقدان النظام التدريجى (للشرعية) وسقوطه المؤكّد ، مستخدما نموذجى مايكل مان فى كتابه الشهير (مصادر القوى الاجتماعية)، وامانويل ولشتاين الذى كان قد صدر فى العام 1989 تحت اسم (النظام العالمى الحديث).
(عدل بواسطة طلعت الطيب on 03-19-2009, 08:11 PM) (عدل بواسطة طلعت الطيب on 03-19-2009, 08:14 PM)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
طلعت الطيب
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست