|
|
 تج تجي ... يافي الصيده يافي سيده
|
كان العمر وقتها يقترب من الثلاثة والعشرين ربيعا ولو كان يجوز لي الاحتفال باليوبيل الذهبي لفعلت (ولكنها اقل من ربع قرن تعلمت فيه الكثير حتى رسا القارب في شط عامر بالزهو.. لقد ولجت العسكرية من باب السياسة وخرجت من ذات الباب ولم يمض على يوم من عمري ندمت فيه على ما اقبلت عليه.. جئت بمحض ارادتي.. وتركت دراستي الجامعية.. وعلم التاريخ الذي لم يفارقني لحظة.. قبل اختياري له اكاديمياً وحتى الآن.. كان يعيرني الطلبة (السنيور) بمناداتي (المستجد بتاع ابا دماك).. ولم أعبأ لهم.. لأن اختياري للطريق الذي مضى بي لأبادماك واولوس واتحاد الكتاب منذ ميلاده الاول والثاني لم يكن غير ما كتب في لوحي المحفوظ.. وسأمضي في نفس الطريق مؤمناً برسالتي ومشروعي الذي نذرت العمر لأجله.. هي متعة لا تضاهى وان تحقق ما اردت هو غاية لا يمكن وصف متعة الاحساس بها..
مثل انجليزي يقول To be the thing you won to be that is success
لم اكن انشد اكثر ما اخترت طائعاً للمضي فيه.. لا ما لا منيت نفسي بامتلاكه.. ولا كرسي تمنيت ان اجلس عليه يلوثني بروث الثعالب.. واخترت طريق المجد ولم يدر بخلدي ما كان يدفع بضباط الجيش الفيكتوري للمضي باختيارهم الى ما وراء البحار بحثاً عن المجد.. ولم يمض علي عام واحد حتى اوصدت الباب الذي ولجت منه واخترت طريقا بعده يقود الى الوطن كلما سألوني عماذا جنيت من اليونيفورم.. لا أحتاج لتفكير كي أرد يكفي ما ما تحصلت عليه من (ثقافة الوطن) تكاد قدماي ان تتشرف بوطء نسبة كبيرة من ترابه وهي قيمة وثقافة لا يضاهيها الجلوس في قاعات المحاضرات وطاولات المكتبات وحذلقة التكنوقراط.
هذه السنوات عمقت في (حب هذا الوطن) (والوطنية) التي لا تخضع لحسابات الساسة والانقلابيين. كان انقلاب (الشمس في كبد السماء) تجربة باعدت بيني وبين السياسة فاتجهت ميمماً شطر الوطن.. ووجه فقط بعد اثنين وعشرين عاما فارقت المؤسسة التي احببت مكرها وغير نادم وفي خاطري تلك المقولة (لا تسأل نفسك ماذا قدم الوطن اليك ولكن سائلها ماذا قدمت انت للوطن)
وما قدمته كان مقنعاً بالنسبة لي.. وخرجت راضيا وغير مرضي.. لان في لحظة واحدة فقدت بذتي العسكرية.. ووظيفة ملحق عسكري التي يصبو اليها الجميع ونلتها عن جدارة.. وكانت احد الاسباب التي ابعدتني من المؤسسة التي احببت.. وصادر احد ابناء دفعتي المتنفذين ممتلكاتي. كما صادرت الدولة حريتي في موقف لازال عالقا في نفوس اسرتي وصديقي الذي شهد مشهد الاعتقال الاول عفواً هي شجون خاصة ولكنها لا تبارحني كلما جلست الى نفسي في لحظة جرد الحساب التي لا يغشاها الندم بكل ما فيها من مرارات.. وتبقى تلك السنوات زادا يرافقي حتى في مهنة المتاعب التي فارقتها قبل اربعين عاماً بعد انضمامني للمؤسسة العسكرية وعدت اليها (مأموراً) بعد عشر سنوات من فراق اردته بائنا ولكن ادين بالفضل لصديقي وكمنداني العميد (وقتها) مصطفى الزين صغيرون والمقدم (وقتها) صديقي د. محمود قلندر.
كانت اولى المحطات (الشجرة).. فترة ملفوفة بلون الدماء ورائحة الموت.. التوثيق لهذه الفترة واجب يميله الضمير.. وكنا شهوداً على ما حدث.. حتى محاكمة عبد الخالق كنت حضوراً مع اربعة فقط من زملائي جئت الى القاعة من خلف قضبان الأسر ورويت جزءا من احداثها للدكتور حسن الجزولي لعلها تفيده في (عنف البادية).. المحطة التالية كانت شندي الطمأننية والاهل والعشيرة ومنها شددت رحالي الى دارفور.. كتبت من قبل في مقدمة لابد منها (كانت فترة كلما تذكرتها استدعيت الشباب بايامه الزاهيات.. حينها كان الربع آمناً.. مدوزناً بحفيف الأشجار (الفرايحي) الذي يحلو عندما يكون الانسان آمناً (كبم) موطن الشهد والخيول الاصيلة.. (مركندي) والجبل الشامخ على تخومها يعيدني الى (التاكا) وملامحه المنغرزة في حواف الطفولة.. وتطوف بالذكرة بحيرة (انزيلي) حيث تستلقي قرية (ام دخن) وادعة على ضفافها الشجيرة.. لوحة محتشدة بالتفاصيل لم تفارق خيالي منذ ثمانية وثلاثين عاماً.. هناك عرفت كيف ارقص الكسوق مع اهلنا الفور الوادعين وطالما تقافزت مع اهلنا المساليت عندما يشتد نباح طبولهم وهم يرقصون (أنجكتك) و(ام جليلة).. وحفظت (ودائع) اهلنا الاعراب من بني هلبة وبني حسين وغيرهم ينصبون فرقانهم بالقرب منا طلباً للطمأنينة.
وصار قوز (سري) مقصداً لكل الذين يطلبون الامن في منطقة حاول (حسين حبري) ان يجعل منها موطئ قدم ولكن تعليمات القيادة بالخرطوم كانت واضحة وقاطعة فهجرها مع فلول قواته بعد معركة دامية في قرية (موتور) فقد فيها اكثر من اربعين من رجاله الذين ماتوا ببسالة فوق مدفع (برن) فانسحب وهو يلعق جراحه داخل حدود بلاده التي كان يحكمها (تمبل باي) ويحرس حدودها الجيش (الفرنساوي) ونعمنا بعدها بالأمان والطمأنينة والاستقرار عاما كاملا كان يكدر صفوه من حين الى اخر همباتي يحمل بندقية يتجول بين قرى (بندسي) و(مكجر) و(كابار) يأتي الى القرى نهاراً جهاراً ويطلب من النساء ان يجلبن له العصيدة والبقنية ويشد رحاله دون ان يؤذى احداً.. سلاحه بندقية تخيلتها فرنسية الصنع لان الجيش الفرنسي على مرمى حجر او بلجيكية الصنع تسللت عبر (ام دافوق).. وبعد مجهود كبير استطعنا القاء القبض عليه وفوجئت بان البندقية التي كدرت صفو الامن في المنطقة كانت صناعة محلية يصنعها الحدادون من ضراع دركسون عربة قديمة يطلق عليها السكان اسم (تج تجي) ويتندرون عليها بقولهم (تج تجي).. يا في سيده يا في الصيدة). بمعنى انها يمكن ان تصيب راميها وذلك كناية عن عدم دقتها.. هذه المنطقة التي كدرت صفوها (تج تجي) هي الآن ترسانة سلاح تمثل قلب الرعب الدارفوري.. وحتى نلتقي..
)
|
|
 
|
|
|
|
أحمد طه
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست