دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن ...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 05:51 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-06-2009, 03:00 AM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن ...


    دويــــــــلات القـبيـــلة فـي الســــودان
    الحركة الإسـلامية ومسئـولية الإنهيـار




    الجزء الأول
    الأبعاد النظرية
    مدخل:
    ما نحن بصدده هو محاولة تقييم عامة للحالة السودانية والفاعلين على مسرحها السياسي، ورؤية أبعاد الأزمة الوطنية والخيارات الممكنة. وفي هذا المسار العام، مدخلنا خلفية نظرية تلقي بصيص من الضوء على مكوّنات المجتمع السوداني، درجة تطوره وتأثير الآيديولوجيا الدينية. الهدف هو محاولة إيجاد تفسيرات أقرب ما تكون إلى المعقولية لما يحدث على الساحة، آملين أن تسهم بدرجة (ما) في صياغة حلول لمأزق "المشروع الوطني" في السودان، خاصة في المرحلة الدقيقة التي تمر بها الدولة والمجتمع معاً، والتي تشير كثير من القرائن إلى أن مصير بقائها ـ أي الدولة ـ موحدة كما ورثتها البنية السياسية الوطنية عشية الإستقلال، أصبح أمراً مشكوكاً فيه، تأسيساً على أرضية الحرب الأهلية طويلة الأمد التي عصفت بها ومزقت نسيجها الإجتماعي. إن السودان يمر بأزمة حقيقية ويواجه شبح التمزق، هذا الأمر لم يعد خافياً على أحد، ويتردد صداه في كل موقع.

    لقد تصدر فهم بأن إتفاقية السلام الشامل الـ CPA وما تلاها من إتفاقيات كان مقدراً لها أن تكون أدوات لتفكيك قبضة النظام والحد من شموليته كخطوة أولية نحو تحقيق التحول الديمقراطي، ووحدة السودان على أسس جديدة. وهو التصور الذي رسخّه الزعيم الراحل د. جون قرنق، عبر حوارات مطولة، إستطاع بها من جهة ـ وإلى حد كبير ـ إقناع فصائل قوى السودان الجديد، وتقليل مخاوف القوى التقليدية من جهة أخرى.

    لذلك؛ فإن الأمر يتطلب دراسة عميقة لتحليل عناصر الأزمة، ولفت الإنتباه إلى خطورة هذه المرحلة. لأن مايجري في السودان الآن على مختلف الأصعدة، تلعب فيه الدور المركزي، علاقات القربي، روابط الدم، والتكتلات القبلية/العشائرية، حتى داخل أروقة حركات الإسلام السياسي الحاكمة والمعارضة، والتي أصبحت بحق "صراعات قبائل إسلامية" ، أكثر من كونها صراعات بين رؤى متباينة. وهو مايضع السودان اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على إستقلاله، على أعتاب التشظي والتحوّل لدويلات قبيلة بمعنى الكلمة(!).

    إن ذلك لايجد أساسه في التقلّبات التي تعصف بسماء الأحوال السياسية في السودان، والتي يتم ردها في الكثير من التفسيرات إلى الإختلال في قسمة الثروة والسلطة، فهي وعلى الرغم من أهميتها، ليست سوى تجلي للأزمة العميقة الكائنة في أسس التفكير التي قادت ووجّهت ـ ولا زالت ـ العملية السياسية. إضافة إلى تأثير الثقافة السائدة، ودرجة تطور المجتمع. هذه العوامل مجتمعة مثلت القاعدة الأساسية الذي إرتكزت عليها ـ ولا زالت ـ الممارسة السياسية في السودان، فكان طبيعياً أن تندلع النزاعات هنا وهناك بحثاً عن إعادة صياغة للدولة والمجتمع بما يتوافق مع واقع التعدد، ويحقق درجة مقبولة من التعايش والإستقرار بين الكيانات الإجتماعية المختلفة في السودان.

    لذلك؛ نجد إن إستيلاء حركات الإسلام السياسي على السلطة في 1989 ومسيرتها المستمرة في الحكم حتى اليوم، علامة فارقة في تاريخ السودان السياسي المعاصر، لأنها دفعت بالأزمة إلى نهاياتها القصوي، وكشفت حقيقة التناقض التاريخي وبُعد المسافة، بين طرق التفكير والآليات التي مارست الفعل السياسي وحكمت في السودان، وبين الواقع الموضوعي فيه، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى الإقصاء والتهميش، والنزاعات الدموية، وأوصلت الدولة إلى نقطة اللاعودة في مسار الإنفجار الشامل والتشظي.

    خلفية نظرية:
    درجة تطور المجتمع:
    من المهم البدء بمعرفة درجة تطور المجتمع في السودان كإحدى المداخل لرؤية أبعاد الأزمة، لأن طبيعة العلاقات والروابط السياسية في أي مجتمع تتحدد بمدى درجة تطوره. ومن ثم تأتي مناقشة دور "الشريحة المسيطرة" فيه، كخطوة تعكس طبيعة وأبعاد الصراع في المجتمع. والمعني بالشريحة المسيطرة، تلك التي ظلت مهيمنة وممسكة بمقاليد السلطة والنفوذ، وهي في الحالة التي ندرسها هنا (حاملي الوعي بالثقافة العربية)، وتخصيصاً مجتمع الوسط في السودان. وتتجلي هذه السيطرة في أقصى صورها في تيار الحركة الإسلامية الحاكم اليوم بكل تفريعاته، بحكم إنعدام الفارق الجوهري بين الحركات أو التيارات التي تصدر في رأيها من منطلق إسلامي مهما كانت تدرجات ألوانه، لأنه في نهاية التحليل إختلاف كمي يعكس قرب أو بعد هذه المنظومة أو تلك من حافة التطرّف، لكنه بأي حال ليس نوعياً قائماً على رؤية ومنهجية مصادمة لأسس تفكير الإسلام المدرسي.

    يُطلق على المجتمعات التي لم تتطور بعد إلى مرحلة الرأسمالية، بالمجتمعات "السابقة للرأسمالية"، Pre-Capitalistic Societies”"، والتي تقع دول العالم الثالث في أفريقيا وآسيا ضمن نطاقها. ويأتي هذا التصنيف نتيجة للكثير من الدراسات التي قام بها بعض الإشتراكيين على ظاهرة مايسمى بنمط الإنتاج الآسيويAsian Mode of Production . وينطلق ريجس دوبري في قراءته لهذه المجتمعات من مناقشته للعلاقة بين الروابط السياسية وما يؤسسها في المجتمع، فيقرر فيها خلافاً للماركسية "الرسمية":

    "... إن العلاقات السياسية ليست إنعكاساً لقاعدة إقتصادية، ولا هي "الإقتصاد المكثف" كما يقول لينين، ولا هي تجد تفسيرها في الأشكال التي تظهر فيها نفسها بنفسها. وتفسير هذه المقولة هي أن الظاهرة السياسية ـ في مثل هذه المجتمعات ـ لا يؤسسها وعي الناس، آراؤهم وطموحاتهم، ولا ما يؤسس هذا الوعي نفسه من علاقات إجتماعية ومصالح طبقية، بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه إسم "اللاشعور السياسي" والذي هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطاً لايقاوم، علاقات من نوع العلاقات القبلية والعشائرية والعلاقات الطائفية والعلاقات المذهبية والحزبية الضيقة، التي تستمد قوتها المادية الضاغطة القسرية، مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر ما يقوم بينهم، بفعل العلاقات نفسها من نعرة تناصر أو فرقة وتنافر، وهذه البنية من العلاقات اللاشعورية تبقى قائمة فاعلة رغم ما قد تتعرض له البنية الفوقية في المجتمع من تغييرات نتيجة التطور الذي يحدث للبنية التحتية المقابلة لها، فهي ليست جزءاً من تلك، وبالتالي فهي لا تخضع لهذه بل لها وجودها الخاص المستقل عن البنيتين معاً: فالنعرة القبلية العشائرية والتعصب الطائفي والطموح إلى الحصول على المغانم، ظواهر تبقى نشطة أو كامنة، في كيان الجماعات، سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي..." .

    هذه مقولة مفتاحية، وبالتالي، واضعين في ذهننا أن دوبري كان حينذاك يكتب وهو يفكر في المجتمع الأوروبي الذي أصبحت فيه العلاقات الإجتماعية التي من نوع العلاقات العشائرية، تحتل مكاناً يقع فعلاً خلف الموقع الذي تحتله العلاقات الإقتصادية المتطورة، (علاقات الإنتاج)، إلا أنه وفي المجتمعات السابقة للرأسمالية قديمها وحديثها (والتي من ضمنها بالطبع المجتمع في السودان) فالأمر يكاد يكون العكس من ذلك تماماً. فالعلاقات الإجتماعية ذات الطابع العشائري لا تزال تحتل موقعاً أساسياً وصريحاً في الحياة السياسية. لذالك؛ فإذا كانت وظيفة اللاشعور السياسي لدي دوبري عند دراسته للمجتمع الأوروبي هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي، فإن وظيفته عند دراسة المجتمعات السابقة للرأسمالية هي إبراز ماهو سياسي في السلوك الديني والعشائري.

    من هذا المدخل، واضح أن هناك تمييز في العلاقات السياسية بين تلك التي تنشأ وتقوم في المجتمعات الرأسمالية، وتلك السابقة لها، ففي الأولى تقوم هذه العلاقات على أساس من التمايز الطبقي الواضح، وهو ما يعني؛ أن الصراع في هذه المجتمعات تحركه المصالح الإقتصادية المرتبطة بالطبقة الإجتماعية (برجوازية، رأسمالية، طبقة عمال)، بينما في المجتمعات السابقة للرأسمالية نجد الصراع تحركه عوامل قد تكون دينية، طائفية وغيرها.

    عليه؛ نحن هنا إزاء ملاحظة جد هامة ومفصلية فيما يتعلق ببحثنا عن أزمة الممارسة السياسية ونائجها في السودان، لأن أسس هذا التفكير والممارسة المرتبطة به، تاريخياً موروثة من الثقافة الإسلامية العربية، فهذه الثقافة دخلت السودان بفترة قبل حملة عبدالله بن أبي السرح، وتقنن وجودها مادياً ومعنوياً من بعدها، وقد تبع ذلك تحوّلات عميقة في المجتمع، إذ أصبح القادمين الجدد من "الأعراب" هم ملاك الأرض والسادة عبر المصاهرة والنسب، الشئ الذي حقق لهم السيطرة على المجتمع والدولة عبر الثقافة، الدين وسلسلة الدم.

    إذاً وبناءاً على مقولة دوبري فهو مجتمع سابق للرأسمالية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لأن هذه العلاقات لم تنتهي. وما يثبت ذلك سيادة العلاقات العشائرية فيه والتي مازالت حيّة إلى يومنا هذا. ويمضي كاتب آخر في مزيد من التوضيح:
    "..... أما في العهد الإسلامي، فقد دخلت إلى السودان الكيانات والثقافة العربية الإسلامية على شاكلة (الاستعمار الاستيطاني)، وظلت تكتسب لها مواقع فيه ضمن كياناته وثقافاته المتعددة. وهي في ذلك مسنودة بخلفيتها الإمبراطورية من الناحية المادية، ومن الناحية المعنوية بما يعرف بـ(المد الحضاري) العربي الإسلامي، الذي من أهدافه بالطبع إعادة إنتاج الآخر داخل (الهوية) الإسلاموعربية أو على الأقل إلحاقه بسياقها الحضاري. هذا النهج الاستتباعي قد يبدو عادياً ومفهوماً ومعقولاً في إطاره العام في ذلك الوقت، ولكن إستمراره بعد إنهيار الحضارة العربية الإسلامية أصبح إشكالياً بالإضافة لإشكاليات أخرى في بنية ومحددات الثقافة العربية الإسلامية نفسها وكيانها الاجتماعي في السودان، مضافاً إلى ذلك الملابسات التاريخية التي جعلت من هذه الثقافة (المأزومة) (مركزية) في الوضعية التاريخية للدولة السودانية. وقد قامت سيطرة الكيان الإسلاموعروبي في السودان على مكاينزمات عديدة أهمها:
    1. البطرياركية الأبوية القائمة على التشدد العرقي: فعبر ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال في معادلة التزاوج الأحادية الاتجاه، التي يأخذ فيها الكيان العربي ولا يعطي، تم طبع أجزاء عديدة من شمال وأواسط السودان بالطابع العربي عرقياً وثقافياً، وعبر الأسلمة ـ أي التحرك عبر المقدس ـ تم ويتم التوسع. ويقوم ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال (الاستعراب العرقي/الثقافي) على تزوج الرجال العرب بنساء (الآخرين)، وتكون الذرية وفق البطريركية الأبوية (عربية) ولا يعترف بمكوّنها الآخر. البنات يتزوجن حصرياً في الكيان العروبي، أما الأبناء الذكور فيواصلون طريق الأسلاف، وهكذا بمرور الزمن ينمو الكيان العربي على حساب الكيانات الأخرى التي تتآكل في نهاية المطاف. أما الأسلمة، فعبر الدعاة ـ الفكي، والطريقة الصوفية ومؤسسات التعليم الحديثة لاحقا ـ يدخل الناس الإسلام، وهو بالطبع يتضمن "أيديولوجيا العروبة" خاصة في تفسيراته السنية ومسوغاته لعُلوية المؤمن والعربي وتشريعاته في حصر زواج المسلمة. وتلقائياً يصبح العرب (أو بالحد الأدنى يتم تصويرهم على أنهم) أعلى شأنا عرقياً باعتبارهم على الأقل "حاملي الرسالة الأصليين"، وهكذا يواصل الكيان العربي تغلغله. وتبقى المشكلة فيما يولده هذا النهج من وقائع الإستعلاء العرقي والإجتماعي، خاصة في وجود التعددية والتباين العرقي والثقافي في ظل هيمنة الكيان الإسلاموعروبي على جهاز الدولة.
    2. نشاط الاقتصاد الريعي العشائري (الطفيلي): ومعروف تاريخياً عن العرب والثقافة العربية ومن ثم الثقافة الإسلاموعربية إحتقار المهن والحرف والعمل اليدوي باعتباره عمل "العبيد أو الموالي". فحتى القطاع الحضري ـ غير الرعوي ـ يتبنى هذا النمط من الاقتصاد القائم على استثمار السلطة والتجارة التي لا تعنى بالإنتاج. ومن ثم التمسك بالجوهر العبودي في تقسيم العمل. وهذا النمط يتطلب بالطبع فرض (هويات) جزئية في المجتمع أي سادة (أحرار) وعبيد.
    3. النزعة الاستبدادية المتشددة: فبسبب نظام التراتبية الاجتماعية القائمة على التشدد العرقي، ونمط الاقتصاد الطفيلي الذي يستلزم ليس فقط امتلاك السلطة بل الاستبداد بها، فقد كان وما يزال وعي السلطة في هذه الثقافة وعياً استبدادياً، والاستبداد لزيم الإقصاء، والإقصاء يتطلب في الواقع فرض هويات جزئية حتى في المجتمع الواحد لتحجيم وعي التنافس على السلطة مثل ما كان يوضع من أحاديث لتبرير ذلك كـ(الأئمة من قريش)..." .

    وبالنظر إلى تركيبة المجتمع السوداني نجدها تتكون من قبائل وعشائر(تحدد معظم المصادر مايقرب من الـ 500 مجموعة إثنية). وقد ظل مجتمع الوسط (= المركز)، هو المسيّطر تاريخياً في السودان. فغالبية سكان الوسط هم من قوميات الشمال النيلي التي هاجرت إليه منذ فترة طويلة وتزاوجت مع سكانه الأصليين، إنضمت إليها مجموعات أخري من غرب السودان أثناء وبعد المهدية. كونت هذه الهجرات ومن بعدها الإستعمار، مجتمعات مدن الوسط، فعرفنا نموذج أمدرمان، والذي يعتقد البعض إنه يمثل التمازج والإندماج، غير أنه في واقع الأمر لم يكن إلا معمل كبير لإعادة إنتاج الثقافة العربية في ثوب جديد.

    صنعت ثقافة أمدرمان ـ تقريباً ـ كل أنواع الفنون والقّيم والأخلاق التي مثلت فيما بعد الثقافة الرسمية للدولة، والتي كانت ـ ومازالت ـ على صعيد الوعي الجمعي ومخيالها الإجتماعي، تحمل جينات وقّيم وأخلاق الثقافة العربية شكلاً ومضموناً. في المقابل نجد أن قاعدة المجتمع الأمدرماني "الأنموذج" به تقسيمات تشرح نفسها بنفسها، فأسماء الأحياء تعبّر عن ساكنيها ومكانتهم في سلم التراتبية الإجتماعية، فعلى سبيل المثال الموردة كان يقطنها النازحين من الأطراف والذين تنحدر أصولهم إلى النوبة والفور، المساليت والفونج أو من يسمونهم في ذلك الوقت بالمنبتين(=الغير معروفة أصولهم)، ويسكن الملازمين وبيت المال والمسالمة وحي الأمراء والعباسية، إرستقراطية منحدرة إما من عرب الشمال، أو ما تبقى من إرستقراطية المهدية والتركية . هذا على صعيد التركيب الإثني، وكما قلنا فإن الثقافة السائدة هي الثقافة العربية. وبالرغم من هذا التمازج الذي توّلد مع الأيام، والذي وبدرجة من الدرجات طغى على التباين الإثني مع تطور الحياة الإقتصادية والمعيشية لأهل المدينة، إلا أنه ظل هناك ثابتان:

    الأول: سيادة الثقافة العربية الإسلامية، لا وبل إنتشارها وحلولها تدريجياً محل الثقافات الأصلية للمهاجرين الذي أتوا من أطراف السودان المختلفة، والذين وبمرور الوقت أصبحوا جزءاً لا يتجزاء من هذا الوسط بقيمه وثقافته وتقاليده الجديدة (أي إعادة إنتاجهم بمرور الوقت). وما كان ذلك ليتحقق لولا آلة السلطة.

    الثاني: بالرغم من هذا التمازج الذي تم عبر إعادة الإنتاج، غير أن التقسيم العشائري ظل حياً في النفوس في شكل مسكوت عنه، يحدد التراتبيات الإجتماعية. فالموردة هي الموردة، وهي "القرارقير" يتناسلون في بعضهم البعض جيلاً بعد جيل. وهذا المسكوت عنه موجود في اللاشعور بأشكال مختلفة، ويظهر هنا وهناك، ويحدد التراتبية الإجتماعية كما قلنا، أو كما تقول العرب (منازل الناس).

    والنماذج لهذه التراتبيات ممتدة عبر السودان، وتكاد تكون في كل مدنه المختلفة، فلا تخلوا مدينة من حي إسمه الموردة أو ما يشابهه في الإسم ... الديوم والكنابي(الديوم جمع ديم، والكنابي جمع كنبو، وهو الحي أو التجمعات السكانية التي يقطنها عمال الزراعة أو النازحين والذين غالباً هم من غرب السودان وجنوبه). وكلها تحمل معها وصمة إنحطاط في السلم الإجتماعي، تقطع الطريق بينهم وبين الوصول إلى مواقع السلطة ومصادر الثروة. تؤكد على ذلك إحصائية الذين تولوا زمام الحكم في السودان. فكل الذين حكموا سواءاً عن طريق الديمقراطية أو الإنقلابات العسكرية هم من أبناء الشمال النيلي الممتد من الخرطوم إلى حلفا أو ما دونها. والذين وعندما نقارنهم ببقية أهل السودان فهم يمثلون أقلية بمعنى الكلمة، إذاً أين كان الباقين من هذه السلطة، وكيف إستطاعت هذه الأقلية أن تحكم وطوال تلك الفترة(؟!). إنها الآيديولوجيا (الإسلامية العربية) في صورتها المجردة، وآيديولوجيا "أولاد البلد" في صورتها المنتجة في أمدرمان. والتي يتم بها وعبرها تجييش جماهير الهامش وإعادة إنتاجهم ليخدموا هذه الأقلية، مرة تأتي عبر الإنتماءات الطائفية، أو التيارات القومية العروبية أو تيارات الإسلام السياسي ـ وكل من عاش وترعرع في مدن السودان وأريافه على وجه التحديد، يدرك مدي السلطة النافذة التي كانت للطائفية آنذاك، فمن ليس أنصارياً فهو ختمي، وتروي القصص والروايات عن الكيفية التي كان يسيطر بها أقطاب الطائفية وبإسم الدين وآلية الإقتصاد، على رقاب البسطاء وحتى المتعلمين منهم. والتي غالباً ماتنتهي إلى الإستحواذ على السلطة والثروة. مثال الطرفة التي تروى في الشمالية بأن السيد إذا مشى بقدميه في أرض فهي تعتبر ملكه(!)، مما أُضطر أحد المزارعين البسطاء ـ عندما رأي "السيد" يتجول في مزرعته ــ إلى حمله على كتفيه حتى لا تطأ قدمه أرضه وتؤول ملكيتها إليه. وقصص شبيهة أخرى. لذلك ليس من المستغرب إن نجد إن كل الذين حكموا كانوا من أبناء الشريط النيلي، فالبسطاء لم يكون سوى سلالم يرتقي بها السادة إلى أعلى مراتب السلطان.

    عموماً؛ ومن زاوية منهجية، فإن أي وضعية تاريخية تجتمع فيها كيانات ماقبل برجوازية/ما قبل رأسمالية متنوعة ثقافياً، ومتمايزة عرقياً، ومختلفة دينياً، ومتفاوتة تاريخياً، في شكل دولة حديثة، يقود الإفتراض دائماً إلى أنه غالباً ما تقوم بعض هذه الكيانات بالسيطرة على جهاز الدولة، وتستثمره إقصائياً على مستويات عديدة، وتتحول المحددات الثقافية من لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة أيديولوجية، ويتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل، والديني مع السياسي، والمذهبي واللغوي مع الإجتماعي، وتكون النتيجة وضعية تاريخية مأزومة، يكون الصراع فيها صراعاً شاملاً، صراع هويات ضد هويات، صراع ثوابت ومتحولات عند كيان إجتماعي (ما) ضد ثوابت ومتحولات عند كيان آخر، بمعني؛ صراع كل ضد كل .

    عليه؛ يمكن مقاربة هذه الوضعية بما خلص إليه ريجس دوبري بـ:"أن النعرة القبلية العشائرية والتعصّب الطائفي والطموح إلى الحصول على المغانم ظواهر تبقى نشطة أو كامنة، في كيان الجماعات سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي"(!) وأن هذه العملية تتم من خلال إستغلال الأرض كإحدى عوامل الإنتاج، وعلاقات القرابة والزواج والتحالفات القبلية، للسيطرة على النظم السياسية والإقتصادية عبر إستغلال الأرض والذين يعيشون عليها لمنفعتها الخاصة. والنتيجة أنه وفي السودان، وتبعاً لهذا السلوك تكونت طبقة مترفة جالسة على قمة الهرم الإجتماعي، تسيطر على من يخدمون الأرض" . وزاد الوضع تعقيداً أن أنظمة الحكم الوطنية المتعاقبة في السودان عملت على توظيف هياكل الدولة الإدارية [الموروثة من الإستعمار] لإضعاف سيطرة السكان المحليين والسلطات المحلية على الموارد. واستخدمت الهوية والأيديولوجيا (وخصوصاً القومية العربية والإسلام السياسي) لحشد الدعم للتعويض عن إخفاقات سياسة الدولة في الحكم وفي التنمية. فكانت نتيجة ذلك هي التخلف والاستبعاد والنزاعات والعنف" .

    ومن بعد، يبدو إن الدوافع لم تتخطي قط، أهداف الإستحواذ على السلطة والمال عبر تحريك الآيديولوجيا الدينية وإستغلال العلاقات القبيلة والعشائرية، وهو مايدفع إلى أن البحث في مثل هذه المجتمعات ـ والتي من بينها السودان كما ذكرنا سابقاً ـ إلى أن يكون عن ما هو سياسي متخفّي خلف السلوك الديني والعشائري. بمعنى؛ البحث عن أهداف الإستحواذ على السلطة الثروة التي تقبع خلف الخطابات الدينية والسلوك العشائري للوسط في السودان، والتي نتج عنها هذا التهميش وإزدياد حدته مع تيارات الإسلام السياسي. ذلك لأن السياسة ظلت تمارس بإسم الدين حتى يومنا هذا، ويتم تاطيرها بالنظم والمرجعيات المعرفية الدينية بأشكالها المختلفة. صحيح أن التجربة العملية أفرزت حالة من التصادم في الوعي الجمعي للناس بين حقيقة أن هذه الظاهرة تمثل إستغلالاً للدين في السياسة، مع الأديان في جانبها كإعتقاد وطقوس تربط الفرد بإله متعالي، مما وضع مسائل مثل، الفصل بين الدين والدولة/السياسة، والهوية، كقضايا حدّية في أي رؤية لتطور السودان مستقبلاً.

    إن السؤال الملح هل حدث جديد على طبيعة هذه العلاقات عندما جاءت تيارات الإسلام السياسي(؟). يفرض هذا السؤال نفسه بإعتبار أن هذه الحركات تدعي أنها تيارات حداثة في حقل الإسلام السني، مرتكزة أطروحات ومنظور للدولة ومؤسسة حزبية معاصرة، فهل هي فعلاً أحدثت فرقاً في المجتمع(؟؟)، إن الواقع يكذّب ذلك، بل ربما العكس هو الصحيح، إذ أن وضعية السودان التي وصفناها كمجتمع ماقبل رأسمالي يقوم على العلاقات الإثنية والعشائرية إزدادت حدة وتخلفاً في عهد تيارات الإسلام السياسي، تشهد على ذلك طبيعة الصراعات المسلحة التي تدور في الساحة الآن، سواءاً على صعيد حدة الإستقطاب الديني أو العشائري على مستوى الخطاب، أو النفي والإقصاء الذي وصل حد التطهير العرقي على صعيد المواجهة. ولم يقف الأمر عند الحرب في الجنوب، والتي وإن كانت في الماضي تبرر بأن الجنوب هو زنجي/ مسيحي مختلف عن الشمال المسلم/العربي، فإنها تمددت اليوم الى هذا الشمال العربي المسلم نفسه في دارفور والشرق وداخل الكيانات الأصغر من القبيلة نفسها. وترسم المقولات التي تذخر بها أدبيات الحركات المسلحة، حدود وجذور إشكاليات النزاع وأصله، وترده إلى سياسات التهميش التي ظل يمارسها المركز ضد الأطراف، وهو الأمر الذي في نهاية التحليل وصف لمظهر الأزمة وتطبيقاتها، ولا يكفي أن يكون سبباً. فالتهميش نتيجة، هذا صحيح، ولكن ما هي أسبابه وداوفعه(؟)، فهذا ما يجب معرفته ومعالجته.
                  

العنوان الكاتب Date
دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن ... سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:00 AM
  Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:10 AM
    Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:17 AM
      Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:24 AM
        Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:32 AM
          Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:38 AM
            Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:47 AM
              Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 03:53 AM
      Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 04:07 AM
        Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 04:58 AM
          Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . Nazar Yousif03-06-09, 07:37 AM
            Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-06-09, 02:23 PM
              Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-07-09, 04:18 PM
                Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . Nazar Yousif03-07-09, 10:51 PM
                  Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . سفيان بشير نابرى03-10-09, 02:24 AM
              Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . Hatim Yousif03-10-09, 05:34 AM
                Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . Nasr03-10-09, 06:48 AM
                  Re: دويلات القبيلة في السودان:- الحركة الإسلامية ومسؤلية الإنهيار :- التجاني الحاج عبد الرحمن . جعفر محي الدين03-10-09, 07:08 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de