|
في نقد العقل السوداني
|
مدخل أول: في نقد العقل السوداني: لو تمكنا من فك طلاسم الجهة الغامضة "الموسومة بالديمومة" للثقافة المحلية. لو تمكنا من سبر تجلياتها الناشطة الحية رغم محاولات تغييبها وإجراءات هدمها ونسيانها. ألا يمكن لهذه القِوى الداخلية الكامنة أن تنير العالم يوماً ما .!! ربما كنا في أمس الحاجة لاستعادة وعينا الشامل وكياننا الطبيعي قبل الانخراط في الحداثة، قبل الانفصال عن الطبيعي والتحول إلى كائن حضري رمزي. أليست غائية الحياة في ذاتها، في ذات خصوصيتها، ألا نجعل منها سياقاً فكرياً بحتاً.! أن نتحرك في محيطها الطبيعي ونسترجع هناءات الحضور الحسي دونما وسائط تضع الأشياء خارج نطاق وعينا وإدراكنا ـ ألا يحق لنا أن نفكر في استعادة مقدرتنا على فهم الحقيقة مباشرة دون تمهيد منطقي استدلالي، أن نستعيد طاقتنا في الاستيعاب والوثب المباشر لجوهر الأشياء دون تضاد مع الممارسة ودون القفز على المنطق أو العقل ـ ويبقى باطن الفرقة مفتعلاً في تنافر وعي الاختلاط في العلاقة الإشكالية بين الثقافة والمعاصرة. لأن وجود إحداها لا ينفي الآخر ـ الثقافات والحضارات لم تنجز اعتباطاً ـ الحياة المعاصرة أخذتنا بعيداً عن هذا التوازن الدقيق في المنظومة الأخلاقية والقيّمية وعن معادلة انفعالنا وتفاعلنا وتصالحنا مع الموضوعي الخارجي في جوهره وطبيعة موضوعه ـ أراها ثقافات في تمام كمالها بالرغم من استمرارها في إيداعها ـ إلى أين يقودنا هذا التسارع إذا ما ركضنا خلفه.! ـ وماذا لو تخلفنا عنه.! ـ المعادلة أصعب مما تبدو عليه ـ ولكن هذا لا ينفي مقاربتها والنظر في عينها بل ونبشها ونقدها في صميم جوهرها ـ يقول برهان غليون في كتابه "اغتيال العقل": "نحن نعتقد أن الأزمة أعمق من الكثير من مظاهرها وهي ليست مرتبطة بزعيم أو سياسة جزئية ثقافية أو اقتصادية ولا حتى بنظام معين أو بالأنظمة عامة باعتبارها تشكل تعبيراً عن مصالح اجتماعية جزئية، وان انحباس كل تقدم اجتماعي وسياسي هو أكبر دليل على أن الأزمة تتجاوز السطح الى العمق". وفي موضع آخر يقول: "بالتأكيد لا يخوض المثقفون معركتهم على أرضية متماثلة ولا يطرحون اشكالياتهم على المستوى نفسه من العمق والتجربة. فمنهم من يكتفي بكيل التهم للأشخاص أو الأفراد أو الأحزاب، ومنهم من يرتفع إلى مستوى نقد الإيديولوجيا ومصارعة المفاهيم، ومنهم من يعيشها كمعركة سياسية فلا يرى منها إلا السلطة مقارنين محاسن الدولة الحديثة مع مساوئ الدولة القديمة أو العكس، وآخرون يذهبون أبعد من ذلك فيجعلون من المجتمع نفسه وثقافته التاريخية الخصم الحقيقي لهم حتى يكون لنقدهم طابع النقد الكلي والشامل". من دلالات مادة عقل كما جاء في لسان العرب : الجامع لأمره، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل "العاقل" الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع من الكلام والمعقول ما تعقله بقلبك , والعقل التثبت في الأمور والعقل: القلب، والقلب العقل, وسُمي العقل عقلاً، لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، وبهذا يتميز الإنسان عن سائر الحيوان، ويقال: لفلان قلب عقول، ولسان سؤول، وقلب عقول: فهم. وعقل الشيء يعقله عقلاً أي فهمه). ما هو العقل وكيف يتطور.! ما علاقته بالجسد.! العقل حادث عرضي "غير ضروري" باعتبار أن غيابه لا يلغي الموجود وحضوره لا يمنح شرعية لطبيعة وقانون الوجود. ذلك على الرغم من أنه مخلوق خارج المادة مثله مثل القانون الطبيعي للوجود، إلا أن وجوده معلقاً ومتعلقاً بوسيط لا يحضره ولا يقوم إلا بقيامه ويفنى بفنائه جسداً. العقل شيء مختلف تماماً عن "المادة الحيوية البيضاء داخل الجمجمة" وان كانا مرتبطان في الزمان والمكان، لكن العقل يأتي لاحقاً ولا يحقق امتيازه إلا في معادلة درجة وعيه بالوجود والموجود. أنت عقلك إذن أنت تساوي ما تعلم ـ لذا قيل أنا أفكر إذن أنا موجود ـ لكن ماذا إن لم يكن الجسد.! إذا وجد "المخ" "منذ البدء" مفرداً، وتركت مادته خارج الجسد على "طاولة" مثلاً.! هل يتمكن من التعرف على ذاته وإدراك طبيعة وجوده الحسي والمادي.! بالطبع لن يقود هذا الشكل من الوجود المبهم إلا لـ(وجود لا واعي). الوعي في ذاته فكرة فالمادة الحيوية لا يتسامى وجودها إلى "العقل" إلا من خلال (الحواس الخمس) أي عبر الجسد الذي يشكل وسيلتنا الوحيدة للتلقي والتفاعل والتعبير والتغيير والتأثر والتأثير في الخارجي المادي. أريد هنا أن نغرق في السذاجة والفجاجة حتى يكتمل حضور "ذات العقل الذي أوصلنا للمتاهة" ونحن بصدد الدخول على قضية يتسم موضوعها بالغلو أي بوقوعها جزئياً أو كلياً خارج دائرة الوعي والإدراك. قضية "العقل الجمعي السوداني" معضلة بحجم وطن وانتهاك مصير امة. علينا الاتفاق أولا على وجود فجوة تتعلق بمناهج التفكير وتتلخص في العزلة والتكلس والضمور وتتمحور حول التباسات التجزيئية في التحور والانعتاق. فجوة لا يمكن قياسها إلا بمعايير التدفق الداخلي لجوهر موضوعنا العقلي وقدراته المعرفية والفكرية. إن فهمنا المغلوط للعموميات في التعاطي مع الكليات بمحاور الانتقائية التجزيئية، التي في أصلها تربط ما بين المتباينات، إنما يؤكد على العشوائية ويدعم الغوغائية في دعاويها للانغلاق ومعاداة المشاريع الحداثية بإعلانها عدواً مما يسهل من عملية إقصائها وتحييدها كفاعل إيجابي في المستقبلي ألانجازي والاستشرافي. نقول أن هذا الانغلاق المتطرف للعقلية السودانية وموقفها الرافض لأي رؤية حوارية وإلحاحها على الإجماع القاطع والمحدد والانحياز التام نحو الثابت على حساب المتغير والسائد على حساب المتجدد في مجتمع متعدد الثقافات والسحن والمحن، أدى للتعصب والتورط في صراع عقيم دفعنا ثمنه الملايين من الأنفس. إضافة إلى العلائق المزمنة من عدم المقدرة على التعرف على الراهن وعدم الإصغاء للمنطق كضرورة لازمة لرؤية استشرافية مختلفة لاحتمالات التفكير والتغيير والتعايش والبحث عن عوالم بديلة يحل فيها الحوار بدل الصراع، هذه المتباينات إنما تشير لضعف مهيض في مقدرتنا على الاستجابة للديناميكية الحية لهادر الوقت وتؤكد على جمودنا ورفضنا الاختلاط في "زمن هذا العالم" الذي حرمناه ومنعناه على أنفسنا كمفهوم ورؤية حوارية تتيح المقارنة والمقاربة والمجاورة والقبول. إن تخلفنا عن فهم معايير الوقت أدي إلى سقوطنا تحت وطأة المتغيرات وتراكم التفاعلات، بما يتضمنه الزمن من حركية وقوى دافعة لإبدال الوقائع والحقائق. الآن فقط .. علينا الاختيار ما بين الفناء والاستجابة لأسئلة الراهن الملحة والإصغاء للموضوعية ومنطق الأمور. لا بد من وجود خلل، علة ما، في طريقة تفكيرنا بمعدل الانشطارات وحجم الموت والشتات والتمزق وضياع الأحلام.. هناك أسئلة شائكة وعويصة إذ كيف لعقل أنتج حضارات ما قبل التاريخ "نبتة وكوش" إن لم يكن ساذجاً أن يصل بنا إلى هذا الدرك من الدمار وانهيار الآمال. ربما بدأت أزمته بلحظة الاكتمال والقطيعة مع الخارج وإعلان العزلة والالتصاق بالمتوارث من أوهام وأساطير والارتهان الأزلي لعقلية نهائية ثابتة تحكم تفكيرنا وسلوكنا عبر الزمان والمكان. رغم كل ما حدث ويحدث حولنا، ببساطة ودون اجتهاد أو تعب حكمنا على أنفسنا بالفناء حين خرجنا لمواجهة القرن العشرين بذهنية القرن التاسع عشر. أقول ذلك لأننا تخلفنا عن العلوم الإنسانية "للعقل الجمعي، العالمي العام" باعتباره مجموعة عقول تكاملية أحدثت طفرات على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصناعية. ولأننا ونحن الآن عند المفترق وفي اللحظة الهاوية، نعاني من إغلاق العقل وانفصال الفكر عن الواقع. خلاصة القول أن الذهنية السودانية لم تتمكن من المتابعة فغاب عنها هاتفها الداخلي الذي يهديها إلى الصواب. ربما كان فهمنا الخاطئ والثابت لفكرة (الاكتمال) أهم عثراتنا عبر التاريخ، لأن الاكتمال في ذاته يعني حالة من الوجود المتغير عبر الزمان والمكان ـ بمعنى أن اكتمال القرن التاسع عشر لا يصلح للعصور اللاحقة بحكم الديناميكية وجدلية التاريخ. حتى العقل السوداني المفرد يتحمل جزء من مسئولية وصولنا للمفترقات فهو يعاني من الانفصام والاغتراب بين فهمه الداخلي ومحيطه الخارجي ويتناقض في موقفه الوجودي الملائم لشروط بقائه وانتمائه. كأنما يقف ضد ذاته، خارجاً على طبيعة وجود واقعه الفعلي والعملي بحيث لا يسعى في تعقب المتخفي للظاهر ولا ينجح في تعقب الإمكانية العائمة للأفعال والظواهر، كأنما لا يستطيع التمييز بين "المحاكاة والانعكاس" في أصل علاقاته التنافسية السوية والمنطقية مع محيطه الخارجي البعيد والقريب، كأنما لا يفهم دوره "تماماً" في إنتاج المعرفي ويتخلف "نهائياً وكلياً" عن إدراك دور المعرفة في إنتاجه. ما زال العقل السوداني يرزح تحت سيطرة المستقطع من أفكار وآليات إقصائية للمنطقية والمعقولية، كأنما يلجأ من الواقع للمثال تحت المتوارث من مفاهيم الفروسية على حساب المنطق والعقل. حتى اجتهاداتنا العقلية الفردية تتصف بالذاتية ولا تنتمي إلى التجريبية العلمية. عقلنا الجمعي ما زال ينتظر المعجزات رغم التسارع المعرفي والتكنولوجي ورغم الديناميكية الجديدة والتفاعل والتقلبات التي تسم المجتمعات من حولنا. اختلطت العلاقات فلجأنا إلى الماهيات وإحالة الفعل إلى كلام والواقع إلى احتمال نفترضه ونخضعه لمفاهيمنا. لم نعد نرغب في التحاور مع محيطنا الحيوي القريب ولا النظر في اشتراطاته واختلافاته العميقة. فضلنا الفصل بين الحياة والفكر والخروج على الراهن في تطلعنا للمماثلة وفرض المثال على الأنموذج. إلى متى نحيل ظواهر الراهن والتعقد الحالي إلى هواجس الريبة ومشاعر الفريسة والعقلية التآمرية.! إلى متى ننفر من الاختلاف والتنوع.! متى يتوقف نزيف الكلام.!!
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-02-09, 10:29 AM |
العام الجديد | صلاح هاشم السعيد | 01-02-09, 10:50 AM |
Re: العام الجديد | ناهد بشير الطيب | 01-02-09, 10:57 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | حامد محمد حامد | 01-02-09, 11:13 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-04-09, 07:23 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | شهاب الفاتح عثمان | 01-02-09, 11:24 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-02-09, 01:37 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | adil amin | 01-02-09, 02:25 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | مدثر محمد عمر | 01-02-09, 09:03 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | Abdalla aidros | 01-03-09, 08:49 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-04-09, 11:13 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-04-09, 09:47 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-04-09, 05:51 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | اسعد الريفى | 01-05-09, 05:34 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | ابو جهينة | 01-05-09, 11:45 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-08-09, 10:26 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-07-09, 07:21 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | Abdalla aidros | 01-09-09, 07:46 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-09-09, 10:34 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | Osama Mohammed | 01-09-09, 01:04 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | Bushra Elfadil | 01-09-09, 01:27 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | Osama Mohammed | 01-09-09, 03:35 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | adil amin | 01-09-09, 04:17 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-22-09, 09:17 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-09-09, 09:35 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | ابو جهينة | 01-10-09, 11:52 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | عبدالله الشقليني | 01-10-09, 05:48 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-10-09, 10:16 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-10-09, 10:40 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | بدر الدين اسحاق احمد | 01-10-09, 11:26 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | طارق ميرغني | 01-12-09, 04:47 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-12-09, 05:03 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-12-09, 10:11 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-14-09, 04:10 PM |
Re: في نقد العقل السوداني | عبدالناصر معتصم | 01-22-09, 09:59 AM |
Re: في نقد العقل السوداني | صلاح هاشم السعيد | 01-22-09, 07:03 PM |
عبد الناصر معتصم | صلاح هاشم السعيد | 01-28-09, 07:45 AM |
|
|
|