|
Re: ثم جاء بشري الفاضل فانتشل القصة من الرتابة والتكرارية ! (Re: Agab Alfaya)
|
ويبلغ التجريب مداه عند بشرى الفاضل في قصة ( الطفابيع ) والطفابيع من الاختراعات اللغوية لبشرى . وهي كلمة كما يقول في هامش القصة : كلمة جاء بها من عنده كما يبتدع الأطفال الكلمات . ومفرد الطفابيع ، طفبوع كقولك في جرابيع جربوع ، والطفبوع هو المقابل الهزلي للسفاح ، ففي حين أن السفاح يقتل فتنجم عن فتكه بالآخرين مرارة . نجد أن الطفبوع يقتل بصورة مباغتة ومأساوية للحد الذي تدخل فيه المأساة في إقليم الكوميديا .
وتصور قصة ( الطفابيع ) قضية القهر السياسي ، والارهاب الفكري بأسلوب مأسملهوي تجريدي . وتتألف القصة من قسمين ، القسم الأول قصير مكون من سبعة أسطر تقريبا ، وهو بمثابة مدخل تمهيدي للقصة ، وكتبه بلغة سيريالية تختلف عن لغة السرد المستخدمة في القسم الثاني والرئيسي من القصة ، حيث تتداخل الصور والجمل وتتقاطع بلا رابط منطقي يجمع بينها كأنما أراد الكاتب بهذا الأسلوب السيريالي الحالم أن يمهد المسرح للا معقولية الأحداث التي تجري في الجزء الأساسي من القصة وهو الجزء الثاني .
تبدأ القصة باستيلاء ( الطفابيع ) على السلطة ومطاردة الناس في الشوارع بالفؤوس والفتك بهم دونما أسباب واضحة فينشرون الهلع والرعب .
" في تلك السنة اختلط الحابل بالنابل ولم يعد المرء يشعر بالاطمئنان على حقه في أن يكون له بيت يأوي إليه أو قطعة خبز تشبعه ، وامتد الأمر إلى الاعضاء .. فجأة تجد من ينازعك في قارعة الطريق زاعما أن الرجل التي تتدحرج عليها ليست رجلك والرأس التي تفكر بها استوردها فلان " .
وإزاء هذه الفوضى وضياع هوية البني آدم يهرع الناس للبحث عن أوراق هوياتهم التي ألقي بها في النيل . فالسلطة التي تطالب الناس بإثبات ذواتهم عن طريق الأوراق ترمي بهذه الأوراق في النيل ثم تعود لتطالبهم بإبراز هذه الأوراق لاثبات هوياتهم . كأنما هذه السلطة غير مسؤولة عن الوسائل التي يتحصل بها الناس على هذه الأوراق والمستندات .
وحتى الحصول على هذه المستندات ليس كافيا لاثبات آدمية الانسان فلابد من ترقيم الأعضاء البشرية وتدوينها على هذه الأوراق الثبوتية كما ترقم السيارات:
" ثم تلفت فوجدت حشدا مشغولا بتجفيف مستنداته فجففت مستنداتي ثم رأيت الحشد يرسم أعضاءه في الأوراق فرسمت ساقي في أوراقي ثم رأيتهم يبصمون فبصمت ورأيتهم يرقمون أعضاءهم : 9خ ، 8خ ، فرقمت أخ .. قال صديقي ويحك ا قلت ، ماذا ؟ قال : يظن الطفابيع أنها أعضاء جديـدة مســتوردة ( سيوبر ) " .
وقد أبرز القاص ( الطفابيع ) في صور كاريكاتورية ساخرة : " ونظرت فرأيت ذلك الطنبوع الهولاكي يخطو حثيثا في طلابي والطفابيع لا تجري لأن مركز ثقلها الخلفي متكور أكثر مما ينبغي ، ولكن الطفابيع تباغت " .
وقد طال البتر والتشويه الذي ألحقه الطفابيع في البلد .. كل شئ ، حتى المقدسات فصلاة الطفابيع ليست كصلاة سائر الناس :
" صلاة الطفابيع أخذت من صلاتنا شكلها ولكنهم يركعون على قفاهم ويسجدون كالقوس وعيونهم مفتوحة على جيرانهم . ينحنى الطفبوع عكسيا على ظهره ويسجد كالقوس ضد القبلة وكأنه وهو سائر للسجدة يراقب الجمهور " .
وبعد أن اشبعوا الناس تقتيلا أو شبعوا هـم مـن تقتـيل الـناس ، يعلـن ( الطفابيـع ) العفو العام وذلك بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لقدومهم للسلطة . إلا أن المفارقة الصارخة والموحية هي أن الراوي يلقى حتفه بفأس أحد الطفابيع في يوم العفو العام نفسه ، وذلك بسبب نفاذ مستنداته الثبوتية والتي استنسخ منها عشرات النسخ لكنها نفذت جميعا تحت إلحاح الطفابيع ، المنتشرين في كل مكان ، مطالبين الناس بإبراز صور من مستندات هوياتهم .
وكان بشرى الفاضل ، قد استهل هذه القصة البديعة ، بأبيات من قصيدة " أقول لكم " لصلاح عبد الصبور وهي :
هذا زمان الحق الضائع لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله ورؤوس الناس على جثث الحيوانات ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك فتحسس رأسك
ويرى بعض النقاد أن هذه الأبيات مستوحاة من مسرحية " الخرتيت " أو وحيد القرن ، ليوجين يونسكو ، والتي تحكي عن خرتيت بدأ يطارد الناس في الشوارع وأماكن العمل ثم يكتشف الناس أن كل إنسان قد تحول إلى خرتيت . فالزوجة التي جاءت إلى مكتب زوجها تشكو إلى زملائه أن خرتيتا كان يطاردها في الطريق ، تكتشف أن الذي كان يطاردها هو زوجها . وذلك الموظف الذي يقدس روتين العمل يجد نفسه وقد تحول هو الآخر أيضا إلى خرتيت . ويقول يونسكو في مذكراته بعنوان ( لا ) أنه استوحى مسرحية " الخرتيت " من شخصية هتلر .
وكان صلاح عبد الصبور قد عبر عن إعجابه بطريقة يونسكو في الكتابة المسرحية إلى الحد الذي جعله يستعير أسلوب يونسكو في الكتابة والذي عرف بأسلوب العبث أو اللا معقول في مسرحية ( مسافر ليل ) والتي تحكي عن مسافر يجلس وحيدا في أحد القطارات ، فيظهر له الكمساري في زيه الذي يشبه الزي العسكري ويطالبه أولا بالتذكرة فيأكلها ثم يطالبه ببطاقة الهوية فيلتهمها الكمساري أيضا فتتوحد في هذه الأثناء في ذهن الراكب صورة الكمساري بصورة الطغاة عبر التاريخ : الاسكندر ، هانيبال ، تيمور لنك ، هتلر ، الخ .. ويواصل الكمساري تعذيبه للمسافر حتى يقضي عليه أخيرا بطعنة من خنجر .
فالملاحظ أن القاسم المشترك بين هذه الأعمال الثلاثة : " الخرتيت " ليونسكو و " مسافر ليل " لصلاح عبد الصبور و " الطفابيع " لبشرى الفاضل ، هي معالجة قضية القهر السياسي والارهاب الفكري بهذا الأسلوب الفني العبثي .
يتبع ،،
|
|
|
|
|
|
|
|
|