"أول من أبتدأ الضحك كان كلبا واسمه لاف ، رأى إنسانا يضرب أخاه بفأس ، الأول يضرب والثاني يجري ويجري فيلحق به الأول ويلطمه فضحك لاف ، حتى برزت نواجذه ثم ضحك : هو هو . فتلقفها الانسان وحرفها بحيث أصبحت ها ها ها ، ووضع لذلك قانونا أسماه الاعلال والابدال . قال الكلب : هـو ، هو فصاغ الانسان الضمائر : هو ، هي ، هن ، هم ."
هذا المقطع من قصة بعنوان " ذيل هاهينا مخزن أحزان " للقاص السوداني بشرى الفاضل ، وهي إحدى قصص مجموعته الأولى " حكاية البنت التي طارت عصافيرها " والتي صدرت عام 1990م . ويعد بشرى الفاضل من أبرز كتاب القصة القصيرة الذين ظهروا في مطلع الثمانينات ليس في السودان فحسب ، بل في العالم العربي قاطبة .
وقد قصدنا من إيراد هذا المقتطف في بداية المقال أن نجعل القارئ يقف بنفسه وجها لوجه أمام هذه الموهبة القصصية الفذة . ولعل هذا المقطع تتجسد فيه كل الخصائص الأسلوبية التي تميز طريقة بشرى الفاضل في كتابة القصة . ومن أبرزها خاصية السخرية والتهكم التي تعتمد علة المفارقة كقيمة جمالية في الكتابة . والخاصية الثانية قدرة الكاتب على تطويع اللغة وتفجير إمكانياتها المدهشة في خدمة فكرة القصة .
وقصة ( ذيل هاهينا مخزن أحزان ) التي أقتطفنا منها ذلك المقطع ، تصور بصورة ساخرة ولاذعة ، غدر الانسان وأنانيته واعتداءه على حقوق الآخرين وذلك من خلال علاقته بالكلب الذي عرف عبر التاريخ بوفائه للانسان . ويواصل الكاتب سخريته في القصة من الانسان على لسان ( هوكس ) فيلسوف الكلاب قائلا :
" أول من أكتشف النار كلب ، ولكن الانسان يزيف التاريخ . كان جدنا مكتشف النار واسمه بوبي ، يحفر بيتا قرب كهف الانسان الحقير ، صادف الجد بوبي أثناء حفره حجرا أملس ، فأعمل فيه مخالبه فلم يجد فتيلا ، فأعمل فيه مخالبه بسرعة أكبر فتطاير الشرر ثم أندلعت النار ، رأى الانسان الذي بداخل الكهف المشهد ، حمل هراوته الحجرية وطرد بها بوبي . وعاد بوبي لقبيلته بخفيه تحت إبطيه ، هذا هو أصل المثل ، عاد بخفي بوبي " .
أنها سخرية مرة حقا وقد زاد من مرارتها اتخاذ الكلب كرمز للحديث عن الانسان ينطوي على مفارقة أشد مرارة ، فالانسان دأب دائما على إلصاق أذل الصفات وأحقرها بالكلب حتى أصبح الكلب رمزا للنذالة والازدراء في نظر الانسان . وأقصى إساءة يمكن أن ينزلها الانسان بآخر هي أن يقول له : يا كلب ا فالقاص كأنما يريد أن يقول أن الانسان ليس بريئا من الصفات التي يلصقها بجنس الكلاب ا
فهو يستخدم عالم الكلاب كقناع ينفذ من خلاله لكشف ظلم الانسان لأخيه الانسان وتعرية الفوارق الاجتماعية والطبقية التي تميز بين الناس . " تعرفت هـاهينا على صديقها هواهي في حلقة نقاش لأفكار الفيلسوف هوكس ، كانت الحلقة غاصة بالكلاب .. كلاب خلاء وأخرى منزلية وكلاب صيد وأخرى بوليسية بدينة وكلاب نحيلة ، كلاب عمارات ، وكلاب مساكن شعبية ، كلاب لا بوليسية ولا كلاب " .
والقصة من خلال تصويرها لعالم الكلاب تعمل على النفاذ بأسلوب رمزي إلى عمق المشكلات الاجتماعية والمعيشية الطاحنة التي تسحق الأكثرية الغالبة من بني البشر مثل الفقر ومشكلة الاسكان والتشرد وانعدام الاستقرار الأسري .
" خرجت الكلبة هاهينا تبحث عن صديقها الكلب هواهي . فمنذ أكثر من سنة فهما في حالة حب ولكنهما حزينان تماما ، حيث أن الأمور لا تسير كما ينبغي ، إيجار الأزقة الضيقة أصبح عشر قمضات من عصابات الكلاب المقيمة فيها ، بعد أن كان من قبل قمضة واحدة ، وليس هناك مفر من الأزقة الضيقة لأن الشوارع الرئيسية تعج بالبشر الفضوليين الذين يقاطعون باستمرار المتع الخاصة بمعشر الكلاب " . أما قدرة القاص على تطويع اللغة وتفجير إمكانياتها المدهشة فتتجلى في اشتقاق أسماء الشخصيات ، هاهينا ، هواهي ، وهوكس ، فكل هذه الأسماء مشتقة من نباح الكلاب ( هو ) . لاحظ كيف أوجد القاص الوشائج الصوتية بين صيغـة ( هو ) وبين الضمائر : هو وهي وهما وهن وهم .
إن الحيلة الفنية التي استخدمها الكاتب في هذه القصة الرمزية تذكرنا بتوظيف بعض الأدباء للحمار كقناع ينفذون من خلاله للكشف عن غباء الانسان وجهله . ومن هؤلاء خمنيز في ( أنا وحماري ) وكونتي دو سيجور في ( خواطر حمار ) وتوفيق الحكيم في ( حماري قال لي ) .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة