|
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)
|
____________________________
الفصل الثالث:
غالبونة صيادي الوزارة تحمل الرقم (6)، والوحيد الذي لا يعمل في مثل هذا الوقت هو المساعد الطبي سرور الذي أخرج مقعده، ومال به إلى جهة الحائط الخشبي، وبدأ يحرك رجليه القصيرتين بصورة عكسية، كما يفعل الأطفال المشاغبون في ساعات الهدنة، وعليّ أب شلّوفة الذي أوصى له الطبيب بالراحة لخمسة عشر يوماً بسبب إصابة في قدمه اليسرى، وصرف له عكازتين حتى لا يطأ بقدمه المصابة على الأرض. ولأنه – علي أب شلّوفة - لم يعتد على الجلوس في البيت فإنه يأتي ليتسامر مع رفاقه في وقت راحتهم. بعد مرور خمس ساعات قضاها الصيّادون في عرض البحر، يمضغون فيها الصبر، ويتعاطون التمباك، يعود الجميع في شكل أفواج متعاقبة، يفرغون ما في بطون شباكهم من أسماك توقفت تماماً عن الحركة في صناديق خشبية كبيرة. لا شيء في رصيف الميناء غير الأرضية الخرسانية والصناديق الخشبية. منذ الساعات الأولى للصبح، يشهد الرصيف حركة متسارعة، وتبدأ الأصوات بالتعالي شيئاً فشيئاً وكأنها صوت صفائح قطار قديم تتعالى كلما اقتربت من إحدى المحطات المهجورة، بينما تختلط أصوات العمّال بأصوات الرافعات في تناغم مزعج ما يلبث أن يستحيل إلى حميمية مفرطة لمن ألفوا الرصيف والعمل فيه. وفي حركة لا تقل نشاطاً عن حركة العمّال – ولكن في هدوء – تبدأ أسراب النمل، التي حفرت في أرضية الرصيف الخرسانية بيوتاً لها، تسير في قوافل من صفين منتظمين كصفوف جنود حديثي عهد بالحياة العسكرية، تلتقط ما تجده في طريقها من بقايا غداء العمّال والصيادين، أو تسرق ما يمكنها سرقته من القمح الطازج والمتناثر بوفرة في مستودعات الميناء.
الألوان هنا عامل مهم جداً يميّز بين العامِلين في الرصيف. فاللون الأزرق هو لون أفروهلات عمّال الرافعات وعمّال الميناء الذين ينقلون الصناديق من السفن إلى المستودعات، واللون الأصفر هو لون العاملين على متن السفن التجارية، واللون الأخضر هو لون مشرفيّ العمّال، واللون الأحمر هو لون كبار الشخصيات كالتجّار والمهندسين. بينما يظل الصيّادون بلباسهم الاعتيادي لا يميّزهم غير شباكهم المتناثرة تحت الغالبونة رقم (6)، ومناديلهم القماشية المقلّمة التي يطوونها في شكل عصابة مثلثة ويلفونها حول رؤوسهم.
في تمام الساعة الواحدة والنصف تتوقف الرافعات، ويندر أن ترى شخصاً خارج الغالبونات، الجميع يتوقفون لتناول وجبة الغداء، يفرشون سجاداتهم البائسة، ويجلسون في حلقات أشبه بحلقات الذكر في خلوة متطرفة بلا أسوار. وبينما تغرق أصوات الآليات، تطفو على أرصفة الميناء ضحكات العمّال والصيّادين. ومن الجهة المقابلة يتقدّم علي أب شلّوفة إلى حيث يتجمهر صيّادو الوزارة، متوكئاً على عكّازيه المنتهيين بمعدن. وكّان وقعهما على أرضية الميناء الخرسانية الملتهبة وقع سنابك خيلٍ عربية أصيلة. تبسّم الصيّادون وهم ينظرون إليه قادماً بابتسامته المعهودة: "ما تقولوا اتفضّل ولاّ أي حاجة ياخ!!" ومن المؤكّد أن تهدّل شفته السفلى المصابة بالحُمرة بعد اهتراء الخط اللحمي الصغير بفعل التمباك كان السبب في تسميته بأب شلّوفة. كان الريّس عندها يحاول فتح علبة الساردين التي توزّع مجاناً للعاملين في الميناء، بينما وقف البعض منادين على سرور المساعد الطبي ليشاركهم وجبة الغداء وهو ما زال متكئاً على مقعده بذات الطريقة الطفولية، فيرفع يديه لهم في امتنان، فالواقع أن طبيب الميناء ومساعده لهم وجبة خاصة.
تحت كل غالبونة يجلس نفر من الناس موزّعين بأرقامهم وألوانهم المميزة، وكأنهم كرات بلياردو جيّدة التنسيق. يتناول الجميع وجبتهم وسط أحاديث وضحكات وسخريات البعض من البعض الآخر، بينما يجلس العم صابر تحت مظلّة شمسية واضعاً سلّة طعامه على فخذية. يتناول غدائه بأناة وهو يقلّب ناظريه بين العمّال وبين البحر. كان العم صابر كثيراً ما يرمي بنظرات عميقة إلى البحر، وكأنه ينتظر قدوم سفينة تحمل على متنها سنوات عمره التي انفرطت منه كما تنفرط الذرات في ساعة رملية. إضافة إلى الصيادين والعمّال والنمل السارق، كانت جيوش من قطط الميناء الجائعة توزّع نفسها على الغالبونات في انتظار أن يرمي لها أحدهم بقطعة خبزٍ مغمّسة بزيت الساردين، أو قطعة صِير من عامل شهم. وبينما تجلس بعضها في منتهى الأدب، تتعارك في مكانٍ آخر مجموعة من القطط على لقمة تعيسة من أحدهم. ما تراه من فوضى للوهلة الأولى في الميناء هو إنّما نمط حياتي من الرتابة بحيث يستحيل تخمين تغيّره على المدى القريب. فوضى اعتاد عليها الجميع بمن فيهم العم صابر الذي تتجمع حوله فقط عشر قطط لِما تعرفنّ عنه من كرمٍ جم، فهو قليل الأكل، سخي العطاء. وسخاء العم صابر مع القطط هو ما أغراهن باحتمال قساوة العيش في الميناء. وهذا الجو العائلي الذي يلف الجميع رغم الفقر والتعب، هو ما كان يجعل الريّس يتساهل كثيراً في البدء بمشروع الهجرة إلى الوسط. وكثيراً ما كان الريّس ينفرد بالعم صابر شارحاً له خططه المستقبلية، ووقوعه بين حلمٍ يراوده منذ وقتٍ غير بعيد، وحياة ألفها، ويصعب عليه أن يتركها. وكانت أوديت إحدى الأسباب المستحدثة التي جعلته يعدل عن قراره رغم إلحاح هذه الرغبة عليه كوسوسة شيطانية لا تفتأ تراوده كلّ ليلة.
"اللحظة المناسبة لا تتخيّر المكان" هذا ما كان يقوله العم صابر للريّس كلما حدّثه في موضوع الهجرة. وكان يقول له دائماً بأن لا وطن يُذكر، فالوطن هو حيث بيتكَ وزوجتكَ وأمك حتى وإن كان في أرضٍ لا زرع فيها ولا إنس. ولأن العم صابر عاش في بورتسودان طيلة سنوات عمره التي تناهز الستين دون أن تكون موطنه، فلا أحد يعرف من أي جهة جاء، رغم أنّ لهجته توحي بأنه قادم من جنوب كردفان. وعرفه الجميع بأنه قليل الكلام، دائم الحركة، ذو ملامح حيادية في جميع حالاته. وكان راغباً عن الزواج، محباً لحياة العزوبية. قال البعض أنه ربما كان عنّيناً أو به عِلّة، إلاّ أن الجميع يتفقون على أنه دمث الأخلاق طيب المعشر. وكان دائماً يقول: "أينما ذهبت ستكون هنالك أرض تحتك وسماء فوقك، وطالما أن السماء واحدة والأرض واحدة فأي مكان يصلح لأن يكون وطناً !" جلس علي أب شلّوفة، على إحدى الصناديق الخشبية، بعد أن أسكن عكّازيه إلى جواره، وهو يقول:
* عليّ الطلاق الريّس ده داير يعرّس - الكومندة كان عرّس، الريّس ده ما ممكن يعرّس، ده زول بتاع عرس عليك الله؟! * شنو يا الريّس صحي بتفكّر تعرّس؟
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:31 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:35 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:42 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:55 PM |
Re: بين حجرين - رواية | Mohammed Elhaj | 06-26-07, 05:57 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:02 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:05 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:09 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:17 PM |
Re: بين حجرين - رواية | محمَّد زين الشفيع أحمد | 06-27-07, 05:15 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 07:10 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 08:49 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 09:35 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 09:44 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 10:08 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمد على النقرو | 06-27-07, 10:10 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 10:40 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمَّد زين الشفيع أحمد | 06-27-07, 10:43 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:01 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:14 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:21 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:23 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:27 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:29 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:24 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:44 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:48 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:56 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 08:11 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 08:33 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمَّد زين الشفيع أحمد | 06-28-07, 09:21 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمد جميل أحمد | 06-28-07, 10:15 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 11:43 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 11:27 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 11:47 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 12:07 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 08:05 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 08:50 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 09:08 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 09:19 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 10:49 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 11:47 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 12:48 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 01:04 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:07 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:11 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:31 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:39 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 07:19 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 07:25 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 07:28 PM |
|
|
|